عربي
Friday 27th of September 2024
0
نفر 0

الروايات الاِسرائيلية

الروايات الاِسرائيلية

عندما اغلقت مدرسة الخلفاء على المسلمين باب التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتحت لهم باب الاَحاديث الاِسرائيلية على مصراعيه، وذلك بالسماح لاَمثال: تميم الداري الراهب النصراني، وكعب أحبار اليهود، وكانا قد أظهرا إسلامهما بعد أنتشار الاِسلام، وتقرّبا إلى الخلفاء بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ؛ ففسحت مدرسة الخلفاء لهما ولاَمثالهما المجال في أن يبثّوا الاَحاديث الاِسرائيلية بين المسلمين كما يشاؤون.
وقد خصّص الخليفة عمر لاَول ساعة في كل أُسبوع يتحدّث فيها قبل صلاة الجمعة بمسجد الرسول، وجعلها عثمان على عهده ساعتين وفي يومين!.
أمّا كعب الاَحبار اليهودي فقد كان الخلفاء عمر وعثمان ومعاوية يسألونه عن مبدأ الخلق، وقضايا المعاد، وتفسير القرآن... إلى غير ذلك؟!
وقد روى عنهما صحابة أمثال: أنس بن مالك، وأبي هريرة، وعبداللهبن عمر بن الخطاب، وعبدالله بن الزبير، ومعاوية... ونظرائهم من الصحابة والتابعين.
ولم يقتصر نقل الاِسرائيليات على هذين العالمين من علماء أهل الكتاب وتلاميذهما فحسب، بل قام به ثلّة معهما ومن بعدهما كذلك، وامتدّ على عهد الخلافة العباسية، ما عدا فترة حكم الاِمام علي عليه السلام الذي طرد هؤلاء من مساجد المسلمين، وسمّاهم بالقصّاصين؛ فلقد أثّروا على الفكر الاِسلامي بمدرسة الخلفاء أثراً عظيماً، ومن ثمّ دخلت الثقافة الاِسرائيليّة في الاِسلام حتى صبغت جانباً منه بلونها.
ومن هنا انتشر من مدرسة الخلفاء الاعتقاد بأنّ الله جسم، وأنّ الاَنبياء تصدر منهم المعاصي كما تغيّرت النظرة إلى المبدأ والمعاد... إلى غيرها من أفكار إسرائيلية. وعظم نفوذ هؤلاء في العهد الاَموي، وخاصة في سلطان معاوية حيث اتّخذ بطانة من النصارى أمثال: كاتبه سرجون، وطبيبه ابن أثال، وشاعره الاَخطل من نصارى عصره!.
وكان معاوية ـ بالاِضافة إلى ما ذكرنا ـ متطبّعاً بالطابع الجاهلي، وملتزماً بأعرافه من التعصّب القبلي وإحياء آثاره، وكانت له مع ذلك أهداف أُخرى من قبيل: توريث السلطة في عقبه، وكسر شوكة المعارضين له من المحافظين الذين يشهرون في وجهه سلاح سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
فكان لابُدَّ له في علاج كلّ ذلك للوصول إلى أغراضه الجاهلية وأهدافه الخاصّة من أن يصنع شيئاً؛ فاستمدّ في هذا السبيل من بعض بقايا الصحابة ممّن كان في دينه رقّة وفي نفسه ضعف أمثال: عمرو بن العاص، وسمرة بن جندب، وأبي هريرة، فاستجابوا له ووضعوا له من الحديث ما يساعده على تحقيق أغراضه، ثمّ رووه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن ذلك ما رواه المدائني في كتاب «الاَحداث» قال: «كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته»!.
«وكتب إليهم: أن انظروا مَن قبلكم مِن شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم، وقرّبوهم وأكرموهم، وأكتبوا إليَّ بكلّ ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه؛ لما كان يبعث إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك وتنافسوا في المنازل...».
إلى أن قال: «ثم كتب إلى عماله: أنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل عصر وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الاَولين. ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وائتوني بمناقضٍ له في الصحابة مُفتَعلٍ؛ فإنّ هذا أحبّ إليّ وأقرّ لعيني وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله!!
فقُرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدَّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى؛ حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر...
فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة...؛ حتى انتقلت تلك الاَخبار والاَحاديث إلى أيدي الدَّيانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنّها حق، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ولا تديّنوا بها».
ذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج 3: 15 ـ 16.
وقد سمّى ابن أبي الحديد قوماً من الصحابة والتابعين ممّن وضعهم معاوية لرواية الاَخبار.
كان معاوية بحاجة إلى تغيير رؤية المسلمين عن إمامهم أكثر فأكثر؛ فإنّ رؤية المسلمين للحاكم الاِسلامي الاَول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بأنّه مثال للكمال الاِنساني، وأنّه لا تصدر منه المعاصي، ولا ينساق وراء هوى نفسهـ كانت تمنع غير المنحرفين من أفراد الاَمّة عن الانسياق وراء معاوية، ومن قبول يزيد المخمور المعلن بالفسق لولاية العهد و...
ولهذا ظهرت أحاديث ترى رسول الله في مستوى يزيد ومعاوية في الانحراف وراء هوى نفسه، وقد رويت تلك الاَحاديث عن بعض أُمَّهات المؤمنين، وبعض صحابة رسول الله...!!
حتى لقد أصبح هذا الفكر الخاص بمدرسة الخلفاء هو الاِسلام الرسمي.
وقال في ص 349: «وقد أكدّ شيخهم الحرّ العاملي على أنّ الطائفة الاِماميّة عملوا بأخبار الفطحية مثل عبدالله بن بكير، وأخبار الواقفية مثل سماعة بن مهران».
أقول: هذا مبنيٌّ على حجّيّة خبر الثقة، وإن كان منحرفاً في مذهبه، فإنّه قدوثّق عبدالله بن بكير وسماعة بن مهران في كتب رجال الاِمامية، كما أنّهم عملوا بروايات جماعة من أهل السنَّة، كحفص بن غياث، ونوح بن درّاج، والسكوني وغيرهم، وقد وثِّقوا عند الاِمامية.
وقال في ص 351: «ولقد جاء في كتب الشيعة عن ابن حازم، قال: قلت لاَبي عبدالله ( عليه السلام ): فأخبرني عن أصحاب رسول الله صدقوا على محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا».
أقول: بقيّة الحديث هكذا: قال: قلت: فما بالهم اختلفوا؟
فقال: «أما تعلم أنّ الرجل كان يأتي رسول الله فيسأله عن المسألة، فيجيئه فيها بالجواب، ثم يجيئه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب؛ فنسخت الاَحاديث بعضها بعضاً».
أقول: إنّما يعرف الناسخ من المنسوخ بعد الجهل بالمقدّم منها والمؤخّر حجّة الله الذي أودع الاَحكام عنده، وهو الاَئمة المعصومون عليهم السلام من أهل بيته؛ لما بيّنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي، لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما، كتاب الله وعترتي أهل بيتي».
وقال في ص 352: «قال ابن النديم: إنّ أوّل كتاب ظهر للشيعة كتاب سليم بن قيس الهلالي، رواه عنه أبان بن أبي عياش، لم يروه غيره».
أقول: بل روي عن غيره أيضاً كإبراهيم بن عمر اليماني.
قال النجاشي المتوفى 450 في رجاله ص6:
«سليم بن قيس الهلالي له كتاب، يكنّى أبا صادق. أخبرني علي بن أحمد القمي قال: حدثنا محمد بن الحسن بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن أبي القاسم ماجيلويه، عن محمد بن علي الصيرفي، عن حمّاد بن عيسى وعثمان بن عيسى، قال حماد بن عيسى: وحدثنا إبراهيم بن عمر اليماني بالكتاب».
وقال الشيخ الطوسي المتوفّى 460 في «الفهرست: 81»: سليم بن قيس الهلالي، يكنّى أبا صادق، له كتاب أخبرنا به ابن أبي جيّد، عن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن القاسم الملقّب ماجيلويه، عن محمد بن علي الصيرفي، عن حمّاد بن عيسى وعثمان بن عيسى، عن أبانبن أبي عياش عنه، ورواه حمّاد بن عيسى عن إبراهيم بن عمر اليماني، عنه».
وقال فيها: «وقد قدّم لنا أحد أساطين الشيعة المتأخرين اعترافاً يقول بأنّ هذا الكتاب موضوع في آخر الدولة الاَموية».
أقول: لم نعرف هذا الذي عدّه المصنّف أحد أساطين الشيعة المتأخّرين؟!
وقال النعماني ـ من أعلام القرن الرابع ـ في «الغيبة: 101»: «ليس بين جميع الشيّعة ـ ممّن حمل العلم ورواه عن الاَئمّة عليهم السلام ـ خلاف في أنّ كتاب سليم بن قيس الهلالي أصلٌ من أكبر كتب الاَصول التي رواها أهل العلم، وحملة حديث أهل البيت عليهم السلام وأقدمها؛ لاَنّ جميع ما اشتمل عليه هذا الاَصل إنّما هو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمير المؤمنين عليه السلام ، والمقداد، وسلمان الفارسي، وأبي ذر ومن جرى مجراهم رضي الله عنهم، ممّن شهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام ، وسمع منهما، وهو من الاُصول التي ترجع الشيعة إليها ويعوّل عليها».
وفي «مختصر بصائر الدرجات: 40»: «كتاب سليم بن قيس الهلالي رحمة الله عليه الذي رواه عنه أبان بن أبي عيّاش، وقرأه جميعه على سيدنا علي بن الحسين عليه السلام بحضور جماعة أعيان الصحابة، منهم أبو الطفيل، فأقرّه عليه زين العابدين ( عليهما السلام )، وقال: «هذه أحاديثنا صحيحة». وروي أيضاً تصديق علي بن الحسين عليهما السلام لكتاب سليم بن قيس في «رجال الكشي ص 104».
وقال في ص 356: «ومن المجاميع المتقدّمة كتاب «الوافي»، وعدّوه أصلاً مستقلاًّ، مع أنّه عبارة عن جمع لاَحاديث الكتب الاَربعة المتقدمة».
أقول: خصوصية كتاب «الوافي» هي بتبويب أبوابه بعناوين غير عناوين الكتب الاَربعة، وجمع الاَحاديث في كلّ باب بحسب عنوانه الذي يناسبه، وإدراج ما روي في بعض الكتب الاَربعة فيما روي في بعض آخر منها، وإسقاط المكرّر منه في المتن أو السند.
وقال في نفس الصفحة:«واعتبروا «الاستبصار» للطوسي مصدراً مستقلاًّ من المصادر الاَربعة، وهو لا يعدو أن يكون اختصاراً لكتاب تهذيب الاَحكام للطوسي».
أقول: لم يصنّف كتاب «الاستبصار» لاَجل تلخيص «التهذيب»، بل لاَجل بيان وجوه الجمع بين الاَحاديث التي في ظاهرها متعارضة؛ ولمَّا كانت الاَحاديث الواردة فيها مذكورة بسندها صار أصلاً مستقلاًّ يعوّل عليه في الاستنباط، وإن كانت أحاديثه واردة في «التهذيب» أيضاً.
وقال في ص 357: «ويلاحظ التّشابه في كثير من مسائلهم الفقهية مع أهل السنَّة؛ ممّا يؤكّد ما يقول بعض أهل العلم من أخذهم لذلك من أهل السنَّة».
أقول: وجه التشابه أنّها مرويّة بواسطة الاَئمّة المعصومين عليهم السلام ، وأحاديث الاِماميّة أيضاً مرويّة بواسطة الاَئمة عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والاَئمّة عليهم السلام يروونها عنه صلى الله عليه وآله وسلم كما صرّحوا بذلك.
روي في «اُصول الكافي 1: 53»: علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد، عن عمربن عبدالعزيز، عن هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيره، قالوا: سمعنا أبا عبدالله ( عليه السلام ) يقول: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول الله عزّوجلّ».
وروي في «أمالي المفيد: 42»: حدثني الشيخ الجليل المفيد محمد بن محمد بن النعمان، قال: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد القمّي (؛)، قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن عيسى، قال: حدثني هرون بن مسلم، عن علي بن أسباط، عن سيفبن عميرة، عن عمرو بن شمر، عن جابر قال: قلت لاَبي جعفر عليه السلام : إذا حدَّثتني بحديث فاسنده لي.
فقال: «حدّثني أبي عن جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )، عن جبرئيل عليه السلام ، عن الله عزوجل، وكلما أُحدثك بهذا الاسناد».
وقال: «يا جابر! لَحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها».
وروي في «بصائر الدرجات: 300»: حدثنا إبراهيم بن هاشم، عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس، عن عنبسة قال: سأل رجل أبا عبدالله عليه السلام عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: إن كان كذا وكذا ما كان القول فيها؟
فقال له: «مهما أجبتك فيه بشيء فهو عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )، لسنا نقول برأينا من شيء».
وحدثنا عبدالله بن عامر، عن عبدالله بن محمد الحجال، عن داود ابن أبي يزيد الاَحول، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: سمعته يقول: «إنّا لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنها آثار من رسولالله صلى الله عليه وآله وسلم ، أصل علم نتوارثها كابر عن كابر عن كابر، نكنزها كما يكنز الناس ذهبهم وفضتهم».
وفي ص 299: حدثنا حمزة بن يعلى، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال: «يا جابر! إنّا لو كنّا نحدثكم برأينا وهوانا لكنّا منالهالكين،ولكنّانحدثكم بأحاديثنكنزهاعنرسولالله صلى الله عليه وآله وسلم كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم».
وروى في «أُصول الكافي 1: 58»:عن علي، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن قتيبة قال: سأل رجل أبا عبدالله عليه السلام عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟
فقال له: «مه! ما أجبتك فيه من شيء فهو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لسنا من «أرأيت» في شيء».
وفي ص 241: عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن صالح بن سعيد، عن أحمد بن أبي بشر، عن بكر بن كرب الصيرفي قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس، وإنّ الناس ليحتاجون إلينا، وإنّ عندنا كتاباً إملاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخط علي ( عليه السلام )، صحيفة فيها كل حلال وحرام وإنّكم لتأتونا بالاَمر فنعرف إذا أخذتم به، ونعرف إذا تركتموه».
ورواه في «بصائر الدرجات» عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم أو غيره، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن بكر بن كرب الصيرفي نحوه.
وروى في «بصائر الدرجات: 149»: حدثنا محمد بن الحسين، عن جعفر بن بشير، عن محمد بن الفضيل، عن بكر بن كرب الصيرفي قال: سمعت أبا عبدالله ( عليه السلام ) يقول: «ما لهم ولكم؟ ما يريدون منكم وما يعيبونكم يقولون: الرافضة؟ نعم والله! رفضتم الكذب واتبعتم الحق. أما والله عندنا ما لا نحتاج إلى أحد والناس يحتاجون إلينا؛ إنّ عندنا الكتاب بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخطَّه علي بيده، صحيفة طولها سبعون ذراعاً فيها كل حلال وحرام»!.
وفي ص 300: حدّثنا أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي، عن جابر: قال أبو جعفر عليه السلام : «يا جابر! والله لو كنّا نحدِّث الناس أو حدَّثناهم برأينا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نحدِّثهم بآثار عندنا من رسولالله صلى الله عليه وآله وسلم يتوارثها كابر عن كابر، يكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم».
وفي ص298: حدّثنا يعقوب بن يزيد، عن محمد بن أبي عمير، عن عمرو (عمر ـ ظ) ابن أُذينة، عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «لو أنّا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من كان قبلنا، ولكنّا حدثنا ببيّنة من ديننا بيَّنها لنبيه فبيَّنها لنا».
وفي ص 143: حدثنا أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي بن فضال، عن عبداللهبن سنان، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: سمعته يقول: «إنَّ عندنا جلداً سبعون ذراعاً أملاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وخطه علي عليه السلام بيده، وإنَّ فيه جميع ما يحتاجون إليه حتى أرش الخدش».
وحدّثنا يعقوب بن يزيد، عن الحسن بن علي الوشّاء، عن عبداللهبن سنان، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «والله إنّ عندنا لجلدَي ماعز وضأن إملاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخط علي، وإنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً، وأملاها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )، وخطها علي ( عليه السلام ) بيده، وإنّ فيها لجميع ما يحتاج إليه حتى أرش الخدش».
وقال في ص 357 أيضاً: «ولهم مفردات غريبة ومسائل منكرة لا تخطر على البال، وقد جمع جزءاً منها شيخهم المرتضى في كتاب سمّاه «الانتصار»».
أقول: ذكر في أوّل كتاب «الانتصار» ص 1: «وأنا ممتثل لما رسمته الحضرة السامية... من بيان المسائل الفقهيّة التي شُنِّع بها على الشيعة الاِماميّة وادُّعِيَ عليهم مخالفة الاِجماع، وأكثرها يوافق فيه الشيعة غيرهم من العلماء والفقهاء المتقدمين والمتأخرين، وما ليس لهم فيه موافق من غيرهم فعليه من الاَدلّة الواضحة والحجج اللائمة ما يغني عن وفاق الموافق، ولا يوحش معه خلاف المختلف، وأن أُبيّن ذلك وأُفصّله، وأُزيل الشبهة المعترضة فيه...».
إلى أن قال: إنّ الشناعة إنّما تجب في المذهب الذي لا دليل عليه يعضده ولا حجّة لقائله فيه؛ فإنّ الباطل هو العاري من الحجج والبيّنات، البريَ من الدلالات، فأمّا ما عليه دليل يعضده وحجّة تعمده فهو الحقّ اليقين، ولا يضرّه الخلاف فيه وقلّة عدد القائل به، كما لا ينفع في الاَوّل الاتّفاق عليه وكثرة عدد الذاهب إليه. وإنّما يسئل الذاهب إلى مذهب عن دلالته على صحته وحجّيّته، القائدة له إليه، عمّن يوافقه فيه أو يخالفه، على أنّه لا أحد من فقهاء الاَمصار إلاّ وهو ذاهب إلى مذاهب تفرّد بها، ومخالفوه كلّهم على خلافها.
فكيف جازت الشناعة على الشيعة بالمذاهب التي تفرّدوا بها ولم يشنّع على كل فقيه كأبي حنيفة، والشافعي، ومالك، ومن تأخّر عن زمانهم بالمذاهب التي تفرّد بها وكل الفقهاء على خلافه فيها؟!
وما الفرق بين ما انفردت به الشيعة من المذاهب التي لا موافق لهم فيها وبين ما انفرد به أبو حنيفة أو الشافعي من المذاهب التي لا موافق لهم فيها؟... الخ».
وقال فيها أيضاً: «وقد سجّلها ابن الجوزي... بقوله: ولقد وضعت الرافضة كتاباً في الفقه وسمّوه «مذهب الاِماميّة»، وذكروا فيه ما يخرق إجماع المسلمين».
أقول: المسألة إذا خالف فيها الاِمامية لا يصدق أنّ عليها إجماع المسلمين؛ ولا يخفى أنّ دليل الاِماميّة في المسائل الفقهية هو النصوص الواردة عن الاَئمة المعصومين من عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الذين أَودع رسول الله عندهم الاَحكام الاِلهيّة، وأرجع أُمته إليهم، كما بيّنّاه فيما مرّ، بخلاف فقهاء أهل السنَّة، فإنّهم استندوا في إثبات الاَحكام الالهية إلى القياس والاستحسان من عند أنفسم.
روى في «الكافي 1: 57 ـ 58» بسنده عن أبي شيبة قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «ضلّ علم ابن شبرمة عند الجامعة إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخطِّ عليٍ عليه السلام بيده، إنَّ الجامعة لم تدع لاَحد كلاماً، فيها علم الحلال والحرام. إنَّ أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا مِن الحق إلاّ بُعداً، إنّ دينَ اللهِ لا يصاب بالقياس».
وقال في ص 358: «ويعتقدون ـ كما مرّ ـ أنّه لا فرق بين ما يروونه عن النبي أو عن أحد أئمتهم».
أقول: دليلهم على ذلك إعلام رسول الله كونهم حجّة على أُمّته بقوله صلى الله عليه وآله وسلم :
«إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي، لن تضلّوا ما إن تمسكتم بهما، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض».
