خصوصیة الخلود هذه هی التی تمیِّز الدین الإسلامی الخالد عن باقی النظریات العلمیَّة، إذن الدین حی لیس بحاجة إلى إحیاء، والذی هو بحاجة إلى إحیاء هو التفکیر بشأن الدین، وغسل الأدمغة من الشبهات والانحرافات المتراکمة، فالإحیاء بمعنى إزالة ما علق بالدین من تشویهات وتحریفات اتخذت عبر الزمن صفة دینیة، وتقدیم الدین بشکل یواکب متطلبات العصر. (1)
فکرة الإحیاء فی الروایات
لقد ورد عن آل بیت النبوة علیهم السلام فی موارد متعددة: "أحیوا أمرنا".
وورد فی عبارات أمیر المؤمنین علیه السلام:
"إنه لیس على الإمام إلا ما حمل من أمر ربه، الإبلاغ فی الموعظة والاجتهاد فی النصیحة والإحیاء للسنة"(2)
"أحیوا السنة وأماتوا البدعة"(3)
"فیریکم کیف عدل السیرة ویحیی میت الکتاب والسنة"(4)
اعتراض على الفکرة
وقد یعترض البعض فیقول إنّ الدین هو عامل إحیاء الإنسان.
﴿یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اسْتَجِیبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاکُم لِمَا یُحْیِیکُمْ﴾(5).
فکیف تقولون إنّ الإنسان هو الذی یحیی الدین؟!
والجواب: أنّه لا تنافی بین الفکرتین، فالإنسان إذا تمسک بالدین یقوم الدین بدور إحیاء هذا الإنسان، وفی الوقت نفسه یقوم الإنسان بإحیاء الدین وذلک عندما یعمل بالسنة ویمیت البدعة، تماما کالغذاء فإنه یحافظ على الإنسان والإنسان یقوم بدوره بالحفاظ على الغذاء.
إقبال اللاهوری وفکرة الإحیاء
(6)
یقول إقبال فی کتابه إحیاء الفکر الدینی فی الإسلام: "أبرز ظاهرة فی التاریخ الحدیث السرعة العظیمة التی یتحرک فیها العالم الإسلامی روحیاً صوب الغرب". لکن لا ضرر من الحرکة تجاه الجانب العقلی لذلک یستدرک "هذه الحرکة لیست باطلة أو خاطئة، لأن الحضارة الأوروبیة فی جانبها العقلی تعتبر مرحلة متطورة لأهم مراحل الثقافة الإسلامیة". إلا أن الخوف من الانبهار والانجرار الأعمى "خوفنا من أن الظاهر الباهر للحضارة الغربیة یصدنا عن الحرکة، ویشلنا عن الوصول إلى الماهیة الواقعیة لهذه الحضارة". ویسخر من مثالیة أوروبا وأنها لم تدخل واقع الحیاة، حتى ولو تبجحت بلائحة حقوق الإنسان، وابتکرت المذهب الإنسانی humanisme "مثالیة أوروبا لم تدخل الحیاة الاجتماعیة بشکلِ عاملٍ حیوی، صدقونی إن أوروبا تشکل الیوم أکبر عقبة على طریق تقدم أخلاق البشریة".
الإسلام أطروحة مضمونة النفوذ فی الأعماق
یعترض إقبال على کل الرؤى الوضعیة بأن لیس فیها أی ضمان للنفوذ إلى أعماق البشریة، بخلاف ما هو موجود فی الإسلام، الرؤیة الإلهیة، وما فیه من ضمانات تنفیذیة، وهو یرى أن البشریة بحاجة إلى أمور ثلاثة:
أولاً: تفسیر روحی للعالم، لأن العالم بالمنظور المادی أعمى، یتحرک حرکة عابثة غیر هادفة، بینما هو فی التصور القرآنی.
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاکُمْ عَبَثًا وَأَنَّکُمْ إِلَیْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾(7).
ولا یضیع فیه مثقال ذرة من خیر أو شر، بل کل شیء بعین اللطیف الخبیر الذی.
﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾(8).
ثانیاً: الحریة الروحیة للفرد، القادرة على إطلاق الطاقات الإنسانیة الکامنة، وتخلصه من کل الرؤى المقیدة والمکبلة له ولشخصیته.
ثالثاً: المبادىء الأساسیة العالمیة، یقصد بذلک المبادىء الإسلامیة التی مفعولها عالمی، وتدفع البشریة باتجاه الرقی والتکامل.
