* مفصّل خطبة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) يوم الغدير (1) :
ربّما استغرقتْ خطبة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) في الغدير نحو ساعة ؛ لأنّها كانت شاملة ومفصّلة . وقد قسَّمناها إلى إحدى عشرة فقرة :
1 ـ العبوديّة والتسليم لله :
في الفقرة الأولى من الخطبة بدأ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بحمد الله والثناء عليه ، ذاكراً صفاته وقدرته ورحمته ، شاهداً على نفسه بالعبوديّة المطلقة أمام الذات المقدّسـة ، فقـال : ( وأُؤمِن به وبملائكته وكتبه ورسله ، أسمع لأمره وأطيع ، وأُبادِر إلى كلِّ ما يرضاه ، وأستسلم لِمَا قضاه ... ) .
2 ـ يا أيّها الرسول بلِّغ !
ثمّ أَلْفَتَ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) المسلمين إلى الهدف الأصلي من الخطبة ، وأخبرهم أنّ الوحي نزل عليه بهذه الآية : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... ) ( سورة المائدة : الآية : 67 ) ، وأنّي يجب عليَّ أنْ أبلغكم الأمر الإلهي في عليّ بن أبي طالب ، وإنْ لم أفعل فلا يؤمَن عليَّ من عذاب الله وعقابه !
ثمّ قال ( صلّى الله عليه وآله ) : ( إنّ جبرئيل هبط إليّ مراراً ثلاثاً يأمرني عن السلام ربّي وهو السلام أنْ أقوم في هذا المشهد ، فأُعْلِم كلّ أبيض وأسود أنّ عليّ بن أبي طالب أخي ووصيّي وخليفتي على أُمّتي والإمام من بعدي الذي محلّه منّي محلّ هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، وهو وليّكم بعد الله ورسوله ، وقد أنزل الله تبارك وتعالى عليَّ بذلك آية من كتابه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ( سورة المائدة : الآية : 55 ) ، وعلي بن أبي طالب الذي أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكعٌ يريد الله عزّ وجل في كلّ حال .
ثمّ قال : لا يرضى الله منّى إلاّ أنْ أبلِّغ ما أنزل الله إليّ في حقّ علىٍّ ) .
3 ـ البشارة النبويّة باثني عشر إماماً إلى آخر الدنيا :
وفي الفقرة الثالثة أعلن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) إمامة اثني عشر إماماً من عترته إلى آخر الدنيا ؛ لكي يقطع بذلك طمع الطامعين بالسلطة بعده نهائيّاً .
ومن أجل أنْ يدرك الناس أهمِّيّة هذه المسألة قال ( صلّى الله عليه وآله ) : ( إنّه آخر مقام أقومه في هذا المشهد ، فاسمعوا وأطيعوا وانقادوا لأمر الله ربّكم ، فإنّ الله عزّ وجل هو ربّكم ووليّكم وإلهكم ، ثمّ من دونه رسوله محمدٌ وليّكم القائم المخاطِب لكم ، ثمّ مِن بعدى عليٌّ وليُّكم وإمامكم بأمر الله ربّكم ، ثمّ الإمامة في ذرِّيَّتي من ولده إلى يوم القيامة ، يوم تلقون الله ورسوله ) .
ومن النقاط المهمّة في هذه الخطبة الشريفة بيان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) عصمة الأئمّة من بعده ونيابتهم عن الله تعالى ورسوله في أمور الدين والدنيا ، حيث قال ( صلّى الله عليه وآله ) : ( لا حلال إلاّ ما أحلّه الله ورسوله وهُم ، ولا حرام إلاّ ما حرَّمه الله عليكم ورسوله وهُم ، والله عزّ وجل عرَّفني الحلال والحرام ، وأنا أفضيتُ بما علَّمني ربّي من كتابه وحلاله وحرامه إليه .
معاشر الناس ، إنّه إمامٌ من الله ، ولنْ يتوب الله على أحد أَنْكَرَ ولايته .
معاشر الناس ، بي والله بشَّر الأوّلون من النبيّين والمرسلين ، وأنا والله خاتم الأنبياء والمرسلين والحجّة على جميع المخلوقين من أهل السماوات والأرضين ، فمَنْ شكّ في ذلك فقد كَفَر كُفْر الجـاهليّة الأُولى ، ومَنْ شكّ في واحد من الأئمّة فقد شكّ في الكلّ منهم ، والشاكّ فينا في النار .
أَلاَ إنّ جبرئيل خبَّرني عن الله تعالى بذلك ويقول : ( مَن عادى عليّاً ولم يتولِّه فعليّه لعنتي ) . فوالله لن يبيَّن لكم زواجره ولنْ يوضّح لكم تفسيره إلاّ الذي أنا آخذٌ بيده ومصعده إليَّ وشائلٌ بعضده ورافعه بيديَّ ، ومُعلِمكم أنَّ مَنْ كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه ، وهو عليّ بن أبي طالب أخي ووصيّي ، وموالاته من الله عزّ وجلّ أنزلها عليَّ ) .
ثمّ أوضح النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ببيانه الرائع ارتباط ركني الإسلام : القرآن والعترة ، فقال : ( معاشر الناس ، إنّ عليّاً والطيّبين من ولدي من صلبه هم الثقل الأصغر ، والقرآن هو الثقل الأكبر . فكلّ واحد منهما منبئٌ عن صاحبه وموافق له ؛ لنْ يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ) .
ثمّ قال بلهجة حاسمة تُبيِّن مقام صاحب الغدير : ( أَلاَ إنّه لا أمير المؤمنين غير أخي هذا ! أَلاَ لا تحلّ إمْرَة المؤمنين بعدى لأحد غيره ) .