وقد تواتر نقله في كتب أهل السنَّة، كما تقدّم بيانه في ذيل قول المصنف ص 308».
وقال في ص 359: «وإذا كانت مدوّنة في كتب فِلمَ لم يعثر على هذه الكتب وتسجّل في كتبهم القديمة؟ كيف لم يسجّلها الكليني»؟.
أقول: صنّفت تلك الكتب بعد زمان الكليني المتوفى سنة 328 ـ 329، وكانت أكثرها معروفة مشهورة طيلة القرون الماضية، وقد جُمع في الوسائل أحاديث منها مربوطة بأبوابها، فقال في «الوسائل 20: 36»: «الفائدة الرابعة: في ذكر الكتب المعتمدة التي نقلت منها أحاديث هذا الكتاب، وشهد بصحتها مؤلّفها وغيرهم، وقامت القرائن على ثبوتها، وتواترت عن مؤلّفيها، أو علمت صحّة نسبتها إليهم بحيث لم يبق شكّ ولا ريب، كوجودها بخطوط أكابر العلماء، وتكرّر ذكرها في مصنّفاتهم، وشهادتهم بنسبتها، وموافقة مضامينها لروايات الكتب المتواترة أو نقلها بخبر واحد محفوف بالقرينة... وغير ذلك».
ثم عدّ أسماء ستّة وسبعين كتاباً غير الكتب الاَربعة، وقال: «فهذه جملة من الكتب المعتمدة التي وصلت إلينا، ونقلنا منها في هذا الكتاب، وأمّا الكتب المعتمدة التي نقلنا منها بالواسطة ولم تصل إلينا، ولكن نقل منها الصدوق، والشيخ والمحقّق، وابن إدريس، والشهيد، والعلاّمة، وابن طاووس، وعلي بن عيسى.. وغيرهم من أصحاب الكتب السابقة، فهي كثيرة جدّاً». ثم ذكر أسامي جملة منها.
وقال في ص 360: «إنّ كتاب «تهذيب الاَحكام» بلغت أحاديثه (13950) حديثاً... في حين أنّ الشيخ الطوسي صرح في كتابه «عدّة الاَُصول» بأنّ أحاديث التهذيب وأخباره تزيد على (5000)».
أقول: لقد تتبّعت كتاب «عدّة الاَُصول» فلم أجد ذلك فيه!
وكيف كان، فهذه العبارة تحكي عن أنّ الشيخ الطوسي ( قدس سره ) لم يعدّ أحاديث التهذيب، وقد ذكر عدداً متيقّناً، وأخبر أنّ أحاديثه تزيد عليه ليكون إخباره عن يقين، ولا يظنّ في حقّه مجال لما لا يهمّ من قبيل عدّ أحاديث الكتاب؛ لكثرة اشتغالاته العلمية وتأليفاته التحقيقية الكثيرة في جميع العلوم الاِسلامية.
هذا مضافاً إلى أنّه ربّما يروي حديثاً بسند ينتهي إلى راوٍ عن الاِمام، ويروي حديثاً آخر بسند آخر، بل أحاديث أُخرى بأسانيد أُخرى تنتهي إلى ذلك الراوي بعين الحديث الاَوّل أو بزيادة أو نقيصة فيحكم باتّحادها؛ وعلى هذا ينقص عدد الاَحاديث كثيراً من عددها بعد ملاحظة ذلك.
وقال في ص 360: «بل الاَمر أخطر من ذلك، فإنّ شيخهم الثقة عندهم حسين بن حيدر الكركي قال: إنّ كتاب «الكافي» خمسون كتاباً بالاَسانيد التي فيه لكلّ حديث متصّل بالاَئمة، بينما نرى شيخهم الطوسي يقول: كتاب «الكافي» مشتمل على ثلاثين كتاباً أخبرنا بجميع رواياته الشيخ.. فهل زيد على الكافي للكليني فيما بين القرن الخامس والحادي عشر عشرون كتاباً»؟
أقول: هذا اشتباه عجيب! فإنّي قد عددت كتب «الكافي» ـ وهو أمر سهل في مجلّدات الكافي المطبوعة المفهرسة ـ فكان عدد كتبها مطابقاً لما ذكره شيخنا الطوسي في كتاب «الفهرست ص135».
لكنّ الشيخ ( قدس سره ) ـ كما هو المعمول في المصنّفات الفقهية للاِماميّة ـ جعل كتاب الطهارة والحيض كتاباً واحداً، والاَطعمة والاَشربة كتاباً واحداً، والنكاح والعقيقة كتاباً واحداً.
وقال في ص 361: «ولا شكّ أنّ التناقض أمارة على بطلان المذهب».
أقول: هذه مغالطة واضحة، فإنّ التناقض أمارة على بطلان أحد المتناقضين وكذب إحدى الروايتين الدالتين عليهما، لا كليهما، ولا على بطلان مذهب الاِمامية وهو حجيّة قول الاَئمة عليهم السلام . فإنّ كذب الرواية لا يستلزم بطلان المروي عنه؛ كيف؟ ولو كان كذب الرواية مستلزماً لبطلان المروي عنه لكان الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستلزماً لبطلانه والعياذ بالله.
وقد اعترف أهل السنَّة بالكذب كثيراً على رسول الله في الاَحاديث المروية عنه، كما ذكره المصنف في ذيل ص 364 ـ 365، فراجع.
وقال في ص 362: «وقد كثرت شكاوى الاَئمّة من كثرة الكذّابين عليهم».
أقول: استند في دعواه هذه إلى ما ذكره في ذيل الصفحة بقوله:
تروي كتب الشيعة عن جعفر الصادق ( عليه السلام )، قال: «إنّ لكلّ رجلٍ منّا رجل يكذب عليه»، وقال: «إنّ المغيرة بن شعبة دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها؛ فاتّقوا الله، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّه نبيّنا».
وروى عن يونس، عن الرضا عليه السلام قال: «إنّ أبا الخطّاب كذّب على أبي، لعن الله أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون من هذه الاَحاديث في كتب أصحاب أبي عبدالله؛ فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن».
أقول: لا يختصّ وجود الكذب بالروايات المروية عن الاَئمّة عليهم السلام بل ذلك موجود في الروايات التي رواها أهل السنَّة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ذكره المصنّف في ذيل ص 364 و365، فقد نقل عن «الاقتراح: 231»: وقد اعتنى أئمة الحديث بالمتن كما اعتنوا بالاِسناد، ووضعوا علامات لمعرفة الحديث الموضوع بدون النظر إلى إسناده، وعامّة علوم الحديث تعرّضت لذلك.
قال ابن دقيق: وأهل الحديث كثيراً ما يحكمون بالوضع باعتبار أمور ترجع إلى المروي وألفاظ الحديث.
ونقل عن ابن القيّم أنّه كتب كتاباً مستقلاًّ في هذا الشأن إجابة على سؤال يقول: هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده؟
فأورد قواعد عديدة في هذا الشأن بلغت (44) قاعدة، ومثّلّ لها بـ (273) حديثاً، وبيّن وجه وضعها من خلال نقد المتن، وذلك تجده في كتاب «المنيف».
وقال في ص 363: «ويبدو أنّ الاِنكار كان من طائفة من المتقدمين؛ إذ أنّ المتأخرين، ولاسيّما في العهد الصفوي وما بعده قد أصبحت الاَساطير الكثيرة التي تروى عن جعفر جزءاً من عقائدهم بلا نكير».
أقول: بل من المسلّم عندهم ملاحظة أحوال الرواة الواقعة في سند كلّ حديث، وعدم تصحيحه إذا كان سنده مشتملاً على راوٍ لم يوثّق في كتب رجالهم، فهذا العلاّمة المجلسي صاحب «بحار الاَنوار» من أكابر علماء الاِمامية في العهد الصفوي قد صنّف كتابه «مرآة العقول»، وتعرّض فيه لتصحيح الاَحاديث، ولم يصحّح فيه أحاديث كثيرة لاَجل ذلك.
وقال فيها أيضاً: «أمّا معاني هذه الروايات ومادّتها فإنّ فيها ما يحكم المرء بوضعه بمجرّد النظر في متنه؛ لمخالفته لاَُصول الاِسلام وضروراته، وما عُلم بالتواتر، وما أجمع المسلمون عليه».
أقول: ليس جميع الروايات حجّة عند الاِمامية.
قال محدثهم الاَكبر الكليني في أوّل «الكافي 1: 7»: أعلم يا أخي أرشدك الله! أنّه لا يسع أحداً تمييز شيء ممّا اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه إلاّ ما أطلقه العالم بقوله عليه السلام : أعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه»، وقوله عليه السلام : «خذوا بالمُجمع عليه؛ فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه».
وقال شيخ الطائفة الشيخ محمد بن الحسن الطوسي في «العدّة: 53»: «القرائن التي تدلّ على صحّة مُتضمَّن الاَخبار التي لا توجب العلم أشياء أربعة:
الاَوّل منها: أن تكون موافقة لاَدلّة العقل ...
ومنها: أن يكون الخبر مطابقاً لنصّ الكتاب...
ومنها: أن يكون الخبر موافقاً للسنّة المقطوع بها من جهة التواتر.
ومنها: أن يكون موافقاً لما اجتمعت الفرقة المحقّة عليه؛ فإنّه متى كان كذلك دلّ أيضاً على صحّة متضمَّنه.... فإن كان ما تضمّنه هذا الخبر هناك ما يدلُّ على خلاف متضمّنه من كتاب أو سنّة أو إجماع وجب اطِّراحه».
وقال في «التهذيب 1: 3»: «وأذكر مسألة، فأستدلّ عليها؛ إمّا من ظاهر القرآن، أو من صريحه، أو فَحواه، أو دليله، أو معناه. وإمّا من السُّنَّة المقطوع بها من الاَخبار المتواترة، أو الاَخبار التي تقترن إليها القَرائن التي تدلّ على صحتها، وإمّا من إجماع المسلمين إن كان فيها، أو إجماع الفرقة المحقّة.
ثمّ أذكر بعد ذلك ما ورد من أحاديث أصحابنا المشهورة في ذلك، وأنظر فيما ورد بعد ذلك ممَّا ينافيها ويضادّها، وأُبيّن الوجه فيها؛ إمّا بتأويل أجمع بينها وبينها، أو أذكر وجْهَ الفَساد فيها؛ إمّا من ضعف إسنادها، أو عمل العصابة بخلاف متضمَّنها».
وقال رئيس الفقهاء والمتأخرين من القرن السادس المحقّق ( قدس سره ) في «المعتبر 1: 29»:
«المتواتر حجّة، وكذا ما أُجمع على العمل به، وما أَجمع الاَصحاب على اطّراحه فلا حجّة فيه».
وقال في ص 364: «فقد جاء عن سفيان السّمط... قال: قلت لاَبي عبدالله عليه السلام : جعلت
فداك! إنّ رجلاً يأتينا من قبلكم يعرف بالكذب فيحدّث بالحديث فنستبشعه؟
فقال أبو عبدالله عليه السلام : «يقول لك: إنّي قلت لليل: إنّه نهار، وللنهار: إنّه ليل»؟.
قال: لا!
قال: «فإن قال لك هذا: إنّي قلته، فلا تكذّب به؛ فإنّك إنّما تكذّبني».
أقول: كون راوي الكلام متَّهماً بالكذب لا يجوِّز شرعاً تكذيبه، وإن كان لا يجوز تصديقه أيضاً بدون إحراز صدقه.
كما أنّ مجرّد كون ظاهر الرواية على خلاف الواقع لا يجوِّز تكذيبها، بل لعلّ لها معنىً صحيحاً عند أهلها. كما روى المجلسي فضيلة التدبّر في أخبار الاَئمّة عليهم السلام ، وأنّ حديثهم صعب مستصعب، وأنّ كلامهم ذو وجوه كثيرة.
وقال في نفس الصفحة:
«وقد ذكر شيخهم المجلسي في هذا الاتجاه (116) حديثاً في باب بعنوان «باب أن حديثهم عليهم السلام صعب مستصعب، وأنّ كلامهم ذو وجوه كثيرة، وفضيلة التدبُّر في أخبارهم رضي الله عنهم، والتسليم لهم والنهي عن رد أخبارهم»، وإذا قارنت هذا بما يذهب إليه أهل السنَّة استبان بصورة أعظم ضلالهم؛ وبضدّها تتميّز الاَشياء».
أقول: ما ذهب إليه أهل السنَّة ـ كما بيّنه المصنّف في ذيل هذه الصفحة ـ هو قبول الاَحاديث إذا كانت مطابقة لاَذواقهم، وردّها إذا كانت
مخالفة لها من دون ملاحظة صحة سند الحديث أو ضعفه؛ فهل الضلال هذا أو التدبّر في معنى الاَخبار؟!
وقال في ص 366: «قال شيخ الاِسلام (ابن تيميّة): من أين لكم أنّ الذين نقلوا هذه الاَحاديث في الزمان القديم ثقات، وأنتم لم تدركوهم ولم تعلموا أحوالهم، ولا لكم كتب مصنّفة تعتمدون عليها في أخبارهم التي يُمَّيز بها بين الثقة وغيره، ولا لكم أسانيد تعرفون رجالها»؟
أقول: جوابه ما ذكره العلاّمة الخوئي قدس سره في «معجم رجال الحديث 1: 41»:
«ومما تثبت به الوثاقة أو الحسن أن ينصّ على ذلك أحد الاَعلام، كالبرقي، وابن قولويه، والكشي، والصدوق، والمفيد، والنجاشي، والشيخ وأضرابهم. وهذا أيضاً لا إشكال فيه؛ وذلك من جهة الشهادة وحجيّة خبر الثقة.
فإن قيل: إنّ إخبارهم عن الوثاقة والحسن لعلّه نشأ من الحدس والاجتهاد وإعمال النظر، فلا تشمله أدلة حجية خبر الثقة، فإنّها لا تشمل الاَخبار الحدسية، فإذا احتمل أنّ الخبر حدسي كانت الشبهة مصداقية.
قلنا: إنّ هذا الاحتمال لا يُعتنى به بعد قيام السيرة على حجية خبر الثقة فيما لم يعلم أنّه نشأ من الحدس. ولا ريب في أنّ احتمال الحسن في أخبارهم ـ ولو من جهة نقل كابر عن كابر وثقة عن ثقة ـ موجود وجداناً. كيف؟ وقد كان تأليف كتب الفهارس والتراجم لتمييز الصحيح من السقيم أمراً متعارفاً عندهم، وقد وصلتنا جملة من ذلك ولم تصلنا جملة أُخرى.
وقد بلغ عدد الكتب الرجالية من زمان الحسن بن محبوب إلى زمان الشيخ نيفاً ومائة كتاب على ما يظهر من النجاشي والشيخ وغيرهما. وقد جمع ذلك البحاثة الشهير المعاصر الشيخ آقا بزرك الطهراني في كتابه (مصفى المقال)».
قال الشيخ في كتاب «العدّة / آخر فصل في ذكر خبر الواحد: 53»: «إنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الاَخبار فوثَّقت الثقات منهم، وضعّفت الضعفاء، وفرّقت بين من يُعتمد على حديثه وروايته وبين من لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم وذمّوا المذموم. وقالوا: فلان متهم في حديثه، وفلان كذاب، وفلان مخلّط، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد، وفلان واقفي. وفلان فطحي، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها. وصنفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتى أنّ واحداً منهم إذا أنكر حديثاً طعن في إسناده وضعّفه بروايته. هذه عادتهم على قديم وحديث لا تنخرم».
وقال فيها أيضاً:
والملحوظ أنّ أئمة الاِسلام الذين لهم عناية بأمر الروافض كالاَشعري، وابن حزم، وابن تيمية، لم يرد عنهم ـ في حدود تتبعي ـ ذكر لاَسماء هذه المدوّنات وبالاَخص أخطر كتاب لهم وهو «أُصول الكافي»، رغم أنّ صاحبه قد توفي سنة 329 هـ. فهل مردّ ذلك إلى أنّ تلك المدوّنات سرية التداول بينهم، أو لاحتقار علماء الاِسلام لهم، فلم يلتفتوا إلى كتب الحديث عندهم»؟
أقول: نعم! كان ذلك لاَجل تحقير الشيعة في أنظار عامّة الناس، وإغفالهم عن كتب الشيعة ومخازن الحديث لديهم.
وأمّا قوله: «أو أنّ هذه الكتب صنّفت في أبّان الدولة الصفوية ونسبت لشيوخهم الاَوائل»، فهو من أكذب الاَكاذيب؛ كيف؟ وتلك الكتب متواترة عن مؤلّفيهم في كل عصر وزمان، ونسخ تلك الكتب المخطوطة في القرون السابقة على الصفوية والمصدّقة بخطوط علماء تلك القرون، موجودة في زماننا في المخازن المعروفة بأقطار الدنيا.
وقال في ص 367: «ذكر بأنّ من هفوات الروافض إنكارهم كتب الاَحاديث الصّحاح التي تلقّتها الاَمّة بالقبول».
أقول: مراده من الاَُمّة التي تلقّتها بالقبول: المخالفون لمذهب أهل البيت عليهم السلام الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاَُمّة بالتمسّك بهم، وقال: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي، لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما». وقد تقدّم تواتر نقله عند أهل السنَّة في ذيل قول المصنف ص 308.
وأمّا عدّ كتب الاَحاديث المذكورة صحاحاً عند أهل السنَّة فهو مبنيٌّ على ما التزموا به من عدالة جميع الصحابة، ولكنه ينفيها ويدلّ على خلافها ما روي في الصحيحين: صحيح البخاري وصحيح مسلم، وهما أصحّ كتب الاَحاديث الصّحاح عندهم.
ففي «صحيح البخاري 9: 58 كتاب الفتن / ج2»: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانه، عن مغيرة، عن أبي وائل قال: قال عبدالله: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «أنا فرطكم على الحوض، ليُرفَعَنَّ إليَّ رجال منكم حتى إذا أَهويتُ لاَناولهم اختُلِجُوا(1) دوني، فأقول: أي رَبِّ! أصحابي! يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك»؟!
وفي «صحيح مسلم / المطبوع بشرح النووي 9: 59 باب إثبات حوض نبيّنا»: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، وابن نمير قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الاَعمش، عن شقيق، عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «أنا فرطكم على الحوض، وَلاَُنازعَنَّ أقواماً ثمّ لاَغلبنّ عليهم، فأقول: يا ربِّ! أصحابي! فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك»؟!
وفي «ج9 ص64»: حدَّثني محمد بن حاتم، حدَّثنا عفان بن مسلم الصفّار، حدَّثنا وهيب قال: سمعت عبدالعزيز بن صهيب يحدّث قال: حدّثنا أنس بن مالك أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: «ليرِدَنَّ عليَّ الحوض رجال ممَّن صاحبني، حتى إذا رأيتهم ورُفعوا إليَّ اختُلِجُوا دوني، فلاَقولنَّ: أي ربّ! أُصيحابي أُصيحابي! فليقالنَّ لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك»؟!
وقال فيها أيضاً:
«وذكر ... وإيمانهم بمقابل ذلك بأربعة كتب جمع فيها كثير من الاَكاذيب».
أقول: المراد بالاَكاذيب في كلام هذا القائل ما كان مخالفاً لمذاقه غير موافق لمذهبه ومرامه.
وقال في ص 367 أيضاً: «يقول شيخ الاِسلام ابن تيميّة: وقد صنّف شيخهم ابن النعمان المعروف عندهم بالمفيد كتاباً سمّاه «مناسك المشاهد»، جعل قبور المخلوقين تُحَجُّ كما تحجّ الكعبة البيت الحرام الذي جعله الله قياماً للناس».
