رويَ عن زينب العقيلة بنت عليّ أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) ، أنّها بعد المقتل وضَعت يديها تحت الجثمان وقالت : ( اللهمّ تَقبّل مِنّا هذا القربان ) ، وفي بعض الروايات : ( هذا القربان القليل ) (1) ، يعني : القليل مهما كان شريفاً وعظيماً أمام عَظمة الله اللامتناهية وأمام استحقاقه اللامتناهي للتضحية والفداء ، يبقى قليلاً .
إذاً فالمسألةُ الأهمّ من كلّ شيء هي : أهميّة التوجّه إلى الله والتضحية في سبيله ، وتطبيق طاعته والحصول على رضوانه بكلّ صورة مهما كانت الوسائط ومهما كانت النتائج ، وهذا هدفٌ صحيح قد تحقّق فعلاً ، وقد عَرَفت الأجيال ذلك بكلّ وضوح .
وقد يخطر في البال عن قول زينب سلام الله عليها : ( اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان ) ، أنّ قولها ( منّا ) ليس بصحيح ؛ لأنّه وإن كان قرباناً عظيماً إلاّ أنّه إنّما قدّمهُ الحسين نفسه ، وليس لأحدٍ آخر أن يُقدّمه ، بل لا معنى لذلك ؛ لأنّ التضحية الحقيقيّة والألم الحقيقي لم يتحمّله غيره ولم يشعر به غيره ، فما تفسير كلامها سلام الله عليها ؟
جوابُ ذلك : إنّ التضحية العظيمة من هذا القبيل ، أو أيّة تضحية أخرى مهمّة ، لا تكون ذات مستوى واحد ، بل على مستويات متعدّدة ؛ لأنّ انطباعها في نفس صاحبها وفي نفوس الآخرين يكون متعدّداً لا محالة ، وفي حدود ما نستطيع أن نستفيد منه هنا من المستويات نذكر ثلاثة منها :
المستوى الأوّل :
التضحية بمعنى تحمّل الألم والجروح والقتل والصبر عليه طواعية ، وهذا المستوى خاصّ بصاحب التضحية ، ولا يمكن أن يكون شاملاً لغيره كما قال السائل .
المستوى الثاني :
التضحية بمعنى الإعانة لصاحب التضحية بكلّ ما يمكن من جهدٍ وجهاد ، وتحمّل كلّ بلاء في سبيله ، مضافاً إلى تحمّل فراقه كشخص محبوب أُسريّاً ودينيّاً واجتماعيّاً ، وتحمّل الحرمان عن فوائده وتوجيهاته ولطفه .
وهذا المستوى خاصّ بمَن كان مع الحسين ( عليه السلام ) ، من الركب المُعاوِن له في الحياة والموافِق له في الأهداف ، فإنّهم رجالاً ونساءً وشيباً وشُبّاناً ، أتعَبوا أنفسهم في سبيله تماماً ، وتحمّلوا شظفَ (2) العيش وبلاء الدنيا لأجل رضاه الذي يكون سبباً لرضاء الله عزّ وجل ، كما قال : ( رضا الله رضانا أهل البيت ) (3) ، ومن هذه الناحية وعلى هذا المستوى كانت التضحية تشملهم ، فكأنّهم هم اللذين رفعوا الحسين ( عليه السلام ) قرباناً لله عزّ وجل .
ولا شكّ أنّ العقيلة زينب سلام الله عليها بنت علي ( عليه السلام ) ، من ذلك الرَكب المُضّحي في سبيل الحسين ( عليه السلام ) ، ولعلّها أهمّ النساء الموجودات فيه على الإطلاق .
ومن هنا صحّ لها أن تدعو وتقول : ( اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان ) .
المستوى الثالث :
الموافقة مع الحسين ( عليه السلام ) نفسيّاً وقلبيّاً وعاطفيّاً ، وبالتالي الموافقة الحقيقيّة على عَمل الحسين ( عليه السلام ) وتضحيته ، وعلى هدف الحسين ( عليه السلام ) ورسالته ، حتّى أنّ الفرد المُحبّ له يحسّ كأنّه أعطى قطعة من قلبه أو كبده ، وأنّها قُتلت فعلاً بمقتل الحسين ( عليه السلام ) ، وأنّهُ ـ أعني المُحبّ ـ وإن كان حيّاً يُرزق في هذه الدنيا وفي كلّ جيل ، إلاّ أنّ التضحية تضحيّته والعمل عمله .