4 ـ مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه :
عندما كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) واقفاً على المنبر إلى جانب النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) أدنى منه بمرقاة ، قال ( صلّى الله عليه وآله ) له : ( ادنُ منّي ) . فاقترب منه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فأمسك النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بعضديه ورفع عليّاً ( عليه السلام ) من مكانه حتّى حاذت قدماه ركبة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) وشاهد الناس بياض إبطيهما ، وقال : ( مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللّهم والِ مَن وَالاهُ ، وعادِ مَن عاداه ، وانصرْ مَنْ نَصَرَهُ ، واخذلْ مَنْ خَذَلَهُ ) .
وبعد هذا المقطع من الخطبة الشريفة أعلن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) للناس نزول ملك الوحي عليه يخبره عن إكمال الدين وإتمام النعمة بولاية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( اللّهم إنّك أنزلتَ الآية في عليٍّ وليِّك عند تبيين ذلك ونَصْبك إيّاه لهذا اليوم : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) ( سورة المائدة : الآية : 3 ) ، وقلتَ : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِـي الآَخِرَةِ مِـنَ الْخَاسِرِيـنَ ) ( سورة آل عمران : الآية : 85 ) ، اللّهم إنّي أُشْهِدُكَ وكفى بك شهيداً أنّي قد بلَّغتُ ) .
5 ـ إكمال الدين وإتمام النعمة بولاية علي ( عليه السلام ) :
في الفقرة الخامسة قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) : ( معاشر الناس ، إنّما أكمل الله عزّ وجل دينكم بإمامته ، فمَن لم يأتمَّ به وبمَن يقوم مقامه من ولدي من صُلْبه إلى يوم القيامة ، والعرض على الله عزّ وجل فأُولئك الذين حبطتْ أعمالهم وفي النار هم خالدون ، نبيّكم خير نبيٍّ ووصيُّكم خير وصيٍّ ، وبنوه خير الأوصياء .
معاشر الناس ! ذرِّيّة كلّ نبي من صلبه ، وذرِّيَّتي مِن صُلب عليٍّ .
أَلاَ إنّه لا يَبغض عليّاً إلاّ شقي ، ولا يوالي عليّاً إلاّ تقي ، ولا يؤمن به إلاّ مؤمنٌ مخلصٌ ) .
ونظراً إلى قوله تعالى في الآية : ( وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) ، قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) : ( معاشر الناس ، قد استشهدت الله وبلَّغتكم رسالتـي ، وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين .
معاشر الناس ، اتقوا الله حقّ تُقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون ) .
6 ـ تحذير المسلمين من مؤامرة السقيفة :
بعد أنْ تلا النبي ( صلّى الله عليه وآله ) عدّة آيات التحذير من العذاب واللعنة ، قال : ( بالله مـا عنى بهـذه الآية إلاّ قوماً من أصحابي أعرفهم بأسمائهم وأنسابهم وقد أُمرت بالصفح عنهم ؛ لأنّ الله عزّ وجل قد جعلنا حجّةً على المقصّرين والمعاندين والمخالفين والخائنين والآثمين والظالمين والغاصبين من جميع العالمين ) .
وفي هذا المقطع أشار ( صلّى الله عليه وآله ) إلى خلْق نوره ونور أهل بيته وقال : ( معاشر الناس ، النور من الله عزّ وجل مسلوكٌ فيَّ ، ثمّ في عليّ بن أبي طالب ، ثمّ في النسل منه إلى القائم المهدي ، الذي يأخذ بحق الله ... ) .
ثمّ أشار ( صلّى الله عليه وآله ) إلى أعدائهم الأئمّة الذين يُدْعَون إلى النار وقال : ( معاشر الناس ، إنّه سيكون من بعدي أئمةٌ يدعون إلى النار ، ويوم القيامة لا ينصرون .
معاشر الناس ، إنّ الله تعالى وأنا بريئان منهم .
معاشر الناس ، إنّهم وأنصارهم وأشياعهم وأتباعهم ، في الدرك الأسفل من النار ) .
ثمّ أشار النبي ( صلّى الله عليه وآله ) إلى وثيقة صحيفة المؤامرة التي كتبها بعض صحابته في حجّة الوداع في مكّة ووقَّعوا عليها ، فقال : ( أَلاَ إنّهم أصحاب الصحيفة ، فَلْينظر أحدكم في صحيفته ! وقد بَلَّغتُ مَا أُمِرْتُ بتبليغه ، حجّةً على كلّ حاضر وغائب ، وعلى كلّ أحد ممّن شَهِدَ أو لم يشهد ، وُلِدَ أو لم يُولد . فَلْيبلغ الحاضرُ الغائبَ ، والوالدُ الولدَ إلى يوم القيامة ) .
ثمّ قال : ( وسيجعلون الإمامة بعدى مُلْكَاً واغتصاباً . أَلاَ لعن الله الغاصبين والمغتصبين ) .
ثمّ ذكر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) قانون الامتحان الإلهي وعاقبة الغاصبين للخلافة فقال : ( معاشر الناس ، إنَّ الله عزّ وجل لم يكن ليذركم على ما أنتم عليه حتّى يميز الخبيث من الطيّب ، وما كان الله ليطلعكم على الغيب .
معاشر الناس ! إنّه ما من قرية إلاّ والله مهلكها بتكذيبها قبل يوم القيامة ومُمَلِّكها الإمام المهدي ، والله مصدقٌ وعده ) .