أقول: وأجاب عنه العلاّمة الاَميني ( قدس سره ) بقوله:
«رأينا كتاب الشيخ المفيد فليس فيه إلاّ أَنَّه أسماه [منسك الزيارات]، وما المنسك إلاّ العبادة وما يُؤدّى به حق الله تعالى، وليست له حقيقة شرعية مخصوصة بأعمال الحج، وإن تخصص بها في العرف والمصطلح، فكلُّ عبادة مرضيّة لله سبحانه في أيِّ محلٍّ وفي أيّ وقت يجوز إطلاقه عليها. وإذا كانت زيارة المشاهد والآداب الواردة والاَدعية والصلوات المأثورة فيها من تلكم النسك المشروعة، من غير سجود على قبرٍ أو صلاة إليه ولا مسألة من صاحبه أوَّلاً وبالذات، وإنّما هو توسّلٌ به إلى الله تعالى لزلفته عنده وقربه منه، فما المانع من إطلاق لفظ المنسك عليه»؟!.
وقال في ص 368 أيضاً: «إذن، الكتب الاَربعة عند الاِخباريين من الاثني عشرية أعظم من القرآن الكريم».
أقول: حاشا وكلاّ! هذا كتاب «الكافي» أقدم الكتب الاَربعة وأهمها عند الجميع قد نصّ في أوّله بأنّه لا اعتبار لروايات كتابه ولا غيرها إذا خالفت القرآن الكريم، وروى في باب الاَخذ بالسنّة والكتاب أحاديث في ذلك.
وقال في ص 368: «يبيّن ذلك شيخهم المامقاني، فيقول: إنّ كون مجموع ما بين دفّتي كل واحد من الكتب الاَربعة من حيث المجموع متواتراً ممّا لا يعتريه شك ولا شبهة، بل هي عند التأمّل فوق حدّ التواتر».
أقول: المراد تواتر الكتب الاَربعة عن مؤلّفيها، لا تواتر الاَحاديث المندرجة فيها عن الاَئمة عليهم السلام، بل لكل واحد من الاَحاديث المندرجة فيها سند يخصّه مذكور فيها.
وقال في نفس الصفحة: «والمحمّدون الثلاثة كيف يعوَّل في تحصيل العلم عليهم وبعضهم يكذّب رواية بعض»؟
أقول: كلاّ وحاشا! فليس في كتبهم مورد يكذّب رواية رواها آخر، وليس إيرادُ روايةٍ معارِضة تكذيباً لمعارِضها، بل كثيراً ما تروى في كتاب واحد كلتا المتعارضتين!.
وقال في ص 369: «من خلال النظر في كتب الرجال عندهم يتبيّن بأنّه لم يكن لهم كتاب في أحوال الرجال حتى ألَّف الكشي في المائة الرابعة كتاباً لهم في ذلك».
أقول: يتبيّن من خلال النظر في كتب رجال الاِمامية ـ كما نقلناه عن «معجم رجال الحديث» في ذيل ما ذكره المصنّف ص 366 ـ أنّ تأليف كتب الفهارس والتراجم لتمييز الصحيح عن السقيم قد كان أمراً متعارفاً عندهم، فقد بلغ عدد الكتب الرجالية للاِماميّة من زمن الحسن بن محبوب (من أصحاب الرضا عليه السلام ) إلى زمان الشيخ نيّفاً ومائة كتاب، على ما يظهر من النجاشي والشيخ وغيرهما، وقد جمع ذلك العلاّمة الشهير المعاصر في كتابه «مصفّى المقال».
وقال في ص 370: «ويوثقون الكليني الذي أخرج أساطير تحريف القرآن».
أقول: على تقدير نقله لرواية في كتابه تدلّ على التحريف، فمجرّد ذلك لا يدل على اعتقاده بالتحريف؛ كيف؟ وقد صرّح في أوّل كتابه بردّ ما خالف كتاب الله من الروايات!!
ففي أوّل «الكافي 1: 9»: «أعلم يا أخي أرشدك الله! أنّه لا يسمعُ أحداً تمييزُ شيء ممّا اختلف الرواية فيه عن العُلماء عليهم السلام برأيه، إلاّ على ما أطلقه العالم بقوله عليه السلام : «أعرضُوها على كتاب الله، فما وافق كتاب الله عزّوجلّ فخذوه وما خالف كتاب الله فردُّوه».
وفي «ج 1: 55 / باب الاَخذ بالسنّة وشواهد الكتاب»:
1 ـ علي بن إبراهيم، عن أبيه عن النوفلي، عن السكوني، عن أبيعبدالله عليه السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إنّ على كُل حقٍّ حقيقةً، وعلى كُلِّ صوابٍ نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعُوهُ».
2 ـ محمد بن يحيى، عن عبدالله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن عبدالله بن أبي يعفور قال: وحدَّثني حسين بن أبيالعلاء أنَّه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به، ومنهم من لا نثق به؟
قال: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتهم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به».
3 ـ عدَّةٌ من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي عن أيوب بن الحر، قال: سمعت أباعبدالله عليه السلام يقول: «كلُّ شيء مردود إلى الكتاب والسّنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف».
4 ـ محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابنفضالٍ، عن عليّ بن عُقْبَةَ عن أيوب بن راشدٍ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «ما لم يوافق من الحديث القُرآن فهو زُخْرُف».
5 ـ محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عميرٍ، عن هشام بن الحكم وغيرِه عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى فقال: أيّها النّاس! ما جاءكم عَنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقُله».
وقال في ص 370:
«قال شيخهم الحائري: إنّه لم يصنّف في دراية الحديث من علمائنا قبل الشهيد الثاني، وإنّما هو من علوم العامة».
أقول: إنّ علم دراية الحديث لم يكن عند علماء الاِمامية مستقلاًّ يصنّف فيه، بل هو العلم باصطلاحات علمي الرجال والحديث المذكورة في تضاعيف الكتب المؤلّفة فيهما، ولكن صنّف فيه بعض مصنّفي العامة، وأوّل من صنّف فيه من الخاصة الشهيد الثاني ( قدس سره ).
وقال فيها:
«ويرى صاحب التحفة أنّ سبب تأليفهم في ذلك هو ما لحظوه في رواياتهم من تناقض وتهافت، وأنّهم قد استعانوا في وضع هذه الاَصول بما كتبه أهل السنَّة».
أقول: مراده من التناقض والتهافت وجود التعارض في بعض روايات الشيعة المرويّة عن الاَئمّة عليهم السلام ، كما هو موجود في روايات أهل السنَّة أيضاً.
قوله: «وقد استعانوا في وضع هذه الاُصول»، أي: ذكر الكليات في اصطلاحات الرجال والرواية.
وقال فيها أيضاً:
«فتجدهم مثلاً يوثّقون من ادّعى رؤية غائبهم المعدوم الذي لم يولد».
أقول: أمّا ولادة القائم عليه السلام فهي قطعية، وقد فاز برؤيته كثيرون في حياة والده عليه السلام وبعدها.
فلقد كانت ولادة المهدي ابن الحسن العسكري عليهما السلام من المتواترات عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وسائر الاَئمّة المعصومين عليهم السلام ، حيث أخبروا أنّه ابن الحسن العسكري عليه السلام . وقد أوردنا فهرست تلك النصوص المتواترة في تعليقتنا على ص 829، فراجع.
كما قد صدرت منه توقيعات كثيرة في زمان الغيبة الصغرى، وفاز برؤيته الخواص طيلة غيبته الكبرى وحتى في زماننا.
وأمّا عند أهل السنَّة فقد صرح بولادته جماعة من علمائهم المتخصصين في النسب والتاريخ، كما أسلفنا كلمات بعضهم في ذيل قول المصنّف ص 899، فراجع.
وأمّا وجه توثيق من فاز برؤية القائم عليه السلام في زمان غيبته فهو غيبته عن جميع الناس فاسقهم وعادلهم، فلو ظهر لشخص ثبت ذلك لنا من طريق قاطع، دلّ اختصاصه بهذا الشرف على كونه في أعلى درجة من العدالة والعبودية لله تعالى.
وقال في ص 371: «بينما يعدّون القول بالقياس ـ والذي هو من مبادىَ الفقه الاِسلامي ـ قدحاً في الرجل عندهم؛ تترك روايته من أجله».
أقول: القياس إسناد حكم إلى الله سبحانه وتعالى بمجرّد مشابهته لحكم آخر من دون إحرازه من طريق الوحي الاِلهي النازل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فهو افتراء على الله سبحانه؛ حيث قال تعالى: (فَجَعلتُم مِنهُ حَرامَاً وَحَلالاً قُلْ ءأللهُ أذِنَ لَكُم أمْ على اللهِ تَفتَرونَ)(2).
وقد ورد عن الاَئمة عليهم السلام التشديد في ذمّه:
ففي «الكافي 1: 58»: وروى بسنده عن أبان بن تغلب، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «إنَّ السنَّة لا تقاس؛ ألا ترى أنّ المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها؟ يا أبان! إنَّ السنَّة إذا قيست مُحِقَ الدين».
وروى بسنده عن عيسى بن عبدالله القرشي، قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبدالله عليه السلام ، فقال له: «يا أبا حنيفةَ! بلغني أنّك تقيسُ»؟
قال: نعم!
قال: «لا تقس! فإنَّ أوّل من قاس إبليسُ حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين، فقاس ما بين النار والطين، ولو قاس نوريّة آدم بنوريّة النار عرف فضل ما بين النورين، وصفاءَ أحدهما على الآخر».
وقال فيها: «إنّ مصنّفي هذه المدوّنات لم يحصل لهم ملاقاة الاَئمة، وما أخذوا أقوالهم إلاّ بواسطة رجال بينهم وبين الاَئمة، فما حال هؤلاء الرجال الذين رووا عن جعفر وغيره»؟
أقول: تُعرف أحوال رواة أحاديث الشيعة من مراجعة كتب الفهارس والتراجم الخاصة بهم، وقد تقدّم في التعليق على ما ذكره المصنف ص366 ما يحسم الاِشكال، فراجع.
وقال فيها أيضاً: «لقد شهد طائفة من أعلام السنَّة بأنّ الروافض من أكذب الناس في الحديث، واتّقوا الرواية عنهم».
أقول: الوجه في شهادتهم على ذلك أنّ الرفض (يريدون به التشيّع) عندهم من أعظم أسباب الجرح في كتب رجالهم. وقد لزمهم العداوة والبغضاء للشيعة؛ فكيف يُصغى إلى ذمّهم وتكذيبهم للشيعة؛ والجرح والذمّ من عادة الاَعداء؟!
وقال في ص 372: «وتبيّن من خلال ذلك أنّ رجال كتبهم في الغالب ما بين كافر لا يؤمن بالله ولا بالاَنبياء ولا بالبعث والمعاد، ومنهم من كان من النصارى».
أقول: لقد نشأ هذا البهتان من شدّة البغض والعداوة للشيعة؛ فهو واضح البطلان لمن راجع كتب رجال الشيعة وتراجم أحوال رواتهم، فسوف لن يجد فيهم نصرانيّاً ولا كافراً بالبعث والمعاد!!
وقال في ص 372:«ولكن ارتضوا مذهبها لاَنّها تكفّر معظم صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ».
أقول: ولكنّ الاِماميّة لا تكفّر صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى من كان منهم منكِراً لاِمامة علي عليه السلام ، ومعيار الاِسلام وعدم الكفر عندهم هو شهادة ألاّإله إلاّ الله، وأنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله.
وأمّا الحكم بالارتداد فهو مختصّ بمن أنكر ما هو من ضروريات الاِسلام، وهي التي ثبتت في الاِسلام عند جميع فرق المسلمين كالصلاة والصوم والحجّ... وغيرها.
وقال في ص 373: «يقول الطوسي: إنّ كثيراً من مصنّفي أصحابنا ينتحلون المذاهب الفاسدة. ومع هذا يقول: إنّ كتبهم معتمدة، فكأنّ المهمّ عندهم تشيّع الرجل، ولا يضرّ بعد ذلك انتحاله لاَيِّ مذهب فاسد».
أقول: نقله المصنّف من كتاب «الفهرست» للشيخ الطوسي ( قدس سره )، وكلامه قبل ذلك يدلّ على وجوب الفحص والتتبّع في أحوال المصنّفين، ولا يكفي مجرّد التشيّع في التعويل على رواياتهم.
فقد قال في ص2: «فإذا ذكرت كل واحد من المصنّفين وأصحاب الاَُصول فلابُدَّ من أن أُشير إلى ما قيل فيه من التعديل والتجريح، وهل يعوَّل على روايته أو لا؟ وأُبيِّن عن اعتقاده، وهل هو موافق للحق أو مخالف له؟ لاَنّ كثيراً من مصنّفي أصحابنا وأصحاب الاَُصول ينتحلون المذاهب الفاسدة وإن كانت كتبهم معتمدة».
وقال الشيخ الطوسي في كتاب أصوله «العدّة: 51»: «وإذا كان الراوي من فرق الشيعة، مثل: الفطحيّة، والواقفة،
والناووسية، وغيرهم نظر فيما يرويه، فإن كان هناك قرينة تعضده أو خبر آخر من جهة الموثوقين بهم وجب العمل به، وإن كان خبر يخالفه ولا يعرف من طريق الموثوقين وجب إطّراح ما اختصّوا بروايته، والعمل بما رواه الثقة، وإن كان بما رووه ليس هناك ما يخالفه ولا يعرف من الطائفة العمل بخلافه، وجب أيضاً العمل به إذا كان متحرّجاً في روايته موثوقاً في أمانته، وإن كان مخطئاً في أصل الاعتقاد».
وقال في ص 373: «فكأنّ المهمّ عندهم تشيّع الرّجل، ولا يضرّ بعد ذلك انتحاله لاَيّ مذهب فاسد، ولكنّهم يردّون روايات الزيدية».
أقول: خصوصية التشيّع في الرواية ـ بأيّ مذهب كان من مذاهب الشيعة ـ أنّه يروي عن الاِمام الذي يعتقد بإمامته وبكونه حجّة الله، وإن لم يعتقد بإمامة من يتلو الاِمام الذي يروي عنه من الاَئمة الاثني عشر سلام الله عليهم أجمعين. والرّاوي عن الاِمام معتقداً أنّه حجّة الله يهتمّ في الرواية عنه بما لا يهتمّ به في نقل كلام عن غيره لا محالة.
وأمّا الزيدية فجماعة، منهم: لم يعتقدوا بولاية علي عليه السلام بعد رسولالله، فإنّهم دانوا بولاية القوم، وزعموا أنّهم لم يدفعوا حقاً لاَميرالمؤمنين عليه السلام ، فلم يعتقدوا بإمامته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً.
وقال في ص373: «بل قرّر جملة من علماء الرجال عندهم، كابن الغضائري، وابن المطهّر الحلّي بأنّ القدح في دين الرجل لا يؤثّر في صحة حديثه».
أقول: والوجه في ذلك حجّية خبر الثقة، وهو الذي يوثق بصدقه
ومطابقة خبره مع المخبر عنه؛ لبناء العقلاء على حجّية خبر الثقة، فإنّ طريقة العقلاء قائمة على الاعتماد بخبر الثقة والاتّكال عليه، وعليه تدور رحى نظامهم.
ومنه يظهر أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا تشمل خبر الثقة حتى يتوهّم أنّها تكفي للرّدع عن الطريقة العقلائية؛ لاَنّ العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم، بل هو من أفراد العلم، لعدم التفات العقلاء إلى مخالفة الخبر للواقع، لما قد جرت على ذلك طباعهم واستقرّت عليه عادتهم، فهو خارج عن العمل بالظنّ موضوعاً، فلا يصحّ أن تكون الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم رادعه عن العمل بخبر الثقة.
وأمّا آية النبأ الناهية عن العمل بخبر الفاسق فلا تشمل خبر الثقة للتعليل فيها بقوله تعالى: (أَنْ تُصْيبُوا قَوماً بِجهَالةٍ فَتُصبِحُوا على ما فَعلْتُم نادِمينَ)(3)؛ لاَنّ الجهالة بمعنى السفاهة والخروج عن طريقة العقلاء، والعمل بخبر الثقة ممّا جرى عليه بناء العقلاء؛ فلا تصدق عليه الجهالة، ولا يشمله التعليل في الآية. ومن الواضح أنّ الحكم في العموم والخصوص تابع لعموم العلّة المنصوصة وخصوصها، فالمراد من خبر الفاسق في الآية الفاسق غير الموثوق به لا محالة، والتبيّن يحصل بما يعطي الوثوق بصدقه.
وقد كان تأليف كتب الفهارس والتراجم لتمييز الصحيح من السقيم أمراً متعارفاً عندهم، وقد وصلتنا جملة من ذلك ولم تصلنا جملة أُخرى.
وقد بلغ عدد الكتب الرجالية من زمان الحسن بن محبوب إلى زمان الشيخ نيفاً ومائة كتاب على ما يظهر من النجاشي والشيخ وغيرهما. وقد جمع ذلك البحاثة الشهير المعاصر الشيخ آقا بزرك الطهراني في كتابه «مصفَّى المقال».
قال الشيخ في كتاب «العدة / آخر فصل في ذكـر خبر الواحد ص53»: «إنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الاَخبار فوثّقت الثقات منهم، وضعّفت الضعفاء، وفرّقت بين من يُعتمد على حديثه وروايته وبين من لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم وذمّوا المذموم، وقالوا: فلان متَّهم في حديثه، وفلان كذّاب، وفلان مخلّط، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد: وفالن واقفي وفلان فطحي... وغير ذلك من الطعون التي ذكروها، وصنفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتى أنّ واحداً منهم إذا أنكر حديثاً طعن في إسناده وضعّفه بروايته. هذه عادتهم على قديم وحديث لا تنخرم».
وقال في ص 374: «وقد اعترف محمد رضا المظفر بأنّ جلّ رواتهم قد ورد فيهم الذّمّ من الاَئمّة، ونقلت ذلك كتب الشيعة بنفسها، قال وهو يتحدّث عمّا جاء في هشام بن سالم الجواليقي من ذمٍّ: وجاءت فيه مطاعن كما جاءت في غيره من أجلّة أنصار أهل البيت ( عليهم السلام ) وأصحابهم الثقات».
أقول: كلام المظفّر معناه: أنّه لا يختصّ ورود المطاعن لهشام فحسب، بل وردت في غيره أيضاً مع كونه من أجلّة أنصار أهل البيت عليهم السلام وأعاظمهم.
وكلمة «مِن» في قول المظفر: «من أجلّة أنصار أهل البيت عليهم السلام وأصحابهم الثقات» للتبعيض.
وأمّا قول المصنّف في معنى كلام المظفّر: «إنّ جُلَّ رواتهم قد ورد فيهم الذّم» فهو مغالطة؛ وشتّان ما بينه وبين ما قاله المظفّر! والذي وجده المصنّف من أجلّة أنصار أهل البيت عليهم السلام ووردت فيه مطاعن في رجال الشيعة ـ كما يبحث عنه في الصفحات الآتية ـ هو جابر الجعفي، وزرارة.
نعم! ذكر في آخر البحث ثلاثة آخرين من رواة الشيعة أيضاً ورد فيهم الذم والمدح كلاهما.
وقال في ص 375: «ويأتي على رأس هؤلاء الذين تميّزوا بكثرة الرواية عندهم جابر الجعفي؛ قال الحر العاملي: روى سبعين ألف حديث عن الباقر عليه السلام ».
إلى أن قال: «وإذا لحظنا أنّ مجموع أحاديث كتبهم الاَربعة (44244) أدركنا ضخامة ما رواه جابر الجعفي، وأنّ رواياته تأخذ النصيب الاَكبر في المدوّنات الشيعية، فهو أحد أركانهم».
لم يقل الحرّ العاملي ذلك بالجزم واليقين كما نقل المصنّف عنه، بل قال في كتابه «الوسائل 20: 151»: «وروي أنّه ـ أي جابر ـ روى سبعين ألف حديث».
والرواية إنّما هي في «رجال الكشي: 194 رقم الحديث 343»: «عن أبي جميلة المفُضل بن صالح، عن جابر بن يزيد الجعفي قال: حدثني أبو جعفر عليه السلام بسبعين ألف حديث، لم أُحدّث بها أحداً قطّ، ولا أحدّث بها أحداً أبداً».
عن أبي جميلة، عن جابر قال: رويت خمسين ألف حديث ما سمعه أحد منّي، وراويها المفضّل بن صالح.
