عربي
Thursday 7th of November 2024
0
نفر 0

من شهد واقعة الطف

من شهد واقعة الطف

تعتمد جميع الروايات والاحاديث التي نقلت لنا وقائع واقعة الطف تعتمد جميعها علی الذين حضروا الواقعة او من سلموا من اهل البيت في ذلک الیوم ، وهم منحصرون في الأقسام التالية ، فينبغي أن ننظر إلى وَثاقتهم من ناحية ، وإلى مقدار شرحهم للحوادث ونحو ذلك من الخصائص :
القسمُ الأوّل : الأئمّة المعصومون ( عليهم السلام ) المتأخّرون عن الحسين ( عليه السلام ) ، وخاصّةً الثلاثة الذين كانوا بعده بالمباشرة وهم : الإمام السجّاد ، والإمام الباقر ، والإمام الصادق ( عليهم السلام ) ؛ فإنّ لهؤلاء قسطاً من ذِكر واقعة الطف.
إلاّ أنّنا ـ مع ذلك ـ لا نستطيع أن نأخذ عنهم التفاصيل كما نريدها ؛ لأنّهم ( عليهم السلام ) كانوا يتحدّثون بمقدار ما تقتضي المصلحة في زمانهم ، فكانوا يركّزون على الجانب المعنوي لواقعة الطف والدفاع عن قضيّة الحسين ( عليه السلام ) ، و لا يكون همّهم رواية أو نقل الحوادث ، إلاّ ما جاء عَرَضاً خلال الحديث ، إذاً فلا ينبغي أن نتوقّع سَماع حديثهم عن التفاصيل الكثيرة التي نريدها .
القسمُ الثاني : النساء من ذراري الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه بعد عودتهنّ إلى المدينة المنوّرة ، فإنّهن لم يُصَبن بسوء وبقينَ أحياء بعد مقتل رجالهنّ ، ورجعنَ إلى محلّ سكنهنّ ، فمن الممكن لهنّ أن يتحدّثنَ عمّا رأينهُ عن تلك التفاصيل ، وتُعتبر كلّ واحدة منهنّ كشاهد حال حاضر للواقعة .
إلاّ أنّنا لا ينبغي أن نُبالغ في ذلك ؛ لأمرين على الأقل :
حاصل لدى وجود الواقعة نفسها في كربلاء ؛ وذلك لأنّ النساء كنّ موجودات في الخيام ، ولسنَ مُشرفات على الواقعة ولا مُتابعات للحوادث ، ولا يعرفنَ أشخاص الرجال الأجانب بأسمائهم ، فمن هذه الناحية ستكون فكرتهنّ عن التفاصيل غائمة ومُجملة لا محالة . حاصل لدى وجودهنّ في المدينة المنوّرة ، حيث كانت المصلحة الدينيّة والاجتماعيّة تقتضي إقامة المزيد من المآتم على واقعة الطف ، وإظهار المزيد من الحزن البكاء على مَن قُتل فيها ، إذاً فقد انشغَلت النساء بمهمتهنّ المقدّسة تلك ، ولم تجد إحداهنّ الفرصة الكافية لرواية التفاصيل .
القسمُ الثالث :
الأطفال القلائل الذين نجوا من واقعة الطف ، واستطاعوا الهرب منها : كأحمد بن مسلم بن عقيل ، أو عادوا مع النساء : كالحسن المثنّى (الحَسَن المثنّى : ذكرهُ المفيد في الإرشاد وقال : ( وأمّا الحسن بن الحسن بن علي ( عليه السلام ) ، فكان جليلاً رئيسيّاً فاضلاً ورعاً ، وكان يلي صدقات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في وقته ، ولهُ مع الحجّاج خبر ذكرهُ الزبير بن بكّار ، وكان قد حضرَ مع عمّه الحسين ( عليه السلام ) الطف ، فلمّا قُتل الحسين ( عليه السلام ) وأُسِّر الباقون من أهله ، جاءهُ أسماء بن خارجة فانتزعهُ من بين الأسرى ) .