7 ـ فريضة مودّة أهل البيت ( عليهم السلام ) وولايتهم :
ثمّ بيَّن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بركات ولاية أهل البيت ( عليهم السلام ) ومحبّتهم ، وتلا على الناس سورة الحمد التي هي أُمّ الكـتاب وقـال : ( فيَّ نزلَت وفيهم والله نزلتْ ، ولهم عمَّت وإيّاهم خصَّتْ . أولئك أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ... ) .
ثمّ تلا ( صلّى الله عليه وآله ) آيات من القرآن الكريم تتحدّث عن أصحاب الجنّة ، وأوضح أنّ المقصود بهم الشيعة وأتباع أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ثمّ تلا ( صلّى الله عليه وآله ) آيات عن أصحاب النار وصرّح بأنّ المراد بهم أعداء أهل البيت ( عليهم السلام ) .
وممّا قاله ( صلّى الله عليه وآله ) : ( أَلاَ إنّ أولياءهم الذين يدخلون الجنّة بسلام آمنين ، تتلقّاهم الملائكة بالتسليم يقولون : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) ( سورة الزمر: الآية : 73 ) ) .
ثمّ نصّ على الأئمّة من بعده وعيَّنهم قائلاً : ( معاشر الناس ، أَلاَ وإنّي رسولٌ ، وعليٌّ الإمام والوصيّ من بعدي ، والأئمّة من بعده وُلده ، أَلاَ وإنّي وَالدهم وهم يَخرجون مِن صُلْبِهِ ) .
8 ـ بشارة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بالإمام المهدي عجّل الله فرجه :
وفي مقطع آخر من خطبة الغدير تطرَّق النبي ( صلّى الله عليه وآله ) إلى ذكر الإمام المهدي أرواحنا فداه ، فذكر أوصافه وبشَّر العالَم بالعدل والقسط على يده ، فقال : ( أَلاَ إنّ خاتم الأئمّة مِنّا القائم المهدي ، أَلاَ إنّه الظاهر على الدين ، أَلاَ إنّه المنتقِم من الظالمين ، أَلاَ إنّه فاتح الحصون وهادمها ، أَلاَ إنّه غالب كلّ قبيلة مِن أهل الشرك وهاديها .
أَلاَ إنّه المُدْرِك بكلّ ثار لأولياء الله ، أَلاَ إنّه الناصر لدين الله .
أَلاَ إنّه الغَرّاف مِن بَحْر عميق ، أَلاَ إنّه يَسِمُ كلّ ذي فضْل بفضله وكلّ ذي جهْل بجهله ، أَلاَ إنّه خيرة الله ومختاره ، أَلاَ إنّه وارث كلّ علْم والمحيط بكلّ فَهْم .
أَلاَ إنّه المُخْبِر عن ربّه عزّ وجل والمشيِّد لأمر آياته ، أَلاَ إنّه الرشيد السديد ، أَلاَ إنّه المُفوَّض إليه .
أَلاَ إنّه قد بشَّر به مَن سَلَفَ من القرون بين يديه ، أََلاَ إنّه الباقي حجّةً ولا حجّة بعده ، ولا حقّ إلاّ معه ولا نور إلاّ عنده .
أَلاَ إنّه لا غالب له ولا منصور عليه ، أَلاَ وإنّه وليُّ الله في أرضه ، وحَكَمه في خلقه ، وأمينه في سِرِّه وعلانيته ) .
9 ـ أمر النبي ( صلّى الله عليه وآله ) المسلمين ببيعة على ( عليه السلام ) :
ثمّ تطرَّق إلى مسألة البيعة وبيَّن أهمِّيَّتها وقيمتها وقال ( صلّى الله عليه وآله ) : ( فأمرتُ أنْ آخذ البيعة منكم والصفقة لكم بقبول ما جئتُ به عن الله عزّ وجل في عليّ أمير المؤمنين والأوصياء من بعده ، الذين هم منّي ومنه إمامةً فيهم قائمة ، خاتمها المهدي إلى يوم يلقى الله الذي يقدِّر ويقضي .
أَلاَ وإنّي قد بايعتُ الله ، وعليٌّ قد بايعني ، وأنا آخذكم بالبيعة له عن الله عزّ وجلّ . ثمّ قرأ : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) ( سورة الفتح : الآية : 10 ) .
10 ـ مستقبَل الأُمّة والمصاعب الثقيلة :
وفي خطبة الغدير تنبَّأ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بمستقبل المسلمين وما سيواجهونه من مصاعب ، وعيَّن لهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) المرجع في ذلك ، فقال ( صلّى الله عليه وآله ) : ( فإنْ طال عليكم الأَمَد فقصَّرتُم أو نسيتُم فعليٌّ وليّكم ومُبيّنٌ لكم ، الذي نصّبه الله عزّ وجلّ لكم بعدي أمين خلقه . إنّه منّي وأنا منه ، وهو ومَن تخلُف مِن ذرِّيَّتي يخبرونكم بما تسألون عنه ويبيِّنون لكم ما لا تعلمون .
ثمّ قال : معاشر الناس ، وكلّ حلال دَلَلْتُكُم عليه ، وكلّ حرام نهيتُكم عنه ، فإنّي لم أرجع عن ذلك ولم أُبدِل ، أَلاَ فاذكروا ذلك واحفظوه وتواصَوا به ولا تبدّلوه ولا تغيّروه ... ) .
