كُتب الكثير الكثير عن الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآله من أُمّته ومن خارج هذه الأُمّة ، منذ أن ظهر إلى الوجود بشخصه المبارك ، ولا سيما بعد أن بدأ دعوته الإسلاميّة الميمونة.
فكان القمّة الإنسانيّة التي لا تُرتقى ، بل ينظر إليها كما النجوم في السماء ، لا بل هو شمس الوجود وقطب دائرتها النوراني.
ولطالما أُعجب به البشر من كلّ صنف ونوع من بني آدم على مختلف الألوان والقوميّات في الدنيا ، ومختلف الأديان والانتماءات العقائديّة كذلك ، حتّى أنّ الكفّار وأهل الشرك اعترفوا بعظمته وعلوّ مكانته على أقرانه ، ولا أقران له كما نعتقد.
ولذا تراهم كلّما كتب كاتب عن الأنبياء والعظماء والمصلحين والأطهار ، ترى اسم النبيّ محمد صلىاللهعليهوآله يكون على قمّة الهرم كما يقول الكاتب الغربي المشهور (مايكل هارت) في كتابه (المائة الأوائل).
نعم ، لقد بهر العقول وحيّر الألباب بعظمته وعلوّ همّته ، ورسالته التي نعتنق وندين لله بها ، وكم كتب النصارى عن شخصيّة الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله ؛ معبّرين عن مدى إعجابهم وحبّهم لذاك الرمز الخالد الذي جعله الله للبشرية
قدوة وأسوة بقوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (1).
هذا هو البشير النذير والسراج المنير. هذا هو العلم الشامخ والنور الباهر. هذا هو الرسول العظيم والنبي الكريم هو خاتم الأنبياء ، وسيد البشر من الأوّلين والآخرين الذي أفرده الله سبحانه بالرسالة الخاتمة ، وقال عنه : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (2).
إنّ المتأمّل في هذه الجملة النورانيّة ، وهذا الوصف الكريم لرسول الله صلىاللهعليهوآله يرى أنّه تفرّد به دون غيره من الأنبياء والرسل عليهمالسلام.
فكلّ نبيّ كان يبشّر قومه بالرسول الذي بعده ، وكلّ رسول كان يبشّر بالرسول الذي يليه ، وجميعهم كانوا يبشّرون بالرسول الخاتم المصطفى محمد صلىاللهعليهوآله ، فمن نوح عليهالسلام إلى إبراهيم الخليل عليهالسلام ، ومنه إلى موسى الكليم عليهالسلام وعيسى المسيح عليهالسلام الذي قال مبشّراً : (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (3).
فكلّهم كانوا محطّات نورانيّة وأساسيّة في الحركة التكامليّة والمسيرة الرساليّة في بني البشر ، ولكن عندما وصلت إلى المحطّة النهائيّة والرسول الخاتم صلىاللهعليهوآله كانت قد وصلت إلى القمّة ؛ إذ أنّه ليس بعده نبيّ ولا رسول ، وليس بعد رسالته رسالة تنزل من السماء إلى الأرض لتخلّص البشريّة من العذاب والعناء.
فـ (محمد رسول الله) أي أنّه صلىاللهعليهوآله هو الذي يستحق أن يُطلق عليه هذا الوصف دون غيره. فمحمد رسول الله صلىاللهعليهوآله وكفى به رسولاً ، وإذا ذكر هو يذهل الإنسان عن كلّ رسول غيره.
أقول : نعم ، إنّ الرسول الحقّ هو محمد دون غيره ، رغم أنّ إخوانه من الرسل السابقين كانوا حقائق موجودة ، ولكن إذا ذُكر العظيم ذُهل عمَّن هم أقلّ منه عظمة.
فكيف تعامل الفكر السلفي والوهابي مع هذا الرسول الكريم صلىاللهعليهوآله؟! كيف تناولوا ذكره ووصفه ، والصلاة عليه ، وسيرته وسنّته؟!
وكيف بالتالي تعاملوا مع أهله الأطهار الأبرار عليهمالسلام وذريّته المباركة؟!
تلك هي المعضلة الكبرى ، أن تقرأ ما يقولونه أو يطرحونه حول ذاك الحبيب الإلهي وأهل بيته وخاصّته وذريّته الكرام (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
إنّ أصحاب هذه الدعوة أرادوا أن يصنعوا إسلاماً مشوّهاً على مقاساتهم وأفكارهم ، مستفيدين من الدين وسماحته ، فراحوا (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) (4) ، ويلفِّقون الأحاديث ، ويخترعون الأخبار والروايات الكاذبة ، ويجتزئون ويقطعون المرويّات الصحيحة والمتواترة في هذه الأُمّة المرحومة.