ويكفينا من ذلك ما وردَ : ( إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرئ ما نوى ) (4)
( إنّ نيّة المؤمن خيرٌ من عَمله ) (5)
وما ورد : ( إنّ الراضي بفعل قوم كفاعله ) (6)
وما وردَ : ( إنّ الفرد يُحشر مع مَن يُحبّ ) (7)
إلى غير ذلك من المضامين التي تجعل التضحية التي قام بها الحسين ( عليه السلام ) ، منتشرة فعلاً لدى كلّ محبّيه والمتعاطفين معه على مدى الأجيال ، وإنّ كلّ واحدٍ منهم يستطيع أن يقول :
اللهمّ تَقبّل منّا هذا القربان ، وليس العقيلة زينب فقط .
وقد يخطر في البال في حدود هذه التضحيات المشار إليها : أنّ الأجيال كلّها يجب أن تكون مثل الحسين ( عليه السلام ) في تضحيّته الجسيمة وفعلته الكريمة .
فتضحّي بالنفس والنفيس في سبيل الأهداف التي قُتل لأجلها الحسين ( عليه السلام ) .
وجوابُ ذلك : إنّ الأمر ليس كذلك باستمرار ، وإنّما قد يحصل ذلك أحياناً قليلة ، ولا يحصل ذلك أحياناً كثيرة ، وكلّ فردٍ يجب أن يَحسب حساب تكليفه الشرعي أمام الله عزّ وجل ، ونشير فيما يلي أنّ التكليف الشرعي كثيراً ما لا يقتضي ذلك ، على عدّة مستويات :
المستوى الأوّل :
إنّ التضحية التي أرادها الحسين ( عليه السلام ) واستهدفَ حصولها ـ وقد حَصلت فعلاً ـ هي من الأهميّة والعظمة بحيث لا تكون مقدورة لأحد إطلاقاً ، وإنْ زَعم الزاعم لنفسه أنّه يتحمّلها ، إلاّ أنّه يَخدع نفسه لا محالة ، يكفي في ذلك أنّه ( سلام الله عليه) معصوم ، وأعمال المعصومين بلا شكّ فوق طاقة الأفراد الاعتياديين مهما تصاعدوا في درجات الإيمان والإخلاص .
ومن هذا القبيل : ما قالهُ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن زهده : ( ألا وإنّكم لا تقدرونَ على ذلك ولكن أعينوني ـ يعني على أنفسكم الأمّارة بالسوء ـ بورعٍ واجتهاد ...... إلى آخر ما قالهُ ) (8) .
المستوى الثاني :
إنّه لو كانت تضحيات الحسين ( عليه السلام ) واجبة على الأجيال بعده ، لكانَ أولى مَن يقوم بها أولاده المعصومون ( عليهم السلام ) ، مع العلم أنّه لم يفعل ذلك ولا واحد منهم .
إذاً ، فلماذا يجب أن يكون تكليفنا في الأجيال المتأخّرة مثل تكليفه ولا يكون مثل تكليف وعمل أولاده ، مع أنّهم جميعاً معصومون ، يكفي أنّنا يمكن أن نأخذ بعمل العدد الأكثر من المعصومين وهو الهدوء وليس الثورة ، فإنّ أولادهُ المعصومين تسعة وهو واحد .
المستوى الثالث :
إنّ الأصوب والأحجى لكلّ جيل : هو أن يَنظر إلى تكليفه الشرعي أمام الله سبحانه ،
هل هو التضحية أو التقيّة ؟ ولا شكّ أنّ التكليف الغالب في عصورنا هذه ، عصور الغيبة الكبرى هو : التقيّة وليس التضحية ؛ لمدى تألّب الأعداء وترصّدهم في العالَم ضدّنا من كلّ صوبٍ وحَدب ، بدون وجود طاقة فعليّة عند ذوي الإخلاص لمقابلتهم ومضادّتهم ، ومَن تخيّل هذه القابليّة ، فهو متوهِّم سوف يُثبت لهُ الدهر أعني بالتجربة وهمّته ، والأفضل لهُ هو العمل بالتكليف الفعلي ، وهو التقيّة المُنتجة لحفظ أهل الحقّ من الهلاك المحقّق في أيّ نقطة من نقاط هذا العالَم المعروف .