كما أوجب النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) على المسلمين إبلاغ خطاب الغدير إلى غيرهم تطبيقاً ؛ لأنّه أعظم مصداق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقال : ( أَلاَ وإنّ رأس الأمر بالمعروف أنْ تنتهوا إلى قولي ، وتبلِّغوه مَن لم يحضر ، وتأمروه بقبوله عنّي وتنتهوه عن مخالفته ، فإنّه أمرٌ من الله عزّ وجلّ ومِنّى ، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر إلاّ مع إمام معصوم ) .
11 ـ الإيمان والرضا بالأئمّة الاثني عشر من العترة :
في آخر فقرة من الخطاب النبوي أخذ ( صلّى الله عليه وآله ) في أمر البيعة قائلاً : ( معاشر الناس ، إنّكم أكثر من أنْ تصافقوني بكفٍّ واحد في وقت واحد ، وقد أمرني الله عزّ وجلّ أنْ آخذ من ألْسنتكم الإقرار بما عقَّدتُ لعليٍّ أمير المؤمنين ولمَن جاء بعده من الأئمّة منّي ومنه على ما أعلمتُكم أنّ ذرِّيَّتي من صلبه ، فقولوا بأجمعكم :
إنّا سامعون مطيعون راضون منقادون لِمَا بلَّغتَ عن ربّنا وربّك في أمر إمامنا عليّ أمير المؤمنين ومَن ولدتَ مِن صُلْبِهِ ، نبايعك على ذلك بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا ، على ذلك نحيى وعليه نموت وعليه نُبعث ، ولا نغيِّر ولا نبدِّل ، ولا نشكُّ ، ولا نجحد ولا نرتاب ، ولا نرجع عن العهد ، ولا ننقض الميثاق ، وعظتنا بوعظ الله في عليّ أمير المؤمنين والأئمّة الذين ذكرتَ من ذرِّيَّتك مِن وُلده بعده : الحسن والحسين ومَن نصّبه الله بعدهما ، فالعهد والميثاق لهم مأخوذٌ منّا ، .من قلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وضمائرنا وأيدينا ، مَن أدركها بيده وإلاّ فقد أقرَّ بلسانه ، ولا نبتغى بذلك بَدَلاً ولا يرى الله من أنفسنا حِوَلاً ، نحن نؤدّي ذلك عنك الداني والقاصي مِن أولادنا وأهالينا ، ونُشهد الله بذلك وكفى بالله شهيداً وأنت علينا به شهيدٌ ) .
فاستجاب المسلون وفعلوا ما أمرهم به النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) وردَّدوا ما قاله ، وتمَّت البيعة العامّة بهذه الصورة ، والنبيّ ( صلّى الله عليه وآلـه ) واقف على المنبر .
وطلب ( صلّى الله عليه وآله ) منهم أنْ يشكروا الله على هذه النعمة حيث إنّ الله تعالى لم يوكلهم إلى أنفسهم في اختيار خليفة ، بل اختار لهم الأصلح بعلمه وألزمهم بالقبول .
وفي ختام الخطبة الشريفة دعا النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) للمبايعين كما دعا على المعاندين ، وختم خطبته الشريفة بالحمد لله ربّ العالمين .
* * *
* مراسيم الغدير في أيّامه الثلاث :
التهنئة بالولاية (2) :
وبعد انتهاء النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) من خطبته ضجّ الناس قائلين : ( نعم ، سمعنا وأطعنا لأمر الله ورسوله بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا ) .
ثمّ إنّهم ازدحموا على النبيّ وأمير المؤمنين ( عليهما السلام ) وتسابقوا لإعطاء البيعة لعليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وهنا قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) : ( الحمد لله الذي فضّلنا على جميع العالمين ) .
ومن الواضح أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) لم يفرح في كلّ انتصاراته وفتوحاته كما فرح في يوم الغدير ، حيث أمر المسلمين بتهنئة علي ( عليه السلام ) لمقام الإمامة وقال : ( إنّ الله خصَّني بالنبوّة وأهل بيتي بالإمامة ) .
وقد قال عمر بن الخطاب لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) في ذلك اليوم بعد بيعته له : ( بَخٍ بَخٍ لك يا علي ! هنيئاً لك يا أبا الحسن ! فقد أصبحتَ مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ) !
وأمر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) مناديه أنْ يمشي بين الناس ويُكرّر عليهم جوهر بيعة الغدير بهذه العبارة : ( مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللّهم والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، واخذلْ مَن خَذَلَهُ ) .
بيعة الرجال (3) :
وكان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قد وعدهم ضمن خطبته بأنّه سوف يأخذ منهم البيعة حين الانتهاء من الخطبة الشريفة وقال : ( أَلاَ وإنّي عند انقضاء خطبتي أدعوكم إلى مصافقتي على بيعته ، والإقرار به ، ثمّ مصافقته بعدي . أَلاَ وإنّي قد بايعتُ الله وعلي قد بايعني ، وأنا آخذكم بالبيعة له عن الله عزّ وجلّ ) .
إنّ بيعة الغدير تعني الالتزام والعهد والوفاء لولاية الأئمّة المعصومين الاثني عشر ( عليهم السلام ) وقد أقرَّ بها جميع المسلمين بحضور النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) .
ومِن أجل تأكيد البيعة شرعيّاً ورسميّاً أمر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بعد الانتهاء من البيعة أنْ تُنْصَب خيمتان : أحدهما خاصّة به ، والأُخرى لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأمره بالجلوس فيها ، وأمر الناس بأن يهنّئوه ويبايعوه .