عمدوا إلى الاُصول فشوَّهوها ، وإلى الفروع فحرَّفوها ، وإلى السَّنن فبتروها ، فكان لديهم مسخ باطل سمّوه ديناً. يتعلّقون بالقشور ويتركون اللباب ، يبهرهم المصباح ولا يسألون عن الكهرباء التي نوّرته ، حتّى إنّ أكابرهم وفي أواخر القرن العشرين أنكروا المسلّمات التي عرفها صبياننا ، ككروية الأرض ودورانها حول نفسها أو حول الشمس.
فهل سمعت بهذا من قبل؟! أو قرأت كهذا في مثل هذا العصر؟
إنّ هذه الأمّة لم تقدّر رسول الله صلىاللهعليهوآله حقّ قدره ، وأمّا هؤلاء فسأدع الحكم عليهم إليك عزيزي القارئ ، وإليك الكلام وبعض أطرافه فقط.
محمد طارش وليس بسيّد!
سيّدنا رسول الله محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآله خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين.
كم قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» (5) كما روته كتب السيرة والسنن؟ ومن البديهي المتعارف أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله سيّد البشر من أُمّة ربيعة ومضر ، لا بل من كلّ البشر.
فهو السيّد المطاع ، والقائد المعظّم ، وهذا ما لم يرق لأصحاب الفكر الوهابي السلفي ، فقالوا : لا يجوز إطلاق لفظ السيادة على رسول الله صلىاللهعليهوآله.
لا بل تجرّأ أحد المتأخّرين إلى القول : إنّه يجوز إطلاق لفظ السيادة على أيّ إنسان إلاّ سيّدنا رسول الله صلىاللهعليهوآله ، بدعوى أنّ هذا يجرّ إلى عبادته من دون الله تعالى.
كيف نعبد رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا أطلقنا عليه لفظاً يمكن أن نطلقه على كلّ أحد ، وهو الجدير بهذا الوصف دون غيره ، هذا الذي لا أدريه ولا أعرف كيف توصّلت عبقرية ذاك الأستاذ إليه؟!
رسول الله صلىاللهعليهوآله سيّد البشر وسيّد ولد آدم ، وسيّد الأنبياء والمرسلين عليهمالسلام ، هذه بديهيات ؛ ولذا كان الصحابة ينادونه : (يا سيّدي) كما تشهد كتب السيرة والسنن ، فلماذا لا يجوز أن نطلقها على رسولنا الكريم (صلوات الله عليه وآله) ، وتطالبنا أن نطلقها عليك؟!
وليس هذا فقط ، بل إنّ بعضهم كان ينظر لنفسه على أنّه أفضل أو خير من رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ والعياذ بالله ـ وأنفع للأُمّة من رسولها ؛ لأنّه حيّ ورسول الله صلىاللهعليهوآله ميّت!
وذهب آخر إلى القول ـ وهذا القول منسوب في الحقيقة لابن عبد الوهاب شخصياً ـ : ما محمّد؟ إنّ عصاي هذه خيرٌ من محمد ؛ لأنّها ينتفع بها في قتل الحيّة ونحوها ، ومحمّد قد مات ولم يبقَ فيه نفعٌ أصلاً ، وإنّما هو طارش وقد مضى!
ولا شكّ أنّ هذا الكلام كفرٌ بالإجماع ، وهذه الجملة الأخيرة : (هو طارش) من محمد بن عبد الوهاب كما هو معلوم ، وتعني في لغة أهل الشرق : المرسل من قوم إلى آخرين (ساعي بريد) ، فيعني بهذا القول أنّه (صلوات الله عليه وآله) حامل كتب (رسائل) ، أي غاية أمره أنّه كالطارش الذي يرسله الأمير أو غيره في أمرٍ لأناسٍ ؛ ليبلّغهم إيِّاه ثمّ ينصرف(6).
وساعي البريد كما هو معلوم شخص مجهول في معظم الأحيان ، بل هو مُهان كذلك لدناءة وظيفته عند الجهّال ، وتأثيره فيمَنْ يرسل إليهم لا يتعدّى الخبر الذي يحمله ، أو الرسالة التي يبلغها إليهم إذا ما عرف فحواها ، ويتركهم ويمضي دون ذكر أو تأثير في حياتهم الخاصّة أو العامّة إلاّ أن يذكره ذاكر.
فهل كان رسول الله صلىاللهعليهوآله كذلك؟ (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)!
ولا أدري وربما لا أفهم من معنى الكلمة غير الذي فهمه وشرحه ذاك الشيخ الجليل ؛ لأنّ الطرش تعني ببعض لغات العرب : (الدواب) لا سيما الماشية (الغنم والمِعزَى) خاصة.
ويكون (الطارش) هو صاحب (الطرش) والمسؤول عنه : أي الراعي. وكما هو معلوم فإنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يرعى الغنم في مكة المكرّمة في بدايات شبابه وأوائل صباه ، وبالرواية عنه صلىاللهعليهوآله : «ما من نبيّ ولا رسول إلاّ ورعى الغنم ، إلاّ إدريس فإنّه كان بزازاً (خياطاً)» (7).
