لم تلبث سيّدة نساء العالمين عليها السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلّا قليلاً، لكنّ هذه الفترة كانت ملئى بالحوادث الّتي غيّرت مجرى التاريخ، من تخاذل الأمّة عن وصيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلى هجر سنّة الرسول ووصاياه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ثمّ التخلّف عن العترة الطاهرة الّتي أوصى صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسّك بها مع القرآن، وصار بيت فاطمة عليها بيتاً للأحزان بعد فِراق أبيها، وقِلى صحابته لها ولبعلها عليهما السلام . وللزهراء عليها السلام مواقف وشواهد في مواجهة ما حصل. سنتعرّض لها خلال الفقرات التالية.
موقف الزهراء عليها من الخلافة
وقفت السيّدة الزهراء عليه ا إلى جانب الإمام عليّ عليه السلام لا بدافع العاطفة الزوجيّة، وإنّما المسؤوليّة الشرعيّة هي الّتي كانت تُملي عليها هذا الموقف. وكانت تعبّر عن رفضها لاغتصاب الخلافة بخروجها مع الإمام عليه السلام إلى مجالس الأنصار لتسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر، ما عدلنا به، فيقول الإمام عليه السلام : "أفكنتُ أدع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته لم أدفنه، وأخرج أُنازع الناس سلطانه؟".
وكانت عليها تقول: "ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم"(1) .
واستمرّت الزهراء عليها تدعو الأنصار إلى نُصرة الإمام عليّ عليه السلام دون أن تجد معيناً على ذلك.
وبقي بيت فاطمة عليها مقرّاً للموالين لعليّ عليه السلام يخطّطون فيه لإعادة الخلافة إليه. لكنّ الحزب الحاكم كان مصمّماً على ضرب المعارضة أنّى كانت ومهما كلّف الأمر. ومن هنا تجرّأوا على اقتحام بيت الزهراء عليها والإمام عليّ عليه السلام وأحرقوا الباب بالنار متحدّين ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكلّ قوّة وأكرهوا الإمام عليّ ومن معه على البيعة وهدّدوهم بالقتل إن لم يبايعوا.
السلطة ومصادرة فدك
قرّرت السلطة الحاكمة أن تُصادر فدكاً لتشلّ كلّ مصادر القوّة المادّية الّتي قد يستفيد منها الإمام عليه السلام ضدّ السلطة لإحباط الإنقلاب. ولهذا سارع الخليفة لإصدار قرار بتأميم فدك وسلبها من فاطمة عليها ، وذلك بعد أن استوسق له الأمر في كرسي الحكم, فبعث إلى فدك من يُخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولأجل استيعاب البحث حول فدك لا بدّ من التحدّث عن الأمور التالية:
الأوّل: ما هي فدك؟
ذكر اللغويّون أقوالهم في فدك، فقال "صاحب القاموس": فدك قرية في خيبر، وفي "المصباح": فَدَك - بفتحتين - بلدة بينها وبين مدينة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يومان، وهي ممّا أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي "معجم البلدان": فدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة، أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في سنة سبع صلحاً، وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لمّا نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلّا ثلاثة منها واشتدّ بهم الحصار أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه أن ينزلهم على الجلاء، وفعل، وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم، فأجابهم إلى ذلك، فهو ممّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(2).
قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾(3). والمعنى: أفاء الله أي ردّ الله ما كان للمشركين على رسوله بتمليك الله إياه منهم، أي من اليهود الّذين أجلاهم. ﴿مَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ أوجف خيله أي أزعجه في السير، والركاب هنا: الإبل، والمعنى ما استوليتم عليه من تلك الأموال بخيولكم أي ما ركبتم خيولكم وإبلكم لأجل الاستيلاء عليه ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء﴾ أي يمكّن الله رسله من عدوّهم من غير قتال، بأن
يقذف الرعب في قلوبهم، فجعل الله أموال بني النضير لرسوله خالصة يفعل بها ما يشاء، وليست من قبيل الغنائم الّتي توزَّع على المقاتلين. ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾أي من أموال كفّار أهل القرى،﴿ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ أي جعل الله تلك الأموال ملكاً لرسوله ﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ يعني قرابة النبيّ ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل﴾ من القربى.
وبهذا التفسير يتبيّن أنّ فدكَ صارت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي مجمع البيان عن ابن عباس أنّ الآية نزلت في أموال كفّار أهل القرى وهم قريظة وبنو النضير وهما بالمدينة، وفدك وهي من المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر وقرى عرينة وينبُع جعلها الله لرسوله يحكم فيها ما أراد، وأخبر أنّها كلّها له، فقال أناس: فهلّا قسّمها فنزلت الآية(4).
