ليس في المصادر المعتبرة أن أبابكر استشار الصحابة في جعل الخلافة لعمر و استخلاف عمر كان ممّا كتبه عثمان من عند نفسه ولم يكن بأمر من أبي بكر ... وهذا ما يذكره المؤرخون قاطبة ، فراجع منهم الطبري 2 / 618 ، نعم ، أقرّ كتابته بعد إفاقته ...
و لم يكن أبوبكر الامام الحق ليعتبر تنصيصه على من بعده .
و لم يتحقق إجماع أهل الحلّ والعقد على إمامة عمر ، فإنّ دخول بعضهم على أبي بكر وقوله له : « ماذا تقول لربّك وقد ولّيت علينا فظاً غليظاً ؟ » مشهور .
فقد روى ابن سعد عن عائشة قالت : « لمّا حضرت أبابكر الوفاة استخلف عمر ، فدخل عليه علي وطلحة فقالا : من استخلفت ؟ قال عمر ، قالا : فماذا أنت قائل لربّك ؟ ... » (1) ورواه ابن أبي شيبة في ( المصنف ) وأبو يوسف في ( الخراج ) واللفظ : « فقال الناس » وفي رواية جماعةٍ عن أبي بكر أنّ ذلك كان قول المهاجرين كلّهم (2) .
ولو سلّم فلا عبرة به ، إذ الإمامة لا تنعقد إلاّ بنصّ من الله ورسوله .
نعم قد عرف عمر حقّ عثمان عليه بكتابة اسمه في الكتاب فعقد الخلافة له من بعده بصورة غير مباشرة ، وذلك قول الامام علي عليه السلام لمّا سمع بذلك للعبّاس : « عدلت عنا ، فقال : ما أعلمك؟ قال : قرن بي عثمان وقال : كونوا مع الأكثر ، فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف . فسعد لا يخالف ابن عمه عبدالرحمن وعبدالرحمن صهر عثمان لا يختلفون ، فيولّيها عبدالرحمن عثمان او يولّيها عثمان عبدالرحمن ، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني » (3) .
فأنت ترى كيف عقد عمر لأبي بكر ، وعقد أبوبكر لعمر والكاتب عثمان وعقد عمر لعثمان ؟!
لكن بلغت مفاسد عثمان حدّاً حتّى قاطعه عبدالرحمن بن عوف الذي كان عقد الخلافة له على يده وقام عليه المهاجرون والأنصار حتّى كان ما كان .
قد عرفت أنه عليه السلام إمام معصوم منصوص عليه ، فإن انقادت له الناس حصل لهم لطف تصرّفه ... نعم إنّما يحتجّ بالاجماع عليه إلزاماً لمن يرى تحقق الإمامة به ... أمّا أنّ طلحة والزبير « قد صحت توبتهما عن مخالفته »؟ وأنّ فلاناً وفلاناً بايعوه « إلاّ أنّهم استعفوا عن القتال » فهذه أمور ليس للبحث عنها كثير فائدة ... والمهمّ :
1 ـ اعترافه بالاجماع على إمامته .
2 ـ إعترافه بأنّ المخالفين له باغون ، ولا سيّما للحديث : « يا عمّار تقتلك الفئة الباغية ».
3 ـ إعترافه بالحديث : « إنّك تقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين » (4) .
( إنّ الإمامية يزعمون أنّ الإمام الحق بعد رسول الله علي ثم ابنه الحسن ثم أخوه الحسين ... » .