المُحتَمل لحركة الحسين ( عليه السلام ) ، ما يذكرهُ بعض الناس ، أو طبقة من الناس : من أنّ الحسين ( عليه السلام ) قُتل من أجل إقامة المأتم عليه والبكاء عليه ، فإنّها من الشعائر الدينيّة المهمّة ، التي توجِب هداية الكثير من الباطل إلى الحقّ .
ويمكن أن يُستدلّ على ذلك بما وردَ عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : ( إنّ لولَدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تخمُد إلى يوم القيامة ) (9) ، وهذه الحرارة أمرٌ وجداني قائم فعلاً يحسّ بها الفرد المُحبّ للحسين في قلبه ، وهي التي تدفعهُ إلى التعب في هذا الطريق .
ونتكلّم عن هذا الهدف ضمن المستويات التالية :
المستوى الأوّل :
إنّه ينبغي أن يكون واضحاً أنّ هذا الهدف بمجرّده لا يصلح أن يكون هدفاً لكلّ تلك التضحيات التي قام بها الحسين ( عليه السلام ) ، إلاّ إذا اندرجت تحت عنوان أهمّ وأعمّ ، وهو طاعة الله سبحانه ، أو هداية الناس ، أو الأجيال لهذه الطاعة ، أو التضحية في سبيل عقيدة التوحيد ، كما أسلفنا ونحو ذلك ، ممّا تكون الشعائر والمآتم مصداقاً لها وتطبيقاً لها ، وليس النظر إليها نظراً مستقلاً عن غيرها .
وهذا ما سيتّضح أكثر من المستويات التالية بعونه سبحانه .
المستوى الثاني :
إنّني أعتقدُ أنّ الله سبحانه جَعل بإزاء تضحية الحسين ( عليه السلام ) نوعين مهمّين من الثواب لا نوعاً واحداً ، أحدهما : الثواب الأخروي ، وهو المشار إليه بقول النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في الرواية : ( إنّ لك في الجنّة لدرجات لن تنالها إلاّ بالشهادة ) (10) .
وثانيهما : الثواب الدنيوي : وهي عدّة أمور يسّرها الله سبحانه وتعالى خلال الأعوام والأجيال المتأخّرة عن مقتله ( سلام الله عليه ) ، وأعتقدُ أنّه جلّ جلاله إنّما يسّرها لمصلحة الأجيال ، وإلاّ فإنّ الحسين ( عليه السلام ) أجَلّ مِن أن تنالهُ الفائدة منها بقليلٍ ولا بكثير ، وإن كنّا نقول : إنّها تصلح أن تكون جزاءً له على التضحية لمدى أهميّتها البالغة كما سنعرف ، إلاّ أنّها دنيويّة أي حاصلة في الدنيا ، والحسين ( عليه السلام ) لم يقصد في تضحيته أيّ شيء من أمور الدنيا ممّا قلّ أو كثُر يقيناً ، وإنّما حَصلت لأجل مصلحة هداية الآخرين لا أكثر ، ونستطيع أن نعدّ منها الأمور التالية :
الأمرُ الأوّل : إنّ الإمامة في ذريّته لا في ذريّة الحسن أخيه ( عليه السلام ) .