الثالث: هل دفع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فدكَ إلى ابنته الزهراء نحلة وعطيّة في حياته أم لا؟
قال تعالى: ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(5). نلاحظ أنّ هذه الآية خطاب من الله عزَّ وجلَّ إلى نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يأمره أن يؤتي ذا القربى حقّه، فمن هو ذو القربى؟ وما هو حقّه؟
الجواب: قد اتّفق المفسّرون أنّ ذا القربى هو ابنته فاطمة عليها السلام .
جاء في الدرّ المنثور للسيوطيّ عن أبي سعيد الخدريّ أنّه قال لمّا نزلت الآية: ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة الزهراء وأعطاها فدكَ(6). كما ذكر ابن حجر العسقلانيّ في الصواعق المحرقة مثل هذا المعنى والمضمون(7).
الرابع: هل يورِّث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم لا؟
يُستفاد من الروايات أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أعطى فاطمة فدكَ بعنوان النحلة والعطيّة بأمر الله تعالى حيث أمره بقوله: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾.
وحينما احتجّ أبو بكر بحديث نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الأنبياء لا يورّثون" قالت عليها: "إنّ فَدَكَ وهبها لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، وشهد عليّ عليه السلام وأمّ أيمن بذلك، وشهد عمر وعبد الرحمن بن عوف أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقسمها(8) .
ولمّا بلغها عليها قرار أبي بكر قدِمت ومعها بعض النساء فدخلت على أبي بكر وخطبت خطبة بليغة وقالت: "... ثمّ أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي.. أبى الله أن ترث يا ابن أبي قحافة أباك، ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئاً فريّاً..."(9)
والحاصل أنّها عليها كانت تطلبها بالميراث تارة وبالنِّحلة أخرى فدُفعت عنها.
الخامس: هل كانت السيّدة الزهراء عليها تتصرّف في فدك في حياة أبيها الرسول أم لا؟
يُستفاد من تصريحات المؤرّخين والمحدِّثين أنّ السيّدة الزهراء كانت تتصرّف في فدك، وأنّ فدك كانت في يدها، ويدلّ على ذلك تصريح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في الكتاب الّذي أرسله إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة فإنّه ذكر فيه: "... بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونِعمَ الحَكَم الله..."(10) .
أدلّة ملكيّة الزهراء عليها لفدك
إنّ امتلاك السيّدة الزهراء عليها لفدك وفقاً لما تقدّم يُصبح أمراً يقينيّاً، ففضلاً عن عصمتها عليها وأنّها لا تدّعي إلّا حقّاً, ولكن من باب الإلزام نضيف ثلاثة وجوه تُثبت ذلك:
الأوّل: أنّها كانت ذات يد، أي كانت متصرّفة في فدك، فلا يجوز انتزاع فدك من يدها إلّا بالدليل والبيّنة, كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه "(11) . وما كان على السيّدة الزهراء عليها أن تقيم البيّنة لأنّّها ذات يد.
الثاني: أنّها كانت تملك فدك بالنحلة والعطيّة والهبة من أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهي ليست إرثاً بعد وفاته حتّى يُقال لها إنّ الأنبياء لا تورّث...
الثالث: لو سلّمنا أنّها ليست نحلة فهي على الأقل إرثٌ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومن المعلوم في الإسلام أنّ البنت ترث أباها، فهي كانت تستحقّ فدك بالإرث من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنّ القوم خالفوا هذه الوجوه الثلاثة، حيث طالبوها بالبيّنة وطالبوها بالشهود على النحلة، وأنكروا وراثة الأنبياء.
وبإمكان السيّدة فاطمة عليها أن تطالب بحقّها بكلّ وجه من هذه الوجوه.
المعنى الرمزيّ والسياسيّ لفدك
إنّ الحركة التصحيحيّة الّتي قام بها الإمام عليّ عليه السلام والزهراء عليها لإعادة الخلافة الإسلاميّة عن جادة الانحراف اكتسبت ألواناً متعدّدة، وتنوّعت أساليب المطالبة بحقّ خلافة الإمام عليّ عليه السلام ، ومنها مطالبة السيّدة الزهراء عليها بفدك.
فليست المسألة مسألة مطالبة بأرض, بل يتجلّى منها مفهوم أوسع من ذلك ينطوي على غرض طموح يبعث إلى الثورة، ويهدف إلى استرداد حقّ مغتصب ومجد عظيم وتصحيح مسيرة أمّة انقلبت على أعقابها. وقد أحسّ الحزب الحاكم بذلك، فتراه قد بذل قصارى جهده في التحدّي والثبات على موقفه.