وقد تزوّج من بنت عمّه فاطمة بنت الحسين ( عليه السلام ) ، فأولدها عبد الله المحض ، وإبراهيم العمر ، والحسن المثلّث ، ومن غيرها داوود ، وجعفر ، ومحمد ، ورقيّة ، وفاطمة ، وقد توفيَ بالسُم الذي دسّه له سليمان بن عبد الملك فماتَ وعمره ( 53 سنة )(1)
وغيرهم (2) ، فإنّهم أصبحوا كباراً بالتدريج ، فمن الممكن لهم عندئذٍ أن يَرووا ما رأوا وما سمعوا .
إلاّ أنّنا مع ذلك لا ينبغي أن نبالغ في إمكان أخذ التفاصيل من هؤلاء تاريخيّاً ؛ لعدّة أمور لعلّها تندرج في أمرين :
حالهم في واقعة الطف نفسها ، فإنّهم :
1ـ كانوا محجوزين في الخيام مع النساء ولا يشاهِدون التفاصيل .
2ـ لا يعرفون أسماء الرجال الموالين والمعادين لكي يرووا تفاصيل أعمالهم .
3ـ إنّ فهمهم الطفولي يومئذٍ لم يكن يساعد على الاستيعاب ، وكان عُمر أحدهم يومئذٍ قد لا يزيد عن خمس سنوات بالمعدّل ، ولم يكونوا بمعصومين لكي نقول : إنّ الفهم منهم لا يختلف باختلاف سِني العمر .
أنّهم مذكورون في أسناد الروايات الناقلة للتفاصيل عن واقعة الطف إلاّ نادراً ، ولو كان الرواة المتأخّرون نسبيّاً قد سَمعوا منهم لذَكروهم في السند ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحذف من السند كان لداعي التقيّة يومئذٍ ؛ فإنّ نقلَ قصّة الحسين ( عليه السلام ) كان مورداً للتقيّة المكثّفة والصعبة في زمن الأمويين الذين قتلوه ورضوا بمقتله ، بل الأمر كذلك في زمن أكثر الخلفاء العبّاسيين أيضاً .
القسمُ الرابع : الأعداء الذين حاربوا الحسين ( عليه السلام ) فعلاً في واقعة كربلاء ، وكانوا حاضرين خلالها ، ولكنّهم نجوا من الموت ورجعوا إلى بلداهم فأمكنهم أن ينقلوا القصّة ويسمع منهم الناس عنها الشيء الكثير .
ويُروى : إنّ المختار الثقفي حينَ أعلن الأخذ بثأر الحسين ( عليه السلام ) ، كان يقبض على أعدائه واحداً واحداً ، فيسأله عمّا فعلهُ في واقعة الطف ، فيقتلهُ بالشكل الذي قَتلَ به الشهداء هناك (3) ، فقد حصلَ من ناحية الأعداء روايات تفصيليّة عن حوادث كربلاء ، وهناك أخبار أخرى من غير هذا الأسلوب رويت عن : حميد بن مسلم ، وزيد بن أرقم ، وغيرهما .
فهل نستطيع أن نعتبر هذه الأخبار عنهم هي من أخبار الثقاة ، مع أنّنا نعلم أنّهم أشدّ الناس فسقاً وعناداً ضدّ الإمام المعصوم ، بل ضدّ الله ورسوله أيضاً ، فإذا لم يكن الخبر خبر ثقة فكيف يمكننا الأخذ به ؟
وقد يخطر في البال هنا : إنّ هذا الشخص أو غيره من الأعداء حين يروي شيئاً من الحوادث إنّما يقرّ على نفسه بالجريمة ، وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، فمن الممكن الأخذ بخبره من هذه الجهة .
إلاّ أنّ هذا غير صحيح لعدّة أسباب أو وجوه :
الوجهُ الأوّل : إنّ قاعدة إقرار العقلاء إنّما تَجعل الخبر معتبراً بالنسبة إلى العقوبة للمتكلّم به ، أو تحميله مسؤوليّته بشكلٍ وآخر ، ولا تَجعل الخبر مُعتبراً بمعنى كونه مشهوداً له بالصحّة بشكل مطلق .