الأمرُ الثاني : حُسن الظنّ به خلال الأجيال ابتداء من قاتليه أنفسهم إلى الأجيال المتأخّرة عنه إلى يوم القيامة ، حتّى في ضمائر الأعداء وغير المسلمين ، ولذا نسمع قاتلهُ يقول للحاكم الأموي بعد انتهاء الواقعة على ما ورد :
املأ ركابي فضّةً أو ذَهباً إنّي قتلتُ السيّد المحجّبا
قتلتُ خيرَ الناس أُمّاً وأباً (11)
وقد اختلف المؤرِّخون في قائل الأبيات وبالتالي في قاتل الحسين ( عليه السلام ) ، ومَن الذين ذَكرهم المؤرّخون في قتل الحسين ( عليه السلام ) ( كما أحصاهم باقر شريف القرشي في حياة الإمام الحسين ج3 ) هم :
أوّلاً : سنان بن أنس ، الكامل لابن الأثير : ج3 ، ص295 ، مقاتل الطالبيين ، اللهوف لابن طاووس ، البداية والنهاية : ج8 ، ص88 وفيه يقول الشاعر :
وأيّ رزيّةٍ عَدلت حسيناً غداة يُثيره كفّ سِناني الاستيعاب : ج1 ، ص379 .
ثانياً : شِمر بن ذي الجوشن ، الخوارزمي : ج2 ، ص36 ، البحار للمجلسي : ج45 ، ص56 .
ثالثاً : عُمر بن سعد ، خُطط المقريزي : ج2 ، ص268 ، مناقب ابن شهرآشوب : ج5 ، ص119 .
رابعاً : خولي بن يزيد الأصبحي ، دُرر الإبكار في وصف الصفوة الأخيار : ص38 ، مناقب ابن شهرآشوب : ج3 ، ص259 ، الفتوح لابن أعثم : ج5ص218 .
خامساً : شبل بن يزيد الأصبحي ، تاريخ الخميس : ج2 ، ص333 ، الأخبار الطوال للدينوري : ص231 ، حيث قيل إنّ خولي بن يزيد الأصبحي نزلَ عن فرسه ليحتزّ رأس الإمام ( عليه السلام ) ، فارتَعدت يداه فنزل إليه أخوه شبل ، فاحتزّ رأسه ودفعهُ لأخيه .
سادساً : الحُصين بن نمير ، المعجم الكبير للطبراني ، الإفادة في تاريخ الأئمّة السادة .
سابعاً : رجل من مُذحج ، تهذيب التهديب : لابن حجر ج2 ، ص353 ( وقد انفرد بنقله ) .
ثامناً : المهاجر بن أوس ، نصّ على ذلك السبط بن الجوزي ولم يذكرهُ غيره ( مرآة الزمان في تاريخ الأعيان ) .
والراجح في هذه الأقوال كلّها أنّ قاتل الحسين ( عليه السلام ) هو : الشِمر بن ذي الجوشن ( لعنهُ الله ) ؛ وذلك لعدّة مرجّحات منها : إنّ الزيارة القائميّة صريحة به ، وهي زيارة الناحية والواردة عن الإمام الحجّة ( عجّل الله فرجهُ ) والتي يقول فيها : ( فلمّا رأت النساء جَوادكَ مخزيّاً نظرنَ سَرجك عليه ملويّا .... وإلى مصرعكَ مبادرات ، والشمرُ جالسٌ على صدرك واضعاً سيفه على نحرك ، قابض على شيبتك بيده ، ذابح لك بمهنّده ..... إلخ ) ( مفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمّي : ص456 ) .
وهكذا جملة من الروايات المعتبرة ، ومع ذلك لا شكّ في أنّ خولي بن يزيد الأصبحي وسنان بن أنس ( لعنهما الله ) ، ممّن لهُ مدخليّة في قتل الحسين ( عليه السلام ) ، لذلك قال بعض العلماء : إنّ القاتل كان ثلاثتهم حيث ذَكر البعض أنّ هؤلاء الثلاثة عندما قَدِموا إلى عمر بن سعد ومعهم رأس الحسين ( عليه السلام ) قال خولي : أنا ضربتهُ بسهم فأرديته عن جواده إلى الأرض ، وسنان يقول : أنا ضربتهُ بالسيف ففلقتُ هامتهُ ، والشمر يقول : أنا أبنتُ رأسه عن بدنه ( أسرار الشهادة للدربندي : ص427 ) .
الأمرُ الثالث : تأثير تضحيتهُ الجسيمة في هداية الناس وتكاملهم إيماناً ، كلّ حسب استحقاقه ، في أيّ مكانٍ وزمان وجِد الفرد إلى يوم القيامة ، ومهما كانت نقطة بدايته ، حتّى لو كان كافراً ، بل حتّى لو كان معانداً أحياناً .
