يعرف بحجر الخير، ويكنى بأبي عبد الرحمن بن عدي بن الحرث بن عمرو بن حجر المقلب بآكل المرار [ملك الكنديين]. وقيل هو ابن عدي بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الاكرمين من كندة، ومن ذؤابتها العليا. وكندة هي من بني كهلان، وبلادهم في اليمن، ثم كان من كبرائهم في العراق – وكهلان وحمير ابنا سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وسبأ اسم يجمع القبيلتين كلتيهما. وكان يقال: ان العرب تعد البيوتات المشهورة بالكبر والشرف بعد بيت هاشم بن عبد مناف أربعة بيوت: بيت قيس الفزاري، والدارميين، وبني شيبان، وبيت اليمن من بني الحارث بن كعب – واما كندة فلا يعدون من أهل البيوتات انما كانوا ملوكاً. ومنهم «الملك الضليل – امرؤ القيس» وكان لهم ملك باليمن وبالحجاز – وبقي لكندة مجدها في الاسلام، فمن كندة من كان له ذكر في الفتوح والثورات، ومنهم من ولي الولايات، ومنهم من تقلد القضاء كحسين بن حسن الحجري، ومنهم الشعراء كجعفر بن عفان المكفوف شاعر الشيعة، وكان هانئ بن الجعد بن عدي – ابن أخي حجر – من أشراف الكوفة، وكان جعفر بن الاشعث وابنه العباس بن جعفر من شيعة الامام ابي الحسن موسى بن جعفر وابنه الرضا عليهما السلام. اما الاشعث بن قيس الكندي فكان اكبر منافقي الكوفة. أسلم ثم ارتد بعد النبي ثم أسلم وقبل أبو بكر اسلامه، وزوجه أخته وهي أم محمد بن الاشعث، وتزوج الامام الحسن ابنته، وهي التي سقته السم باغراء معاوية اياها.
صحابي من أعيان أصحاب علي وابنه الحسن عليهما السلام، وسيد من سادات المسلمين في الكوفة ومن أبدالها.
وفد هو وأخوه هانئ بن عدي على النبي صلى اللّه عليه وآله، قال في الاستيعاب: «كان حجر من فضلاء الصحابة، وصغر سنه عن كبارهم»، وذكره بمثل ذلك في أسد الغابة، ووصفه الحاكم في المستدرك بأنه: «راهب أصحاب محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم».
وبلغ من عبادته أنه ما أحدث الا توضأ وما توضأ الا صلى. وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان ظاهر الزهد، مجاب الدعوة(1)، ثقة من الثقات المصطفين، اختار الآخرة على الدنيا حتى سلم نفسه للقتل دون البراءة من امامه، وانه مقام تزل فيه الاقدام وتزيغ الاحلام.
كان في الجيش الذي فتح الشام، وفي الجيش الذي فتح القادسية، وشهد الجمل مع علي، وكان أمير كندة يوم صفين، وأمير الميسرة يوم النهروان، وهو الشجاع المطرق الذي قهر الضحاك بن قيس في غربي تدمر. وهو القائل: «نحن بنو الحرب وأهلها، نلقحها وننتجها، قد ضارستنا وضارسناها».
ثم كان أول من قتل صبراً في الاسلام.
قتله وستة من أصحابه معاوية بن أبي سفيان سنة 51 في «مرج عذراء» بغوطة دمشق على بعد 12 ميلاً منها. وقبره الى اليوم ظاهر مشهور، وعليه قبة محكمة تظهر عليها آثار القدم في جانب مسجد واسع، ومعه في ضريحه أصحابه المقتولون معه .
وهدم زياد ابن أبيه دار حجر في الكوفة.
أما المغيرة بن شعبة فقد قدر المعنويات التي تعزز حجراً كصحابي فاضل، وكرأس من رجالات علي في الكوفة، وكأمير عربي يرث تاج الكنديين من أقرباء الجدود، وسمع بأذنيه تأييد الناس دعوته غير آبهين بالقوة، ولا خائفين نقمة السلطان، فرأى أن يتمهل في أمره وأن يعتذر الى ذوي مشورته الذين كانوا يحرضونه على التنكيل به. ثم قال لهم: «اني قد قتلته». قالوا: «وكيف ذلك؟» قال: «انه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيهاً بما ترونه، فيأخذه عند اول وهلة فيقتله شر قتلة». وكان المغيرة في موقفه من حجر المنافق الحكيم، وكذلك كان فيما أجاب به صعصعة بن صوحان يوم فتنة المستورد بن علفة الخارجي سنة 43 قال له: «واياك أن يبلغني عنك أنك تظهر شيئاً من فضل علي علانية، فانك لست بذاكر من فضل علي شيئاً أجهله، بل أنا أعلم بذلك !!. ولكن هذا السلطان – يعني معاوية – قد ظهر، وقد أخذنا باظهار عيبه للناس، فنحن ندع كثيراً مما أمرنا به، ونذكر الشيء الذي لا نجد من ذكره بداً، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقية»(2)
وولي ابن سمية الكوفة بعد هلاك المغيرة سنة 50 أو 51، فرأى أن يخدم أمويته «المزعومة» بقتل حجر بن عدي ليريحها من أكبر المشاغبين عليها. ولكنه جهل أن دم حجر سيظل يشاغب على تاريخ أمية ما عرف الناس هذين الاسمين.