قال: في «رجال النجاشي: 93»: «جابر بن يزيد ... الجعفي ... روى عنه جماعة غُمِز فيهم وضُعِّفوا، منهم: عمرو بن شمر، ومفضّل بن صالح».
وأمّا مقدار أحاديث جابر في كتب الشيعة فقد قال في «رجال النجاشي: 93»: «جابر بن يزيد الجعفي.. وقلَّما يورد عنه شيء في الحلال والحرام».
هذا مع أنّ أحاديث الكتب الاَربعة ـ إلاّ القليل منها ـ في الفقه وأحكام الحلال والحرام؛ فـ «التهذيب» عشرة مجلدات كلّها في الفقه والحلال والحرام، وكذا «الاستبصار»، و«من لا يحضره الفقيه»، وكذا «الكافي» خمسة مجلّدات منها بأجمعها في مسائل الحلال والحرام، و«الوسائل» عشرون مجلداً كلها في الحلال والحرام، وكذا «المستدرك»؛ فلا معنى لقول المصنّف: «إنّ رواياته تأخذ النصيب الاَكبر في المدونات الشيعية»!.
وقال في ص 377: «ولكنّ الخوئي يقول: إنّ الروايات عنه (أي جابر بن يزيد الجعفي) في الكتب الاَربعة كثيرة في الحلال والحرام».
أقول: قال العلاّمة الخوئي ( قدس سره ) في «معجم رجال الحديث 4: 26 ـ 27»: «وقع بعنوان «جابر بن يزيد» في إسناد جملة من الروايات تبلغ (ستة عشر) مورداً، ووقع بعنوان «جابر بن يزيد الجعفي» في إسناد جملة من الروايات تبلغ (تسعة) موارد؛ ووقع بعنوان «جابر الجعفي» في إسناد جملة من الروايات تبلغ (تسعة) موارد؛ فيكون مجموع رواياته (خمساً وثلاثين) رواية».
وقد استقصى ( قدس سره ) في «ج4 ص 399» رواياته في الكتب الاَربعة، وذكر باب كل رواية منها، فكان مجموع رواياته في أبواب الفقه والحلال والحرام: (سبع عشرة) رواية، ومع إسقاط المكرّرات منها ـ بلحاظ أنّ روايات «الكافي» ربّما تتكرّر في سائر الكتب الاَربعة ـ فستكون روايات جابر بن يزيد في الحلال والحرام: «قلّما يورد عنه شيء في الحلال والحرام..»، كما ذكره النجاشي.
وقال في ص 379: «ففي «الفهرست» للطّوسي يتبيّن أنّ زرارة من أسرة نصرانية؛ إذ أنَّ جدّه سنسن كان راهباً من بلاد الرّوم، وكان أبوه عبداً روميّاً لرجل من بني شيبان».
أقول: في «الفهرست: 74»: «وكان أعين بن سنسن عبداً روميّاً لرجل من بني شيبان، تعلّم القرآن ثمّ أعتقه، فعرض عليه أن يدخل في نسبه، فأبى أعين أن يفعله وقال: أقرَّني في ولائي».
وليس هذا طعناً لزرارة؛ فإنّ أجداد جميع المسلمين ـ إن لم نقل بعض المسلمين أنفسهم ـ في صدر الاِسلام كانوا كفّاراً مشركين من عَبدة الاَوثان، أو نصارى، أو من سائر فرق الكفر.
وقال فيها أيضاً:«يقول سفيان بأنّ زرارة ما رأى أبا جعفر».
أقول: العجب من المصنّف كيف يذكر هذا بعدما قال: «ذكر الخوئي: فمجموع روايات زرارة في الكتب الاَربعة... إنّه روى عن أبي جعفر عليه السلام ، ورواياته (عن أبي جعفر عليه السلام ) تبلغ ألفاً ومائتين وستّة وثلاثين مورداً»؟!
وقال في ص 380: «بل قال أبو عبدالله: ما أحدث أحد في الاِسلام ما أحدث زرارة من البدع عليه».
أقول: سند هذه الرواية ضعيف بجبرئيل بن أحمد وإبراهيم وعمران؛ فإنّهم كلّهم مجاهيل.
وقال في نفس الصفحة: «وقال: زرارة شرٌّ من اليهود والنصارى، ومن قال: إنّ مع الله ثالث ثلاثة»؟
أقول: رواه محمد بن أحمد مرسلاً، وهو بشخصه أيضاً مجهول.
وقال فيها: «ونقل الكشّي أنّ أبا عبدالله لعنه ثلاثاً».
أقول: في سنده: عمّار بن المبارك وهو مهمل، والحسن بن كليب وهو مجهول.
وقال فيها أيضاً: «قال: وذكر روايات أخرى في ذمّه»
أقول: إنّ زرارة كما ذكر المامقاني في «تنقيح المقال»: «... وثَّقه كل من صنّف في الرجال، والاَصحاب متّفقون على أنّ
هذا الرجل بلغ من الجلالة والعظم ورفعة الشأن وسمّو المكان إلى ما فوق الوثاقة المطلوبة للقبول والاعتماد. وتظافرت الروايات بذلك، بل تواترت معنىً، وورد في بعض الروايات ذمُّه من أهل البيت عليهم السلام ، ومع هذا لم يعتمد عليها أحد؛ فهي مطروحة مردودة بهذا الاِجماع والاتفاق وتواتر أخبار المدح الممتنع معارضة أخبار الآحاد إيّاها».
وقال فيها كذلك: «ففي رجال الكشّي: عن محمد بن أبي عمير قال: دخلت على أبيعبدالله عليه السلام فقال: «كيف تركت زرارة»؟ قلت: تركته لا يصلّي العصر حتى تغيب الشمس. فقال: فأنت رسولي إليه، فقل له: فليُصلِّ في مواقيت أصحابي».
أقول: ويكذّب هذه الروايّة ما رواه الكشّي بعدها في ص143 قال: «حدثني حمدويه، قال: حدثني محمد بن عيسى، عن القاسم بن عروة، عن أبن بكير، قال: دخل زرارة على أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال: إنّكم قلتم لنا في الظهر والعصر: على ذراع وذراعين، ثم قلتم: ابردوا بها في الصيف، فكيف الاِبراد بها؟ وفتح أَلواحَهُ ليكتب ما يقول، فلم يجبه أبوعبدالله عليه السلام بشيء، فاطبق أَلواحَهُ، فقال: إنّما علينا أن نسألكم وأنتم أعلم بما عليكم، وخرج.
ودخل أبو بصير على أبي عبدالله ( عليه السلام ) فقال: «إنَّ زرارة سألني عن شيء فلم أُجبه، وقد ضقت، فاذهب أنت رسولي إليه، فقل: صلِّ الظهر في الصيف إذا كان ظلّك مثلك، والعصر إذا كان مثليك».
وكان زرارة هكذا يصلّي في الصيف، ولم أسمع أحداً من أصحابنا يفعل ذلك غيره، وغير ابن بكير.
وقال في ص 381: «وكيف يذهب شيوخ الشيعة إلى توثيق زرارة مع هذا التجريح الذي يتفّق في روايته الكشّي وشيخ الطائفة الطّوسي»؟
أقول: إنّ كتاب «اختيار معرفة الرجال» المعروف برجال الكشّي هو ملخّص رجال الكشّي، لخّصه شيخ الطائفة الشيخ الطوسي، ولم يُذكر في رواية من رواياته طريق آخر للطوسي غير طريق النجاشي.
وكلّ ما في هذا الكتاب من الروايات ينطبق عليه ما ذكره المصنّف «يتّفق في روايته الكشّي وشيخ الطائفة الطوسي»، وفيه روايات في مدح زرارة بأشدّ المدح، ومن جملتها:
رقم الحديث (215) حدَّثني حمدويه بن نصير، عن يعقوب بن يزيد، عن القاسم بن عروة، عن أبي العباس الفضل بن عبد الملك، قال: سمعت أبا عبدالله ( عليه السلام ) يقول: «أحب الناس إليَّ أحياءً وأمواتاً أربعة: بريدبن معاوية العجلي، وزرارة، ومحمد بن مسلم، والاَحول، وهم أحب الناس إليَّ أحياءً وأمواتاً».
ورواه في رقم (438) عن علي بن محمد، عن محمد بن أحمد بن يعقوب.
وفي رقم (286): حدثني حمدويه بن نصير، قال: حدثنا يعقوب بن يزيد، عن محمدبن أبي عمير، عن جميل بن دراج، قال: سمعت أبا عبدالله ( عليه السلام ) يقول: «بشِّر المخبتين بالجنَّة: بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست».
وفي رقم (287): حدَّثني محمد بن قولويه، قال: حدَّثني سعد بن عبدالله القمّي، عن محمد بن عبدالله المسمعي، عن علي بن أسباط، عن محمد بن سنان، عن داود بن سرحان، قال: سمعت أبا عبدالله ( عليه السلام ) يقول: «إنّي لاَحدث الرجل بالحديث وأنهاه عن الجدال والمراء في دين الله، وأنهاه عن القياس، فيخرج من عندي فيتأوّل حديثي على غير تأويله. إنّي أمرت قوماً أن يتكلّموا، ونهيت قوماً، فكلٌّ تأوَّل لنفسه يريد المعصية لله ولرسوله، فلو سمعوا وأطاعوا لاَودعتهم ما أَودع أبي أصحابه. إنّ أصحاب أبي كانوا زيناً أحياءً وأمواتاً، أعني: زرارة، ومحمد بن مسلم، ومنهم: ليث المرادي، وبريد العجلي. هؤلاء القوّامون بالقسط، هؤلآء القوَّامون بالقسط، وهؤلاء السابقون السابقون، أولئك المقَرَّبون».
وفي رقم (220): حدثني محمد بن قولويه والحسين بن الحسن، قالا: حدثنا سعد بن عبدالله، قال: حدثنا محمد بن عبدالله المسمعي، قال: حدثني علي بن حديد المدائني، عن جميل بن دراج، قال: دخلت على أبي عبدالله ( عليه السلام ) فاستقبلني رجل خارج من عند أبي عبدالله ( عليه السلام ) من أهل الكوفة من أصحابنا، فلمّا دخلت على أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال لي: «لقيت الرجل الخارج من عندي»؟
فقلت: بلى! هو رجل من أصحابنا من أهل الكوفة.
فقال: «لا قدَّس الله روحه، ولا قدَّس مثله؛ إنّه ذكر أقواماً كان أبيعبدالله( عليه السلام ) ائتمنهم على حلال الله وحرامه، وكانوا عيبة علمه، وكذلك اليوم هم عندي. هم مستودع سرّي أصحاب أبي ( عليه السلام )، حقَّاً إذا أراد الله بأهل الاَرض سوءاً صرف بهم عنهم السوء. هم نجوم شيعتي أحياءً وأمواتاً يحيون ذكر أبي( عليه السلام ) بهم يكشف الله كل بدعة، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين وتأوُّل الغالين».
ثم بكى، فقلت: من هم؟
فقال: «من عليهم صلوات الله ورحمته أحياءً وأمواتاً: بريد العجلي، وزرارة، وأبو بصير، ومحمد بن مسلم، أما إنّه يا جميل! سيبيّن لك أمر هذا الرجل إلى قريب».
قال جميل: فو الله ما كان إلاّ قليلاً حتى رأيت ذلك الرجل انسب إلى آل أبي الخطاب! قلت: الله يعلم حيث يجعل رسالته.
قال جميل: وكنّا نعرف أصحاب أبي الخطاب ببغض هؤلاء رحمةالله عليهم.
وقال فيها أيضاً:
«يحتجّون بهذا، ولا يلتفتون إلى أنّ رواية الابن مجروحة لاَنّه يدافع عن أبيه».
أقول: لا تختصّ هذه الرواية بابن زرارة حتى يتوجّه عليه هذا الاِشكال، بل روى مثلها غيره، كعمر بن يزيد، وأبي العباس البقباق.
روى الكشّي في رجاله:
رقم الحديث (325): حمدويه بن نصير، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن النضر بن شعيب، عن أبان بن عثمان، عن عمر بن يزيد، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال: «زرارة، وبريد بن معاوية، ومحمد بن مسلم، والاَحول أحبّ الناس إليَّ أحياءً وأمواتاً، ولكنهم يجيئوني فيقولون لي فلا أجد بُدَّاً من أن أقول».
وفي رقم (434): حمدويه، قال: حدثنا محمد بن عيسى، عن أبي محمد القاسم بن عروة، عن أبي العباس البقباق، قال: قال أبو عبدالله ( عليه السلام ): «زرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية، والاَحول أحبّ الناس إليَّ أحياءً وأمواتاً، ولكن الناس يكثرون عليَّ فيهم، فلا أجد بُدَّاً من متابعتهم».
قال: فلمّا كان من قابل، قال: «أنت الذي تروي ـ على ما تروي ـ في زرارة، وبريد، ومحمد بن مسلم، والاَحول»؟
قال: قلت: نعم! فكذبت عليك؟
قال: «إنَّما ذلك إذا كانوا صالحين».
قلت: هم صالحون.
وقال في ص 382: «ثم إنّ جعفراً كان في عصره محلّ الاِجلال والتكّريم فكيف يهان من يحبّه ويقرّبه»؟
أقول: جلالة الاِمام الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام وكرامته كلّما عظمت كانت عداوة خلفاءِ بني أُميّه وبني العبّاس وعمّالهم أشدّ عليه وعلى أصحابه؛ لما يرون من أنَّ حفظ خلافتهم وحكومتهم على المسلمين منوط بتجنّب الناس عن الاِمام الحق الواجب الطاعة من عند الله سبحانه وتعالى، فيكون مثل زرارة من أصحابه والناشر لعلومه وفضائله، المكثر في الرواية عنه، المجدّ في نشر أحاديثه وسَوق الناس إليه في معرض الخطر من أولئك الناصبين العداء. فما صدر عنه عليه السلام من ذمّ زرارة إنّما هو لاِنجائه من شرور حكومة الخلفاء، وإيهامهم عدم تقرّبه إليه وكونه مبغوضاً عنده ومبعَّداً منه.
وقال في ص 383: «ولا شك بأنّ أمر التقيّة في مثل هذه الحالات ليس بمؤكد».
أقول: بل التقيّة شديدة في حفظ دماء أصحابهم من شرور خلفاء بنيأُميّة وبني العباس وعمالهم، كما بيَّنا وجهه في التعليقة السابقة.
وقال في نفس الصحفة: «فإنّهم (أي أهل السنَّة) أيضاً لم يقبلوا ما ورد عن أئمتهم، وادّعوا أنّه صدر منهم مجاملة ومصانعة لاَهل السنَّة؛ فضاعت الحقيقة حينئذٍ».
أقول: الشيعة أيضاً تقول: إنّ ما صدر عن الاَئمة مجاملة ومصانعة لاَهل السنَّة ليس حجّة، وهو الذي يسمّونه بالتقيّة، ولا ريب عندهم أنّ ما صدر عنهم تقيّةً ليس حجّة.
وأمّا قوله: «فضاعت الحقيقة حينئذٍ»، فنقول: بل الحقيقة لائحة وظاهرة من الروايات الصحيحة الموثّقة رواتها المبعدّة عن التقيّة، ولا يضرّ بها جرح أهل السنَّة بكون راويها رافضيّاً، كما هو دأب كتب الرجال لاَهل السنَّة.
وقال في ص 384: «إن بداية تقويم الشيعة للحديث وتقسيمه إلى صحيح وغيره قد كانت في القرن السابع».
أقول: الاصطلاح على تقسيم الحديث إلى الصحيح، والحسن، والموثّق، والضعيف قد استقرّ من زمن العلاّمة وشيخه أحمد بن طاووس.
وأمّا تقسيمه إلى الصحيح الموثوق به وعدمه فكان رائجاً من القرون الاَوّليّة.
قال شيخ الطائفة ورئيس فقهاء الاِماميّة الشيخ الطوسي، من علماء القرن الرابع والخامس في كتابه «العدّة: 53»:
«إنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الاَخبار، فوثَّقت الثقات منهم وضعَّفت الضعفاء، وفرّقوا بين من يُعتمد على حديثه وروايته ومن لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم وذمُّوا المذموم.
وقالوا: فلان متّهم في حديثه، وفلان كذّاب، وفلان مخلّط في المذهب والاعتقاد، وفلان واقفيٌّ، وفلان فطحيّ... وغير ذلك من الطعون التي ذكروها. وصنّفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم؛ حتّى أنّ واحداً منهم إذا أنكر حديثاً نظر في إسناده وضعّفه بروايته، هذه عادتهم على قديم وحديث لا تنخرم».
وقال في ص 385: «فقال (أي صاحب الوسائل): «والفائدة في ذكره (أي السند) دفع تعيير العامة بأنّ احاديثهم غير معنعنة؛ بل منقولة من أُصول قدمائهم». وكأنّ هذا النص الخطير يفيد أيضاً أنّ الاِسناد عندهم غير موجود، وأنّ رواياتهم كانت بلا زمام ولا خطام؛ حتى شنّع الناس عليهم بذلك فاتجهوا حينئذٍ لذكر الاِسناد، فالاَسانيد الّتي نراها في رواياتهم هي صنعت فيما بعد، وركّبت على نصوص أُخذت من أُصول قدمائهم؛ ووضعت هذه الاَسانيد لتوقّي نقد أهل السنَّة».
أقول: كلام صاحب الوسائل الذي نقل المصنف قطعة منه في «ج20 ص100» هكذا:
«كثيراً ما نقطع في حق كثير من الرواة أنّهم لم يرضوا بالاِفتراء في رواية الحديث، والذي لم يعلم ذلك منه يعلم أنّه طريق إلى رواية أصل الثقة الذي نقل الحديث منه؛ والفائدة في ذكره مجرّد التبرُّك باتّصال سلسلة المخاطبة اللّسانيّة، ودفع تعيير العامّة الشيعة بأنّ أحاديثهم غير معنعنة، بل منقولة من أُصول قدمائهم».
ومحصّل كلامه حصول القطع له بصدق كثير من الرواة والوثوق بصدق بعض آخر، فلا حاجة إلى ذكر السّند؛ ولكن يذكره للتبرك، ولعدم تعيير العامّة بأنّ أحاديثهم غير معنعنة.
لكنّه قدس سره راعى كمال الاَمانة في نقل أحاديث هذا الكتاب (الوسائل) الجامع لاَكثر الاَحاديث الفقهيّة للاِمامية، فذكر متن كل حديث وسنده بعين المتن والسند المذكور في الكتاب الذي نقله عنه بلا زيادة أو نقصان، وقد أدرجوا حين الطبع في ذيل كل صفحة موضع الاَحاديث الواردة في تلك الصفحة من الكتاب المنقول عنه بتعيين جلده وصفحته منطبقة عليها بدقّة.
وأمّا الكتب المنقول عنها في «الوسائل» فعمدتها الكتب الاَربعة المعروفة:
«الكافي، التهذيب، الاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه»، وهي متواترة من مؤلّفيها في جميع الاَعصار من عصر تأليفها إلى العصر الحاضر، وأحاديثها مسندة معنعنة من صاحب الكتاب إلى الاِمام عليه السلام .
فأمّا كتاب «الكافي» فقد ذكر فيه عند كل حديث جميع سلسلة السند معنعناً من صاحب الكافي إلى الاِمام عليه السلام .
وأمّا كتاب «من لا يحضره الفقيه» فلم يذكر الاَسانيد فيها عند كل حديث لاَجل التلخيص، وإنّما ذكرها في مشيخة الكتاب معنعناً من نفسه إلى الراوي الآخر الذي روى الحديث عن الاِمام عليه السلام بلا واسطة.
وأمّا التهذيب والاستبصار فقد ذكر المؤلف قدس سره عند كل حديث سنده من صاحب الكتاب الذي أخذ الحديث منه معنعناً إلى الاِمام عليه السلام ، ثم ذكر سنده، ثم ذكر سنده... إلى صاحب الكتاب في المشيخة، فيتّصل سنده إلى الاِمام عليه السلام بالاِسناد التامّ بضمّه إلى سند كلّ حديث يرويه عنه.
وقال في ص 386: «وقال بعض شيوخهم وهو يعترف بأنّ كتاب سليم بن قيس موضوع عليه».