قد عرفت أنّ الإمامة رياسة دينية ودنيوية نيابة عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ... وأنّه لابدّ للمسلمين من إمام يقتدون به في جميع أمورهم الدينية والدنيوية في كل زمان ، ليصح قوله صلّى الله وآله : « من مان ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة » ، فمن أئمة القوم الذين يقتدون بهم ويأخذون منهم معالم ؛ دينهم بعد الخلفاء الأربعة ؟
أمّا الاماميّة فالأئمة عندهم كما ذكر ، ونصّ كلٍ من السابقين على من بعده ثابت بالتواتر عندهم كما لا يخفى على من راجع كتبهم ، لا سيّما المؤلفة منها في ذلك بالخصوص ، مثل ( كفاية الأثر في النص على الأئمّة الاثني عشر ) و ( إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات ) و ( الإشراف على النص على الأئمّة الأشراف ... وهي روايات مروية بالأسانيد المعتبرة عن العترة الطّاهرة ، فقول السّعد : ( والعاقل يتعجب من هذه الروايات والمتواترات التي لا أثر لها في القرون السابقة من أسلافهم . ولا رواية عن العترة الطاهرة ، ومن يوثق بهم من الرواة المحدثين ) جهل أو تجاهل ... كما أن رمي زيد بن علي ـ رضي الله عنه ـ بـ « دعوى الخلافة » افتراء محض ...
ويكفينا من الأخبار الموثوقة عن طريق أهل السنة : حديث : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » فإن من مات في زمن يزيد بن معاوية أو بني مروان أو بني العباس أو سائر الملوك ولم يعرف ملك زمانه ولم يعتقد بامامته فلا يحكم بموته ميتة جاهلية ، فتعيّن أن يكون المراد غيرهم ، وليس إلاّ أئمّه أهل البيت . وحديث « الاثنا عشر خليفة » المتّفق عليه ... فإنّه لا ينطبق إلاّ على ما نذهب إليه وان حاولوا صرفه عن ذلك . وحديث : إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال للحسين عليه السلام : « إبني هذا إمام إبن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم » والأحاديث الأخرى الواردة في هذا المعنى ، روى ذلك أبو نعيم الاصفهاني في أربعينه في المهدي والحمويني في فرائد السمطين والخوارزمي في مقتل الحسين ومحبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى والكنجي الشافعي في البيان في أخبار الزمان والقندوزي الحنفي في ينابيع المودة وغيرهم من السابقين واللاّحقين .(5)
ويكفينا من الأدلة الأخرى أن العصمة والأفضلية من شروط الامامة ، وهما مفقودان في غير هؤلاء الأئمّة .
هذا ، ولا يخفى أنّ السّعد قد أراح نفسه هنا من جهتين إحداهما : بيان الأئمّة من بعد الخلفاء الأربعة عند أهل السنة . والثّانية : الكلام مع الامامية فيما يذهبون إليه ، بل اكتفى بقوله : ( والعاقل يتعجب ... ) .
مبحث الأفضلية
قد اضطربت كلمات القوم في كبرى هذا المقام وصغراه ... لأنهم إن أنكروا الكبرى فقد أنكروا الكتاب والسنّة ودلالة العقل ، وإن التزموا بها ـ ولابدّ من ذلك ـ وقعوا في حيص بيص من ناحية الصغرى لاستحالة إثبات أفضلية أبي بكر ـ فضلاَ ، عمن بعده ـ على أمير المؤمنين عليه السلام . وفي الصّغرى اختلفوا في التفضيل بين علي وعثمان على ثلاثة أقوال أشار إليها السّعد ولم يذكر القول الرّابع ، قول المؤمنين لأهل الحق في أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام من أبي بكر ومن بعده ... وسندكره .
وكذلك السّعد اضطربت كلماته ، ففي المتن يقول : ( الأفضلية عندنا بترتيب الخلافة مع تردد فيما بني عثمان وعلي ) ويقول في الشرح : ( لا قاطع شاهد من العقل على تفضيل بعض الأئمّة على البعض والأخبار الواردة على فضائلهم متعارضة ، لكن الغالب على الظن أن أبابكر أفضل ثم عمر ، ثم تتعارض الظنون في عثمان وعلي ) والفرق بين العبارتين واضح جداً .
ثمّ إنّ التّعارض فرع الحجيّة ، ولا حجّية لأخبارهم التي ينفردون ، بها على أصحابنا ، بخلاف الأدلة التي يقيمها أصحابنا على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنّها أحاديث متّفق عليها بين الطّرفين كما سنرى ... على أنّه لم نجد في أدلّتهم حديثاً واحداً يجوز الاستدلال به حتّى على أصولهم ...