وأقبل الناس مجاميع ، كلّ مجموعة تدخل أوّلاً إلى خيمة الرسول الأعظم ( صلّى الله عليه وآله ) ويبايعونه ويباركون له هذا اليوم ، ثمّ يذهبون إلى خيمة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ويهنئونه ويبايعونه بخلافة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) والإمامة مِن بعده ، ويسلِّمون عليه بإمرة المؤمنين .
واستمرّت المراسم ثلاثة أيّام حتّى شارك جميع المسلمين في البيعة .
ومن جملة الأشخاص الذين بايعوا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في يوم الغدير ، أولئك الذين سارعوا إلى نقض بيعته بعد وفاة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) وانقلبوا على أعقابهم كما أخبر الله تعالى .
كما أنّ أبا بكر وعمر قالا لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : هل إنّ هذا الأمر من الله أو من رسوله ؟! فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآلـه ) : ( نعم ، حقّاً مِن الله ورسوله ) !!
بيعة النساء (4) :
وأمر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) النساء كذلك بالبيعة لعليّ ( عليه السلام ) بإمرة المؤمنين وتهنئته ، وقد أكَّد ذلك بصورة خاصّة على زوجاته وأَمَرَهُنّ أنْ يذهبْنَ إلى خيمته ويُبَايِعْنَهُ !
فأمر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بإحضار إناء كبير فيه ماء ، وأنْ يُضرب عليه بستار بحيث إنّ النساء كنَّ يضعْنَ أيديهنّ في الإناء خلف الستار ، وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) يضع يده في الإناء من الجانب الآخر ، وبهذه الصورة تمّت بيعة النساء .
فبايعتْه الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، وكذا نساء النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) جميعهنّ ، وأُمّ هاني أُختْ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وفاطمة بنت حمزة عمّ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، وأسماء بنت عميس ، كما بايعه سائر النساء الحاضرات .
تاج الإمامة لعلي ( عليه السلام ) عمامة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) (5) :
كان من عـادات العـرب أنّهـم إذا أرادوا الإعلان عن رئاسة شخص على قبيلة أو طائفة منهم ، وضعوا عمامةً على رأسه ، وفي الحالات المهمّة يقوم كبير القوم بوضع عمامته على رأس ذلك الشخص ، لإظهار شدّة اعتماده عليه ووثاقته به .
ولهذا رأينا الرسول الأعظم ( صلّى الله عليه وآله ) في يوم الغدير أهدى عمامته التي تُسمّى ( السحاب ) ووضعها على رأس أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وألقى بحنكها على كتفه وقال : ( العمامة تاجُ الملائكة ) !
وقد تحدَّث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن ذلك فقال : ( ألبسني رسولُ الله ( صلّى الله عليه وآله )عمامته ، واضعاً طرفها على كتفي وقال لـي : ( إنّ الله تعالى أمدَّني في بَدْر وحُنَيْن بملائكة على رؤوسهم مثل هذه العمامة ) ) .
تسليم النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) مواريث الأنبياء إلى صاحب الولاية (6) :
بعد الانتهاء من مناسك الحجّ نزل الأمر الإلهي على النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بهذا الخطاب : ( قد قُضِيَتْ نبوّتك واسْتُكْمِلَتْ أيّامُك ، فاجعل الاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوّة عند عليّ بن أبي طالب ، فإنّي لا أترك الأرض إلاّ وَلِيَ فيها عالِم تُعرَف به طاعتي وتُعرف ولايتي ) .
وتتكوّن آثار علم الأنبياء مِن : صحف آدم وإبراهيم والتوراة والإنجيل ، وكلّ ما نزل مِن عند الله تعالى على أنبيائه من صحفٍ ، وعصا موسى ، وخاتم سليمان ، وغيرها من المواريث التي لم تكن إلاّ لدى حجج الله تعالى في الأرض ، حتّى وصلتْ إلى خاتم الأنبياء ( صلّى الله عليه وآله ) لتكون بعده عند أوصيائه ( عليهم السلام ) .
فدعا النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأودعه تلك الودائع الإلهيّة ، ومنه انتقلتْ إلى الأئمّة من ذرِّيَّته حتّى وصلتْ إلى الإمام الثاني عشر بقيّة الله الأعظم ( عليه السلام ) وهي الآن في حِرْزِهِ .
قصيدة حسان في الغدير (7) :
وفي ذلك اليوم تقدَّم حسّان بن ثابت ـ الشاعر ـ إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) واستأذنه قائلاً : يا رسول الله ، أتأذن لي أنْ أقول في هذا المقام ما يرضاه الله ؟ فقال له : ( قل يا حسّان على بركة الله ) .
وألقى حسّان قصيدته في ذلك المكان لتبقى سنداً حيّاً وتاريخيّاً لواقعة الغدير ، فكان ممّا قال :
أَلَمْ تعلموا أنّ النبيّ محمّداً لدى دَوْحِ خمٍّ حين قام مناديا
وقد جاءه جبريلُ مِن عندِ ربِّه بأنّك معصومٌ فلا تَكُ وَانِيَا
وبلِّغْهُمُ ما أنزل اللهُ ربُّهم وإنْ أنت لم تفعل وحاذرتَ باغيا
عليك ، فما بلَّغتَهم عنْ إلههم رسالتَه إنْ كنتَ تخشى الأعاديا
فقامَ به إذْ ذاك رافعَ كفِّه بيُمنى يديه مُعْلِنَ الصوتِ عاليا
فقال لهم : مَنْ كنتُ مولاه منكمُ وكان لقولي حافظاً ليس ناسيا
فمولاه من بعدى عليٌّ وإنّني به لكُمُ دون البريّة راضيا
فيا ربّ مَن وَالَى عليّاً فوالِهِ وكُنْ للّذي عادى عليّاً عاديا
ويا ربّ فانصرْ ناصريه لِنَصْرِهِم إمام الهدى كالبدْر يجلو الدَيَاجِيَا
ويا ربّ فاخْذُلْ اذليه وكنْ لهمْ إذا وقفوا يوم الحساب مكافيا
وبعد أنْ انتهى حسّان مِن إلقاء قصيدته قال له رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : ( لا تزال يا حسّان مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك ) .