وأطال الوالي الجديد خطبته يوم الجمعة حتى ضاق وقت الصلاة – ولصلاة الجمعة وقتها المحدود – فقال حجر – وكان لا يفارق جمعتهم وجماعتهم -: «الصلاة !» فمضى زياد في خطبته. فقال ثانياً: «الصلاة !» فمضى في خطبته. وخشي حجر فوت الفريضة فضرب بيده الى كف من الحصا، وثار الى الصلاة وثار الناس معه.
وما كان أبو عبد الرحمن بمكانته الاجتماعية وبروحه العابدة الزاهدة بالذي يترخص في دينه أو يلجأ الى مجاملة المترخصين، وكان يظن ان في هؤلاء بقية من الحسن قد تنفعها الذكرى وقد يجدي معها الانكار، فأنكر انتصافاً للحق المهضوم، وجاهد لدينه ولامامه ولصلاته بلسانه، كما كان يجاهد بسيفه في فتوح الاسلام.
وجاءت قائمة جرائمه – في عرف بني أمية – أنه يرد السب عن علي عليه السلام، وأنه يريد الصلاة لوقتها، ولا شيء غير ذلك !.
ودعا زياد «حواشيه الطيعة» الذين كانوا يبادلونه الذمم بالنعم أمثال عمر بن سعد [قاتل الحسين عليه السلام]، والمنذر بن الزبير، وشمر بن ذي الجوشن العامري، واسماعيل واسحق ابني طلحة بن عبد اللّه، وخالد بن عرفطة، وشبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، وعمرو بن الحجاج، وزجر بن قيس.. و«درازن» أخرى من هذه النماذج التي طلقت المروءة ثلاثاً، وكانوا سبعين رجلاً، عدهم الطبري في تاريخه واحداً واحداً [ج 6 ص 150 – 151]، وماز من بينهم أبا بردة بن أبي موسى الاشعري لانه كان أضعفهم عنده او لانه كان أقواهم عند معاوية، وقال له اكتب: -
«بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى الاشعري للّه رب العالمين !!، أشهد ان حجر بن عدي خلع الطاعة، وفارق الجماعة !! ولعن الخليفة، ودعا الى الحرب، وجمع اليه الجموع يدعوهم الى نكث البيعة، وكفر باللّه عزّ وجل كفرة صلعاء !!..».
وقال للسبعين: «على مثل هذه الشهادة فاشهدوا. أما واللّه لاجهدن على قطع خيط هذا الخائن الاحمق !!». فشهد على هذه الصحيفة الخائنة الحمقاء سبعون من اشراف الكوفة و«ابناء البيوتات» !!.. وكتب الى معاوية في حجر وكثر عليه فكتب اليه معاوية: «شده في الحديد واحمله اليّ».
ولنتذكر هنا سوابق هذه الحفنة من أبناء بيوتات الكوفة في قضية الحسن بن علي عليهما السلام أيام خلافته، وهل كان الفارون من الزحف في مسكن، والمتألبون على الشر في المدائن، والمكاتبون معاوية على الغدر بالامام وتسليمه اياه الا هؤلاء ؟. فمن هو اذاً الذي خلع الطاعة وفارق الجماعة ونكث البيعة أحجر بن عدي أم هم ؟
ثم لنتذكر مواقف هؤلاء أنفسهم في فاجعة الحسين عليه السلام بكربلاء، وكانوا يومئذ سيوف الجبابرة الامويين الذين تحملوا مسؤوليات تلك الاحداث المؤلمة التي لا حد لفظاعتها في تاريخ العرب والاسلام.
موقف الكوفة في حادثة حجر
وكان باستطاعة حجر ان يشعل نار الثورة التي تقض مضجع معاوية في الكوفة، لو انه شاء المقاومة بالسلاح. وفهم معاوية ذلك حين راح يقول – بعد مقتل حجر -: «لو بقي حجر لاشفقت أن يعيدها حرباً أخرى»، وفهم زياد ذلك حين اتبع حجراً بريده وقال له: «اركض الى معاوية وقل له: ان كان لك في سلطانك حاجة فاكفني حجراً».
ولكن الزعيم الشيعي الذي كان قد درس على الامام الحسن بن علي عليهما السلام تضحياته الغالية في سبيل حقن الدماء، منع قومه من الحرب صريحاً.
ولكن جماعة من أصحابه اشتبكت بشرطة زياد و(بخاريته) عند أبواب كندة، وجماعة أخرى التحمت بهم عند باب داره – قرب جبانة كندة – وكان من ابطال هاتين الموقعتين عبد اللّه بن خليفة الطائي، وعمرو بن الحمق الخزاعي – وسنأتي على ذكرهما في الفصول القريبة -، وعبد الرحمن بن محرز الطمحي، وعائذ بن حملة التميمي، وقيس بن يزيد، وعبيدة بن عمرو، وقيس بن شمر، وعمير بن يزيد الكندي المعروف (بأبي العمرّطة). قالوا: «وكان سيف أبي العمرطة أول سيف ضرب به في الكوفة يوم حجر». – وخرج قيس بن فهدان الكندي على حمار له، يسير في مجالس كندة يحرضهم على الحرب.
وحصب أهل الكوفة زياداً – وكان ذلك هو ميراثه الشرعي من اُمه سمية. (3)
أما حجر نفسه فأصر على قومه بأن يردوا السيوف الى أغمادها، وقال لهم: «لا تقاتلوا فاني لا أحب ان اعرضكم للهلاك.. وانا آخذ في بعض هذه السكك».
وأخطأته عيون زياد التي كانت تلاحقه، لان الناس كلهم أو اكثر من ثلثي الناس كانوا يمنعون حجراً من هذه العيون.