ما استدل به لأفضليّة أبي بكر
( لنا : إجمالاً : أن جمهور عظماء الملّة وعلماء الأمة أطبقوا على ذلك ، وحسن الظنّ بهم يقضي بأنّهم لو لم يعرفوه بدلائل وأمارات لما أطبقوا عليه ) .
وفيه : أوّلاً : إنّه لو سلّم إطباق الجمهور ، ففي القرآن الكريم ذمّ الأكثر في موارد كثيرة .
وثانياً : إنّ القائلين بالخلاف وان كانوا أقل عدداً لكنّهم رجال عظماء قد وردت في حقّهم الأحاديث المعتبرة المتّفق عليها ... كما ستعرفهم .
وثالثاً : إنّ مبني اعتبار قول الجمهور ليس إلاّ حسن الظنّ بهم كما ذكر ، فإذا وجدناهم في كثيرٍ من الأمور على ضلالة وهم لا يعقلون زال حسن الظن ...
ورابعاً : لو سلّم أنّ حسن الظن بهم يقضي بأنهم لو لم يعرفوه بدلائل وأمارات ... فإنّ الدلائل والأمارات المزعومة أو المتوهمّة ليست إلاّ ما سيذكره هو تفصيلاً ، وإذا عرفنا سقوطها عن الدليليّة وعن كونها أمارة لم يبق مجال للاعتماد على إطباقهم ...
فننظر في تلك الدلائل والأمارات :
( وتفصيلاً : الكتاب والسنة والأثر والأمارات . أمّا الكتاب فقوله تعالى : ( وسيجنّبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ) ... ) .
لم يذكر من الكتاب دليلاً على أفضليّة أبي بكر إلاّ هذه الآية ، ولو كان غيرها لذكر ... وتماميّة الاستدلال هذا موقوف على صحة القول بنزولها في أبي بكر ، وفيه :
أوّلاً : إنّه محلّ خلاف بين أهل السنّة أنفسهم ، فمنهم من حمل الآية لى العموم ، ومنهم من قال بنزولها في قصة أبي الدّحداح وصاحب النخلة (6) ومن هنا نسب القول بذلك في ( المواقف ) إلى أكثر المفسرين . وثانياً : إنّ القول بنزول الآية في أبي بكر إنما هو منقول عن آل الزبير ، وانحراف هؤلاء عن أمير المؤمنين عليه السلام معروف . وثالثاً : إنّ سند الخبر عن ابن الزبير غير معتبر قال الحافظ الهيثمي : « وعن عبدالله بن الزبير قال : نزلت في أبي بكر الصّديق ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى الاّ ابتغاء وجه ربه الاعلى ولسوف يرضى ) رواه الطبراني وفيه : مصعب بن ثابت . وفيه ضعف » (7) .
وقوله : ( وليس المراد به علياً ... ) قد تبع فيه شيخه العضد وهو ـ كما قلنا في جوابه ـ خلط في المعنى ، فإنّ الضمير في « عنده » يرجع إلى المنعم ، والمعنى : إنّ « الأتقى » موصوف بكونه ليس لأحدٍ من المنعين عليهم عند المنعم يد النعمة ، يكون الإنعام منه من باب الجزاء ، فعلي عليه السلام كان في تصدّقه بخاتمه على السائل في حال الركوع كذلك في إطعام اليتيم والمسكين والأسير حيث تزلت سورة هل أتى ، فلم تكن لهم عليه يد النعمة . وأين هذا من المعنى الذي ذكر؟
( وأمّا السنّة فقوله عليه السلام : إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) .
قد سبق أنّ هذا الحديث باطل سنداً ودلالة ، كما نصّ عليه كبار علمائهم
( وقوله لأبي بكر وعمر : هما سيّدا كهول أهل الجنة ما خلا النّبيين والمرسلين ) .