الوجهُ الثاني : إنّ هذا الشخص أو ذاك ممّن كان في معسكر الأعداء ، قد لا يروي الحادثة عن نفسه ، وإن تكلّم عن نفسه أعني عمّا قاله وفعلهُ في كربلاء ، إلاّ أنّه يروي ذلك مدافعاً عن نفسه ، يعني يريد أن يثبت أنّه قد رَحم الآخرين وتعطّف عليهم في الوقت الذي شدّد عليهم غيره ، وهذا شامل لعدد من النقول الواردة ، ومعه لا تكون إقراراً حتّى نُثبت حجيّتها بقاعدة الإقرار .
إذاً ، ينتج أنه ينبغي الحذر كثيراً حين نسمع من أو عن أمثال هؤلاء الأعداء أخبارهم عن واقعة كربلاء ، ومن المؤكّد أن أخبارهم ليست أخبار ثقاة بل هو خبر ضعيف ، باصطلاح أهل الحديث ؛ لأنّها رواية فاسق ومُعاند للحقّ ومَن الذي يقول بحجيّة الخبر الضعيف ؟

الرواةُ المتأخّرون

لكنّ الذي يُهوّن الخَطب أنّنا نأخذ التفاصيل من كُتب علمائنا الموثوقين الأجلاّء : كالشيخ المفيد في الإرشاد ، والشيخ الإربلّي في كشف الغمّة ، وأبي مَخنف ، والخوارزمي في مقاتلهم ، والشيخ التُستري في كتابه عن الحسين ( عليه السلام ) وأضرابهم .
إلاّ أنّنا مع ذلك ينبغي أن نكون حَذرين في النقل لعدّة أمور :
الأمرُ الأوّل : إنّ كثيراً ممّا نَقلوا من الروايات هي ضعيفة السند ومرسلة ، وعلى كلّ تقدير لا يمكن الآخذ بها فقهيّاً .
وقد يخطر في البال : إنّ هؤلاء العلماء هم الذين تكفّلوا صحّتها على عاتقهم ، فهي معتبرة وصحيحة في نظرهم ، وهذا يكفي في النقل وإن كانت مرسلة أو ضعيفة بالنسبة إلينا .
وجوابهُ : بالنفي طبعاً ، يعني لا يكفي ذلك ؛ لأنّ صحّتها التي يعتقدون بها إنّما هي صحّة اجتهاديّة وحدسيّة ، وليست حسيّة لتكون حجّة على الآخرين ، أو قل على الأجيال المتأخّرة ، كما هو مبحوث عنه في علم الأصول .
الأمرُ الثاني : إنّه ينبغي التأكّد من نسبة الكتاب إلى مؤلّفه فقد يكون كلّه مُنتحلاً أو بعضه ، أو يكون مزيداً عليه أو محذوفاً منه وغير ذلك من الاحتمالات ، وإذا وردَ الاحتمال بطل الاستدلال ، ولعلّ أهمّ وأوضح ما هو مشكوك بالنسبة إلى مؤلّفه هو مقتل أبي مخنف ، وهو ممّا يَعتمد عليه الناس كثيراً ، وأبو مَخنف رجل صالح وموثّق ، إلاّ أنّ نسبة كتابه إليه مشكوكة .
الأمرُ الثالث : إنّه ينبغي التأكّد أنّ النقل في الكتاب إنّما هو بنحو الرواية لا بنحو الحدس ؛ فإنّه وجِد خلال التأريخ مَن كَتبَ عن واقعة الطف من زاوية الحَدس والكشف العرفاني لا بنحو الرواية ، وحاولَ فهمها من وجهة نظره تلك ، وهذا هو الذي يبدو من الشيخ التستري في كتابه ( الخصائص الحسينيّة ) حيث يقول مثلاً :
( إنّ الحسين ( عليه السلام ) حَصلت له حالة الاحتضار ثلاث مرّات ) ، فإنّ هذا إن صحّ ، فقد أخذهُ بالكشف العرفاني بلا رواية ؛ فإنّه لا توجد أيّة رواية بذلك ، وهكذا كثير من التفاصيل .