وهكذا ضاق زياد بحجر وأصحابه، فجمع اشراف الكوفة وقال لهم: «يا أهل الكوفة: اتشجون بيد وتأسون بأخرى، أبدانكم معي، وأهواؤكم مع حجر، أنتم معي واخوانكم وابناؤكم وعشائركم مع حجر. هذا واللّه من دحسكم وغشكم. واللّه لتظهرن لي براءتكم، أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم».. ثم قال: «فليقم كل امرئ منكم الى هذه الجماعة حول حجر. فليدع كل رجل منكم أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته، حتى تقيموا عنه كل من استطعتم أن تقيموه».
ثم أمر زياد أمير شرطته [شداد بن الهيثم الهلالي] بالقبض على حجر. وعلم ان شرطته ستعجز عنه، فدعا محمد بن الاشعث الكندي، وقال له: «يا أبا ميثاء، أما واللّه لتأتينني بحجر، أو لا ادع لك نخلة الا قطعتها، ولا داراً الا هدمتها، ثم لا تسلم حتى أقطعك ارباً ارباً !» قال له: «أمهلني حتى أطلبه». قال «امهلتك ثلاثاً، فان جئت به والا عّد نفسك في الهلكى!».
أقول: ولِمَ كلّ هذا الحنق ؟ أللدين وما كان ابن سمية بأولى به من الصحابي العابد الذي كان يصلي كل يوم وليلة الف ركعة، ثم لا ذنب له الا أن ينهى عن المنكر ويريد الفرائض لوقتها ؟! – أم للدنيا، وقد خسروا في مقتل حجر صبابة معنوياتهم في التاريخ !!
وحاول زياد ان يقتل الكنديين بعضهم ببعض بما أمر به ابن الاشعث الكندي، وكان ذلك من جملة الاساليب الرثة التي يتوارثها الحاكمون بأمرهم في الشعوب المغلوبة على أمرها في القديم والحديث.
وعلم حجر ما أراده زياد في الكنديين وأصحابهم فقال: «ولكن سمع وطاعة».
ودارت الشرطة للقبض على الاسماء البارزة من مؤازريه، فجمعوا تسعة من أهل الكوفة وأربعة من غيرها – برواية المسعودي -.
وعدهم ابن الاثير هكذا: «حجر بن عدي الكندي، والارقم بن عبد اللّه الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وكدام بن حيان، وعبد الرحمن بن حسان العنزيان، ومحرز بن شهاب التميمي، وعبد اللّه بن حوبة السعدي التميمي». قال: «فهؤلاء اثنا عشر رجلاً. واتبعهم زياد برجلين وهما: عتبة بن الاخنس من سعد بن بكر، وسعد بن نمران الهمداني. فقوموا أربعة عشر رجلاً».
ونشط – اذ ذاك – المشاؤون بالنميم، وما كان أكثرهم في هذا البلد المنكوب!
ومكث حجر في سجن الكوفة عشرة أيام حتى جمعوا اليه من أصحابه من ذكرنا، ثم أمر بهم فسيقوا الى الشام. وكان كل ما في الكوفة يدل على تمخض الوضع عن وثبة لا يدرى مدى بلائها على الحاكم والمحكوم.
ولكن زياداً فطن الى ذلك، فأمر باخراجهم «عشية» ليتستر بالظلام، فيخفف من عرامة هذا الظلم المفضوح.
ونظر قبيصة بن ربيعة – أحد اصحاب حجر – فاذا هو يمر على داره في جبانة «عرزم» واذا بناته مشرفات يبكينه، فكلمهن ووعظهن ثم انصرف.
وانشأت ابنة حجر في احدى لياليها السود وقد قطع الخوف على أبيها نياط قلبها وهي تخاطب القمر – وقيل بل الابيات لهند بنت زيد الانصارية ترثي حجراً:
ترفّع أيها القمر المنير*** لعلك أن ترى حجراً يسير
يسير الى معاوية بن حرب *** ليقتله كما زعم الامير
ويصلبه على بابي دمشق *** وتأكل من محاسنه النسور
تجبرت الجبابر بعد حجر *** وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد له محولاً *** كأن لم يحيها مزن مطير
ألا يا حجر حجر بني عدي *** تلقتك السلامة والسرور
أخاف عليك ما أردى علياً *** وشيخاً في دمشق له زئير
فان تهلك فكل عميد قوم *** من الدنيا الى هلك يصير
وحفرت القبور، وقام حجر وأصحابه يصلون عامة الليل، فلما كان الغد قدموهم ليقتلوهم فقال لهم حجر: «اتركوني اتوضأ وأصل فاني ما توضأت الا صليت». فتركوه فصلى ثم انصرف، وقال: «واللّه ما صليت صلاة أخفّ منها، ولولا أن تظنوا فيّ جزعاً من الموت لاستكثرت منها».
ثم قال: «اللهم انا نستعديك على أمتنا، فان اهل الكوفة شهدوا علينا، وان أهل الشام يقتلوننا، أما واللّه لئن قتلتموني بها، فاني لاول فارس من المسلمين هلك في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها»(4)
ثم مشى اليه هدبة بن فياض القضاعي بالسيف، فارتعد – فقالوا له: «زعمت أنك لا تجزع من الموت، فابرأ من صاحبك وندعك !!».
فقال: «مالي لا أجزع وأرى قبراً محفوراً، وكفناً منشوراً، وسيفاً مشهوراً، واني واللّه ان جزعت من القتل، لا أقول ما يسخط الرب !».