هذا الحديث ـ حتى لو كان صحيحاً عندهم ـ ليس بحجة علينا لكونه من طرقهم فقط ، فكيف ورواته ضعفاء متروكون بشهادة كبار علمائهم ؟ وهذه عبارة واحد منهم :
قال الحافظ الهيثمي : « عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله لأبي بكر وعمر : هذان سيّدا كهول أهل الجنّة من الأولين والآخرين . رواه البزار والطبراني في الأوسط . وفيه : على بن عابس وهو ضعيف » .
وعن ابن عمر قال : إن النبي قال : أبوبكر وعمر سيّدا كهول أهل الجنّة من الأولين والآخرين إلاّ النّبيين والمرسلين . رواه البزار وقال : لا نعلم رواه عن عبيدالله بن عمر إلاّ عبدالرحمن بن مالك بن مغول . قلت : وهو متروك » (8)
( وقوله عليه السلام : خير أمتي أبوبكر ثم عمر ) .
هذا الحديث مذيّل بذيل يدلّ على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام ، رووه عن عائشة قالت : « قلت : يا رسول الله ، من خير الناس بعدك ؟ قال : أبوبكر .
قلت : ثم من ؟ قال : عمر .
قالت فاطمة : يا رسول الله لم تقل في عليّ شيئاً !
قال : يا فاطمة ، علي نفسي ، فمن رأيتيه يقول في نفسه شيئاً؟ »
ولهذا فقد تكلّم في سنده بعض علمائهم (9) لكن السّعد أسقط الذيل تبعاً لشيخه العضد ليتم الاستدلال !
( وقوله عليه السلام : ما ينبغي لقوم فيهم أبوبكر أن يتقدّم عليه غيره ) .
لفظ هذا الحديث : « لا ينبغي لقوم فيهم أبوبكر أن يؤمّهم غيره » وهو حديث مكذوب موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم . نصّ على ذلك غير واحد من أكابر أئمّة الحديث ، كالحافظ ابن الجوزي المتوفى سنة 597 فإنّه أورده في كتابه في الموضوعات وقال بعد روايته : « هذا حديث موضوع على رسول الله » (10) .
ومن المضحك فهم ابن الجوزي من الحديث أن المراد هو تقديم من اسمه « أبوبكر » في الصلاة والنّهي عن التقدّم عليه فيها ، فإنه ذكر في أبواب الصّلاة : « باب تقديم من اسمه أبوبكر » ثمّ ذكر الحديث ثم قال : « هذا حديث موضوع ... » (11) .
قال السّيوطي : هذا فهم عجيب ! إنّما المراد أبوبكر خاصّة (12) .
فالعجب من قؤلاء ؟ كيف يستدلّون بالأحاديث الموضوعة باعتراف علمائهم ، ويعارضون بها الأحاديث الصحيحة الثابتة باعتراف علمائهم كذلك ؟
( وقوله : لو كنت متّخذاً خليلاً ... ) .
قد أجاب أصحابنا عن هذا الحديث سنداً ودلالة (13) وهو في رواية البخاري قطعة من حديث يشتمل على جمل عديدة تعدّ كلّ واحدة منها فضيلة مستقلة من فضائل أبي بكر ... فهو أقواها سنداً وأدلّها دلالة ، لكنّ راويه هو : « اسماعيل بن عبدالله بن أبي أويس » ابن أخت مالك بن أنس ونسيبه وروايته ، وهذه طائفة من الكلمات فيه :
قال ابن معين : هو وأبوه يسرقان الحديث . وقال : مخلّط ، يكذب ، ليس بشيء .
وقال النسائي : ضعيف . وقال مرة أخرى : غير ثقة .
وقال ابن عدي : يروي عن خاله أحاديث غرائب لا يتابعه عليها أحد .
وذكره الدولابي في الضعفاء وقال : سمعت النصر بن سلمة المروزي يقول : ابن أبي أويس كذّاب ...
وقال الدار قطني : لا اختاره في الصحيح .
وذكره الاسماعيلي في المدخل فقال : كان ينسب في الخفة والطيش إلى ما أكره ذكره .
وقال بعضهم : جانبناه السنة .
وقال ابن حزم في المحلي : قال أبو الفتح الأزدي حدثني سيف بن محمد : أن ابن أبي أويس كان يضع الحديث .