حضور جبرئيل في يوم الغدير (8) :
اتّفق المسلمون على ظهور الملائكة على شكل البشر في موارد خاصّة ؛ لإبلاغ رسالة خاصّة تتعلّق بهداية الناس ، وقد حدث ذلك في الغدير بعد أنْ أتمَّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) خطبته وذلك تأييداً للحجّة على الناس .
فقد ظهر جبرئيل بشكل رجل حسن الصورة طيّب الريح واقفاً بين الناس ، وقال : ( تاللهِ ما رأيتُ كاليوم قط ! ما أشدَّ ما يؤكِّد لابن عمّه ! إنّه يعقد له عقداً لا يحلُّه إلاّ كافر بالله العظيم وبرسوله الكريم ، ويل طويل لِمَن حلَّ عقده ) ! قال : فالتفتَ إليه عمر حين سمع كلامه فأعجبتْه هيئته ، ثمّ التفت إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) وقال : أَمَا سمعتَ ما قال هذا الرجل ؟ فقال ( صلّى الله عليه وآله ) : ( يا عمر أتدري مَن ذلك الرجل . قال : لا . قال ( صلّى الله عليه وآله ) : ذلك روح الأمين جبرائيل ! فإيّاك أنْ تحلّه ، فإنّك إنْ فعلتَ ، فالله ورسوله وملائكته والمؤمنون منك براء ) !!
المعجزة الإلهيّة في الغدير (9) :
إنّ ما جرى في الغدير من بيان للناس يعتبر أكبر خطاب إلهي في الإسلام ، وهو إبلاغ أمْر ولاية أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وفي موارد كثيرة نلاحظ أنّ الله تعالى ومِن أجل إتمام الحجّة على الناس يُظهِر المعجزات على يد النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ؛ لكي تَطْمَئِنّ القلوب أكثر .
وفي الغدير أجرى الله معجزة على يد رسوله الكريم ؛ لتكون إمضاءً إلهيّاً لولاية عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ففي اليوم الثالث من الغدير جاء رجل اسمه الحارث الفهري مع اثني عشر رجلاً من أصحابه إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وقال : يا محمّد ، أمرتنا عن الله أنْ نشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله فقبلناه ، وأمرتنا أنْ نُصلّي خَمْسَاً فقبلناه ، وأمرتنا بالحجّ فقبلناه ، ثمّ لم ترضَ بذلك حتّى رفعتَ بضِبْع ابن عمّك ففضَّلته علينا وقلـتَ : ( مَن كنتُ مولاه فعليّ مولاه ) . أهذا شي من عندك أَمْ مِن الله ؟ فقال ( صلّى الله عليه وآله ) : ( والله الذي لا إله إلاّ هو ، إنّ هذا من الله ) .
فولَّى الحارث يريد راحلته وهو يقول : ( اللّهم إنْ كان ما يقول محمّدٌ حقّاً فأَمْطِر علينا حجارةً من السماء أو ائْتِنَا بعذاب أليم ) (10) .
فما وصل إليها حتّى رماه الله بحَجَر; فسقط على هامته وخرج من دُبُرِهِ فقتله ، وأنزل الله تعالى : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) ( سورة المعارج : الآيات 1 ـ 3 ) .
فالتفت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) إلى أصحابه وقال : ( رأيتُم ؟ قالوا : نعم . قال : وسمعتم ؟ قالوا : نعم .
قال : طوبى لِمَنْ تولاّه ، والويل لِمَنْ عاداه ، كأنّي أنظر إلى عليّ وشيعته يوم القيامة يُزفُّون على نوقٍ مِن رِياض الجنّة ، شباب متوَّجون مكحَّلون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، قد أُيِّدوا برضوان من الله أكبر ، ذلك هو الفوز العظيم ، حتّى سكنوا حظيرة القدس من جوار ربّ العالمين ، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذُّ الأعين وهم فيها خالدون . ويقول لهم الملائكة : ( سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) ) .
وبهذه المعجزة ثبت للجميع أنّ أمر الغدير صادر من منبع الوحي ، وأنّه أمر من الله عزّ وجلّ .
كما اتّضح الحقّ لجميع المنافقين الذين كانوا يفكّرون مثل تفكير الحارِث ، ويتصوّرون أنّهم مؤمنون بالله ورسوله ، ولكنّهم مع ذلك كانوا يقولون بصراحة : نحن لا نطيق ولايته علينا !
فكان هذا الجواب الإلهي الفوري والقاطع قد أثبت أنّ كلّ مَن لا يقبل ولاية عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) فإنّه مُنْكِر لكلام الله وكلام رسوله الأعظم ( صلّى الله عليه وآله ) .
اختتام مراسيم الغدير (11) :
وهكذا تمّت مراسم الغدير في ثلاثة أيّام ، وعُرِفَتْ بعد ذلك بـ ( أيّام الولاية ) ، وبقيتْ أحداثها راسخة في الأذهان .