وشفع في سبعة من أصحاب حجر ذوو حزانتهم من المقربين لدى معاوية في الشام.
وعرض الباقون على السيف، وقال حجر في آخر ما قال: «لا تطلقوا عني حديداً، ولا تغسلوا عني دماً، فاني لاق معاوية غداً على الجادة واني مخاصم». وذكر معاوية كلمة حجر هذه فغصّ بها ساعة هلك – معاوية – فجعل يغرغر بالصوت ويقول: «يومي منك يا حجر يوم طويل».
وكتب شريح بن هاني الى معاوية يذكر حجراً ويفتيه بحرمة دمه وماله ويقول فيه: «انه ممن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال وكان ابن عمر – منذ أخذ حجر – يتخبر عنه فأخبر بقتله وهو بالسوق فأطلق حبوته وولى وهو يبكي(7).
ودخل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على معاوية وقد قتل حجراً وأصحابه، فقال له: «أين غاب عنك حلم أبي سفيان !؟» قال: «غاب عني حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت !!» قال: «واللّه لا تعد لك العرب حلماً بعد هذا أبداً ولا رأياً، قتلت قوماً بعث بهم اليك أسارى من المسلمين..».
وقال مالك بن هبيرة السكوني حين أبى معاوية أن يهب له حجراً، وقد اجتمع اليه قومه من كندة والسكون وناس من اليمن كثير، فقال: «واللّه لنحن اغنى عن معاوية من معاوية عنا وانا لنجد في قومه(يعني بني هاشم) منه بدلاً ولا يجد منا في الناس خلفاً..».
وقيل لابي اسحق السبيعي: «متى ذل الناس ؟» فقال: «حين مات الحسن، وادُّعي زياد، وقتل حجر بن عدي(8)».
وقال الحسن البصري: «أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الامة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها – يعني الخلافة - بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجراً. ويل له من حجر وأصحاب حجر - مرتين -(9)».
ومات الربيع بن زياد الحارثي غماً لمقتل حجر، وكان عاملاً لمعاوية على خراسان. قال ابن الاثير (ج 3 ص 195): «وكان سبب موته أنه سخط قتل حجر بن عدي، حتى انه قال: لا تزال العرب تقتل صبراً بعده، ولو نفرت عند قتله، لم يقتل رجل منهم صبراً، ولكنها قرت فذلت، ثم مكث بعد هذا الكلام جمعة، ثم خرج يوم الجمعة فقال: أيها الناس، انى قد مللت الحياة فاني داع بدعوة فأمنوا. ثم رفع يديه بعد الصلاة فقال: اللهم ان كان لي عندك خير فاقبضني اليك عاجلاً، وأمن الناس - ثم خرج، فما توارت ثيابه حتى سقط(10)».
وكتب الحسين عليه السلام الى معاوية في رسالة له: «ألست القاتل حجراً أخا كندة، والمصلين العابدين، الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ولا يخافون في اللّه لومة لائم ؟. قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعدما كنت أعطيتهم الايمان المغلظة والمواثيق المؤكدة [يشير الى نصوص المادة الخامسة من معاهدة الصلح] أن لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ولا باحنة تجدها في نفسك عليهم(11)».
ثم جاء دور التاريخ فخصص نصر بن مزاحم المنقري كتاباً في مقتل حجر بن عدي، ولوط بن يحيى بن سعيد الازدي كتاباً(12)، وهشام بن محمد ابن السائب كتاباً في حجر، وكتاباً آخر في مقتل رشيد وميثم وجويرية بن مشهر»(13)
الاحاديث في حجر وأصحابه
قال ابن عساكر: «ان عائشة بعد أن انكرت على معاوية قتله حجراً وأصحابه، قالت: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم يقول: سيقتل بعذراء - الموضع الذي قتل فيه حجر وأصحابه - أناس يغضب الله لهم وأهل السماء».
وروى مثله بطريق آخر عنها.
وروى البيهقي في الدلائل ويعقوب بن سفيان في تاريخه: «عن عبد اللّه بن زرير الغافقي قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: يا أهل العراق، سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء، مثلهم كمثل أصحاب الاخدود».
المصادر
1- قال في الاصابة (ج 1 ص 329): «أصابته جنابة – وهو أسير – فقال للموكل به أعطني شرابي أتطهر به، ولا تعطني غداً شيئاً، فقال: أخاف ان تموت عطشاً فيقتلني معاوية. قال: فدعا اللّه فانسكبت له سحابة بالماء، فأخذ منها الذي احتاج اليه فقال له أصحابه: ادع اللّه أن يخلصنا، فقال: اللهم خر لنا»
2- الطبري ج 6 ص 108
3- قال الطبري: «ومن يومه اتخذ المقصورة» ج 6 ص 132
4- ابن الاثير (ج 3 ص 192) وقال ابن سعد ومصعب الزبيري فيما رواه الحاكم عنه عند ذكر حجر: «وقتل بمرج عذراء بامر معاوية وكان حجر هو الذي افتتحها فغدر بها». أقول: وهو معنى قوله هنا: «وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها» يعني يوم فتحها.
5- الطبري ج 6 ص 156
6- ابن الاثير ج 3 ص 193
7- الطبري ج 6 ص 153
8- ابن ابي الحديد ج 4 ص 18
9- الطبري ج 6 ص 157
10- وذكر ذلك كل من الاستيعاب واسد الغابة والدرجات الرفيعة والشيخ في الامالي.