وأخرج النسائي من طريق سلمة بن شبيب أنّه قال : سمعت إسماعيل بن أبي أويس يقول : ربما كنت أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم (14) .
ثم إنه معارض بأحاديث موضوعة تنصّ على أنّه قد أتّخذه خليلاً مثل : « لكلّ نبي خليل في أمته وإنّ خليلي أبوبكر » (15) وبآخر ينصّ على أنّه اتّخذ عثمان خليلاً ، وهذا لفظه : « إنّ لكلّ نبي خليلاً من أمته و إنّ خليلي عثمان بن عفان » .
لكنها كلّها موضوعات ، وقد نصّ على وضع الأخير منها غير واحد (16) .
( وقوله : وأين مثل أبي بكر ... ) .
هذا الحديث كسابقه ، وممّا يؤكد بطلانه اشتماله على أن أبابكر أوّل من أسلم ، وهذا كذب ، فإنّ أول من أسلم أمير المؤمنين علي عليه السلام كما نصّ عليه غير واحد ودلّت عليه الأخبار والآثار .
أيضاً : إشتماله على أنه كان ذا مال . وقد نصّ السّعد على كونه ( عديم المال )
وأيضاً : اشتماله على أنه كان ينفق على النبي بماله ، فإنّ هذا كذب قطعاً ، ولذا اضطرّ مثل ابن تيمية إلى تأويله فقال : « إنّ إنفاق أبي بكر لم يكن نفقةً على النبي في طعامه وكسوته ، فإنّ الله قد أغنى رسوله عن مال الخلق أجمعين ، بل كان معونة له على إقامة الدين ، فكان إنفاقه فيما يحبّه الله ورسوله ، لا نفقة على نفس الرسول » (17) ولو تمّ هذا التأويل لم يبق فرق بين أبي بكر وسائر الصحابة الذين كانوا ينفقون أموالهم في سبيل إقامة الدين ، فأين الأفضلية ؟
وقبل هذا كله ، فالحديث قد أورده الحافظ ابن عرّاق المتوفى سنة 963 في الأخبار الشنيعة الموضوعة (18) والحافظ السيوطي في الأحاديث الموضوعة (19) .
( وقوله لأبي الدرداء حين كان يمشي أمام أبي بكر ... ) .
هذا الحديث ـ حتى لو كان صحيحاً عندهم ـ ليس بحجّة علينا ، لكونه ـ كغيره ـ من طرقهم فقط ، فكيف ورواته كذّابون مدلّسون بشهادة كبار علمائهم؟ وهذه عبارة الحافظ الهيثمي المتوفى سنة 807 :
« عن جابر بن عبدالله قال : رأي رسول الله أبا الدرداء يمشي بين يدي أبي بكر . فقال : يا أبا الدرداء تمشي قدّام رجلٍ لم تطلع الشمس بعد النّبيين على رجل أفضل منه ، فما رؤي أبو الدرداء بعد يمشي إلاّ خلف أبي بكر . رواه الطبراني في الأوسط وفيه : إسماعيل بن يحيى التيمي وهو كذّاب .
وعن أبي الدرداء قال : رآني رسول الله وأنا أمشي أمام أبوبكر فقال : لا تمش أمام من هو خير منك ، إنّ أبابكر خير من طلعت عليه الشمس ، أو غربت . رواه الطبراني وفيه : بقية ، وهو مدلّس » (20) .
وإذا بطل الحديث من أصله فلا موضوع لما ذكره السّعد في معناه .
( وعن عمرو بن العاص قلت الرسول الله ... ) .
هذا الحديث في البخاري بهذا السند : « حدثنا معلى بن أسد حدثنا عبدالعزيز بن المختار قال خالد لحذّاء حدّثنا عن أبي عثمان قال حدّثني عمرو بن العاص ... » (21) .
في هذا السند :
1 ـ عبدالعزيز بن المختار ، وهو لم يتّفقوا على وثاقته ، فعن ابن معين : ليس بشيء (22) .