ثمّ توجَّه النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) إلى المدينة بعد أنْ أوصل أمانة النبوّة إلى مقصدها ، وتوجَّهتْ جموع المسلمين والقبائل متوجّهين إلى مناطقهم وديارهم .
وقد انتشر خبر الغدير بسرعة في المدن والمناطق ، وتسامع الناس ببيعة الغدير وخطبته ، وبذلك أيضاً أتمّ الله تعالى حجّته على عباده كما قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( ما علمت أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ترك يوم الغدير لأحد حجّة ولا لقائل مقالاً ) (12) .
* * *
* نشاط المنافقين ضدّ صاحب بيعة الغدير :
من الأمور الواضحة في السيرة النبويّة أنّ السبب الأساسي لتكذيب قريش للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ليس هو إيمانها بأصنامها : هبل واللات والعُزّى ومناة ؛ بل لأنّ التصديق له والإيمان به يعنى أنْ تخضعوا لنبوّته وتكون الزعامة لأهل بيته .
وعندما أمر الله تعالى نبيّه بقوله : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ( الشعراء : 214 ) ، وأمره أنْ يختار منهم وزيراً منهم ، فدعاهم ـ وكانوا أربعين رجلاً ـ وعرض عليهم ما جاء به وبشَّرهم بخير الدنيا والآخرة ، وطلب منهم شخصاً يكون وزيره ووصيّه وخليفته من بعده ، فلم يقبل ذلك منهم إلاّ علي ( عليه السلام ) ، فاتَّخذه وزيراً ووصيّاً وخليفة وأمرهم بطاعته !
ولا بدّ أنّ الخبر شاع في قريش والعرب بأنّ محمّداً اتّخذ ابنَ عمّه عليّاً وزيراً وخليفة ، فكان نبأً عظيماً عليهم ؛ لأنّه يعني أنّ الزعامة من بعده ستكون لأهل بيته .
وقد ازداد حَسَدُ قريش لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وحِقْدهم عليه بسبب بطولاته في معارك الإسلام وقتْله أبطالهم .
وبعد فتح مكّة وهزيمة قريش ودخولهم في الإسلام تحت السيف ودعوة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) لهم أنْ يُشاركوا في حروب الإسلام ودولته ... بدأوا بالتخطيط لأخْذ خلافة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) من بعده ، وإبعاد علي ( عليه السلام ) وعترة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) عن الخلافة .
ولا يتَّسع المجال لذكر ما فعلوه من أجل تحقيق هدفهم الشيطاني ، ولكن نشير إلى معاهداتهم ضدّ خلافة أهل البيت ( عليهم السلام ) ومحاولاتهم المتكرّرة اغتيال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) !
المعاهدة الأولى ضدّ بيعة الغدير (13) :
وعندما أحسّوا بقرب وفاة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) زاد نشاطهم وتخطيطهم لغصب خلافته ، وكتبوا فيما بينهم الصحيفة الملعونة !
بدأت هذه الصحيفة بعهد وميثاق بين اثنين منهم اتّفقا بينهما : ( إنْ مات محمّد أو قُتل نزوي الخلافة عن أهل بيته ما حيينا ) !!
ثمّ انضمّ إليهما ثلاثة آخرون وعقدوا معاهدتهم في جوار الكعبة ، وكتبوها في صحيفة ودفنوها في مكان داخل الكعبة !!
وكان فيهم معاذ بن جبل وهو من كبار الأنصار ، فقال لهم : ( أنا أكفيكم قومي الأنصار ، فاكفوني قريشاً ) . وبما أنّ الخطر عليهم كان من سعد بن عبادة الأنصاري ـ زعيم الأوس والخزرج ـ توجّهوا إلى منافسيه من الأوس واتّفقوا مع بشير بن سعيد وأسيد بن حُضَيْر !
محاولة قتل النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بعد بيعة الغدير (14) :
خطَّط أصحاب الصحيفة الملعونة الخمسة ومعهم تسعة آخرون لقتْل النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ، وهو متوجّه إلى المدينة بعد بيعة الغدير ! وكانت مؤامراتهم ليلة العقبة بأنْ يصعدوا جبلاً في الليل ويكمنوا حتّى يمرَّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ، فيلقوا عليه الصخور من أعلى الجبل ! واختاروا هذه المرّة ( عقبة هَرْشَى ) لمؤامراتهم .
وعندما وصل النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) إلى سفح جبل هَرْشَى بدأ هؤلاء المنافقين يلقون الصخور الكبيرة عليه ، وكان راكباً على ناقته وعمّار يمسك بخطامها يقودها وحذيفة يسوقها ، كما كان الحال في عقبة تبوك .
ووقفت الناقة بإذن الله تعالى ولم تصبْها الصخور وسَلِمَ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) وأضاء الجبل ، فكشف الله المنافقين ، فانسلُّوا هاربين ودخلوا في قافلة المسلمين !
وقد أمر الله نبيّه أنْ لا يكشفهم لعامّة المسلمين ولا يُعاقبهم ؛ خشية أنْ تَعلن قريش ارتدادها عن الإسلام !
المعاهدة الثانية ضد بيعة الغدير (15) :
وبعد وصول النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) إلى المدينة كثرت اجتماعات المنافقين ومشاوراتهم ، ووسَّعوا عدد الذين دخلوا معهم في معاهدة الصحيفة الملعونة ، وكتبوا صحيفة جديدة وأودعوها عند أحدهم ليأخذها إلى مكّة ويدفنها داخل الكعبة !