أقول: تقدّم منّا تبيين بطلان هذه الدعوى عند قول المصنّف في ص 352.
وقال فيها: «وقد رأيت صاحب «الحور العين» يقدّم شهادة مهمّة لاَحد علماء الشيعة الزيدية في هذا الشأن حيث قال: قال السيد أبو طالب: «إنّ كثيراً من أسانيد الاثني عشريّة مبنيّة على أَسامٍ لا مسمَّى لها من الرجال».
قال: «وقد عرفت من رواتهم المكثرين من كان يستحلّ وضع الاَسانيد للاَخبار المنقطعة إذا وقعت إليه».
أقول: هذا الرجل من أعداء الاثني عشرية، ولا تسمع شهادة العدو على من يعاديه، وهو، وإن كان من الزيدية ظاهراً والزيدية تسمّى شيعة، لكنهم خالفوا سائر الشيعة بأنكار إمامة الاَئمّة المعصومين عليهم السلام بعد علي بن الحسين عليهما السلام ، بل إنّ جماعة منهم قد أنكروا حتى إمامة علي عليه السلام وولايته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ودانوا بولاية الخلفاء.
وقال فيها أيضاً: «وممّا يؤيد هذا، وأنّه لا سند لهم في الحقيقة، النص التالي الذي جاء في أصح كتبهم حيث قالوا: «إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبيعبدالله عليهما السلام ، وكانت التقيّة شديدة فكتموا كتبهم ولم تُروَ عنهم. فلّما ماتوا صارت الكتب إلينا، ولما سألوا إمامهم عن ذلك قال: حدِّثوا بها فإنّها حق».
فهذا اعتراف خطير بانقطاع أسانيدهم».
إنّ قول الاِمام عليه السلام في خصوص تلك الكتب: «حدِّثوا بها فإنّها حقٌ» هو بنفسه إسناد لها إلى الاِمام عليه السلام ، فكيف يصحّ أن يقال: لا سند لها؟؟!!
وقال في ص 387: «ويؤكّد شيخهم الحرّ العاملي أنّ الاصطلاح الجديد (وهو تقسيم الحديث عندهم إلى صحيح وغيره) والذي وضعه ابن المطهّر، هو محاولة لتقليد أهل السنَّة».
إلى قوله: «وهذا يفيد تأخّر الشيعة في الاهتمام بهذه القضيّة، وأنّ الدافع لذلك ليس هو الوصول إلى صحة الحديث».
أقول: قد أثبتنا في ذيل قوله ص 384 بطلان هذه الدعوى، وتبيين أنّ تقسيم الحديث إلى الصحيح وغير الصحيح كان رائجاً بين الاِمامية من القرون الاَوليّة.
وقال فيها أيضاً: «وجاء علم الجرح والتعديل عندهم مليئاً بالتناقضات والاختلافات؛ حتى قال شيخهم الكاشاني: في الجرح والتعديل وشرائطهما اختلافات وتناقضات واشتباهات لا تكاد ترتفع بما تطمئنّ إليه النفوس».
أقول: إنّ وجود الاختلافات والاشتباهات في جميع كتب الرجال ممّا لا يمكن إنكاره، لا في رجال أهل السنَّة ولا في رجال الشيعة، كما ذكره الفيض الكاشاني ( قدس سره )، ولكن ذلك لا يصحّح دعوى المصنّف كون علم الجرح والتعديل عند الشيعة مليئاً بالتناقضات والاختلافات.
وقال في ص 388: «قال شيخهم الشيخ يوسف البحراني: الواجب إمَّا الاَخذ بهذه الاَخبار كما عليه متقدّمو علمائنا الاَبرار... لعدم الدليل على جملة من أحكامها».
أقول: الاَخذ في جملة من الاَحكام بأحاديث لم يوجد توثيق رواتها فيما بأيدينا من كتب الرجال، لاَجل حصول الوثوق بصدق رواتها في هذه الاَحاديث من أحد وجوه:
منها: كثرة الاَحاديث الدالّه على حكم، فإنّ كثرة الروّاة قد تبلغ إلى حدٍّ يوجب القطع واليقين بمضمونها، فهي متواترة، وربما تبلغ إلى حدٍّ يوجب حصول الوثوق بصدقها، فتكون موثّقة، وإن لم توثِّق رواتها في نفسها.
ومنها: مطابقتها للسيرة القطعية المستمرة بين الاِماميّة إلى زمان المعصومين عليهم السلام على العمل بحكم، كما أنّ الدليل القاطع في كثير من الاَحكام المجمع عليها بين قاطبة المسلمين هي السيرة القطعية المستمرة: على العمل بها إلى زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومنها: مطابقتها لاِجماع فقهاء الاِمامية على حكم، فإنّه يكشف ـ كما ثبت في علم الاَُصول ـ عن رأي الاِمام عليه السلام .
ومنها: تصحيح كثير من تلك الاَحاديث بتوثيق رواتها بالفحص والتتّبع في التوثيقات الخاصة والعامة المتفرّقة في الكتب، كما هي طريقة العلاّمة الخوئي ( قدس سره )؛ لاَجل عدم اجتماع التوثيقات في كتاب واحد من كتب القدماء، لعدم تأليف كتاب لاَجل ذلك، فإنّ «رجال الشيخ» قد أُلِّف لاَجل ثبت طبقات رجال الاِماميّة وترتيب الطبقات بينهم، وكتاب «الفهرست» له كما يدلّ عليه اسمه لتثبيت أسماء كتب الاِماميّة، وكذا «رجال النجاشي» فقد أُلّف لاَجل جمع أسماء المؤلّفين من الاِمامية وتثبيت أسماء كتبهم.
وقال في ص 389: «قال ابن تيمية: وأهل العلم يعلمون أنّ اكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على عليّ ( عليه السلام )؛ ولهذا لا يوجد في كتاب متقدّم».
أقول: مـراده من أهل العلم هو نفسه ومن يسلك مسلكه؛ وهم لايعلمون، بل يظنّون سوءاً حسب ما تشتهيه أنفسهم ويستدعيه مسلكهم.
«ولا يوجد في كتاب متقدم»، أي: من الكتب التي هي مورد نظرهم من كتب أهل السنَّة، دون كتب الشيعة أو سائر كتب أهل السنَّة.
قال ابن أبي الحديد المعتزلي المتوفى سنة 655 ـ 656 «في شرح نهج البلاغة 10: 127 ـ 129»:
«كثير من أرباب الهوى يقولون: إنّ كثيراً من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربّما عَزَوا بعضه إلى الرضا أبي الحسن ( عليه السلام ) وغيره. وهؤلاء أعمت العصبيّة أعينهم فضلّوا عن النهج الواضح، وركبوا بنيّات الطريق، ضلالاً وقلّة معرفة بأساليب الكلام.
وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط، فأقول: لا يخلو إمَّا أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً متحوّلاً، أو بعضه.
والاَوّل: باطل بالضرورة؛ لاَنّا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدّثون كلّهم أو جلّهم والمؤرخون كثيراً منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك.
والثاني: يدلّ على ما قلناه؛ لاَنّ من قد أنس بالكلام والخطابة وشَدَا طرفاً عن علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب، لابُدَّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والاَفصح، وبين الاَصل والمتولّد. وإذا وقف على كراس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط، فلابُدّ أن يفرّق بين الكلامين، ويميّز بين الطريقتين.
ألا ترى أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده، لو تصفحّنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام نفسه وطريقته ومذهبه في القريض؟
ألا ترى أنّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نؤاس كثيراً لما ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلاّ على الذوق خاصة؟
وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته ماءً واحداً، ونَفَساً واحداً، وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الاَبعاض في الماهيّة، وكالقرآن العزيز، أَوله كوسطه، وأوسطه كآخره، وكل سورة منه، وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسور.
ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك؛ فقد ظهر لك بالبرهان الواضح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحولٌ إلى أمير المؤمنين عليه السلام ».
وقال في «مقدمة شرح نهج البلاغة 1: 3 و4»:
«وبعد، فإنّ... مؤيد الدين عضد الاِسلام سيد وزراء الشرق والغرب محمد بن أحمد العلقمي وزير المستعصم بالله العباسي... لما شرفت بالاهتمام بشرح نهج البلاغة.... وبرهن على أنّ كثيراً من فصوله داخل في باب المعجزات المحمدية؛ لاشتمالها على الاَخبار الغيبية، وخروجها عن وسع الطبيعة البشرية.
وبيّن من مقامات العارفين التي يرمز إليها في كلامه ما لا يعقله إلاّ العالمون، ولا يدركه إلاَّ الروحانيون المقرّبون، وكشف عن مقاصده عليه السلام في لفظةٍ يرسلها، ومعضلة يكنّي عنها، وغامضة يعرِّض بها، وخفايا يُجَمْجِمُ(4). بذكرها، وهَنات تجيش في صدره فينفث بها نفثة المصدور، ومُرمِضات. مؤلمات يشكوها فيستريح بشكواها استراحة المكروب...».
وفي ص 25: «ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنّه لا يُجارَى في الفصاحة، ولا يُبارَى في البلاغة؛ وحسبك أنّه لم يُدوَّن لاَحد من فصحاء الصحابة العُشر ولا نصف العُشر ممّا دُوِّن له».
وقال في ص 390: «قال الحرّ العاملي عن شيخهم الطوسي: «إنّه يقول هذا ضعيف؛ لاَنّ راويه فلان ضعيف». ثم نراه يعمل برواية ذلك الراوي بعينه، بل برواية من هو أضعف منه في مواضع لا تحصى ... الخ».
أقول: الوجه في ذلك ما ذكره شيخنا الطوسي في «الاستبصار 1: 3» بقوله: «واعلم أنّ الاَخبار على ضربين: متواتر، وغير متواتر... وما ليس بمتواتر على ضربين:
فضرب منه يوجب العلم أيضاً، وهو كل خبر تقترن إليه قرينة توجب العلم، وما يجري هذا المجرى يجب أيضاً العمل به، وهو لاحق بالقسم الاَوّل.
والقرائن أشياء كثيرة:
منها: أن تكون مطابقة لاَدلّة العقل ومقتضاه.
ومنها: أن تكون مطابقة لظاهر القرآن؛ أمّا لظاهره أو عمومه، أو دليل خطابه، أو فحواه.
ومنها: أن تكون مطابقة للسنّة المقطوع بها؛ إمّا صريحاً، أو دليلاً، أو فحوى، أو عموماً.
ومنها: أن تكون مطابقة لما أجمع المسلمون عليه.
ومنها: أن تكون مطابقة لما أجمعت عليه الفرقة المحِقّة. فإنّ جميع هذه القرائن تخرج الخبر عن حيّز الآحاد، وتدخله في باب المعلوم، وتوجب العمل به.
وأمّا القسم الآخر: فهو كل خبر لا يكون متواتراً، ويتعرّى عن واحد من هذه القرائن، فإنّ ذلك خبر واحد يجوز العمل به على شروط، فإذا كان الخبر لا يعارضه خبر آخر فإنّ ذلك يجب العمل به؛ لاَنّه من الباب الذي عليه الاِجماع في النقل، إلاّ أن تعرف فتاواهم بخلافه فيترك لاَجلها العمل به، وإن كان هناك ما يعارضه فينبغي أن ينظر في المتعارضين فيعمل على أعدل الرواة في الطريقين.
وقال فيها أيضاً:
«إنّ شيخهم الاَردبيلي يؤلّف كتابه «جامع الرواة»، ويدّعي أنّه بتأليفه لكتابه المذكور تتغيّر أحكامه في اثني عشر ألف حديث عن الاَئمّة في العصور الاَولى، تتغيّر من القول بضعفها، أو إرسالها، أو جهالتها إلى القول بصحتها».
أقول: ما نسبه إلى الاَردبيلي ( قدس سره ) لا يستفاد من عبارته في «جامع الرواة» التي نقلها المصنف بعينها بعد ذلك، وإنّما المستفاد من عبارته صيرورة بعض الاَحاديث الضعيفة صحيحةً، بحسب اصطلاح المتأخرين وبمطالعة كتابه هذا، لا أنّ الاَحكام الفقهية تتبدّل بسببها؛ لكون الاَحكام الفقهيّة عند القدماء طبق تلك الاَحاديث؛ لاَجل إحراز صحتها من طرق أُخرى غير توثيق رواتها.
وقال في ص 391: «فيستدلّ بهذا القول صاحب «فصل الخطاب» على أنّه لا مانع من أن تصبح أحاديث التحريف ضعيفة عند قدمائهم، لعدم علمهم بطرق صحتها فتتحوّل عندهم إلى صحيحة».
أقول: سنبيِّن عند نقل المصنّف لاَحاديث موهِمة للتحريف ضعف سندها حتى عند المتأخرين، مضافاً إلى أنّه من المسلَّم به عند طائفة الاِمامية أنّ إعراض القدماء عن حديث يسقطه عن الحجّية.
وقال في ص 392: «فكيف يجعلون علاقة صحّة إخبارهم عن الاَئمة في «الكافي» وجودها في أحد الاَُصول، والكافي برمّته منقول منها ـ كما يزعمون ـ أليس هذا تناقضاً»؟
أقول: ليس هذا تناقضاً، بل كان تأييداً لاعتبار الكتب الاَربعة، فإنّ اعتبار الكتب الاَربعة في نفسها يؤيد كون أخبارها مأخوذة من الاَصول الاربعمائة.
وقال فيها: «وقليل منه مرويّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ».
أقول: أحاديث الاَئمة عليهم السلام كلها مروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال أبو عبدالله الصادق عليه السلام فيما رواه في «الكافي 1: 68» عن جماعة منهم: هشام بن سالم، وحمّاد بن عثمان.. وغيرهما، قالوا: سمعنا أبا عبدالله عليه السلام يقول: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين عليهم السلام حديث رسول الله، وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول الله عزّ وجلّ».
وقال فيها أيضاً: «ولا يعتني بآثار الصحابة والتابعين».
أقول: لقد تقدم الكلام عن ذلك في ذيل قول المصنف ص 343.
وقال فيها كذلك: «فقد ردّ الطوسي روايات زيد بن علي بن الحسين ( عليهم السلام )».
أقول: استند المصنّف في ذيل هذه الصفحة على ما ذكره الشيخ الطوسي( قدس سره ) في «الاستبصار: 391» بقوله:
«فأمّا ما رواه محمد بن الحسن الصفار عن عبيد الله بن المنبّه، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: «جلست... إلخ» . إنّ رواة هذا الخبر كلّهم عامّة ورجال الزيدية؛ وما يختصّون بروايته لا يُعمل به، على ما بُيِّن في غير موضع».
ومن الواضح أنّ الشيخ لم يردّ الخبر المذكور لكونه رواية زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام ، بل لكون رواة هذا الخبر من رجال الزيدية ؛ والزيدية لا تقبل رواياتهم لدعواهم بإمامة زيد عن كذب، من دون أن يكونوا مستندين إلى دعوى زيد نفسه بالاِمامة.
وقد عدّ الشيخ زيداً في كتاب الرجال من أصحاب الباقر والصادق عليهما السلام .
وصرّح الشهيد في «القواعد» بأنّ خروج زيد كان بإذن الاِمام عليه السلام .
وفي «كفاية الاَثر: 305»: حدثنا أبو علي أحمد بن سليمان، قال : حدثني أبو علي بن همام، قال: حدثنا الحسن بن محمد بن جمهور، عن أبيه محمد بن جمهور، عن حمّاد بن عيسى، عن محمد بن مسلم، قال: دخلت على زيد بن عليّ عليهما السلام فقلت: إنّ قوماً يزعمون أنّك صاحب هذا الاَمر ؟ قال: ولكنّي من العترة، قلت: فمن يلي هذا الاَمر بعدكم؟ قال: ستّة من الخلفاء والمهدي منهم.
قال ابن مسلم: ثم دخلت على الباقر عليه السلام فأخبرته بذلك، فقال: «صدق أخي زيد، سَيَلي هذا الاَمر بعدي سبعة من الاَوصياء والمهديّ منهم»، ثم بكى عليه السلام وقال: «كأنّي به وقد صلب في الكناسة. يا ابن مسلم! حدّثني أبي، عن أبيه الحسين عليه السلام قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على كتفي، وقال: يا بني! يخرج من صلبك رجل يقال له: زيد، يقتل مظلوماً، إذا كان يوم القيامة حشر إلى الجنّة».
وفي ص 294: حدّثنا علي بن الحسن بن محمد، قال : حدّثنا هارون بن موسى ببغداد في صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، قال: حدّثنا أحمد بن محمد المقري مولى بني هاشم في سنة اربع وعشرين وثلاثمائة.
قال أبو محمد: وحدثنا أبو حفص عمر بن الفضل الطبري، قال: حدثنا محمد بن الحسن الفرغاني، قال : حدثنا عبدالله بن محمد بن عمرو البلوي.
قال أبو محمّد: وحدّثنا عبدالله بن الفضل بن هلال الطائي بمصر، قال: حدّثنا عبدالله بن محمد بن عمر بن محفوظ البلوي، قال: حدّثني إبراهيم بن عبدالله بن العلا، قال : حدّثني محمّد بن بكير، قال: دخلت على زيد بن علي عليهما السلام وعنده صالح بن بشر، فسلّمت عليه وهو يريد الخروج إلى العراق، فقلت له: يا ابن رسول الله! حدّثني بشيء سمعته من أبيك عليه السلام .
إلى أن قال: قلت: يا ابن رسول الله! هل عهد إليكم رسولالله صلى الله عليه وآله وسلم متى يقوم قائمكم؟
قال: يا ابن بكير! إنّك لن تلحقه، وإن هذا الاَمر يليه ستّة من الاَوصياء بعد هذا، ثم يجعل خروج قائمنا فيملاَها قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً.
فقلت: يا ابن رسول الله ! ألست صاحب هذا الاَمر؟
فقال: أنا من العترة. فعدت فعاد إليّ، فقلت: هذا الذي تقوله عنك، أو عن رسول الله؟
فقال: لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير. لا! ولكن عَهدّ عهده إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... الحديث.
قال علي بن الحسين: وحدّثنا محمد بن الحسين البزوفري بهذا الحديث في مشهد مولانا الحسين بن عليّ عليهما السلام ، قال: حدّثنا محمد بن يعقوب الكليني ، قال: حدّثنا محمد بن يحيى العطّار، وعن سلمة بن الخطّاب، عن محمد بن خالد الطيالسي، عن سيف بن عميرة وصالح بن عقبة، جميعاً عن علقمة بن محمد الحضرمي، عن صالح قال: كنت عند زيد بن عليّ عليهما السلام فدخل عليه محمد بن بكير... وذكر الحديث.
وقال في ص 392 أيضاً: «وكفّر هؤلاء جملة من أهل البيت لا لشيء إلاّ لاَنّهم لم يصدّقوا بدعوى إمامة الاثني عشر عليهم السلام ».
أقول: استند المصنف في هذه الدعوى بذيل هذه الصفحة على ما روي في «الكافي 1: 372»:
«من ادعى الاِمامة وليس من أهلها فهو كافر»، ولا يستفاد منه كفر من لم يصدّق إمامة الاَئمّة الاثني عشر عليهم السلام ، بل يستفاد منه كفر من ادّعى الاِمامة كذباً.
توضيحه: أَنّ الاِمامة ليست مجرّد الخلافة المنصوبة من قبل الناس، بل هي الولاية على المسلمين من قبل الله سبحانه وتعالى.
والحديث يقول: إنّ من ادّعى كذباً أنّه منصوب للولاية على الناس من قِبل الله تعالى فهو كافر.
وقد تقدم أنّ زيداً لم يدَّعِ الاِمامة، وإنّما ادّعى إمامته قوم يسمّون بالزيديّة لخروجه بالسيّف؛ فإنّهم يدّعون أنّ كل من خرج بالسيف من آلمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو إمام.
وقال في ص 393: «بخلاف العسكريين ونحوهما فإنّه لم يأخذ أهل العلم المعروفون بالعلم عنهم شيئاً».