ولو فحصنا أيّ نصّ من النصوص التاريخيّة المتعلّقة بفدك فلا نجد فيه نزاعاً مادّياً أو اختلافاً حول فدك بمعناها الضيّق وواقعها المحدود، بل هي الثورة على أساس الحكم المنحرف والصرخة الّتي أرادت لها الزهراء عليها أن تصل إلى كلّ الآفاق، لتقتلع بها أساس الظلم الّذي بُني يوم السقيفة.
ويكفينا لإثبات ذلك أن نلقي نظرةً فاحصةً على خطبة الزهراء عليها في المسجد أمام الخليفة وبين حشود المهاجرين والأنصار، فإنّها تناولت في أغلب جوانبها امتداح الإمام عليّّ عليه السلام والثناء على مواقفه الجهاديّة الخالصة لخدمة الإسلام، وتسجيل الحقّ الشرعيّ لأهل البيت عليه م السلام الّذين وصفتهم بأنّهم الوسيلة إلى الله في خلقه وخاصّته ومحلّ قدسه وحجّته، وورثة أنبيائه في الخلافة والحكم.
وحاولت عليها أن تنبّه المسلمين إلى غفلتهم وسكوتهم عن الحقّ، وانقلابهم على أعقابهم بعد هداهم، والفتنة الّتي سقطوا فيها، والدوافع الّتي دفعتهم إلى ترك كتاب الله ومخالفته فيما يحكم به في مسألة الخلافة والإمامة.
فالمسألة إذن ليست مسألة تقسيم ميراث أو قبض نحلة بل هي في نظر الزهراء عليها قضيّة ولاية وخلافة أميطت عن صاحبها الشرعيّ.
الزهراء عليها والقضاء على نتائج السقيفة
إنّ ما قدّمناه حول المعنى الرمزيّ لمطالبة الزهراء عليها بفدك يكشف لنا بوضوح أنّها عليها أرادت من وراء ذلك توعية الرأي العام وتنبيه الأمّة لما جرى في السقيفة، وما ترتّب على ذلك من نتائج، والّتي بدأت تظهر معالمها بالتعدّي على حقوق آل البيت عليهم السلام .
وهذا ما استكملته الزهراء عليها في حديثها مع نساء المهاجرين عند زيارتهنّ لها، فقد أوضحت لهنّ أنّ أمر الخلافة انحرف عن مساره الشرعيّ بإقرار أصحاب السقيفة على مسند الحكم، ولو أنّهم وضعوا الأمر حيث أمر الله تعالى ورسوله وأعطوا زمام القيادة للإمام عليه السلام لبلغوا رضى الله وسعادة الدنيا والآخرة.
قالت عليها: "... ويحهم أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوّة والدلالة ومهبط الروح الأمين، والطبين(12) بأمور الدنيا والدين، ألا:.﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾، وما الّذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا منه والله نكير سيفه..."(13) .
ولعلّ الشاهد أو الدليل على مقاصد الزهراء عليها هو ردّ فعل السلطة الحاكمة الّتي التفتت وتنبّهت إلى ذلك، ولذا كان ردّ الخليفة بعدما انتهت الزهراء عليها من خطبتها أن قام بشنّ هجوم عنيف على الإمام عليّ عليه السلام ووصفه بأنّه ثعالة وأنّه مربّ لكل فتنة وأنّ فاطمة ذَنَبه التابع له(14) . ولم يتطرّق في ردّه إلى موضوع الميراث أو النحلة، وما هذا إلّا لأنّه فهم أنّ احتجاج الزهراء عليها لم يكن حول الميراث أو النحلة، وإنّما كان حرباً سياسيّة وتظلّماً لحقّ الإمام عليّّ عليه السلام وإظهاراً لدوره العظيم في الأمّة والّذي أراد من اغتصب الخلافة إبعاده عنه.
مظاهر المعارضة الفاطميّة
يُمكن تلخيص المعارضة الفاطميّة في عدّة مظاهر:
1- إرسالها من ينازع أبا بكر في مسائل الميراث ويطالب بحقوقها(15) .
2- مواجهتها بنفسها له في اجتماع خاصّ (16).
3- خطبتها في المسجد بعد عشرة أيّام من وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم(17).
4- جوابها لأبي بكر وعمر حينما زاراها بقصد الاعتذار منها، وإعلانها
غضبها عليه ما، وأنّهما أغضبا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك(18) .
5- خطابها الّذي ألقته على نساء المهاجرين والأنصار لمّا اجتمعن عندها(19).
6- وصيّتها بأن لا يحضر تجهيزها ودفنها أحد من خصومها(20) ، وكانت هذه الوصيّة الإعلان الأخير من الزهراء عليها عن نقمتها على الخلافة القائمة.