ومن المعلوم في الأصول : إنّ هذه الحدوس والكشوف إن كانت حجّة ، فهي حجّة على صاحبها بصفته عالِماً بصحّتها ، ولا يمكن أن تكون حجّة على غيره مع احتماله لتوهّم الآخر وانفعاله ، ومن ثمّ فقد لا يكون ما قاله مطابقاً للواقع ، إلاّ أن يحصل لنا أو لأيّ شخصٍ العلم بالمطابقة ، أو حسن الظنّ بالقائل بحيث يُعلم أنّ كشوفه الوجدانيّة دائمة المطابقة للواقع ، ومن أين لنا ذلك ؟

مجوّزات النَقل شرعاً

وما يمكن أن يكون مُجوّزاً للنقل شرعاً عن المعصومين ( سلام الله عليهم ) من الروايات ، في واقعة كربلاء أو غيرها عدّة أمور :
الأمرُ الأوّل : صحّة السَند ؛ فإنّ السند وهو مجموعة الرواة الناقلون له إن كانوا كلّهم ثقاة جازَ الإخبار به ، وتكفل مسؤوليّته أمامَ الله سبحانه .
الأمرُ الثاني : نسبة القول إلى صاحبه ، بعد العلم بانتساب الكتاب إليه ، فنقول : قال فلان أو روى فلان كذا ، أو نقول : رويَ أو قيل ، أو نقول : قال أرباب المقاتل أو المؤلّفون في واقعة كربلاء ونحو ذلك ......
وبذلك تخرج عن العهدة أمام المعصومين ( عليهم السلام ) ، وتكون صادقاً في قولك ؛ لأنّ هذا الذي نقلتَ عن كتابه قد قال ذلك فعلاً ، لكن هذا مشروط بشرطين :
1ـ أن يكون الأمر مرويّاً عن كتابٍ ما ، وأمّا إذا لم يكن مرويّاً إطلاقاً وأنت تقول عنه : رويَ كذا ، فهذا غير جائز بل هو الكذب نفسه .
2ـ أن يكون الكتاب صحيح النسبة إلى مؤلّفه ، وإلاّ فسيكون نسبة القول إلى مؤلّفه نسبة كاذبة ، فأنتَ تَكذب على المؤلِّف وإن لم تَكذب على المعصومين ( عليه السلام ) .
الأمرُ الثالث : من مجوّزات النقل المشهورة بين الخطباء والشعراء الحسينيّين : النقل بلسان الحال ، فكأنّهم يرون أنّ الحديث يكون صادقاً مع التقيّد بهذا المعنى ، ومن هنا أباحَ الشعراء لأنفسهم إضافة أقوال وأفعال كثيرة جدّاً إلى واقعة الطف ،
بعنوان أنّها بلسان الحال لا بلسان المقال .