أقول: أمّا أهل العلم من العامة فقد تحرّزوا من القرب إليهما لشدّة مراقبة الخلفاء عليهما حتى أسكنوهما في معسكرهم؛ ولذلك اشتهر اسمهما بالعسكريين عليهما السلام . وشدّدوا الاَمر عليهما فلم يكن يجترىَ علماء العامة على التردّد إليهما.
أمّا الخواص من الشيعة فكانوا يتحمّلون المشاق في التردّد إليهما.
وقد ذكر شيخ الطائفة الطوسي ( قدس سره ) في «رجاله» أسماء جماعة ممّن روى عنهما عليهما السلام ، وقال في أول الكتاب:
«فإنّي قد أجبت إلى ما تكرّر سؤال الشيخ الفاضل فيه من جمع كتاب يشتمل على أسماء الرجال الذين رووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الاَئمّة عليهم السلام من بعده إلى زمان القائم عجل الله فرجه، ثم أذكر بعد ذلك من تأخّر زمانه عن الاَئمة من رواة الحديث، أو من عاصرهم ولم يرو عنهم».
وذكر في العسكريين: في علي بن محمد الهادي عليهما السلام أسماء «مائة وخمسة وثمانين راوياً»، وفي أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام أسماء «ثلاثة ومائة راوٍ».
لكنّه ذكر في أحمد بن إدريس: لحقه عليه السلام ولم يرو عنه.
وفي الحسين بن الحسن بن أبان : أدركه عليه السلام ، ولم نعلم أنّه روى عنه.
وفي سعد بن عبدالله : عاصره عليه السلام ، ولم أعلم أنّه روى عنه.
وقال فيها أيضاً: «قال ابن حزم: وأما بعد جعفر بن محمد عليهما السلام فما عرفنا لهم علماً أصلاً ولا رواية ولا من فتيا، على قرب عهدهم منّا... وذكر ابن تيميّة بأنّ موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) ليس له كثير رواية».
أقول: كفاك في الاطلاع على كثرة الرواية عن موسى بن جعفر عليهما السلام (مسند الاِمام الكاظم عليه السلام )، فقد طبع في ثلاث مجلدات» جمع فيها جملة مما روي عنه عليه السلام ، مع ذكر مصادرها.
قال في ص 279 من المجلد الثالث: «قد وعدنا في المقدمة أن نذكر رواة الاِمام أبي الحسن الكاظم عليه السلام في ذيل الكتاب، فرتّبنا ولله الحمد أسماء الذين رووا عنه عليه السلام مشافهة أو مكاتبة بدون الواسطة، ورتبناهم على حروف المعجم».
نذكر أسماء (ثمانية وثلاثين وستمائة رجل) رووا عنه عليه السلام بلا واسطة من ص 280 إلى 570.
وقال في ص 394: «وذكر ابن تيميّة..: وأمّا من بعد موسى فلم يؤخذ عنهم من العلم، وليس لهم رواية في الكتب الاَُمَّهات من الحديث... ولا لهم تفسير ولا غيره».
أقول: راجع الكتب الاَُمَّهات من الحديث للاِمامية، فقد صُنّفت جملة من الاَحاديث المروية عن علي بن موسى عليهما السلام في مجلدين باسم «مسند الاِمام الرضا علي بن موسى عليه السلام ».
وقال في ص 510 من المجلد الثاني: «قد وعدنا في مقدمة الجزء الاَوّل أن نذكر رواة الاِمام أبي الحسن الرضا عليه السلام (الذين رووا عنه بلا واسطة)».
ثم ذكر أسماء ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً».
أقول: وقد ذكر الشيخ قدس سره في «الرجال» أسماء من روى عنه عليه السلام ،فبلغ عددهم ثلاثمائة وسبعة عشر رجلاً.
وقد صنّف الصدوق قدس سره كتاب «عيون أخبار الرضا عليهما السلام »، وطبع في مجلّدين أورد فيهما جملة من أخبار الرضا عليه السلام .
وأمّا الاِمام التاسع أبو جعفر محمد بن علي الجواد عليه السلام . فقد ذكر الشيخ في «الرجال» ممّن صاحبه، وروى عنه عليه السلام أسماء مائة وثلاثة عشر راوياً، وهو عليه السلام أقلّ الاَئمّة عمراً؛ حيث استشهد وهو ابن خمس وعشرين سنة.
وكذا الاِمام العاشر أبوالحسن علي بن محمد الهادي عليه السلام ، فقد تقدم أن الشيخ ذكر في الرجال ممّن صاحبه وروى عنه أسماء مائة وخمسة وثمانين راوياً».
وكذا الاِمام الحادي عشر أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام ، فقد تقدّم أيضاً أنّ الشيخ في «الرجال» ذكر ممّن صاحبه وروى عنه أسماء (ثلاثة ومائة) راوٍ. وقد كان قليل العمر أيضاً؛ حيث استشهد وهو ابن ثمانٍ وعشرين سنة، وكان عليه السلام تحت مراقبة شديدة من قبل خليفة زمانه وعماله؛ لاَجل كثرة وشهرة الاَحاديث الحاكية عن أنّه أبو الاِمام القائم بالحق عجل الله فرجه الشريف، الذي يملاَ الاَرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وسنبينه في التعليقات الراجعة إليه عليه السلام .
وقال فيها أيضاً:
«ولا لهم أقوال معروفة».
أقول: أقوالهم عليهم السلام في جميع المسائل مطابقة لاَقوال سائر الاَئمة الماضين الذين كثرت عنهم الرواية وانتشرت أقوالهم، وكلّها أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورثوها عنه، ورواها بعضهم عن بعض سلام الله عليهم.
وقال في ص 395:
«وقد رأيت الحافض ابن حجر في ترجمة الحسن بن علي العسكري عليهما السلام فذكر ...».
أورد جماعة من أهل السنَّة شطراً من فضائله عليه السلام في كتبهم:
ومنهم: أحمد بن حجر الهيتمي في (الصواعق المحرقة: 205، ط عبدالوهاب بن عبداللطيف بالقاهرة)، قال:
أبو محمّد الحسن الخالص، وجعل ابن خلكان هذا هو العسكري، ولد سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، ووقع لبهلول معه، أنّه رآه وهو صبي يبكي والصبيان يلعبون، فظن أنّه يتحسر على ما في أيديهم، فقال: أشتري لك ما تلعب به؟ فقال: «يا قليل العقل! ما لِلَّعب خلقنا».
فقال له: فلماذا خلقنا؟
قال: «للعلم والعبادة».
فقال له: من أين لك ذلك؟
قال: «من قول الله عزّ وجلّ: (أَفَحَسِبْتُم أَنَّمَا خَلَقناكُم عَبَثَاً وَأَنَّكُم إلَينا لاتُرْجَعونَ)(5).
ثم سأله أن يعظه، فوعظه بأبيات ثم خرّ الحسن مغشياً عليه، فلمّا أفاق قال له: مانزل بك وأنت صغير لا ذنب لك؟
فقال: «إليكَ عنّي يا بهلول إنّي رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار فلا تتَّقد إلاّ بالصغار، وإنّي أخشى أن أكون من صغار حطب نار جهنم».
ولمّا حُبس قحط الناس بسّر من رأى قحطاً شديداً فأمر الخليفة المعتمد ابن المتوكل بالخروج للاستسقاء ثلاثة أيام فلم يسقوا، فخرج النصارى ومعهم راهب كلَّما مدّ يده إلى السماء هطلت، ثم في اليوم الثاني كذلك، فشك بعض الجهلة وارتدَّ بعضهم. فشق ذلك على الخليفة فأمر بإحضار الحسن الخالص، وقال له: أدرك أمة جدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يهلكوا.
فقال الحسن عليه السلام : «يخرجون غداً وأنا أزيل الشك إن شاء الله». وكلّم الخليفة في إطلاق أصحابه من السجن، فأطلقهم.
فلمّا خرج الناس للاستسقاء ورفع الراهب يده مع النصاري غيّمت السماء، فأمر الحسن بالقبض على يده، فإذا فيها عظم آدمي! فأخذه من يده وقال: «استسق»، فرفع يده فزال الغيم وطلعت الشمس، فعجب الناس من ذلك!
فقال الخليفة للحسن: ما هذا يا أبا محمّد؟!
فقال: «هذا عظم نبي ظفر به هذا الراهب من بعض القبور؛ وما كُشف من عظم نبي تحت السماء إلاّ هطلت بالمطر»، فامتحنوا ذلك العظم فكان كما قال، وزالت الشبهة عن الناس، ورجع الحسن إلى داره.
ومنهم: ابن الصباغ المالكي في «الفصول المهمة: 270 ط الغري»، قال: محمّد علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن عيسى بن الفتح قال: لمّا دخل علينا أبو محمّد الحسن عليه السلام السجن قال لي: «يا عيسى! لك من العمر خمس وستّون سنة وشهر ويومان». قال: وكان معي كتاب فيه تاريخ ولادتي، فنظرت فيه فكان كما قال. ثم قال لي: «هل ارزقت ولداً»؟
فقلت: لا!
قال: «اللهم ارزقه ولداً يكون له عضداً فنعم العضد الولد» ثم أنشد:
مَنْ كان ذا َعضُد يُدرك ظَلامَتَهإنّ الذَليلَ الذي لَيستْ لَهُ عَضدُ فقلت له: ياسيدي! وأنت لك ولد؟
فقال: «والله سيكون لي ولد يملاَ الاَرض قسطاً وعدلاً، وأما الآن فلا»، ثم أنشد متمثّلاً:
لَعلَّك يَوْماً أن تَرانيَ كأنّمابنيّ حواليَ الاُسودُ اللّوابِدُ
فإنَّ تَميماً قَبَل أن تَلِدَ العَصاأقام زماناً وهو في النّاسِ واحِدُ
ومنهم: الشيخ عبدالله بن محمد بن عامر الشبراوي الشافعي في «الاِتحاف بحب الاَشراف: 68 ط مصطفى البابي الحلبي بمصر»، قال: الحادي عشر من الاَئمة الحسن الخالص، ويلقب أيضاً بالعسكري عليه السلام . ولد رضي الله عنه بالمدينة لثمان خلون من ربيع الثاني سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وتوفي رضي الله عنه يوم الجمعة لثمان خلون من ربيع الاَوّل سنة ستين ومائتين، وله من العمر ثمان وعشرون سنة. ويكفيه شرفاً أنّ الاِمام المهدي المنتظر من أولاده.
فلله درّ هذا البيت الشريف والنسب الخضيم المنيف، وناهيك به من فخار، وحسبك فيه من علو مقدار! فهم جميعاً في كرم الاَرومة وطيب الجرثومة كأسنان المشط متعادلون ولسهام المجد مقتسمون. فياله من بيت عالي الرتبة سامي المحلة! فلقد طاول السماك عُلاً ونبلاً، وسما على الفرقدين منزلة ومحلاً، واستغرق صفات الكمال فلا يستثنى فيه بـ «غير» ولا بـ «إلاّ».
انتظم في المجد هؤلاء الاَئمة انتظام اللآليَ، وتناسقوا في الشرف فاستوى الاَول والتالي، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم والله يرفعه، وركبوا الصعب والذلول في تشتيت شملهم والله يجمعه، وكم ضيّعوا من حقوقهم ما لا يهمله الله ولا يضيّعه؟!
أحيانا الله على حبهم وأماتنا عليه، وأدخلنا في شفاعة من ينتمون في الشرف إليه صلى الله عليه وآله وسلم . وكانت وفاته بسر من رأى، ودفن بالدار التي دفن فيها أبوه (سلام الله عليهما).
ومنهم: ابن الصباغ المالكي في (الفصول المهمة: 272)، قال:
مناقب سيدنا أبي محمّد الحسن العسكري عليه السلام دالة على أنّه السري ابن السري، فلا يشك في إمامته أحد ولا يمتري. وإعلم أنّه يبعث مكرمة فسواه بايعها وهو المشتري، واحد زمانه من غير مدافع، ويسبح وحده من غير منازع، وسيد أهل عصره وإمام أهل دهره. أقواله سديدة وأفعاله حميدة، وإذا كانت أفاضل زمانه قصيدة فهو في بيت القصيدة، وإن انقطعوا عقداً كان مكان الواسطة الفريدة. فارس العلوم الذي لا يُجارى ومبيّن غوامضها فلا يحاوَل ولا يُمارى، كاشف الحقائق بنظره الصائب، مظهر الدقائق بفكره الثاقب. المحدّث عن سرّه بالاُمور الخفيّات، الكريم الاَصل والنفس والذات. تغمّده الله برحمته وأسكنه قسيح جنانه بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، آمين.
قال صاحب الاِرشاد: الاِمام القائم بعد أبي الحسن علي بن محمّد: ابنه أبو محمّد الحسن عليهم السلام ؛ لاجتماع خلال الفضل فيه، وتقدمه على كافة أهل عصره فيما يوجب له الاِمامة، ويقضي له بالمرتبة من العلم، والورع، والزهد، وكمال العقل، وكثرة الاَعمال المقرَّبه إلى الله تعالى، ثمّ لنص أبيه عليه وإشارته الخلافة إليه.
ومنهم: العلاّمة محمد بن طلحة الشافعي في «مطالب السؤول: 88 ط طهران»:
في شأنّه عليه السلام : اعلم أنّ المنقّبة العلياء والمزية الكبرى التي خصه الله بها، وقلّده فريدها، ومنحه تقليدها، وجعلها صفة دائمة لا يبلي الدهر جديدها، ولا تنسى الاَلسنة تلاوتها وترديدها: أنّ المهدي محمداً (عجل الله فرجه الشريف) نسله المخلوق منه، ولده المنتسب إليه، بضعته المنفصلة عنه.
ومنهم: الشبلجي في «نور الاَبصار: 225و226 ط العثمانية بمصر».

والسمهودي الشّافعي في «الاِشراف على فضل الاَشراف».
وابن الصباغ المالكي في «الفصول المهمّة: 269».
والقندوزي في «ينابيع المودة ج3 ط العرفان في بيروت».
والبدخشي في «مفتاح النجا 189 مخطوط».
والحضرمي الشافعي في «شفة الصادي: 169 ط مصر».
وأحمد بن يوسف القرماني في «أخبار الاُوَل وآثار الدول: 117 ط بغداد».
والمؤرخ الشهير المسعودي في «مروج الذهب 4: 112 ط بيروت».
ومحمّد أبو الهدى في «ضوء الشمس 1: 119 ط إسلامبول».
والشبراوي الشافعي في «الاِتحاف بحبّ الاَشراف: 68 ط مصر».
والسيد عباس المكي في «نزهة الجليس 2: 120».
وقال في ص 396: «وقد أثار ابن حزم على الشيعة ما ثبت تاريخياً من أن بعض أئمّتهم المذكورين مات أبوه وهو ابن ثلاث سنين، ثم قال: فنسألهم. من أين علم هذا الصغير جميع علوم الشريعة وقد تعذّر تعليم أبيه له بصغره؟
إلاّ أنّ يدّعوا له الوحي، فهذه نبوة ... أو أن يدّعوا له الاِلهام».
إلى أنّ قال: «وقالوا بأنّ الجواد عليه السلام كان إماماً وهو ابن خمس سنين».
أقول: لقد وقع التعرّض لاِمامة محمّد بن علي الجواد عليهما السلام وعلمه في صغره من قبل جملة من كتب أهل السنَّة:
ومنهم: العلاّمة ابن الصباغ المالكي في «الفصول المهمة: 247ط الغري»، قال:
وعن معمر بن خلاد قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول ـ وذكر شيئاً فقالـ: «ما حاجتكم الى ذلك، هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيّرته مكاني؟».
وقال: «إنّا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذّة بالقذّة».
وروي عن الجيراني، عن أبيه قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن الرضا عليه السلام بخراسان فقال قائل: يا سيّدي! إن كان كون إلى من؟
فقال: «إلى ابني أبي جعفر».
فكأنّ السائل استصغر من أبي جعفر، فقال الرضا عليه السلام : «إنّ الله بعث عيسى بن مريم نبيّاً صاحب شريعة مبتدئة في أصغر من السن الذي فيه أبوجعفر».
ومنهم: العلاّمة خواجه بارسا البخاري في «فصل الخطاب، على ما في ينابيع المودة: 386 ط اسلامبول»، قال:
وروي أنّ محمد الجواد دخل على عمّ ابيه علي بن جعفر الصادق، فقام واحترمه وعظّمه، فقالوا: إنّك عمُّ أبيه وأنت تعظّمه؟!
فأخذ بيده لحيته وقال: إذا لم ير الله هذه الشيبة للاِمامة أراها أهلاً للنّار، إذا لم أقرّ بإمامته.
ومنهمّ: العلاّمة أحمد بن حجر الهيتمي في «الصواعق المحرقة: 202 ط عبدالوهاب بن عبداللطيف بالقاهرة»، قال:
وممّا اتّفق أنّه (أي محمد بن علي الجواد عليهما السلام ) بعد موت أبيه بسنة، واقف والصبيان يلعبون في أزقة بغداد إذ مرّ المأمون، ففرّوا ووقف محمّد وعمره تسع سنين، فألقى الله محبته في قلبه، فقال له: يا غلام! ما منعك من الانصراف؟ فقال له مسرعاً: «يا أمير المؤمنين! لم يكن بالطريق ضيق فأوسعه لك، وليس لي جرم فأخشاك، والظن بك حسن أنّك لا تضرّ من لا ذنب له».
فأعجبه كلامه وحسن صورته، فقال له: ما اسمك واسم أبيك؟
فقال: «محمد بن علي الرضا»، فترحّم على أبيه وساق جواده، وكان معه بزاة للصيد. فلمّا بَعُد عن العمّار أرسل بازاً على دراجة فغاب عنه، ثم عاد من الجو في منقاره سمكة صغيرة وبها بقاء الحياة، فتعجب من ذلك غاية العجب، ورأى الصبيان على حالهم ومحمد عندهم ففرّوا إلاّ محمداً، فدنا منه وقال له: ما في يدي؟
فقال: «يا أمير المؤمنين! إنّ الله تعالى خلق في بحر قدرته سمكاً صغاراً يصيدها بازات الملوك والخلفاء، فيختبر بها سلالة أهل بيت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ».
فقال له: أنت ابن الرضا حقاً، وأخذه معه وأحسن إليه وبالغ في إكرامه.
فلم يزل مشفقاً به لما ظهر له بعد ذلك من فضله وعلمه وكمال عظمته وظهور برهانه مع صغر سنّه. وعزم على تزويجه بابنته اُم الفضل وصمم على ذلك. فمنعه العباسيّون من ذلك خوفاً من أنّه يعهد إليه كما عهد إلى أبيه، فلمّا ذكر لهم أنّه إنّما اختاره لتميزه على كافة أهل الفضل علماً ومعرفةً وحلماً مع صغر سنّه، فنازعوا في اتصاف محمّد بذلك ثم تواعدوا على أن يرسلوا إليه من يختبره فأرسلوا إليه يحيى بن أكثم، ووعدوه بشيء كثير إن قطع لهم محمداً.
فحضروا للخليفة ومعهم ابن أكثم وخواص الدولة، فأمر المأمون بفرش حسن لمحمّد فجلس عليه، فسأله يحيى مسائل أجابه عنها بأحسن جواب وأوضحه. فقال له الخليفة: أحسنت أبا جعفر فإن أردت أن تسأل يحيى ولو مسألة واحدة؟
فقال له: «ما تقول في رجل نظر إلى امرأة أول النهار حراماً، ثم حلّت له ارتفاعه، ثم حرمت عليه عند الظهر، ثم حلّت له عند العصر، ثم حرمت عليه المغرب، ثم حلّت له العشاء، ثم حرمت عليه نصف الليل، ثم حلّت له الفجر»؟
فقال يحيى: لا أدري!
فقال محمّد: «هي أمة نظرها أجنبي بشهوة وهي حرام، ثم اشتراها ارتفاع النهار، فاعتقها الظهر، وتزوجها العصر، وظاهر منها المغرب، وكفّر العشاء، وطلقها رجعيّاً نصف الليل، وراجعها الفجر».
ومنهم العلاّمة الشبلنجي الشافعي المدعو بالمؤمن في «نور الاَبصار: 160 ـ 170 ط الشعية بمصر»، ذكر جملة من كرامات الجواد عليه السلام .