اعلموا أنّي فاطمة
إنّ خطبة الزهراء عليها لهي شعلة حقٍّ يعجز المرء عن وصفها، ويؤمن من خلال دقّة معانيها وقوّة بيانها أنّها صادرة عن سيّدة طاهرة معصومة قال في حقّها الإمام الخمينيّ قدس سره: "حقيقة المرأة الكاملة... حقيقة الإنسان الكامل.. امرأة لو كانت رجلاً لكان نبيّاً.."(21) تقول عليها: "اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، أقول عَوداً وبدءاً ولا أقول ما أقول غَلَطا، ولا أفعل ما أفعل شططا، ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾(22) فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم..".
ثمّ تبيّن عليها عظمة أمير المؤمنين عليه السلام وتذكّر بمناقبه ومواقفه وبلاءه بين يدَي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتقول: "فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبعد أن مُنيَ ببُهم الرجال وذؤبان العرب، ومَرَدة أهل الكتاب ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا للْحَرْبِ طْفَأَهَا اللّهُ﴾(23) أو نجم قرن للشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتّى يطأ جناحها بأخمصه، ويُخمد لهبها بسيفه مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله..." أمّا حالكم أيّها الحزب الحاكم فأنتم "في رفاهيّة من العيش وادعون فاكهون آمنون تتربّصون بنا الدوائر وتتوكّفون الأخبار وتنكصون عند النزال وتفرّون من القتال...﴿ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾(24)
ختاماً فإنَّ خطبة الزهراء عليها هي وثيقة سياسيّة تاريخيّة، بحاجة منّا إلى دراسة معمّقة لا يمكن أن تحويها هذه الأسطر، إلّا أنّ ما تعرّضنا له منها ومن مواقفها عليها يعتبر إطلالة موجزة ومختصرة وقبس من نور، لا بدّ للطالب أن يستزيد منه ويتعمّق فيه.
خلاصة
وقفت الزهراء عليها إلى جانب الإمام عليّ عليه السلام من منطلق المسؤولية الشرعيّة وعبّرت عن ذلك من خلال عدّة مواقف منها: خروجها مع الإمام عليه السلام إلى المسلمين وطلبها النصرة منهم.
قرّرت السلطة الحاكمة مصادرة فدك لتشلّ كلّ المصادر المالية الّتي قد يستفيد منها الإمام عليّّ عليه السلام ضدّ السلطة لإحباط المؤامرة.
كلّ الأدلّة تشير إلى أنّ فدكَ كانت ملكاً للزهراء عليها إمّا لأنّها هديّة من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو إرث منه صلى الله عليه وآله وسلم لها عليها ، وفدك كانت ملكاً خاصاً له صلى الله عليه وآله وسلم يتصرّف فيها كيفما يشاء.
لم تكن مطالبة الزهراء عليها بفدك مسألة مطالبة بأرض بل كانت إشارة منها إلى معنى سياسيّ كبير يرتبط بغصب الخلافة من الإمام عليّ عليه السلام .
المصادر :
1- شرح نهج البلاغة، م.س: 6/13
2- فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد، محمّد كاظم القزويني: 222، طباعة المؤلف
3- سورة الحشر، الآيتان: 6 ـ 7
4- مجمع البيان، الفضل بن الحسن الطبرسيّ، راجع تفسير سورة الحشر، الآية : 7، انتشارات ناصر خسرو، طهران، عن طبعة بيروت، 1406هـ ـ 1986م
5- سورة الروم، الآية: 38
6- الدرّ المنثور, جلال الدِّين السيوطي: 4/177، دار المعرفة، بيروت
7- الصواعق المحرقة في الرّد على أهل البدع والزندقة، ابن حجر العسقلاني: 25، القاهرة، ط 2، 1965م
8- شرح نهج البلاغة، م.س: 16/216
9- ميزان الحکمة: 16/212
10- نهج البلاغة، رسالة الإمام عليّ عليه السلام إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف
11- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق:3/32.تحقيق علي أكبر الغفاري، ط2، مؤسسة النشر الإسلامي
12- أي الحاذق
13- فدك في التاريخ، م.س: 65
14- شرح نهج البلاغة، م.س: 16/215
15- ميزان الحکمة: 16/218 ـ 219
16- ميزان الحکمة: 16/230
17- ميزان الحکمة: 16/211
18- ميزان الحکمة: 16/ 264 - 281
19- ميزان الحکمة: 16/233
20- ميزان الحکمة: 16/281
21- صحيفة نور: 7/250
22- سورة التوبة، الآية: 128
23- سورة المائدة، الآية:64
24- سورة التوبة، الآية: 49./ راجع: الاحتجاج، م.س: 1/131-144