الأمرُ الرابع : هذه الحرارة التي في قلوب المؤمنين من محبّيه ، والتي أشرنا إليها فيما سبق ، والتي أوجَبت تزايد ذكراه وتزايد اللوعة على ما أدّاه من تضحيات وما عاناه من بلاء .
الأمرُ الخامس : إنّ ذِكر أيّ معصوم غير الحَسن ( عليه السلام ) بما فيهم النبي ( صلّى الله عليه وآله ) وعلي ( عليه السلام ) ، في أيّ مجلسٍ من مجالس محبّيه ، وفي أيّ مناسبة للحديث سواء كانت مأتماً ، أو خطبة ، أو موعظة أو غيرها ؛ فإنّها لا تكاد تكون تامّة ولا مُرضية للقلوب ما لم تقترن بذكر الحسين ( عليه السلام ) ، والتألّم لمصابه .
الأمرُ السادس : البكاء عليه لدى محبّيه جيلاً بعد جيل وإقامته المآتم والشعائر عليه ( سلام الله عليه ) ، وهذا هو الذي ذَكرهُ بعض الناس كهدفٍ مستقل كما ذكرنا ، وهو إنّما يصحّ كنتيجة طبيعيّة وفّقَ الله سبحانه وتعالى محبّيه إليها لأجل مصلحتهم وهدايتهم ، وسنتكلّم عنها في المستوى الآتي من الحديث بعونه سبحانه لنفهمها بشكلٍ واضح .
المستوى الثالث : الحديث عن البكاء عليه وإقامة المآتم لذكرى مُصابه ، وهنا ينبغي لنا أن نقول : إنّ في قضيّة الحسين ( عليه السلام ) جانبَين مهمّين لا يكاد أحدهما أن يكون أقلّ أهميّة من الآخر :
الجانبُ الأوّل : جانب النعمة والرحمة ، بهذا التوفيق الإلهي العظيم للحسين ( عليه السلام ) وأصحابه وأهل بيته ، بهذه المقامات وهذا الثواب الجزيل والعطاء الهني ، وهذا الجانب يقتضي الفرح والاستبشار لا الحُزن والتألّم ، بل كلّما كان البلاء الدُنيوي أكثر ، كان الثواب الأخروي والتقرّب الإلهي أكثر ، فيكون الاستبشار أكثر .
وهذا ما وردَ عن أصحابه المقاتلينَ معهُ أنّه قال أحدهم : ( عمّا قليل سنُعانق الحوَر العين ) (12) .
وقال آخر : ( ليس بيننا وبين الجنّة إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم ) (13) ، وهم يَعلمون أنّهم سيُعانون الجَرح والقتل والبلاء الصارم ، ومن ذلك قول الشاعر يصف العبّاس ( عليه السلام ) أخو الحسين ، وقد حاربَ معه وأبلى بلاءً حسناً وعظيماً قال الشاعر :
عَبَست وجوهُ القوم خوفَ الموت والعبّاسُ فيهم ضاحكٌ يتبسّم (14) .
ومنه قول عليّ بن الحسين الأكبر فيما وردَ عنه : ( لا نُبالي أوَقَعنا على الموت أم وقَعَ الموت علينا ) (15)
يعني : ما دُمنا على الحقّ كما ورد في أوّل الرواية ، وعدم المُبالاة يعني عدم الحُزن والتألّم لهذا البلاء النازل ، وإنّما هو الصبر بإيمانٍ والجلد بيقين ، بل الاستبشار برحمة الله ورضوانه .
وإذا كان غير المعصومين يحسّ بذلك ، فكيف بالمعصومين ومنهم الحسين نفسه ، وإذا كان أصحابه وذووه ممّن هو تحت ذلك البلاء العظيم نفسه ، لا يشعرون بالحُزن والألم النفسي بل بالاستبشار ، فكيف ينبغي أن يكون حال مَن سواهم من الناس من مُحبّين وأولياء .