2 ـ خالد بن مهران الحذّاء وهو مقدوح جداً :
أ ـ كان قد استعمل على العشور بالبصرة (23) .
ب ـ كان مدلّساً (24) .
ج ـ تكلّم فيه جماعة كأبي حاتم حيث قال : يكتب حيدثه ولا يحتجّ به . رحماد بن زيد قال : قدم علينا قدمة من الشام ، فكأنّا أنكرنا حفظه . وأراد شعبة التكلّم فيه علناً فهدّد وسكت . ولم يلتفت إليه إبن عليّه وضعّف أمره . وقال ابن حجر : « والظاهر أن كلام هؤلاء فيه من أجل ما أشار إليه حماد بن زيد من تغيّر حفظه بآخره ، أو من أجل دخوله في عمل السلطان . والله أعلم » (25) .
3 ـ عمرو بن العاص . ابن النابغة ، أحد المصاديق الحقيقية لما قاله السّعد نفسه حول الصّحابة .
أقول : أليس من الجزاف والقول الزور الاستدلال بحديثٍ هذا سنده في أصحّ الكتب عندهم بعد القرآن فضلاً عن غيره من الكتب ؟
( وقال النّبي : لو كان بعدي نبي لكان عمر ) .
عجباً للسّعد كيف يرتضي هذا الحديث ويستدلّ به وهو يرى أفضلية أبي بكر من عمر ؟ إنّ هذا الحديث معناه أن عمر صالح لنيل النبوة على تقدير عدم ختمها ، ولازمه أن يكون أفضل من أبي بكر ، كما هو واضح .
ثم كيف يصلح للنّبوة من قضى شطراً من عمره في الكفر .
ولننظر في سنده :
إنّ هذا الحديث لا يعرف إلاّ من حديث مشرح بن هاعان كما نصّ عليه الترمذي بعد أن أخرجه وهذه عبارته كاملة :
« حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا المقرئ عن حيوة بن شريح عن بكر بن عمرو عن شرح بن هاعان عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطّاب . هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلاّ من حديث مشرح بن هاعان » (26) .
وهذه طائفة من كلمات أئمّة القوم لتعرف مشرح بن هاعان :
قال ابن الجوزي : « قال ابن حبان : انقلبت على مشرح صحائفه فبطل الاحتجاج به » (27) .
وقال الذهبي : « قال ابن حبان : يكنى أبا مصعب ، يروي عن عقبة مناكير لا يتابع عليها ... فالصواب ترك ما انفرد به . وذكره العقيلي فما زاد في ترجمته من أن قيل أنه جاء مع الحجّاج إلى مكة ونصب المنجنيق على الكعبة » (28) .
فتلخص :
1 ـ قدح جماعة من الأئمّة فيه :
2 ـ إنه جاء مع الحجاج إلى مكة ونصب المنجنيق على الكعبة .
3 ـ إنّه روى عن عقبة أحاديث لا يتابع عليها . ولا ريب أن هذا الحديث
منها ، إذ لم يعرف إلاّ منه كما عرفت من عبارة الترمذي .
ثم إنّ الراوي عنه هو : بكر بن عمرو ، وقد قال الدار قطني والحاكم : « ينظر في أمره » (29) بل قال ابن القطّان : « لا نعلم عدالته » (30) .
وفي ( مقدمة فتح الباري ) في الفصل التاسع ، في أسماء من طعن فيه من رجال البخاري : « بكر بن عمرو المعافري المصري » .
ثمّ إنّ بعض الوضّاعين قلب لفظ هذا الحديث المفترى إلى لفظ : « لو لم أبعث فيكم لبعث عمر » وقد رواه ابن الجوزي بنفس سند اللفظ الأوّل في ( الموضوعات ) ونصّ على أنّه لا يصح (31) كما نصّ الذهبي على كونه مقلوباً منكراً (32) .
وبعضهم وضعه بلفظ : « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمر بن الخطّاب : لو كان بعدي نبي لكنته » رواه المتقي قال : رواه الخطيب وابن عساكر وقالا : منكر (33) .