وهذا ليس خطأ كلّه ، بل يُحمل جانباً من الصواب من الناحية الفقهيّة ؛ فإنّ النقل بالمعنى عن الروايات جائز إن كانت الرواية بدورها مُحرَزة الصحّة ، كما أنّ النقل بلسان الحال جائز إذا أحرزنا أنّ حال المتكلّم في تلك الساعة على ذلك ، إلاّ أنّنا مع ذلك ينبغي أن نكون على حذرٍ شديد من هذه الناحية ، لعدّة وجوه :
الوجهُ الأوّل : إنّنا لا نستطيع أن نعلم حالهم رضوان الله عليهم ، لا الحسين ( عليه السلام ) ، ولا أصحابه ، ولا نساءه ، ولا أيّ واحدٍ هناك منهم ؛ لأنّهم أعلى وأجلّ من أن نعلم ما يدور في خواطرهم وما تُخفيه سرائرهم ، في حين أنّنا بعيدون عنهم زمناً ومكاناً وثقافة ومستوى ، وغير ذلك ، إذاً فنحن جاهلون بحالهم لا أنّنا عالمون به لنستطيع التعبير عنه بأيّ حالٍ من الأحوال ، وإنّما يجوز الحديث بلسان الحال مع إحراز المطابقة للواقع ، وأنّى لنا ذلك ؟
الوجهُ الثاني : إنّ ما يكون بلسان الحال إنّما هو الأقوال لا الأفعال ، فلو تنزّلنا جَدلاً عن الوجه الأوّل أو تمّ لدينا ذلك الوجه ، فإنّما يجوز النقل بلسان الحال في الأقوال وحدها ، أمّا نقل الأفعال والتلفيق فيها بعنوان كونها بلسان الحال ، فهذا لا معنى له ولا بيان له .
الوجهُ الثالث : إنّنا لو تنزّلنا جَدلاً عن الوجه الأوّل أو تمّ لنا ذلك الوجه ، فإنّه يتمّ بمعنى أنّ الحالة العامّة التي كانوا فيها معلومة لنا إجمالاً .
وأمّا التفاصيل فمن غير المحتمل أن ننال منها شيئاً ، فمثلاً ما الذي خطرَ في ذهن الحسين ( عليه السلام ) حين أخذَ رضيعه معه ليسقيه الماء ، أو في أيّة حادثة معيّنة أخرى ؟ هذا متعذّر فهمه تماماً في حدود البُعد الزمني والثقافي والإيماني عنه ( عليه السلام ) .
وفي صدد النقل بلسان الحال يمكن أن نذكر مَنشأين لجواز النقل بهذا الشكل ، فإن تمّ أخذنا به ، وإن لم يتم أعرَضنا عنه :
المنشأ الأوّل : ما وردنا من الروايات عن واقعة كربلاء ، فإنّها تدلّنا على الحال الذي كانوا فيه ، فنستطيع أن نتحدّث زيادة على ذلك في حدود الحال الذي فهمناه من تلك الروايات .
وجوابهُ :
أوّلاً : إنّ الرواية ينبغي أن تكون صحيحة ومعتبرة سنداً ، لكي يمكننا استكشاف الحال من خلالها .
ثانياً : إنّ المفروض أنّنا نتحدّث عن أقوال وأفعال زائدة عمّا هو المروي ؛ لأنّه بلسان الحال ، فلا نستطيع أن نقول : ( رويَ ذلك ) لنكون صادقين ؛ لأنه لم يُروَ إطلاقاً .
ثالثاً : إنّ المفروض أحياناً أنّنا نروي حوادث وأقوالاً غير متشابهة على الإطلاق عمّا هو مروي ووارد ، لا في الروايات الصحيحة ولا الضعيفة ، فكيف يتمّ لنا ذلك شرعاً وهل هو إلاّ من الكذب الصريح ؟
المنشأ الثاني : لجواز النقل بلسان الحال ، العُرف ، فما كان يناسب من الناحية العرفيّة أن يكون حالهم عليه ، جازَ التعبير عنه ، وما لا يناسب ذلك لم يجز التعبير عنه ، واتباع العرف أمر جائز عرفاً وحجّة كما ثبتَ في علم الأصول .
إلاّ أنّ هذا غير صحيح لعدّة مناقشات تَرد عليه :
أوّلاً : إنّ العرف إنّما تَثبت حجيّته في علم الأصول في موارد معيّنة لا يمكن تعدّيها ، ولا قياس غيرها عليها ، وهي حجيّة الظواهر المأخوذ بها عرفاً وحجيّة المعاملات المتعارفة في العرف .
وأمّا الكذب والكلام الزائد ، فهو وإن كان عرفاً سائراً ، إلاّ أنّه منهي عنه قطعاً في الشريعة ومُحرّم أكيداً .