11- البحار ج 10 ص 149
12- فهرست ابن النديم ص 136
13- النجاشي ص 306
صحابي من أعيان أصحاب علي وابنه الحسن عليهما السلام، وسيد من سادات المسلمين في الكوفة ومن أبدالها.
وفد هو وأخوه هانئ بن عدي على النبي صلى اللّه عليه وآله، قال في الاستيعاب: «كان حجر من فضلاء الصحابة، وصغر سنه عن كبارهم»، وذكره بمثل ذلك في أسد الغابة، ووصفه الحاكم في المستدرك بأنه: «راهب أصحاب محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم».
وبلغ من عبادته أنه ما أحدث الا توضأ وما توضأ الا صلى. وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان ظاهر الزهد، مجاب الدعوة(1)، ثقة من الثقات المصطفين، اختار الآخرة على الدنيا حتى سلم نفسه للقتل دون البراءة من امامه، وانه مقام تزل فيه الاقدام وتزيغ الاحلام.
كان في الجيش الذي فتح الشام، وفي الجيش الذي فتح القادسية، وشهد الجمل مع علي، وكان أمير كندة يوم صفين، وأمير الميسرة يوم النهروان، وهو الشجاع المطرق الذي قهر الضحاك بن قيس في غربي تدمر. وهو القائل: «نحن بنو الحرب وأهلها، نلقحها وننتجها، قد ضارستنا وضارسناها».
ثم كان أول من قتل صبراً في الاسلام.
قتله وستة من أصحابه معاوية بن أبي سفيان سنة 51 في «مرج عذراء» بغوطة دمشق على بعد 12 ميلاً منها. وقبره الى اليوم ظاهر مشهور، وعليه قبة محكمة تظهر عليها آثار القدم في جانب مسجد واسع، ومعه في ضريحه أصحابه المقتولون معه .
وهدم زياد ابن أبيه دار حجر في الكوفة.
السبب في قتله
أنه كان يرد على المغيرة وزياد حين يشتمان علياً عليه السلام، ويقول: «أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تزكون أولى بالذم، وكان اذا جهر بكلمته هذه، وافقه أكثر من ثلثي الناس، وقالوا: «صدق واللّه حجر وبر».أما المغيرة بن شعبة فقد قدر المعنويات التي تعزز حجراً كصحابي فاضل، وكرأس من رجالات علي في الكوفة، وكأمير عربي يرث تاج الكنديين من أقرباء الجدود، وسمع بأذنيه تأييد الناس دعوته غير آبهين بالقوة، ولا خائفين نقمة السلطان، فرأى أن يتمهل في أمره وأن يعتذر الى ذوي مشورته الذين كانوا يحرضونه على التنكيل به. ثم قال لهم: «اني قد قتلته». قالوا: «وكيف ذلك؟» قال: «انه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيهاً بما ترونه، فيأخذه عند اول وهلة فيقتله شر قتلة». وكان المغيرة في موقفه من حجر المنافق الحكيم، وكذلك كان فيما أجاب به صعصعة بن صوحان يوم فتنة المستورد بن علفة الخارجي سنة 43 قال له: «واياك أن يبلغني عنك أنك تظهر شيئاً من فضل علي علانية، فانك لست بذاكر من فضل علي شيئاً أجهله، بل أنا أعلم بذلك !!. ولكن هذا السلطان – يعني معاوية – قد ظهر، وقد أخذنا باظهار عيبه للناس، فنحن ندع كثيراً مما أمرنا به، ونذكر الشيء الذي لا نجد من ذكره بداً، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقية»(2)
وولي ابن سمية الكوفة بعد هلاك المغيرة سنة 50 أو 51، فرأى أن يخدم أمويته «المزعومة» بقتل حجر بن عدي ليريحها من أكبر المشاغبين عليها. ولكنه جهل أن دم حجر سيظل يشاغب على تاريخ أمية ما عرف الناس هذين الاسمين.
وأطال الوالي الجديد خطبته يوم الجمعة حتى ضاق وقت الصلاة – ولصلاة الجمعة وقتها المحدود – فقال حجر – وكان لا يفارق جمعتهم وجماعتهم -: «الصلاة !» فمضى زياد في خطبته. فقال ثانياً: «الصلاة !» فمضى في خطبته. وخشي حجر فوت الفريضة فضرب بيده الى كف من الحصا، وثار الى الصلاة وثار الناس معه.
وما كان أبو عبد الرحمن بمكانته الاجتماعية وبروحه العابدة الزاهدة بالذي يترخص في دينه أو يلجأ الى مجاملة المترخصين، وكان يظن ان في هؤلاء بقية من الحسن قد تنفعها الذكرى وقد يجدي معها الانكار، فأنكر انتصافاً للحق المهضوم، وجاهد لدينه ولامامه ولصلاته بلسانه، كما كان يجاهد بسيفه في فتوح الاسلام.
وجاءت قائمة جرائمه – في عرف بني أمية – أنه يرد السب عن علي عليه السلام، وأنه يريد الصلاة لوقتها، ولا شيء غير ذلك !.