الاَولى:
عن أبي خالد قال: كنت بالعسكر فبلغني أنّ هناك رجلاً محبوساً اُتي به من الشام مكبّلاً بالحديد، وقالوا: إنّه تنبّأ!
قال: فأتيت باب السجن ودفعت شيئاً للسجان حتى دخلت عليه، فإذا رجل ذو فهم وعقل ولب، فقلت: يا هذا! ما قصتك؟
فقال: إنّي كنت رجلاً بالشام أعبد الله تعالى في الموضع الذي يقال: إنّه نصب فيه رأس الحسين عليه السلام ، فبينما أنا ذات ليلة في موضعي مقبلاً على المحراب أذكر الله تعالى، إذ رأيت شخصاً بين يدي، فنظرت إليه، فقال لي: «قم»، فقمت معه، فمشى قليلاً فإذا أنا في مسجد الكوفة، فقال لي: «تعرف هذا المسجد»؟ فقلت: نعم! هذا مسجد الكوفة. قال: «فصلّ»، فصليت معه ثم انصرف فانصرفت معه قليلاً، فإذا نحن بمكة المشرفة، فطاف بالبيت فطفت معه، ثم خرج فخرجت معه، فمشى قليلاً فإذا أنا بموضعي الذي كنت فيه أعبدالله تعالى بالشام! ثم غاب عنِّي فبقيت متعجباً حولاً ممّا رأيت!
فلمّا كان العام المقبل إذ ذاك الشخص قد أقبل عليّ فاستبشرت به، فدعاني فأجبت، ففعل معي كما فعل في العام الماضي، فلمّا أراد مفارقتي قلت له: بحق الذي أقدرك على ما رأيت منك إلاّ ما أخبرتني من أنت؟
فقال: «أنا محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر عليهم السلام ».
فحدثت بعض من كان يجتمع بي في ذلك الموضع، فرفع ذلك إلى محمد بن عبدالملك الزيات، فبعت إليّ من أخذني من موضعي وكبّلني بالحديد وحملني إلى العراق وحبسني كما ترى، وادّعى عليّ بالمحال.
فقلت له: أفأرفع قصتك إلى محمد بن عبدالملك الزيات؟
قال: إفعل فكتبت عنه قصته وشرحت فيها أمره ورفعتها إلى محمّدبن عبدالملك، فوقّع على ظهرها: «قل للذي أخرجك من الشام إلى هذه المواضع التي ذكرتها يخرجك من السجن»؟!
قال أبو خالد: فاغتممت لذلك وسقط في يدي، وقلت: إلى غد آتيه وآمره بالصبر، وأعِده من الله بالفرج، وأخبره بمقالة هذا الرجل المتجبر، فلمّا كان من الغد قال: باكرت إلى السجن، فإذا أنا بالحرس والموكلين بالسجن في هرج، فسألت: ما الخبر؟ فقيل لي: إنّ الرجل المتنبّىَ المحمول من الشام فُقد البارحة من ا لسجن وحده بمفرده، وأصبحت قيوده والاَغلال التي كانت في عنقه مرماة في السجن لا ندري كيف خلص منها؟! وطُلب فلم يوجد له أثر ولا خبر، ولا يدرون أنزل في الاَرض أم عُرج به إلى السماء؟
فتعجبت من ذلك، وقلت في نفسي: استخفاف ابن الزيات بأمره واستهزاؤه بقصته خلّصه من السجن! كذا نقله ابن الصباغ.
الثانية:
نقل بعض الحفّاظ أنّ امرأة زعمت أنّها شريفة بحضرة الميت، فسأل عمّن يخبره بذلك؟ فدل على محمد الجواد عليه السلام ، فأرسل إليه فجاء فأجلسه معه على سريره وسأله، فقال: «إن الله حرّم لحم أولاد الحسين عليه السلام على السباع، فتُلقى للسباع»، فعرض عليها ذلك فاعترفت المرأة بكذبها.
ثم قيل للمتوكل: ألا نجرّب ذلك فيه؟ فأمر بثلاثة من السباع فجيء بها في صحن قصره، ثم دعا به، فلمّا دخل من الباب أغلقه والسباع قد أصمّت الاَسماع من زئيرها فلمّا مشى في الصحن يريد الدرجة مشت إليه وقد سكنت، فتمسحت به ودارت حوله وهو يمسحها بكمّه، ثم ربضت! فصعد للمتوكل فحدّث معه ساعة، ثم نزل ففعلت معه كفعلها الاَول حتى خرج، فأتبعه المتوكل بجائزة عظيمة.
وقيل للمتوكل: افعل كما فعل ابن عمك! فلم يجسر عليه، وقال: تريدون قتلي، ثم أمرهم ألاّ يُفشوا ذلك. انتهى.
لكن نقل المسعودي أنّ صاحب هذه القصة علي أبو الحسن العسكري ولده عليهما السلام ، وهو وجيه لاَنّ المتوكل لم يكن معاصراً لمحمد الجواد بل لولده.
الثالثة:
حكي أنّه لمّا توجه أبو جعفر محمد الجواد عليه السلام إلى المدينة الشريفة خرج معه الناس يشيّعونه للوداع، فسار إلى أن وصل إلى باب الكوفه عند دار المسيّب، فنزل هناك مع غروب الشمس ودخل إلى مسجد قديم مؤسس بذلك الموضع ليصلي فيه المغرب، وكان في صحن المسجد شجرة نبق لم تحمل قط، فدعا بكوز فيه ماء فتوضأ في أصل الشجرة وقام يصلي، فصلى معه الناس المغرب، ثم تنفّل بأربع ركعات وسجد بعدهنّ للشكر، ثم قام فودّع الناس وانصرف، فأصبحت النبقة وقد حملت من ليلتها حملاً حسناً، فرآها الناس وقد تعجبوا من ذلك غاية العجب!.
وقال في ص397: «ولو جاز أن يأمر الله عزّ وجلّ بطاعة غير بالغ لجاز أن يكلّف الله غير بالغ».
أقول: هذا في الاَفراد المتعارفة من الاِنسان، ولكنّ من قدرة الله تعالى أن يمنح غير البالغ ـ بحسب السنّ ـ مرتبة النبوّة، فضلاً عن الاِمامة، كما فعل بعيسى بن مريم عليهما السلام ، ونطق به القرآن الكريم: (قَالُوا كَيفَ نُكَلّمُ مَنْ كَانَ في المَهدِ صَبيّاً * قَالَ إنّي عَبدُاللهِ آتانِيَ الكِتابَ وَجَعَلَني نَبِيّاً)
فلا غرو أن يبلّغ الله غير بالغ ـ بحسب السن ـ مرتبة الاِمامة، ويعطيه عن طريق الاِعجاز مرتبة من العلم والكمال فوق حدّ سائر أفراد البشر، ويجعله حجّة عليهم، ويفهم القضاء بين الناس دقيقه وجليله، وغامض الاَحكام وشرائع الدين.
وقال في نفس الصفحة:
«قال المامقاني: ألا ترى إلى الاِمام الجواد عليه السلام وهو صغير».
أقول: قد تقدّم الكلام في إمامة الجواد عليه السلام في صغره في ذيل قول المصنف ص396.
وقال فيها: «فهم في حقيقة الاَمر ليس لهم أئمّة يباشرونهم بالخطاب».
أقول: بل يباشرونهم ويراودونهم ويروون عنهم كلماتهم، بعضهم يباشر الاَئمة عليهم السلام كثيراً، وبعضهم قليلاً.
وقال فيها أيضاً: «ولهذا وجدوا كتباً منسوبة لاَوائلهم مقطوعة الاِسناد».
أقول: تقدّم الجواب عنه في ذيل ما ذكره المصنف في ص 386.
وقال في ص 398: «حتى إذا جاء القرن السابع بدأ ابن المطهر بتقسيم الحديث إلى صحيح وغيره».
أقول: لقد بيّنا بطلان هذه الدعوى في ذيل قول المصنّف ص 384.
وقال فيها: «وقبلوا روايات من أنكر إمامة بعض الاَئمة لمجرّد الانتساب إلى التشيّع، وردّوا روايات الصحابة».
أقول: قبول رواية الشيعي الذي ينكر إمامة بعض الاَئمّة عليهم السلام إنّما هو في الرواية عن إمام يعتقد إمامته؛ فإنّه يحذر لا محالة من الافتراء عليه.
وقال فيها أيضاً: «أو أكثر من الاَفتراء على أهل البيت عليهم السلام .... فهو الثقة المأمون».
وقال تحت الخط: «لاَنّهم رووا عن أئمتهم: اعرفوا منازل الرجال على قدر روايتهم عنّا».
أقول: من الواضح أن لنقل العلم وروايته فضيلة لا تنكر، فضلاً عن نقله وروايته عن منبع علم الشريعة وحجّة الله على الامّة، فكيف بإكثارها؟! وكلّما كثرت الرواية عنه كثر فضلها، ولا يقلّ فضلها بافتراء شخص آخر فيها، وإنّما وزره عليه دون غيره ممّن كان له لسان صدق في الرواية ورعاية حقّ الاَمانة.
وقال فيها كذلك:
«أو زعم أنّهم ضمنوا له الجنّة ... فهو الثقة المأمون».
أقول: من الواضح أنّه لا يمكن التوثيق بمجرّد دعوى رجل أنّ الاِمام عليه السلام ضمن له الجنّة، لكنّه إذا ورد ذلك من طريق موثّق غيرها ثبت به وثاقة الرجل. وأمّا ضمان الاِمام له بالجنّة بمعنى إخباره عن إيمانه وتقواه إلى آخر عمره، بما يستلزم مغفرة زلاّته طبق ضوابط القرآن الكريم؛ وعلم الاِمام بذلك بإلهام الله والعلم الموروث له من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وأمّا تقبيله لرجل الاِمام فإنّما هو تواضع له، والتقبيل بحسب الفطرة لاِظهار المحبّة، وجوازه أمر واضح كتقبيل الاِنسان لولده. أمّا التواضع فلا إشكال في جوازه للمؤمنين، فضلاً عن الاِمام المعصوم، وقد أمر الله سبحانه نبيّه بالتواضع للمؤمنين، فقال تعالى: (وَاخْفِضْ جَناحَكَ للمؤمِنين) ؛ بل التواضع له لاَجل كونه حجّة الله عليه تواضعٌ لله تعالى في الحقيقة.
وقال في ص 399: «أو أنّه كان يغلو فيهم».
أقول: وذكر الشاهد له في ذيل الصفحة ما رواه الكشي أنّ واصل شرب ماء النورة لاَبي الحسن عليه السلام .
ولا يخفى أنّ مجرّد التبرّك بشرب ماء النورة للاِمام ليس فيه شي من الغلوّ، وإنّما الغلوّ هو الاعتقاد في الاَئمة بما هو فوق الاِمامة.
وقال فيها: «والمكثرون من الرواية عندهم قد نالوا ذمّ الاَئمة».
أقول: لقد بيّنّا بطلان هذه الدعوى في ذيل قول المصنّف ص 374.
وقال فيها أيضاً: «وتقول بعقائد ليس لها في كتاب الله برهان».
أقول: إنّ كثيراً من ضروريات الاِسلام لا تستفاد من ظواهر القرآن، ومثاله: أنّ من ضروريات الاِسلام وجوب خمس صلوات لكل يوم وليلة: صلاة الصبح ، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وأن صلاة الصبح ركعتان، والظهر والعصر والعشاء كل واحدة منها أربع ركعات، وصلاة المغرب ثلاث ركعات. فلا يستفاد شي من كل ذلك من ظواهر القرآن، وكذا لايستفاد من ظواهره أكثر ضروريات الاَحكام في الصوم والزكاة والحجّ وسائر أبواب الفقه.
وقال فيها كذلك:
«كثير من متونها هي معروف كذبها من الاِسلام بالضرورة؛ لاَنّها لا تنال من كتاب ربّنا وتجارب سنّة نبيّنا».
أقول: مجرّد أنّ كثيراً من متون أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام لا تنال منكتاب ربّنا وتجارب سنّة نبيّنا لا يستلزم كونها كذباً؛ فإنّ معارف الاِسلام لاتنحصر بظواهر القرآن وما في روايات العامّة، بل لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه المتواتر نقله عنه: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي، لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما، كتاب الله وعترتي، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».
وقد بيّنا تواتره في ذيل قول المصنّف ص 308.
وقال فيها أيضاً: «كل متن يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الاُصول فاعلم أنّه موضوع على الرسول».
أقول: هذا الكلام نقله المصنّف عن ابن الجوزي في كتابه المسمّى بـ «الموضوعات»، وهو يشتمل على التناقض؛ فإنّ المتن المنقول عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، إذا كان مخالفاً لمنقول آخر كان المنقول الآخر أيضاً مخالفاً له، فلماذا يحكم بكونه موضوعاً دون الآخر، فإنّه أيضاً مخالف للمنقول؟!
أمّا قوله: «أو يناقض الاُصول»، فهي الاُصول المسلّمة عند جميع الاُمّة، وأمّا المسلّمة عند بعض دون بعض فلا يحكم بكون ما يناقضها موضوعاً على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ بدليل.
وقال في ص403: «والشيعة لا ترى إجماع الصحابة والسلف أو اجماع الاُمّة إجماعاً».
أقول: الشيعة ترى إجماع الاَمّة حجّة في كل عصر لدخول الاِمام فيهم؛ فترى إجماع الصحابة حجّة لدخول الاِمام علي بن أبي طالب عليه السلام فيهم، وبعده لدخول الحسنين عليهما السلام فيهم، لكن مع مخالفتهم ومتابعيهم لا يتحقّق الاِجماع قهراً.
وقال في ص 404: «فقول ابن المطهّر: «الاِجماع حجّة عندنا» من لغو القول؛ إذ الاَصل أن يقول: الاِجماع ليس بحجّة عندنا؛ لاَنّ الحجّة في قول الاِمام المعصوم عليه السلام ».
أقول: بل الاِجماع حجّة عند الشيعة لكشفه عن قول المعصوم عليه السلام ؛ إمّا لقاعدة اللّطف كما عن الشيخ، أو التقرير كما عن بعض المتأخّرين، أو بحكم العادة القاضيّة بإستحالة توافقهم على الخطأ مع كمال بذل الوسع في فهم حكم الاِمام عليه السلام .
وقال فيها: «فهم جعلوا الاِمام بمثابة النبي أو أعظم».
أقول: هذا بهتان على الشيعة؛ بل الاِمامة عند الشيعة: الولاية على الاُمّة من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعده، والحجّة عليهم بعده في بيان تفاصيل أحكام الاِسلام، وتبيين معارفه.
وقال في ص 405: «ولك أن تعجب لماذا يعدّون الاِجماع أصلاً يقرّرونه في كتبهم الاَصولية وهو اسم بلا مسمى»؟!
أقول: والوجه في ذلك ما بيّناه في التعليق على ص404 من كون الاِجماع كاشفاً عن قول المعصوم عليه السلام ؛ فهو حجّة كحجيّة الاَمارة والبيّنة.
وقال فيها أيضاً:
«أي أنّهم قلّدوا لمجّرد التقليد والمحاكاة».
أقول: بل وافقوا المخالفين في أصل الحكم بحجيّة الاِجماع؛ لكونه حقّاً في نفسه، وإن خالفوهم في علتّه ودليله.
وقال في ص 406: «فعندهم ... والاَرض لا تخلو من إمام، ومعنى هذا استمرار تعطيل مبدأ الاِجماع».
أقول: بل معناه استمرار حجيّة الاِجماع في كل عصر؛ لكشفه عن قول الاِمام عليه السلام في كل عصر، كما تقدّم بيانه قبل قليل في تعليقة ما ذكره في ص404.
وقال فيها أيضاً: «وما دام أهل السنَّة اعتبروا هذا أصلاً؛ فلِمَ تُجارونهم وعقيدتكم في الاِمام تنقاض القول به أصلاً»؟
أقول: بل تناقض القول بإجماع خصوص المخالفين للاِماميّة، إذا خالفتهم الاِماميّة لعدم تحقّق إجماع الاُمة حينئذٍ؛ لدخول الاِماميّة في الاُمّة لا محالة.
وقال في ص 407: «ويقول شيخهم الهمداني: . . . فربّ مسألة لا يحصل فيها الجزم بموافقة الاِمام وإن اتّفقت فيها آراء جميع الاَعلام، وربّ مسألة يحصل فيها الجزم بالموافقة ولو من الشهرة».
أقول: الوجه في ذلك أنّ المسائل الفقهية على قسمين:
الاَوّل: المسائل التّعبُّدية، وهي التي تُتلقّى من الشرع تعبّداً، ولايجوز عند الاِمامية للفقيه القول فيها برأيه، فالشهرة في مسألة كانت من هذا القبيل تكشف بتّاً عن صدور النص المعتبر عن حجّة الله، وإن لم يصل إلينا.
والقسم الثاني: المسائل التفريعية، وهي التي تتفرّع عقلاً على القسم الاَول من المسائل، فتجوز الفتوى فيها بالعقل، ففتوى مشهور الفقهاء ـ بل جميعهم ـ ليست حجّة لفقيه آخر؛ لما كان منشؤها الوجوه العقلية، ويمكن التخطئة فيها بالعقل، فلابُدَّ للفقيه في مقام الفتوى فيها من ملاحظة الوجوه العقلية، ثمّ المتابعة لسائر الفقهاء بعد إحراز صحتها.
وقال في ص 408: «يقول صاحب معالم الدين: إذا اختلفت الاِمامية على قولين، فإنْ كانت إحدى الطائفتين معلومة النسب ولم يكن الاِمام أحدهم كان الحق مع الطائفة الاُخرى».
أقول: ما ذكره صرف فرض، فلو تحقّق كان حكمه ما ذكره. والوجه في ذلك أنّه بعد إحراز كون القائلين لاَحد القولين بأجمعهم معلوميّ النسب نعرفهم بعينهم، ولم يكن الاِمام أحدهم؛ فليس الاِمام قائلاً بهذا القول لكون المفروض أنّه لا قائل له غير هؤلاء، فلو كان الاِمام قائلاً به لكان خلاف المفروض، فقول الاِمام يطابق القول الآخر لا محالة؛ لكون المفروض أنّه لا قولاً ثالثاً في المسألة فلو كان الاِمام قائلاً بقول ثالث لكان خلاف المفروض أيضاً.
وقال فيها أيضاً:
«والعمدة عندهم قول الطائفة المجهولة».
وقال في ص 409: «يرفضون إجماع الصحابة».
وقال فيها: «إنّه لَيدَّعي الاِجماع على مسألة، ويدّعي إجماعاً آخر على خلافها».
وقال فيها أيضاً: «يقول شيخهم النوري: ربّما يدّعي الشيخ والسيد إجماع الاِمامية على أمر، وإن لم يظهر له قائل».
وقال في ص 410: «وذكر شيخهم الطبرسي، وأكّد على وجود الاِجماعات المتعارضة عن شخص واحد... الخ».
أقول: تبيّن وجهه ممّا بيّنّاه في التعليقة الاَسبق.
وقال فيها: «وقال صاحب معالم الدين: والعجب من غفلة الاَصحاب... حتى جعلوه عبارة عن مجرّد اتّفاق الجماعة من الاَصحاب».
الوجه في ذلك أنّ قول الاِمام المعصوم عليه السلام هو المطابق للحكم الواقعي الاِلهي، فلو ثبت فهو الحجّة في الحقيقة، وأمّا اتفاق الجماعة فهو حجّة ظاهريّة؛ لكونه كاشفاً عن رأي الاِمام كحجّيّة سائر الاَمارات، وقد بيّنّا الدليل عليه عند قول المصنّف في ص 404.
وقال فيها أيضاً: «فهم لا يقولون بالاِجماع على الحقيقة، ومع ذلك يجعلونه من أُصول أدلّتهم».
بل يقولون بالاِجماع حقيقة، كما بيّنّاه عند قول المصنّف في ص404.
وقال فيها كذلك: «لو صدر من إمامهم محمد الجواد عليه السلام ـ وهو ابن خمس سنين ـ قول أو رأي وخالفته في ذلك الاُمّة الاِسلامية جميعاً، فإنّ الحجّة في رأيه لافي إجماع الاُمّة».