الجانبُ الثاني : جانبُ الحُزن والألم لِمَا أصاب الحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته وأصحابه ونسائه من : بلاءٍ ، وقتلٍ ، وتشريد ، وسبي ، وإذلال ، وهي حادثة بمجموعها تُعتبر أعظم ما وقعَ من البلاء الدُنيوي على أيّ مجموعة أخرى من البشر خلال التاريخ البشري الطويل ، ومن هنا كان ردّ فعلها المأساوي أعظم وأجلّ من كلّ حادثةٍ أخرى في العالَم مُماثلة أو غير مُماثلة ، ومن هنا قال الشاعر عنها :
وفجائعُ الأيّام تبقى مُدةً وتزول وهي إلى القيامة باقية (للشيخ عبد الحسين الأعسم بن الشيخ محمّد علي بن الحسين ، بن محمّد الأعسم الزبيدي النجفي ، ولِدَ في حدود سنة 1177هـ ، وتوفي 1247 هـ بالطاعون العام في النجف الأشرف عن عُمرٍ يُناهز السبعين ، ودُفن مع أبيه في مقبرة آل الأعسم ، وهذا البيت من قصيدة طويلة مطلعها :قد أوهَنَت جلدي الديار الخالية من أهلها ما للديار وماليه)(16)
وكلا هذين الجانبين المشار إليهما ناجزان فعلاً في حادثة الحسين ( عليه السلام ) ، ويحتوي كلّ منهما على نقطة قوّة ونقطة ضُعف ، ينبغي أن نلاحظهما لكي نعرف القيمة الحقيقيّة لكلّ منهما أوّلاً ، ولماذا اختيرَ الجانب الثاني المأساوي في هذا الصدد ؟
ولكلٍّ نقطةٍ قوّة في أحدهما يُقابله نقطة ضعف في الجانب الآخر .
فنقطةُ القوّة في الجانب الأوّل : هي كونه جانباً أُخرويّاً محضاً ، تُقابلهُ النقطة في الجانب الآخر ، وهو كونه جانباً دنيويّاً ؛ لوضوح أنّ البلاء الذي عاناه الحسين ( عليه السلام ) ومَن معه ، بلاءٌ دنيوي خالص لا يشوبه بلاء أخروي إطلاقاً ، بل لهُ في الآخرة أعلى المقامات وأرفع الدرجات .
ونقطةُ القوّة في الجانب الثاني : كونهُ سبباً لتربية المجتمع تربية صالحة ومؤكّدة أكثر من الجانب الأوّل بكثير ، ذلك المجتمع المُتربّي في حالته الاعتياديّة على العواطف الشخصيّة والأُسريّة والدنيويّة عموماً ، إذاً فمن المصلحة توجيه هذه العواطف إلى وجهة صالحة ومربّية ، فكما يبكي المؤمن على وَلده أو والديه ، فليبكِ على الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ؛ لينال في الآخرة ثواباً ويُقيم للدين شعاراً .
ومن هنا يكون توجيه البكاء والحزن للمؤمنين نحو الدين ونتائجه الطيّبة ، أكثر بكثير ممّا يوجبهُ الفرح والاستبشار المشار إليه في الجانب الأوّل .
مضافاً إلى أنّ الفهم العام لأيّ شيء بما فيها واقعة الحسين ( عليه السلام ) ، إنّما هو ظاهرها الدُنيوي وليس واقعها الأخروي ، فكان من الأفضل توجيه الناس إلى ما يفهمون والاستفادة لهم بمقدار ما يدركون .
ومن هنا وردَ عن الشريعة المقدّسة وقادتها الأوائل بشكلٍ متواتر لا يقبل الشك ، الحثّ على البكاء على الحسين وحادثته المروِّعة (17) ، وكان الطعنُ في ذلك ومناقشته بقصدٍ مُخلص أو مُغرض ناشئ من خطأ فاحش لا يُغتفر .
فمن أمثلة ما ورد : أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) بكى على الحسين ( عليه السلام ) عند ولادته (18)
وأنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذَكر واقعة الطف ، وأنّه نظرَ إلى كفّي ولدهُ العبّاس ( عليه السلام ) ، وتنبّأ بأنّهما يُقطعان في تلك الواقعة (19)
وأنّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) حين كان على فراش الموت مسموماً سمعَ أخاه الحسين يبكي عليه ، فقال له : ( أتبكي عليّ أم أنا أبكي عليك ، لا يوم كيومك يا أبا عبد الله ، فإنّ لك يوماً أعظم من هذا اليوم ) (20) .