ثانياً : إنّ العرف إنّما يكون حجّة في ما يناسب حال العرف ومستواه .
وأمّا ما كان خارجاً عن حال العرف كالأمور الرياضيّة والفلسفيّة ، فلا سبيل للعرف إليها ، ونحن نعلم أنّ حال أولئك الأبطال الأفذاذ أعلى من أن يفهمه العرف ، فالتنزّل بمستواهم إلى درجة العرف الشائع ظلمٌ لهم لا محالة .
ثالثاً : إنّ لسان الحال أصبح مبرّراً لدى البعض إلى نقل كثير من التفاصيل الكاذبة ، وهذا أمرٌ خارج عن هذا الدليل لو تمّ ، بعد التنزّل عن الوجهين السابقين جَدلاً ، فإنّه إنّما يُثبت إمكان البكاء والتضجّر واللطم ونحو ذلك ، لا أنّه يُثبت جواز الكذب والدسّ بطبيعة الحال .
الأمرُ الرابع : من مُجوّزات النقل المحتملة عن حوادث كربلاء : ما وردَ بنحو القاعدة العامّة حيث تقول : ( قولوا فينا ما شئتم ونزهّونا عن الربوبيّة ) (4) .
وتقريبُ الاستدلال بها للنقل : وهو التمسّك بإطلاق قوله ( ما شئتم ) ؛ فإنّ الفرد قد يشاء أن ينقل الأمور غير المرويّة أو غير المناسبة مع الحال وغير ذلك ، ومقتضى إطلاق القاعدة جواز ذلك كلّه ، إلاّ أنّ هذا غير صحيح بكلّ تأكيد لعدّة وجوه :
الوجهُ الأوّل : إنّ مثل هذه الرواية غير تامّة سنداً ، ومعهُ لا تكون ثابتة أصلاً ، فالاستدلال بها ـ كما هو المشهور بينهم ـ غير جائز .
الوجهُ الثاني : إنّها مخدوشة في الدلالة أو التعبير وهو قوله فيها : ( ونزّهونا عن الربوبيّة ) ، في حين أنّ الربوبيّة كمال وعَظمة ، والتنزيه إنّما يكون عن النقص والخسّة والرذيلة ، فهذا إنّما يدلّ على ضعف سندها وعدم ورودها إطلاقاً .
ويمكن أن يكون المتكلّم بها قد قال : ( ونزّلونا عن الربوبيّة ) ، فَنقلها الراوي بالهاء وهو قوله : ( نزّهونا ) ، إلاّ أنّ هذا الاعتذار لا يجعلها تامّة سَنداً .
الوجهُ الثالث : إنّ التمسّك بإطلاقها على سَعته غير مُحتمل فمثلاً : هل يمكن أن يشمل قوله : ( قولوا فينا ما شئتم ) القول السيئ من القدح والشتم ونحوه ، إنّ هذا غير محتمل طبعاً ، إذاً فالمراد : ما شئتم ممّا هو مناسب مع شأننا ، ومن الواضح أنّ كثيراً ممّا نقول عنهم بلسان الحال ليس مناسباً مع شأنهم .
الوجهُ الرابع : إنّ قوله فيها ( ما شئتم ) يراد به الأوصاف الإجماليّة : ككونهم علماء ، أو عظماء ، وغير ذلك ، ولا يراد بها التفاصيل من نقل الأقوال والأفعال الكاذبة عنه ، وإن كانت مناسبة لشأنهم ، فضلاً عمّا إذا لم تكن ، والمفروض إلى الحديث عن لسان الحال أنّه يكون بالتفاصيل لا بالإجمال .
الوجهُ الخامس : في المعنى الأصلي الذي أفهمهُ من هذه الرواية : وهو أنّ فهمَنا لا يكون له أيّ ارتباط للنقل بالمعنى من قريب أو بعيد ، والمعنى الذي أفهمهُ كما يلي : ( قولوا فينا ما شئتم من المدائح ، أو من صفات الكمال والجلال ؛ فإنّكم لا تصلون إلى الواقع الذي اختارهُ الله لنا ، وستكون كلّ من مدائحكم وأوصافكم دون مستوانا الواقعي ) .