ودعا زياد «حواشيه الطيعة» الذين كانوا يبادلونه الذمم بالنعم أمثال عمر بن سعد [قاتل الحسين عليه السلام]، والمنذر بن الزبير، وشمر بن ذي الجوشن العامري، واسماعيل واسحق ابني طلحة بن عبد اللّه، وخالد بن عرفطة، وشبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، وعمرو بن الحجاج، وزجر بن قيس.. و«درازن» أخرى من هذه النماذج التي طلقت المروءة ثلاثاً، وكانوا سبعين رجلاً، عدهم الطبري في تاريخه واحداً واحداً [ج 6 ص 150 – 151]، وماز من بينهم أبا بردة بن أبي موسى الاشعري لانه كان أضعفهم عنده او لانه كان أقواهم عند معاوية، وقال له اكتب: -
«بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى الاشعري للّه رب العالمين !!، أشهد ان حجر بن عدي خلع الطاعة، وفارق الجماعة !! ولعن الخليفة، ودعا الى الحرب، وجمع اليه الجموع يدعوهم الى نكث البيعة، وكفر باللّه عزّ وجل كفرة صلعاء !!..».
وقال للسبعين: «على مثل هذه الشهادة فاشهدوا. أما واللّه لاجهدن على قطع خيط هذا الخائن الاحمق !!». فشهد على هذه الصحيفة الخائنة الحمقاء سبعون من اشراف الكوفة و«ابناء البيوتات» !!.. وكتب الى معاوية في حجر وكثر عليه فكتب اليه معاوية: «شده في الحديد واحمله اليّ».
ولنتذكر هنا سوابق هذه الحفنة من أبناء بيوتات الكوفة في قضية الحسن بن علي عليهما السلام أيام خلافته، وهل كان الفارون من الزحف في مسكن، والمتألبون على الشر في المدائن، والمكاتبون معاوية على الغدر بالامام وتسليمه اياه الا هؤلاء ؟. فمن هو اذاً الذي خلع الطاعة وفارق الجماعة ونكث البيعة أحجر بن عدي أم هم ؟
ثم لنتذكر مواقف هؤلاء أنفسهم في فاجعة الحسين عليه السلام بكربلاء، وكانوا يومئذ سيوف الجبابرة الامويين الذين تحملوا مسؤوليات تلك الاحداث المؤلمة التي لا حد لفظاعتها في تاريخ العرب والاسلام.
موقف الكوفة في حادثة حجر
وكان باستطاعة حجر ان يشعل نار الثورة التي تقض مضجع معاوية في الكوفة، لو انه شاء المقاومة بالسلاح. وفهم معاوية ذلك حين راح يقول – بعد مقتل حجر -: «لو بقي حجر لاشفقت أن يعيدها حرباً أخرى»، وفهم زياد ذلك حين اتبع حجراً بريده وقال له: «اركض الى معاوية وقل له: ان كان لك في سلطانك حاجة فاكفني حجراً».
ولكن الزعيم الشيعي الذي كان قد درس على الامام الحسن بن علي عليهما السلام تضحياته الغالية في سبيل حقن الدماء، منع قومه من الحرب صريحاً.
ولكن جماعة من أصحابه اشتبكت بشرطة زياد و(بخاريته) عند أبواب كندة، وجماعة أخرى التحمت بهم عند باب داره – قرب جبانة كندة – وكان من ابطال هاتين الموقعتين عبد اللّه بن خليفة الطائي، وعمرو بن الحمق الخزاعي – وسنأتي على ذكرهما في الفصول القريبة -، وعبد الرحمن بن محرز الطمحي، وعائذ بن حملة التميمي، وقيس بن يزيد، وعبيدة بن عمرو، وقيس بن شمر، وعمير بن يزيد الكندي المعروف (بأبي العمرّطة). قالوا: «وكان سيف أبي العمرطة أول سيف ضرب به في الكوفة يوم حجر». – وخرج قيس بن فهدان الكندي على حمار له، يسير في مجالس كندة يحرضهم على الحرب.
وحصب أهل الكوفة زياداً – وكان ذلك هو ميراثه الشرعي من اُمه سمية. (3)
أما حجر نفسه فأصر على قومه بأن يردوا السيوف الى أغمادها، وقال لهم: «لا تقاتلوا فاني لا أحب ان اعرضكم للهلاك.. وانا آخذ في بعض هذه السكك».
وأخطأته عيون زياد التي كانت تلاحقه، لان الناس كلهم أو اكثر من ثلثي الناس كانوا يمنعون حجراً من هذه العيون.
وهكذا ضاق زياد بحجر وأصحابه، فجمع اشراف الكوفة وقال لهم: «يا أهل الكوفة: اتشجون بيد وتأسون بأخرى، أبدانكم معي، وأهواؤكم مع حجر، أنتم معي واخوانكم وابناؤكم وعشائركم مع حجر. هذا واللّه من دحسكم وغشكم. واللّه لتظهرن لي براءتكم، أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم».. ثم قال: «فليقم كل امرئ منكم الى هذه الجماعة حول حجر. فليدع كل رجل منكم أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته، حتى تقيموا عنه كل من استطعتم أن تقيموه».
ثم أمر زياد أمير شرطته [شداد بن الهيثم الهلالي] بالقبض على حجر. وعلم ان شرطته ستعجز عنه، فدعا محمد بن الاشعث الكندي، وقال له: «يا أبا ميثاء، أما واللّه لتأتينني بحجر، أو لا ادع لك نخلة الا قطعتها، ولا داراً الا هدمتها، ثم لا تسلم حتى أقطعك ارباً ارباً !» قال له: «أمهلني حتى أطلبه». قال «امهلتك ثلاثاً، فان جئت به والا عّد نفسك في الهلكى!».
أقول: ولِمَ كلّ هذا الحنق ؟ أللدين وما كان ابن سمية بأولى به من الصحابي العابد الذي كان يصلي كل يوم وليلة الف ركعة، ثم لا ذنب له الا أن ينهى عن المنكر ويريد الفرائض لوقتها ؟! – أم للدنيا، وقد خسروا في مقتل حجر صبابة معنوياتهم في التاريخ !!