جيش أسامة .. آخر عمل للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ضدّ المنافقين (16) :
وكان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) مطَّلعاً على نواياهم ونشاطهم ، فأمره الله تعالى أنْ يجمعهم في جيش أسامة ويرسلهم إلى مؤتة ، حتّى تكون المدينة خالية منهم عند وفاته .. ولكنّهم أفشلوا جيش أسامة وتسلَّلوا إلى المدينة ومنعوا النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) أنْ يكتب كتاباً يُؤمِن أُمَّتَه مِن الضلال .
وما أنْ توفّي النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) حتّى نفَّذوا مؤامراتهم في السقيفة ، مستغلّين انشغال عليّ وأهل البيت ( عليهم السلام ) بجنازة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) .
* * *
ورغم كلّ مؤامرات قريش وظلمهم لأهل بيت النبيّ ( عليهم السلام ) الطاهرين فإنّ بيعة الغدير تبقى لازمة في أعناقهم وسوف يُسألون عنها يوم القيامة !
وسيبقى الأبرار من هذه الأُمّة أوفياء لنبيّهم ، مطيعين له في وصيّته بالقرآن والعترة وتبليغه ولاية أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) من بعده ، وما ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وحي يُوحَى .
ونحن علينا في عصرنا أنْ نوصل خطاب الغدير ونكشف حقائقه للمسلمين ؛ لتبقى راية الولاية مرفوعة خفّاقة عالية ، رغم كلّ المؤامرات على صاحب الغدير وأتباعه .
اللّهم لك الحمد على نعمة الغدير وولاية الأمير ... والحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين والأئمّة المعصومين من ولده ، صلوات الله عليهم أجمعين .
* * *
ــــــــــــــــــــــــــ
* المصدر : هذا المقال مقتبس من كتاب ( بيعة الغدير ) ، لمؤلِّفه محمّد باقر الأنصاري ـ مأخوذ من مكتبة مركز الأبحاث العقائديّة مع تصرّفٍ يسير . [ اقتباس شبكة الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي ]
1 ـ روضة الواعظين : ج 1 ، ص 89 . الاحتجاج : ج 1 ، ص 66 . اليقين : ص 343 ، باب 127 . نزهة الكرام : ج 1 ، ص 186 . العدد القوية : ص 169 . التحصين : ص 578 ، باب 29 من القسم الثاني . الصراط المستقيم : ج 1 ، ص 169 ، نقلاً عن كتاب الولاية تأليف المؤرّخ الطبري . نهج الإيمان : ص 92 ، نقلاً عن كتاب الولاية تأليف المؤرّخ الطبري . بحار الأنوار : ج 37 ، ص 201 ـ 207 . إثبات الهداة : ج 2 ، ص 114 / ج 3 ص 558 .
2 ـ بحار الأنوار : ج 21 ، ص 387 . أمالي الشيخ المفيد : ص 57 .
3 ـ بحار الأنوار : ج 21 ، ص 387 / ج 28 ، ص 90 / ج 37 ، ص 127 ، 166 . الغدير : ج 1 ، ص 58 ، 271 ، 274 . عوالم العلوم : ج 15/3 ، ص 42 ، 60 ، 65 ، 134 ، 136 ، 194 ، 195 ، 203 ، 205 .
4 ـ بحار الأنوار : ج 21 ، ص 288 . عوالم العلوم : ج 15/3 ، ص 309 .
5 ـ الغدير : ج 1 ص 291 . عوالم العلوم : ج 15/3 ، ص 199 . إثبات الهداة : ج 2 ، ص 219 ح 102 .
6 ـ بحار الأنوار : ج 48 ، ص 96 ، ج 37 ، ص 202 ، ج 40 ، ص 216 .
7 ـ بحار الأنوار : ج 21 ، ص 388 / ج 37 ، ص 112 ، 166 ، 195 . عوالم العلوم : ج 15/3 ، ص 41 ، 98 ، 144 ، 201 . كفاية الطالب : ص 64 .
8 ـ بحار الأنوار : ج 37 ، ص 120 ، 161 . عوالم العلوم : ج 15/3 ، ص 85 ، 136 .
9 ـ بحار الأنوار : ج 37 ، ص 136 ، 162 ، 167 . عوالم العلوم : ج 15/3 ، ص 56 ، 57 ، 129 ، 144 . الغدير : ج 1 ، ص 193 .
10 ـ ولقد حكى الله تعالى قوله في الآية 32 من سورة الأنفال حيث يقول : ( وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) .
11 ـ بحار الأنوار : ج 37 ، ص 136 / ج 39 ، ص 336 / ج 41 ص 228 . عوالم العلوم : ج 15/3 ، ص 68 . كشف المهم : ص 109 . بصائر الدرجات : ص 201 .
12 ـ بحار الأنوار : ج 28 ، ص 186 . إثبات الهداة : ج 2 ، ص 115 .
13 ـ بحار الأنوار : ج 17 ، ص 29 / ج 28 ، ص 186 / ج 36 ، ص 153 / ج 37 ، ص 114 ، 135 . كتاب سليم : ص 816 ، ح 37 . عوالم العلوم : ج 15/3 ، ص 164 .
14 ـ بحار الأنوار : ج28 ، ص 99 ، 100 / ج37 ، ص 115 ، 135 . عوالم العلوم : ج 15/3 ، ص 304 . إقبال الأعمال : ص 458 . راجع عن محاولتهم قتله ( صلّى الله عليه وآله ) في عقبة تبوك : بحار الأنوار : ج 21 ، ص 185 ـ 252 .
15 ـ بحار الأنوار : ج 28 ، ص 102 ـ 111 .
16 ـ بحار الأنوار : ج 28 ، ص 107 ـ 108