وإذا تصاعدنا نحن في الأوصاف لا نصل إلى صفتهم الحقيقيّة ، فضلاً عن أنّنا يمكن أن نتعدّاهم إلاّ إذا ذَكرنا لهم الربوبيّة ؛ فإنّها غير ثابتة في حقّهم ، فمثلاً نقول : إنّهم مؤمنون ، ثمّ نقول : إنّهم ورعون ، ثمّ نقول : إنّهم متّقون ، ثمّ نقول : إنّهم علماء ، ثمّ نقول : إنّهم راسخون في العلم ، ثمّ نقول : إنّهم أولياء ، ثمّ نقول : إنّهم كأنبياء بني إسرائيل أو أفضل منهم ، كلّ ذلك ونحن لم نصل إلى حقائقهم ومستوياتهم الواقعيّة .
الأمرُ الخامس : من مجوّزات النقل المحتملة عن واقعة كربلاء :
ما ورد بنحو القاعدة العامّة : ( مَن بكى على الحسين أو أبكى أو تباكى ، وجَبت له الجنّة ) (5) .
وتقريبُ الاستدلال بها : هو التمسّك بإطلاقها لكلّ قولٍ أو فعل صار سبباً للبكاء على الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، فإنّه يكون سَبباً لدخول الجنّة أو وجوبها للفرد سواء كان مطابقاً للواقع أو لم يكن .
وهذا المضمون وإن كان مطابقاً للقاعدة ؛ لأنّ مَن بكى أو أبكى أو تباكى بإخلاصٍ لله سبحانه وتعالى (وهنا يشير سماحة المؤلِّف إلى أنّ الإخلاص في البكاء ، أو التباكي لله بغضّ النظر عمّا إذا كان على الحسين ( عليه السلام ) أو غيره ، فهو سبب في الدخول إلى الجنّة ، ويؤيّد ذلك : ما ذكرهُ السيّد المقرّم في مقتله نقلاً عن كنز العمّال في الحديث عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) أنّه قرأ آخر الزُمر ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ) على جماعة من الأنصار ، فبكوا إلاّ شابّاً منهم قال : لم تقطر من عيني قطرة وإنّي تباكيت ، فقال الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) : ( مَن تباكى فلهُ الجنّة ) .
وفي نفس المصدر عن جرير عن الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) قال : ( إنّي قارئ عليكم ( ألهاكم التكاثر ) مَن بكى فلهُ الجنّة ، ومَن تباكى فلهُ الجنّة.وحدث أبو ذر الغفاري ( رحمه الله ) عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) : ( مَن استطاعَ أن يبكي فليبكِ ، ومَن لم يستطع فليُشعر قلبه الحزن وليتباكِ ؛ فإنّ القلب القاسي بعيد عن الله ) مقتل المقرّم نقلاً عن اللؤلؤ والمرجان للنوري ، ومجموعة شيخ ورام.ويجب أن نشير هنا إلى أنّ المقصود ليس كلّ بكاء أو تباكي ، وإنّما يجب أن يكون البكاء خالصاً لله عزّ وجل منبعثاً من تأثير النفس والرهبة منه سبحانه وتعالى ، ويشير إلى ذلك محمّد عبدة في تفسير المنار حيث يقول : ( التباكي تَكلّف البكاء لا عن رياء)(6)
وللحسين ( عليه السلام ) ، فإنّه يستحقّ الثواب الجزيل بلا إشكال ، إلاّ أنّ التمسّك بإطلاقها المفروض إنّما يتمّ بغضّ النظر عن المناقشات التالية ، وتلك المناقشات تَردّ عليها كرواية منقولة كما هو المشهور ، لا كمضمون مشهود على صحّته .
أوّلاً : ضُعف سَند هذه الرواية ، فلا تكون معتبرة .