( وعن عبدالله بن حنطب : إن النبي رأى أبابكر وعمر فقال : هذان السمع والبصر ) .
أقول :
« هذان السّمع والبصر » من أيّ شيء؟
قد وضعوا هذا الحديث تارة بلفظ : إنهما السمع والبصر من الدين أو الاسلام ، وأخرى إنهما السمع والبصر من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ... وهو بجميع ألفاظه ساقط عن درجة الاعتبار ، وإليك البيان باختصار :
أخرج الحاكم بسنده عن حذيفة عن النبي في حديث : « إنّهما من الدين كالسّمع والبصر » قال الذهبي في تلخيصه : « هو واه » (34) .
وروى المقدسي : « إنّ أبابكر وعمر من الاسلام بمنزلة السّمع والبصر » ثم قال : « من موضوعات الوليد بن الفضل الوضّاع » (35) .
والحديث الذي استدل به السّعد مرسل ، لأنّ عبدالله لم يدرك النبي (36) لكن ابن عبد البر وراه بسنده عن المغيرة بن عبدالرحمن عن المطلب بن عبدالله بن حنطب عن أبيه عن جدّه ... ثم قال : « ليس له غير هذا إسناد ، والمغيرة بن عبدالرحمن هذا هو الحزامي ضعيف ، وليس بالمخزومي الفقيه صاحب الرأي ... » (37) وقال أيضاً : « حديث مضطرب الأسناد لا يثبت » (38) وتبعه ابن حجر فقال : « قال أبو عمر : حديث مضطرب لا يثبت » (39) .
المصادر :
1- الطبقات الكبرى 3 / 274 .
2- تاريخ الطبري 2 / 617 ، العقد الفريد 4 / 267 ، اعجاز القرآن للباقلاني 184 هامش الانقان ، الفائق للزمخشري 1 / 45 .
3- تاريخ الطبري 3 / 294 .
4- المعارف : 306 .
5- الخوارزمي في مقتل الحسين 1 / 145 ومحبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى : 136 والكنجي الشافعي في البيان في أخبار الزمان : 90 والقندوزي الحنفي في ينابيع المودة : 442.(5)
6- الدر المنثور : 6 / 358 .
7- مجمع الزوائد : 9 / 50 .
8- مجمع الزوائد : 9 / 53 .
9- تنزيه الشريعة 1 / 367 .
10- الموضوعات 1 / 318 .
11- الموضوعات 2 / 100 .
12- اللآلي المصنوعة 1 / 299 .
13- تلخيص الشافي 3 / 217 .
14- لاحظ الكلمات بترجمته من تهذيب التهذيب 1 / 312 .
15- كنز العمال 6 / 140 .
16- تنزيه الشريعة 1 / 392 .
17- منهاج السنة 4 / 289 .
18- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة 1 / 344 .
19- اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1 / 295 .
20- مجمع الزوائد 9 / 44 .
21- صحيح البخاري 5 / 64 كتاب فضائل أصحاب النبي .
22- تهذيب التهذيب 6 / 317 .
23- تهذيب التهذيب 3 / 105 .
24- تهذيب التهذيب 3 / 105 .
25- تهذيب التهذيب 3 / 104 ـ 105 .
26- صحيح الترمذي 5 / 578 باب مناقب عمر .
27- الموضوعات . باب مناقب عمر 1 / 320 .
28- ميزان الاعتدال ـ ترجمة مشرح بن هاعان 4 / 117 .
29- تهذيب التهذيب 1 / 426 ، ميزان الاعتدال 1 / 347 .
30- تهذيب التهذيب 1 / 426 .
31- الموضوعات 1 / 320 .
32- ميزان الاعتدال ـ ترجمة رشدين بن سعد المهري 2 / 49 .
33- كنز العمال 12 / 597 .
34- المستدرك 3 / 74 .
35- تذكرة الموضوعات : 148 .
36- الاصابة 2 / 299 .
37- الاستيعاب 1 / 146 .
38- الاستيعاب 1 / 347 .
39- الاصابة 2 / 299 .