وأمّا الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) ، فقد أصبحَ أحد الخمسة البكّائين من البشر ، وهم : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، والزهراء ، وهو ، سلام الله عليهم أجمعين ؛ وذلك لكثرة بكائه على أبيه سلام الله عليه ، في زمنٍ صعب كان يعيشه من حال المطاردة والتقية ، فكان لا يمكنه الدعوة إلى حقّ أبيه وإعلان الاهتمام به إلاّ بالبكاء ، ومن هنا كان من البكّائين ، حتّى كان يخلط طعامه وشرابه بالدموع (21) .
المصادر :
1- الكبريت الأحمر : ج3 ، ص13 عن الطراز المذهّب .
2- شَظفَ : شظفَ الرجل شَظفاً ، كان عيشهُ ضيّقاً وشديداً ويابساً فيقال : شظفَ العيش ( أقربُ الموارد : ج1 ، ص529 ) .
3- الخوارزمي : ج2 ، ص5 ، اللهوف : ص26 ، كشفُ الغُمّة للإربلي : ج2 ، ص241 .
4- إسعاف الراغبين للشيخ محمد صبّان على هامش نور الأبصار للشبلنجي : ص76 ، مُنية المريد للشهيد الثاني : ص42 ، جامع السعادات : ج3 ، ص112 .
5- مصباحُ الشريعة : ص5 ، مُنية المريد للشهيد الثاني : ص43 ، جامع السعادات : ج3 ، ص118 .
6- عيون أخبار الرضا للصدوق : ج1 ، ص273 ، نهج البلاغة : خطبة 104 ، وفيها يقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم وعلى كلّ داخلٍ في باطل إثمان : إثمُ العمل به ، وإثم الرضا به ) .
7- الكافي : ج8 ، ص80 ، حديث 35 بتصرّف ، أمالي الطوسي : المجلّد الثاني ، ص245 مجلس يوم الجمعة 2 رجب .
8- نهج البلاغة : شرح ابن أبي الحديد ، كتاب 45 ، ج 16 ، ص205 .
9- مستدرك الوسائل : ج2 ، ص217 ، الكافي للكليني : ج8 ، ص206 .
10- أمالي الصدوق : مجلس 30 ، ص135 ، الخوارزمي : ج1 ، ص185 ، البحار : ج44 ، ص328 .
11- العقد الفريد : ج4 ، ص381 ، تاريخ الطبري : ج6 ، ص261 ، الكامل لابن الأثير : ج3 ، ص296 ، كشف الغمّة للإربلي : ج2 ، ص263 ، مقتل الخوارزمي : ج2 ، ص40 ، مناقب ابن شهرآشوب : ج3 ، ص256 .
12- تاريخ الطبري : ج6 ، ص241 ، أسرار الشهادة للدربندي : ص249 .
13- نفس المصدر بتصرّف .
14- للسيّد جعفر الحلّي ، المتوفّى فجأةً في شعبان لسبع بقينَ منه سنة 1315هـ ( أدبُ الطف : ج8 ( ص99 ـ 115 ) .
15- الطبري : ج6 ، ص231 ، الكامل لابن الأثير : ج3 ، ص282 ، اللهوف : ص30 .
16- أدبُ الطف : ج6 ، ص287 - 294
17- أمالي الصدوق : ص125 ، مجلس 29 ، الدمعة الساكبة : م1 ، ص300 ، البحار للمجلسي : ج44 ، ص281 .
18- الخصائص الكبرى للسيويطي : ج2 ، ص125 ، البحار للمجلسي : ج44 ، ص251 .
19- أسرارُ الشهادة للدربندي : ص263 .
20- مُثير الأحزان لابن نما : ص31 ، مناقب ابن شهرآشوب : ج3 ، ص238 ، البحار : ج5 ، ص154 .
21- مناقبُ ابن شهرآشوب : ج3 ، ص303 ط النجف ، أمالي الصدوق : مجلس 29 ، ص124 .