ثانياً : إنّ متعلّق البكاء لم يُذكر في هذه العبارة ، ومعه يكون من الواضح أنّه ليس كلّ أهداف البكاء مشروعة ، أو لا ثواب عليها على الأقل .
أو قل : لا تجب لهُ الجنّة بكلّ تأكيد ، كمَن بكى للدنيا أو لمصيبة عاطفيّة ونحوها ، إذاً فالأمر مقيّد بالبكاء المرضيّ لله عزّ وجل .
ثالثاً : إنّ متعلّق البكاء لم يُذكر في هذه العبارة ، حتّى الصالح منه يعني لم يقل : إنّ البكاء من أجل الحسين ( عليه السلام ) ـ كما يفهم المشهور ـ أو من خوف الله عزّ وجل ، أو شوقاً إلى الثواب ، أو أيّ شيء آخر ، ومن هنا لا دليل على اختصاصه بالحسين ( عليه السلام ) .
رابعاً : إنّ وجوب الجنّة بل مطلق الثواب ، لا يكون إلاّ بحفظ الشرائط الأخرى الضروريّة في الدين ؛ لوضوح عدم شمولها للكفّار والفَسَقة وأضرابهم ، إذاً فيكون المعنى : ( مَن أضافَ إلى حسناته البكاء ، وجَبت له الجنّة ) ، ومن الواضح أنّها لم تقل ذلك بوضوح ، إذاً فيبقى إطلاقها غير ثابت .
خامساً : إنّ وجوب دخول الجنّة غير مُحرز لأيّ إنسان غير معصوم ، ما لم يَمت مرضيّاً لله عزّ وجل ، وأمّا لو زالت حسناته بظلمٍ أو سوء ونحوه ، لم يستحقّ الجنّة بكلّ تأكيد ، والشاهد على ذلك قوله تعالى : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ) (7) ، والسيّئات قد تذهب بالحَسنات ، كما أنّ الحَسنات قد تذهب بالسيّئات .
ومعهُ فيكون المعنى : ( مَن داومَ على الطاعة طول حياته مع البكاء ، وجَبت لهُ الجنّة ) ، ومن الواضح أنّه لم يقل ذلك ، كلّ ما في الأمر أنّ التمسك بإطلاقها مُشكل .
سادساً : الإخلاص في العمل لم تنصّ عليه الرواية ، وهو البكاء في سبيل الله من دون عجب ولا رياء ، فلو بكى الفرد على أمواته أو على مصاعب الدنيا ، لم يستحقّ الجنّة فضلاً عن أنّها تجب له ، لكنّنا ينبغي أن نُفصّل الحديث في البكاء على الأموات بعنوانٍ مستقل .
المصادر :
1- رجال السيّد بحر العلوم : ج1 ، ص21 بتصرّف ، ط نجف .
2- عُمدة الطالب : ص78 ، مقاتل الطالبيين : ص119 ، ط دار المعرفة ببيروت .
3- مُروج الذهب : ج3 ، ص86 .
4- البحار : ج25 ، ص261 بتصرّف .
5- أمالي الصدوق : ص125 ، مجلس 29 ، البحار : ج44 ، ص288 ، الدمعة الساكبة : م1 ، ص300 .
6- كنز العمّال : ج1 ، ص147 / كنز العمّال : ج1 ، ص148 / اللؤلؤ والمرجان للنوري 47 ، ومجموعة شيخ ورام : ص272 / محمّد عبدة في تفسير المنار : ج8 ، ص301 .
7- سورة الفرقان : آية 23 .

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ما هي ليلة الجهني، و لماذا سُمِّيت بالجهني؟
خلود القرآن والعترة
شر الجبابرة والطغاة
حقیقة الدعاء
البكاء على أهل البيت‏
الامام الجواد عليه السلام في سطور
من شهد واقعة الطف
في حسن الخلق و ثوابه
التميميّون من أصحاب الحسين (عليه السّلام)
دروس في فن التلاوة وعلم المقامات والنغم القرآنية

 
user comment