أعتقد والله العالم أنّهم يعنون أنّ رسول الله كان راعياً للغنم لا أكثر ولا أقل ، فما عساه أن تكون قيمته عندهم وهو بهذه الوظيفة! والأدهى قول أحدهم : إنّ محمّداً رسول الله صلىاللهعليهوآله زينة كالخاتم في اليد للزينة ، إنّه خاتم باليد فقط ، وينزع خاتمه من يده للإيضاح أمام مَنْ يسمعه ، فهل سمعت بهذا التفسير العجيب الغريب؟!
الصلاة على النبيّ صلىاللهعليهوآله بدعة
والأعظم من هذا وذاك أنّ زعيم القوم محمد بن عبد الوهاب كان ينهى عن الصلاة على النبي صلىاللهعليهوآله ويتأذّى من سماعها ، وينهى عن الإتيان بها ليلة الجمعة (مع إنّها أفضل الأعمال كما في الرواية) ، وعن الجهر بها على المنائر (لا سيما التعقيب بعد الأذان) ويؤذي مَنْ يفعل ذلك ويعاقبه أشدّ العقاب وربما يقتله.
وكان يقول ـ وعليه إثم ذلك ـ : إنّ الربابة في بيت الخاطئة ـ يعني الزانية ـ أقلُّ إثماً ممّن ينادي بالصلاة على النبيّ صلىاللهعليهوآله على المنائر (8).
وأحرق كتاب (دلائل الخيرات) وغيره من كتب الصلاة على النبي صلىاللهعليهوآله ، متستراً بقوله (ملبّساً على أتباعه) إنّ ذلك بدعة ، وإنّه يريد المحافظة على التوحيد (9).
ولم يكتفِ ابن عبد الوهاب بتلك التهم للرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله ، والأوصاف والنعوت البعيدة كلّ البعد عن الأدب والاحترام ، فإنّه ولشدّة نصبه وعداوته لرسول الله صلىاللهعليهوآله راح يمنع الناس من الصلاة عليه ، وهي من أعظم القربات عند الله ، وكثير من العلماء في كلّ عصر ومصر ألّفوا كتباً تشيد وتحضّ على الصلاة على رسول الله صلىاللهعليهوآله.
كيف لا ، وسبحانه وتعالى يقول له : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (10).
و (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (11).
ولم يكتفِ كذلك بهذه الموبقة العظيمة ، بل راح يمنع الناس من الحضور في مجالس الذكر ، ومَنْ رفع أصواتهم بالذكر المأمور به كالتسبيح والتهليل والتكبير ، وقراءة القرآن أو الدعاء للمؤمنين ، وراح يحارب تلك المجالس العامرة بالنور ، والتي تحفّها الملائكة حيث تنزل ؛ لتتبرّك بحضور مثل تلك المجالس النورانيّة العامرة بالإيمان.
واعتبروا ذلك كلّه من بدع الصوفية ؛ ولذا حين جاء (الوهابيون) حرّموا مظاهر التصوّف كالاجتماع على الذكر ، وقراءة القرآن ، والصلاة على النبي صلىاللهعليهوآله بعد الأذان ، وحمل المسبحة ، كما حاربوا اسم التصوّف بشكل عام ، وأوّل مَنْ ابتدع ذلك محمد بن عبد الوهاب النجدي.
ومحاربة الذكر ومظاهر التصوّف ، هي ممّا افترق به محمد بن عبد الوهاب ومَنْ جاء بعده من المتمسلفين عن قدامى أئمّتهم مثل ابن تيميّة وغيره (12) ؛ لأنّ هذا الأخير يمتدح الصوفية وكلّ مظاهرها لا سيما الذكر والاجتماع عليه.
فما عسانا أن نقول عن كلّ هذه الأقوال والتصرّفات البعيدة كلّ البعد عن الدين الإسلامي الحنيف ، بل هي بعيدة عن الإنسانيّة وأخلاقيّات الوفاء للعظماء المتعارف عليها في كلّ عصر ومصر . حقيقة الحديث عن الصوفية والتصوّف ، هل طريقتهم يقرّها الإسلام؟ وهل هي مطابقة لسُنّة الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله؟ هذا ممّا يحتاج إلى دراسة وبحث وتحقيق.
المصادر :
1- سورة الممتحنة : الآية 6.
2- سورة الفتح : الآية 29.
3- سورة الصف : الآية 6.
4- سورة النساء : الآية 46.
5- وسائل الشيعة 25 ص 23 ، بحار الأنوار 9 ص 294.
6- السلفية الوهابيّة ص 77 ، عن روضة المحتاجين لمعرفة قواعد الدين ـ للشيخ رضوان العدل بيبرس ص 384.
7- وسائل الشيعة 17 ص 41 ، مستدرك الوسائل 13 ص 26.
8- السلفية الوهابيّة ص 76.
9- المصدر نفسه.
10- سورة التوبة : الآية 103.
11- سورة الأحزاب : الآية 56.
12- السلفية الوهابيّة ص 75.