هل الإسلام موجود الیوم؟
یجیب إقبال: إن الإسلام الذی فیه کل هذه الأمور موجود بین المسلمین وغیر موجود، فهو موجود بالمظاهر التی تسود حیاة المسلمین، فهم یتسمون بأسماء إسلامیة ویدفنون موتاهم حسب الأحکام الإسلامیة، یرفعون الأذان ویصلون، لکنهم یفتقدون روح الإسلام وهی میتة بینهم، بمعنى أن الإسلام لم یمت وهو حیّ أبدا بالکتاب والسنة اللذان یطفحان بالحیویة والنشاط والاستجابة لکل متطلبات الحیاة، لکن المسلمون هم المیّتون، لأنهم تمسکوا بالإسلام الممسوخ، ویصور أمیر المؤمنین علیه السلام هذه الحالة بقوله: "ولُبِسَ الإسلام لبسَ الفرو مقلوباً"(9).
المفهوم القرآنی للإحیاء
یتحدث القرآن فی عدة مواضع عن الحیاة ومراتبها النباتیة والحیوانیة والإنسانیة، إلا أننا سنقتصر فی الحدیث عن وجهة نظر القرآن فی الحیاة الإنسانیة.
والقرآن الکریم عندما یتحدث عن الحیاة الإنسانیة التی یحیى بها الإنسان، یتجاوز دقات القلب ودورة الدم إلى حیاة بها یکون الإنسان حیاً، فیقسّم الناس إلى موتى وأحیاء، أما الموتى فهم الظالمون وکل من لا یؤمنون بالله ولا بالیوم الآخر، وأما الأحیاء فهم المؤمنون الذین هدى الله قلوبهم للإیمان: ﴿أَوَ مَن کَانَ مَیْتًا فَأَحْیَیْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا یَمْشِی بِهِ فِی النَّاسِ کَمَن مَّثَلُهُ فِی الظُّلُمَاتِ﴾(10).
﴿یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِکُم بِالْمَنِّ وَالأذَى کَالَّذِی یُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ یُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ کَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَیْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَکَهُ صَلْدًا لاَّ یَقْدِرُونَ عَلَى شَیْءٍ مِّمَّا کَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ یَهْدِی الْقَوْمَ الْکَافِرِین﴾(11).
﴿وَمَثَلُ الَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِیتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ کَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُکُلَهَا ضِعْفَیْنِ فَإِن لَّمْ یُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ﴾(12). فالحیاة التی یتحدث عنها القرآن حیاة یخرج بها الإنسان من ظلمات البهیمیة إلى نور الهدایة الإلهیة، ومن الموت الذی تکون فیه الأرض صلدة لا تتقبل الحق، إلى حیاة نورانیة تکون الأرض خصبة مستعدة لتحمل الرسالة الإلهیة: ﴿یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اسْتَجِیبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاکُم لِمَا یُحْیِیکُم﴾(13).
وأما من کان میتا فلا یستجیب لهذا النداء: ﴿إِنَّکَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِینَ﴾(14).
مظاهر المجتمع الحی
قد لا یمکننا فهم کنه الحیاة الإنسانیة لشدة تعقیدها، لکننا نحاول فهمها من خلال تلمّس بعض الآثار، فمن آثار هذه الحیاة:
1- الوعی والتحرک: کلما ازداد وعی المجتمع وروح الاندفاع والحرکة فیه کان أقرب للحیاة، وکلما قل إدراکهووعیه وخمدت فیه روح الحرکة کان أقرب إلى الموت، وهذا معیار هام لتمییز ما هو من الإسلام ممّا هو دخیل علیه، لأن الإسلام دین الحیاة والتقدم والوعی، ولا ینسجم أبدا مع الموت والفتور والجهل، لکن إذا نظرنا إلى واقعنا الیوم وجدنا أننا نحترم الساکن الراکد بدل أن نحترم ونقدر المتحرک، وهذا مظهر من مظاهر الانحطاط فی مجتمعنا.
2- الترابط والتضامن: بین أفراد المجتمع، وهو یزداد کلما کانت روح الحیاة نابضة أکثر فی المجتمع، وإذا ضعف هذا الترابط اتجه المجتمع نحو الموت، وهذا معیار آخر یمنحنا فهم مجتمعنا الإسلامی هل هو حی أو هو میت. فالمجتمع الإسلامی الواقعی مجتمع حیّ بسبب الترابط والتعاضد بین أفراده.
"مثل المؤمنین فی توادهم وتراحمهم کمثل الجسد إذا اشتکى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى"
هذه الحمى لیست عملیة مواساة فحسب، وإنما هی حالة نفیر عام لکل الأعضاء لمواجهة العدو الداهم على العضو المصاب.