وحاول زياد ان يقتل الكنديين بعضهم ببعض بما أمر به ابن الاشعث الكندي، وكان ذلك من جملة الاساليب الرثة التي يتوارثها الحاكمون بأمرهم في الشعوب المغلوبة على أمرها في القديم والحديث.
وعلم حجر ما أراده زياد في الكنديين وأصحابهم فقال: «ولكن سمع وطاعة».
ودارت الشرطة للقبض على الاسماء البارزة من مؤازريه، فجمعوا تسعة من أهل الكوفة وأربعة من غيرها – برواية المسعودي -.
وعدهم ابن الاثير هكذا: «حجر بن عدي الكندي، والارقم بن عبد اللّه الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وكدام بن حيان، وعبد الرحمن بن حسان العنزيان، ومحرز بن شهاب التميمي، وعبد اللّه بن حوبة السعدي التميمي». قال: «فهؤلاء اثنا عشر رجلاً. واتبعهم زياد برجلين وهما: عتبة بن الاخنس من سعد بن بكر، وسعد بن نمران الهمداني. فقوموا أربعة عشر رجلاً».
ونشط – اذ ذاك – المشاؤون بالنميم، وما كان أكثرهم في هذا البلد المنكوب!
ومكث حجر في سجن الكوفة عشرة أيام حتى جمعوا اليه من أصحابه من ذكرنا، ثم أمر بهم فسيقوا الى الشام. وكان كل ما في الكوفة يدل على تمخض الوضع عن وثبة لا يدرى مدى بلائها على الحاكم والمحكوم.
ولكن زياداً فطن الى ذلك، فأمر باخراجهم «عشية» ليتستر بالظلام، فيخفف من عرامة هذا الظلم المفضوح.
ونظر قبيصة بن ربيعة – أحد اصحاب حجر – فاذا هو يمر على داره في جبانة «عرزم» واذا بناته مشرفات يبكينه، فكلمهن ووعظهن ثم انصرف.
وانشأت ابنة حجر في احدى لياليها السود وقد قطع الخوف على أبيها نياط قلبها وهي تخاطب القمر – وقيل بل الابيات لهند بنت زيد الانصارية ترثي حجراً:
ترفّع أيها القمر المنير*** لعلك أن ترى حجراً يسير
يسير الى معاوية بن حرب *** ليقتله كما زعم الامير
ويصلبه على بابي دمشق *** وتأكل من محاسنه النسور
تجبرت الجبابر بعد حجر *** وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد له محولاً *** كأن لم يحيها مزن مطير
ألا يا حجر حجر بني عدي *** تلقتك السلامة والسرور
أخاف عليك ما أردى علياً *** وشيخاً في دمشق له زئير
فان تهلك فكل عميد قوم *** من الدنيا الى هلك يصير
مقتله
وصاروا بهم الى عذراء، وكانت قرية على اثني عشر ميلاً من دمشق، فحبسوا هناك، ودار البريد بين معاوية وزياد، فما زادهم التأخير الا عذاباً. وجاءهم أعور معاوية في رهط من أصحابه يحملون أمره بقتلهم ومعهم اكفانهم فقال لحجر: «انَّ امير المؤمنين أمرني بقتلك يا رأس الضلال !!.. ومعدن الكفر والطغيان !!.. والمتولي لابي تراب، وقتل أصحابك الا أن ترجعوا عن كفركم، وتلعنوا صاحبكم وتتبرأوا منه» - فقال حجر وأصحابه: «ان الصبر على حد السيف لأيسر علينا مما تدعوننا اليه ثم القدوم على اللّه وعلى نبيه وعلى وصيّه أحبّ الينا من دخول النار».وحفرت القبور، وقام حجر وأصحابه يصلون عامة الليل، فلما كان الغد قدموهم ليقتلوهم فقال لهم حجر: «اتركوني اتوضأ وأصل فاني ما توضأت الا صليت». فتركوه فصلى ثم انصرف، وقال: «واللّه ما صليت صلاة أخفّ منها، ولولا أن تظنوا فيّ جزعاً من الموت لاستكثرت منها».
ثم قال: «اللهم انا نستعديك على أمتنا، فان اهل الكوفة شهدوا علينا، وان أهل الشام يقتلوننا، أما واللّه لئن قتلتموني بها، فاني لاول فارس من المسلمين هلك في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها»(4)
ثم مشى اليه هدبة بن فياض القضاعي بالسيف، فارتعد – فقالوا له: «زعمت أنك لا تجزع من الموت، فابرأ من صاحبك وندعك !!».
فقال: «مالي لا أجزع وأرى قبراً محفوراً، وكفناً منشوراً، وسيفاً مشهوراً، واني واللّه ان جزعت من القتل، لا أقول ما يسخط الرب !».
وشفع في سبعة من أصحاب حجر ذوو حزانتهم من المقربين لدى معاوية في الشام.
وعرض الباقون على السيف، وقال حجر في آخر ما قال: «لا تطلقوا عني حديداً، ولا تغسلوا عني دماً، فاني لاق معاوية غداً على الجادة واني مخاصم». وذكر معاوية كلمة حجر هذه فغصّ بها ساعة هلك – معاوية – فجعل يغرغر بالصوت ويقول: «يومي منك يا حجر يوم طويل».