أقول: قد بيّنّا في التعليق على قوله ص396 حجّية قول الاِمام حتى لو كان صغيراً في السّنّ. وأمّا مخالفة الاُمّة معه فهو فرض باطل؛ لكون الاِمامية من الاُمّة، وهم لا يخالفونه مطلقاً.
وقال في ص 411: «ولو أثر عن منتظرهم الذي قال التاريخ: لا وجود له قول... وخالفه في هذا القول المسلمون جميعاً، فإنّ القول قول هذا المعدوم».
أقول: بل التاريخ يشهد بولادته.
وقد صرّح بها جماعة من علماء أهل السنَّة البارعين في النّسب والتاريخ. والحديث كابن خلّكان في «وفيات الاَعيان»، وابن الاَزرق في «تاريخ ميافارين»، وابن طولون في «الشذرات الذهبية»، والسويدي في «سبائك الذهب»، وابن الاَثير في «الكامل»، وأبي الفداء في «المختصر» وحمد الله المستوفي في «تاريخ گزيدة».
فلا مجال للشك في ولادته، وإن كانوا يخفونه عن غير الخواص للتحرّز عن مخاطرة خليفة الوقت وعمّاله؛ لشيوع الاَخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاَئمّة عليهم السلام السابقة المسطورة في الكتب ـ وقد جمعنا جملة وافية منها تبلغ حدّ التواتر في كتاب «من هو المهدي»، فراجع ـ أنّ المهدي الذي يملاَ الاَرض قسطاً وعدلاً هو ابن الحسن العسكري عليهما السلام ، بل المظنون أنّ إسكانهم لاَبيه الحسن العسكري وجدّه علي بن محمد الهادي عليهم السلام في معسكرهم كان لاَجل ذلك.
وأمّا قوله: «وخالفه في هذا القول المسلمون جميعاً».
فأقول: كيف يخالفه المسلمون جميعاً، والاِماميّة من المسلمين لامحالة وهم لا يخالفون قول الاِمام عليه السلام ؟ فحينئذٍ لا يتحقق إجماع من المسلمين قهراً.
وقال في ص 413: «تعدّى ذلك إلى القول بأنّ مخالفة إجماع المسلمين فيها الرشاد، وصار مبدأ المخالفة أصلاً من أُصول الترجيح عندهم».
أقول: هذه دعوى كاذبة بالعيان، فإنّ إجماع المسلمين يشمل الشيعة والاِمامية، فكيف ينسب إليهم القول بأنّ مخالفة إجماع المسلمين فيها الرشاد، والنصوص التي استشهد المصنف بها صريحة في أنّ المرجّح عند تعارض الحديثين هو مخالفة الفقهاء المخالفين للشيعة.
وقال في ص 414: «فقالوا: إنّ الاَصل في هذا المبدأ أنّ عليّاً رضي الله عنه لم يكن يدين الله بدين إلاّ خالف عليه الاَُمّة إلى غيره إرادة لاِبطال أمره. وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السلام عن الشيء الذى لا يعلمونه، فإذا أفتاهم جعلوا له من عندهم ليلتبسوا على الناس، مع أنّهم يقولون بأنّ عمر كان يستشيره في كل صغيرة وكبيرة».
أقول: إنّ عمر كان يستشير عليّاً عليه السلام في الاُمور المربوطة بالحكومة؛ لعلمه بأنّه لا يخون في المشورة.
وأمّا علّة حقدهم على علي عليه السلام فهي مذكورة في رواية رواها الصدوق في «علل الشرائع: 146» قال:
حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنه، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي، قال: حدثنا علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن أمير المؤمنين عليه السلام كيف مال الناس عنه إلى غيره، وقد عرفوا فضله وسابقته ومكانه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فقال: «إنّما مالوا عنه إلى غيره؛ لاَنّه كان قد قتل آباءهم وأجدادهم وأعمامهم وأخوالهم وأقرباءهم المحاربين لله ولرسوله عدداً كثيراً؛ فكان حقدهم عليه لذلك في قلوبهم، فلم يحبّوا أن يتولّى عليهم، ولم يكن في قلوبهم على غيره مثل ذلك؛ لاَنّه لم يكن له في الجهاد بين يدي رسولالله صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما كان له، فلذلك عدلوا عنه ومالوا إلى غيره».
وقال في ص 415 و416: «وهذه النصوص (أي النصوص الآمرة بمخالفة العامة في فتاويهم) من وضع زنديق أراد الكيد للاَُمّة أن يفتح باباً واسعاً للخروج من الاِسلام».
أقول: المراد غير المسائل الفقهية التي جرت السنَّة القطعيّة عليها من عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّها من المسلّمات بين جميع فرق المسلمين، بل المراد فتاوى فقهاء العامة في غير تلك المسائل بالقياس والاستحسان، وبعض الاَحاديث المروية من طرق الكذّابين.
وقال في ص416: «والشّيعة تقرُّ بالاِجماع اسماً، وتخالفه في الحقيقة، كما سلف».
أقول: تقدّم جوابنا عنه في ذيل قول المصنّف ص 404.
وقال فيها:
«وقد نقل شيخهم المعاصر مغنية... «أنّ المتأخرين عدُّو الاِجماع من أُصول أدلّتهم، ولكن لم يعتمدوا عليه». وهذا يعني: أنّهم خالفوا الاِجماع الذي عدّوه من أُصول أدلّتهم، أو أنّ قدماء الشيعة قد أجمعوا على ضلالة، أو أنّ متأخريهم خالفوا الحق الذي أجمع عليه متقدّموهم».
أقول: إنّما لم يعتمدوا عليه للشبهة في تحقّق الاِجماع، لا في حجيّته بعد تحقّقه، فلا المتقدمون أجمعوا على ضلالة، ولا المتأخرون خالفوا الحق الذي كان عليه متقدّموهم.
وقال فيها أيضاً:
«ومن أوضح الاَمثلة على ذلك اشتراطهم وجود عالم مجهول النّسب».
إلى أن قال: «وقال ابن تيميّة: رأيت في كتب شيوخهم أنّهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين، وكان أحد القولين يعرف قائله، والآخر لايعرف قائله، فالصواب عندهم القول الذي لا يعرف قائله».
أقول: تقدّم الجواب عنه في ذيل ما نقله المصنف ص 408 من كتاب «معالم الدين».
وقال في ص 417: «ولِمَ لا يجوز أن يكون المعصوم قد وافق القول الذي يعرف قائله»؟
أقول: قد بيّنّا في ذيل ما نقله المصنّف ص 408 عن «معالم الدين»
أنّ ذلك مقتضى الفرض؛ فإنّ المفروض في كلامه أنّ القائلين لاَحد القولين ينحصر في جماعة معلومة، ولا قائل له غير هؤلاء، ولازمه كون الاِمام قائلاً بالقول الآخر لا محالة؛ لكون المفروض انعدام القول الثالث.
وقال فيها:
«كيف يجعل قول طفل عمره خمس سنين لم يخرج عن طور الحضانة بمنزلة إجماع للاَُمة بأسرها، بل يرفض إجماع الاَُمّة ويؤخذ بقول صبيّ أو معدوم»؟!
أقول: المراد هو الاِمام الجواد محمد بن علي عليهما السلام ، وقد قدمنا بيان علمه في صغر سنّه عند قول المصنّف ص 396.
وقد دلتّ الاَدلّة القاطعة على حجّيّة قول الاِمام المعصوم ولو كان صغير السنّ، كما أنّه كذلك فيمن أدرك مرتبة النبوّة في صغر سنّة كعيسى عليه السلام .
وأمّا مخالفة الاُمّة له فهو فرض باطل؛ لكون الاِمامية من الاَُمّة، وهم يتابعونه ويستحيل أن يخالفوه.
وقال فيها أيضاً:
«لم تجد إلاّ روايات يعارض بضعها بعضاً، وقد صرّح به شيخ الطائفة في مقدمة «التهذيب»، وذكر أنّ هذا من أسباب خروج الكثير عن التشيّع».
أقول: ليس هذا من كلام شيخ الطائفة ( قدس سره )، وإنّما نقله في مقدمة «التهذيب» عن بعض أصدقائه هكذا:
«دخل على جماعة ممّن ليس لهم قوّة في العلم ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الاَلفاظ شبهةٌ؛ وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لما اشتبه عليه الوجه في ذلك، وعجز من حلّ الشبهة فيه».
قوله: «وكثير منهم»، أي: كثير بالنسبة إلى جماعة دخل عليهم شبهة، وتصدق كلمة جماعة على أيّة عدّة، لا كثيراً بالنسبة إلى الشيعة، كما هو ظاهر كلام المصنّف.
وقال في ص 418: «قال ابن تيميّة: الشيعة ليس لهم قول واحد يتّفقون عليه».
أقول: هذه دعوى باطلة يكشفها كل من راجع الكتب الفقهيّة للشيعة، فإنّ فيها مئات المسائل المتّفق عليها، وفي جميع كتب الشيعة المتابعين في المسائل الفقهيّة للاَئمّة المعصومين عليهم السلام .
وقال في ص 419: «قال علاّمة الهند صاحب التحفة الاثني عشرية (مخطوط): إجماع الصدر الاَوّل قبل حدوث الاختلاف في الاَُمّه غير معتبر عندهم؛ لاَنّهم أجمعوا على خلافة أبي بكر وعمر».
أقول: لقد تواتر حديث تخلّف علي عليه السلام ومن معه عن بيعة أبي بكر، وتحصّنهم بدار فاطمة عليها السلام في كتب السير والتواريخ والصّحاح والمسانيد والاَدب والكلام والتراجم، غير أنّهم لمّا كرهوا ما جرى بين المتحصّنين والحزب الظافر لم يفصحوا ببيان حوادثها إلاّ ما ورد ذكره عفواً.
وذكر المؤرخون في عداد من تخلّف عن بيعة أبي بكر وتحصّن بدار فاطمة عليها السلام مع علي عليه السلام والزبير كلاًّ من:
1 ـ العباس بن عبدالمطلب.
2 ـ عقبة بن أبي لهب.
3 ـ سلمان الفارسي.
4 ـ أبو ذر الغفاري.
5 ـ عمار بن ياسر.
6 ـ المقداد بن الاَسود.
7 ـ البراء بن عازب.
8 ـ أُبيّ بن كعب.
9 ـ سعد بن أبي وقاص.
10 ـ طلحة بن عبيدالله.
وجماعة من بني هاشم، مع جمعٍ من المهاجرين والاَنصار.
فقد روى البلاذري في «أنساب الاَشراف 1: 587»:
أنّه بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي رضي الله عنهم حين قعد عن بيعته، وقال: «ائتني به بأعنف العنف»!
فلمّا أتاه جرى بينهما كلام، فقال: «إحلبْ حَلباً لَكَ شَطرُهُ؛ واللهِ مَا حرصُكَ على أمَارتِهِ اليومَ إلاَّ لِيُؤْثِرَكَ غَداً».
وقال ابن عبدربّه 3: 64، وأبو الفداء 1: 156: فبعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة ( عليها السلام )، وقال له: إن أبوا فقاتلهم، فاقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيتهم فاطمة ( عليها السلام ) فقالت: «يا ابن الخطاب! أَجِئتَ لِتحرقَ دارَنا»؟
قال: نعم! أو تدخلوا في ما دخلت فيه الاَُمّة!
وفي «أنساب الاَشراف 1: 586»:
فتلقّته فاطمة ( عليها السلام ) على الباب فقالت: «يا ابن الخَطاب! أَتُراكَ مُحرقاً عَليَّ بابي»؟!
قال: نعم!
وراجع كنز العمال 3: 140، والرياض النضرة 1: 167، والخميس 1: 178.
وذكره أبو بكر الجوهري، نقله ابن أبي الحديد 1: 132، وتاريخ ابن شحنة: 113 بهامش الكامل ج11.
وفي «تاريخ اليعقوبي 1: 105»:
فخرجت فاطمة ( عليها السلام ) فقالت: «والله لتخرجنَّ أو لاََكشِفنَّ شَعري، وَلاََعِجَّنَّ إلى اللهِ»! فخرجوا وخرج من كان في الدار.
وقال في نفس الصفحة:
«لاَنّهم أجمعوا على... ومنع ميراث النبي».
أقول: لم يتحقّق الاِجماع على منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنّما منعه أبو بكر، واعترضت عليه فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيّدة نساء العالمين، ولم تقبل حتى توفّيت غاضبة عليهم.
روي في «صحيح البخاري ـ باب غزوة خيبر 5: 177، ط دار الجيل بيروت»: عن عائشة: أنّ فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه (وآله) وسلّم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله... فأبى أبوبكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت... فلمّا توفيت دفنها زوجها علي عليهما السلام ليلاً.
وقال فيها أيضاً:
«وهم ينازعون في ثبوت عصمة الاِمام».
أقول: اعتقادات الاِمامية مضبوطة في «الاعتقادات للصدوق»، و«تصحيح الاعتقاد للمفيد» رضي الله عنهما:
فقد قال الصدوق (؛) في «الاعتقادات: 96»:«اعتقادنا في الاَنبياء والرسل والاَئمّة والملائكة صلوات الله عليهم أنّهم معصومون مطهّرون من كل دنس، وأنّهم لا يذنبون ذنباً لا صغيراً ولاكبيراً، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون».
وقال المفيد في «تصحيح الاعتقاد: 119»: الاَنبياء والاَئمة عليهم السلام من بعدهم معصومون في حال نبوّتهم وإمامتهم من الكبائر كلّها والصغائر»... إلى أن قال: «إلاّ أنّ نبيّنا والاَئمّة من بعده كانوا سالمين من ترك المندوب والمفترض قبل حال إمامتهم وبعدها».
وقال في ص 419 و420: «إنّ مذهبهم بأنّ الاِجماع حجّة من جهة كشفه عن رأي المعصوم فقط، لا من جهة أنّ الاَُمّة لا تجتمع على ضلالة... فإنّ ذلك مخالفة للحديث الثابت عندهم، وهو لا تجتمع أُمتي على ضلالة».
أقول: الحديث المذكور ليس مشتملاً على التعليل، وليس مفاده إلاّ أنّ ما تجتمع عليه الاُمّة فهو حقّ، وما ذهب إليه الاِمامية هو تعليل مفاد الحديث، فمحال أن يكون منافياً له.
وقال في ص 420 و421: «ورد أيضاً في «الاحتجاج»، وهو من كتبهم المعتمدة، رواية عن أبي الحسن علي بن محمد العسكري ( عليهما السلام ) قال: «... إجتمعت الاَمة قاطبة...». فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون ... لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «لا تجتمع أُمتي على الضلالة».
..... فلماذا تـشذُّ هذه الطائفة ... وتدع قول إمامها، وتفارق الاَُمة وتنبذ إجماعها، وتأخذ برأي طفل صغير»؟
أقول: قوله: «تدع قول إمامها»، أي علي بن محمد الهادي عليهما السلام الذي صدر منه هذا الحديث، وقوله: «تأخذ برأي طفل صغير»؛ فإنّ مراده من الطفل الصغير هو الاِمام التاسع محمد بن علي الجواد ( عليهما السلام )، كما صرّح به فيما مرّ.
وعليّ بن محمد الهادي هو الاِمام العاشر ابن الاِمام التاسع الجواد عليه السلام ، فمن كان قائلاً بإمامة الاِمام العاشر كان قائلاً بإمامة الاِمام التاسع أيضاً؛ لكون إمامته فرع من إمامة الاِمام التاسع.
ثمّ إنّ الشيعة لا تنبذ إجماع الاَُمة، بل تقول بأنّ الاِجماع لا يتحقّق إلاّ بموافقة رأي الاِمام لكونه من الاَُمّة لا محالة؛ فكيف يكتمل كلٌّ دون اكتمال أجزائه؟!
وقال في ص 421:
«فجعلوا مخالفة أهل السنَّة والجماعة الذين هم على ما كان عليه الرسول وأصحابه أصلاً للنجاة... فخرجوا بذلك من الدين رأساً».
أقول: ما ذكره من كون أهل السنَّة والجماعة على ما كان عليه الرسول مجرّد دعوى بلا دليل، وهو خلاف توصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أُمّته بعد رحلته بالتمسّك بكتاب الله وعترة الرّسول، كما سيأتي في التعليقة الآتية.
وقال فيها: «والله سبحانه وتعالى يقول: (ومَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعدِ مَا تَبيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيتَّبعْ غَيرَ سَبيلِ المُؤمِنينَ نُوَلِّهِ مَا تَولَّى وَنُصْلِهِ جَهنَّمَ وَسَاءَتْ مَصيراً) ».
أقول: من خالف عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد شاقَّ الرسول من بعدما تبيّن له الهدى، واتّبع غير سبيل المؤمنين بالله ورسوله؛ لتوصيته صلى الله عليه وآله وسلم أُمّته بعد رحلته بقوله المتواتر نقله: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي، لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما».
وقال فيها أيضاً:
«ولو كان هذا الاَصل ـ أعني قولهم: ما خالف العامة، أي أهل السنَّة ـ فيه الرشاد، لو كان هذا من عند الاَئمّة ـ كما تزعم هذه الزمرة ـ لكان الاَئمة أسبق الناس إلى تطبيقه على أنفسهم. والواقع الذي يوافقنا شيوخ الشيعة عليه أنّ عليّاً عليه السلام لم يشذَّ عن الصحابة، بل إنّه كما يقول شيخهم الشريف المرتضى: «دخل في آرائهم، وصلّى مقتدياً بهم، وأخذ عطيّتهم، ونكح سَبْيهم وأنكحهم، ودخل في الشورى»... روى البخاري عن علي رضيالله عنه قال: «إقضوا كما كنتم تقضون، فإنّي أكره الاختلاف حتى يكون الناس جماعة».
أقول: حديث صحيح البخاري المنقول في المتن يدلّ على كراهية علي عليه السلام للاختلاف، وما نقله عن الشريف المرتضى قدس سره يدلّ على موافقة عليّ عليه السلام معهم في مقام العمل؛ وأمّا مقام العلم وتشخيص الحق فمنبعه علي عليه السلام ، وهو باب علم الرسول، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها»، وقال: «عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع علي».
وكانت موافقته معهم في مقام العمل لاَجل التحرّز عن الاختلاف، وهو المسمّى في أحاديثنا بالتقيّة، نعم! التقيّة من أُصول الاِمامية، وقد أكّد الاَئمّة المعصومون عليهم السلام على العمل بها للتحرّز عن المخاطرات الناشئة عن مخالفتهم، لاَجل الحفاظ على الوحدة بين المسلمين.
وقال في ص 422: «وكلّ ما تنفرد به الشيعة وتشذّ به ليس من هدي عليّ ( عليه السلام )، وكان عليٌّ مع الاَُمّة في إجماعها.... ولهذا لم نجد إجابة عن موافقة علي للاُمّة إلاّ بدعوى التقية، وهي دعوى تناقض مع العقل والتاريخ».
التقية مقتضى العقل، والعقل يحكم بها للتحرّز عن الخطر لاَجل الحفاظ على الوحدة الاِسلامية، ويشهد التاريخ أنّ عليّاً عليه السلام ومَن بعده من الاَئمّة المعصومين عليهم السلام كانوا ملتزمين بها.
المصادر :
1- أختُلِجُوا: اجْتُذِبُوا وانْتُزِعُوا، النهاية 2: 59 [خلج].
2- يونس 10: 59.
3- الحجرات 49: 6.
4- جَمْجَم في صدره شيئاً: أخفاه ولم يُبد، لسان العرب 12: 109 [جمم].
5- المؤمنون 23: 115.

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

حوار معاصر مع عبد الله الرضيع عليه السلام
ماهية الصلاة البتراء والأحاديث الناهية عنها عند ...
علماء الشيعة والتشبيه
محطات قدسيّة .. في عالم النور
زيارة أم البنين عليها السلام
دعاء الليلة العاشرة من شهر رمضان المبارک
يوم المباهلة
شفاء النفوس من خلال الهدى القرآني
أدب الصلاة على النبي (ص)
مرقد السيدة زينب الكبرى (س)

 
user comment