بینما المجتمع الإسلامی المعاصر تمزقه الخلافات والصراعات الداخلیة التی یراهن علیها أعداء الإسلام، فأین المسلمون من الترابط؟ لقد بدأ الموت یدب فی جسد الأمة منذ أن استشرى بین أفرادها الانحراف والتفکک، فقد اقتطع الأعداء الأندلس وذلک الجزء العزیز من جسد الإسلام، ثم اقتطعوا فلسطین أُولَى القبلتین ولم یظهر من المسلمین أی ردّ فعل حقیقی ینبئ عن وجود حیاة فی سائر الأعضاء، والسبب هو الانغماس فی صراعات داخلیة وطائفیة، فأین المسلمون من قول الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله: "من سمع مسلما ینادی یا لَلمسلمین ولم یجبه فلیس بمسلم"(15).
3- تکریم الشخصیات الفکریة: الأحیاء منهم بالدرجة الأولى، لأن تکریم الأموات قد لا ینمّ عن ظاهرة حیاة، وخیر مثال على الشخصیات الحیة العلامة السید محمد حسین الطباطبائی(16)، فهو مثال التقوى والورع، وهو عالم مفکر قدّم للمسلمین علما واسعا لا سیما کتابه المیزان فی تفسیر القرآن، الذی یعتبر أفضل تفسیر کتب حتى الآن، مع الاعتراف بأهمیة التفاسیر الأخرى، وهو العالم الذی یعیش آلام الأمة وهمومها، ولا أدل على ذلک من موقفه تجاه القضیة الفلسطینیة، حیث تصدى لجمع تبرعات مالیة للأخوة الفلسطینیین، وهو الرجل الذی ذاع صیته خارج إیران، بل تجاوز العالم الإسلامی، والعلماء المسلمون یتوافدون علیه من کل حدب وصوب وقد زاره أخیرا الأستاذ علال الفاسی من المغرب معربا عن إعجابه بهذه الشخصیة العظیمة، کما أن المستشرقین على علم بمکانة وقدر هذا المفکر الإسلامی.
4- الارتباط بالتاریخ الثوری: وبالأفراد الذین صنعوا التاریخ بدمهم یؤکد أن المجتمع حیّ أبیّ الضیم لا ینثنی أمام التحدیات والصعاب، ومن هنا کانت تعالیم الأئمة علیهم السلام، تؤکد على مخاطبة الشهداء.
"یا لیتنا کنّا معکم فنفوز فوزاً عظیماً"
والبکاء على الشهید وإحیاء ذکراه: "کل یوم عاشوراء وکل أرض کربلاء"(17).
الخلاصة
لیست أحکام الدین میتة، وإنما هی العقول انحرفت فی تفکیرها عن الجادة المستقیمة، فکان لا بد من إحیاء لهذا التفکیر، وقد تعرض إقبال لمسألة إحیاء الفکر فی الإسلام، وقارن بین النظریات الغربیة وما یقدمه الإسلام للبشریة، وقال: "إن المجتمع البشری بحاجة إلى أمور
لکی یبقى حیا، وهذه الأمور موجودة فی الإسلام".
ثم یتعرض الشهید مطهری لسؤال وهو هل الإسلام موجود الیوم؟ لینطلق من خلال ذلک لتحدید معنى الإحیاء فی القرآن الکریم.
ثم یعرض أربعة معاییر للمجتمع الحی: الوعی والتحرک فی المجتمع، التضامن والترابط بین الأفراد، تکریم الشخصیات الفکریة لا سیما الحیة منها، وارتباط المجتمع بتاریخه الثوری والجهادی.
المصادر :
1- وما ورد فی الروایات عن دور الإمام المهدی الموعود "عجل الله تعالى فرجه الشریف"بشأن تجدید الدین، فإنما یعنی هذا اللون من التجدید، تجدید یتجه نحو إماتة البدعة وإحیاء السنة
2- نهج البلاغة ج1، ص202
3- میزان الحکمة ج2، ص109
4- میزان الحکمة ج2، ص22
5- الأنفال:24
6- إقبال هو من الشخصیات التی تصدت لمسألة الإصلاح الدینی
7- المؤمنون:115
8- البقرة:255
9- نهج البلاغة، ج1، ص209
10- الإنعام:182
11- البقرة:264
12- البقرة:265
13- الأنفال:24
14- النمل:80
15- أصول الکافی، ج3، ص239
16- وقد کان العلامة قدس سره حیّا أثناء إلقاء هذه المحاضرة
17- إن مفهوم إحیاء ذکرى الشهداء وبالخصوص سید الشهداء الإمام الحسین "علیه السلام " قد شوهت إلى حدّ کبیر، ولذلک فقدت عطاءها المطلوب، فلا بد من إعادة النظر فی تاریخهم لنستلهم منهم ما یعیننا على مواصلة طریقهم السامی