فاجعته في المسلمين
حج معاوية بعد قتله حجراً وأصحابه فمر بعائشة «واستأذن عليها فأذنت له، فلما قعد قالت له: يا معاوية أأمنت ان اخبئ لك من يقتلك ؟ قال: بيت الامن دخلت، قالت: يا معاوية أما خشيت اللّه في قتل حجر وأصحابه ؟(5)». وقالت: «لولا انا لم نغير شيئاً الا صارت بنا الامور الى ما هو اشد منه لغيَّرنا قتل حجر، أما واللّه ان كان ما علمتُ لمسلماً حجاجاً معتمراً(6)».وكتب شريح بن هاني الى معاوية يذكر حجراً ويفتيه بحرمة دمه وماله ويقول فيه: «انه ممن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال وكان ابن عمر – منذ أخذ حجر – يتخبر عنه فأخبر بقتله وهو بالسوق فأطلق حبوته وولى وهو يبكي(7).
ودخل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على معاوية وقد قتل حجراً وأصحابه، فقال له: «أين غاب عنك حلم أبي سفيان !؟» قال: «غاب عني حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت !!» قال: «واللّه لا تعد لك العرب حلماً بعد هذا أبداً ولا رأياً، قتلت قوماً بعث بهم اليك أسارى من المسلمين..».
وقال مالك بن هبيرة السكوني حين أبى معاوية أن يهب له حجراً، وقد اجتمع اليه قومه من كندة والسكون وناس من اليمن كثير، فقال: «واللّه لنحن اغنى عن معاوية من معاوية عنا وانا لنجد في قومه(يعني بني هاشم) منه بدلاً ولا يجد منا في الناس خلفاً..».
وقيل لابي اسحق السبيعي: «متى ذل الناس ؟» فقال: «حين مات الحسن، وادُّعي زياد، وقتل حجر بن عدي(8)».
وقال الحسن البصري: «أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الامة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها – يعني الخلافة - بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجراً. ويل له من حجر وأصحاب حجر - مرتين -(9)».
ومات الربيع بن زياد الحارثي غماً لمقتل حجر، وكان عاملاً لمعاوية على خراسان. قال ابن الاثير (ج 3 ص 195): «وكان سبب موته أنه سخط قتل حجر بن عدي، حتى انه قال: لا تزال العرب تقتل صبراً بعده، ولو نفرت عند قتله، لم يقتل رجل منهم صبراً، ولكنها قرت فذلت، ثم مكث بعد هذا الكلام جمعة، ثم خرج يوم الجمعة فقال: أيها الناس، انى قد مللت الحياة فاني داع بدعوة فأمنوا. ثم رفع يديه بعد الصلاة فقال: اللهم ان كان لي عندك خير فاقبضني اليك عاجلاً، وأمن الناس - ثم خرج، فما توارت ثيابه حتى سقط(10)».
وكتب الحسين عليه السلام الى معاوية في رسالة له: «ألست القاتل حجراً أخا كندة، والمصلين العابدين، الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ولا يخافون في اللّه لومة لائم ؟. قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعدما كنت أعطيتهم الايمان المغلظة والمواثيق المؤكدة [يشير الى نصوص المادة الخامسة من معاهدة الصلح] أن لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ولا باحنة تجدها في نفسك عليهم(11)».
ثم جاء دور التاريخ فخصص نصر بن مزاحم المنقري كتاباً في مقتل حجر بن عدي، ولوط بن يحيى بن سعيد الازدي كتاباً(12)، وهشام بن محمد ابن السائب كتاباً في حجر، وكتاباً آخر في مقتل رشيد وميثم وجويرية بن مشهر»(13)
الاحاديث في حجر وأصحابه
قال ابن عساكر: «ان عائشة بعد أن انكرت على معاوية قتله حجراً وأصحابه، قالت: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم يقول: سيقتل بعذراء - الموضع الذي قتل فيه حجر وأصحابه - أناس يغضب الله لهم وأهل السماء».
وروى مثله بطريق آخر عنها.
وروى البيهقي في الدلائل ويعقوب بن سفيان في تاريخه: «عن عبد اللّه بن زرير الغافقي قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: يا أهل العراق، سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء، مثلهم كمثل أصحاب الاخدود».
المصادر
1- قال في الاصابة (ج 1 ص 329): «أصابته جنابة – وهو أسير – فقال للموكل به أعطني شرابي أتطهر به، ولا تعطني غداً شيئاً، فقال: أخاف ان تموت عطشاً فيقتلني معاوية. قال: فدعا اللّه فانسكبت له سحابة بالماء، فأخذ منها الذي احتاج اليه فقال له أصحابه: ادع اللّه أن يخلصنا، فقال: اللهم خر لنا»
2- الطبري ج 6 ص 108
3- قال الطبري: «ومن يومه اتخذ المقصورة» ج 6 ص 132
4- ابن الاثير (ج 3 ص 192) وقال ابن سعد ومصعب الزبيري فيما رواه الحاكم عنه عند ذكر حجر: «وقتل بمرج عذراء بامر معاوية وكان حجر هو الذي افتتحها فغدر بها». أقول: وهو معنى قوله هنا: «وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها» يعني يوم فتحها.
5- الطبري ج 6 ص 156
6- ابن الاثير ج 3 ص 193
7- الطبري ج 6 ص 153
8- ابن ابي الحديد ج 4 ص 18
9- الطبري ج 6 ص 157
10- وذكر ذلك كل من الاستيعاب واسد الغابة والدرجات الرفيعة والشيخ في الامالي.
11- البحار ج 10 ص 149
12- فهرست ابن النديم ص 136
13- النجاشي ص 306
source : راسخون