عن الإمام أبی عبد اللّه علیه السلام فی قوله عزّوجلّ « عالِم الْغَیْبِ وَالشَّهادَهِ » فقال : الغیب ما لم یکن والشهاده ما قد کان(1) .
أقول : یحتمل فی «ما لم یکن» أمران :
1- أن یکون المراد منه هو الشیء الذی لم یتعلّق رأی اللّه تعالی به ، فهو تعالی عالم به أیضاً کما أنّه تعالی عالم بالشهاده .
2- أن یکون المراد منه ما لم یکن فی السابق ، أی ما کان مقدّراً ثمّ وقع علیه البداء فمحی وأثبت التقدیر الثانی ، فإنّه تعالی عالم بذلک أیضاً .
إذا عرفت ذلک نقول : بناء علی کلا الإحتمالین ، تکون الآیه المبارکه من الأدلّه الدالّه علی العلم غیر المحمول .
أمّا بناء علی الإحتمال الأوّل ، فواضح .
و أمّا بناء علی الإحتمال الثانی ، فلأنّه عالم بما لم یکن (بالتقدیر الأوّل) بالعلم الذاتیّ غیر المحمول وغیر المتعیّن ، فإنّه تعالی عالم به بالعلم المخزون المکنون ، واللّه تعالی العالم .
وقال تعالی : « هذَا کِتَابُنَا یَنطِقُ عَلَیْکُم بِالْحَقِّ إِنَّا کُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا کُنتُمْ تَعْمَلُونَ »(2) .
عن الحسین بن بشار عن الإمام أبی الحسن علیّ بن موسی الرضا علیه السلام قال : سألته أیعلم اللّه الشیء الذی لم یکن أن لو کان کیف کان یکون أو لا یعلم إلاّ ما یکون ؟
فقال : إنّ اللّه تعالی هو العالم بالأشیاء قبل کون الأشیاء . قال عزّ وجلّ : « إنّا کنّا نستنسخ ما کنتم تعملون » وقال لأهل النار : « ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنّهم لکاذبون »(3)
فقد علم عزّ وجلّ أنّه لو ردّهم لعادوا لما نهوا عنه وقال للملائکه لمّا قالوا « أتجعل فیها من یفسد فیها ویسفک الدّماء ونحن نسبّح بحمدک ونقدّس لک قال إنّی أعلم ما لا تعلمون »(4)
فلم یزل اللّه عزّ وجلّ علمه سابقاً للأشیاء قدیماً قبل أن یخلقها فتبارک ربّنا وتعالی علوّاً کبیراً خلق الأشیاء وعلمه بها سابق لها کما شاء کذلک لم یزل ربّنا علیماً سمیعاً بصیراً(5) .
أقول : الظاهر من استدلال الإمام علیه السلام بالآیه المبارکه أنّ اللّه تعالی لعلمه بمآل العباد وأعمالهم بالعلم بلا معلوم یعرف الأشیاء قبل حدوثها ، ولذا یتمّ الإستنساخ قبل أن یعملها العاملون . ولکن یبدو لی أنّ المراد من العلم فی خصوص المقام هو العلم المحمول إذ اللّه تعالی عالم بالأشیاء قبل حدوثها بالعلم بلا معلوم .
وأمّا خصوص صدور أعمال العباد عنهم فإنّه وإن کان مکشوفاً للّه تعالی بالعلم المخزون إلاّ أنّ أخْذ قید صدورها فی المقام یوءیّد کون العلم الملحوظ هنا هو العلم المحمول ، إذ العلم المکفوف لا تعیّن فیه أصلاً .
نعم ، یکون صدورها عنهم بالإراده والاختیار ، وعلمه المحمول تابع ولا یلزم الجبر کما قرّر فی محلّه ویشهد علی ذلک الخبر الآتی ، فلاحظ :
عن عبد الرحمن القصیر عن الإمام أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن « ن والقلم »(6)
قال : إنّ اللّه خلق القلم من شجره فی الجنّه یقال لها الخلد ، ثمّ قال لنهر فی الجنّه کن مداداً فجمد النهر وکان أشدّ بیاضاً من الثلج وأحلی من الشهد ، ثم قال للقلم : اکتب قال : وما أکتب یا ربّ ؟ قال : اکتب ما کان وما هو کائن إلی یوم القیامه .
فکتب القلم فی رقّ أشدّ بیاضاً من الفضّه وأصفی من الیاقوت ، ثمّ طواه فجعله فی رکن العرش ، ثمّ ختم علی فم القلم فلم ینطق بعد ولا ینطق أبداً ، فهو الکتاب المکنون الذی منه النسخ کلّها ، أو لستم عُربا فکیف لا تعرفون معنی الکلام ، وأحدکم یقول لصاحبه انسخ ذلک الکتاب ، أو لیس إنّما ینسخ من کتاب أخذ من الأصل وهو قوله « إنّا کنّا نستنسخ ما کنتم تعملون »(7) .
فإنّ الظاهر منه هو أنّ الإستنساخ کان واقعاً ممّا کتبه القلم ، فالملائکه یکتبون الأعمال التی قدّرها اللّه تعالی علی العباد فی السابق . فبعد صدور الأعمال من العباد ، یکتبونها لا عن أعمالهم فی الخارج بل عمّا أملاه اللّه تعالی للقلم سابقاً کما ورد فی الخبر «و علی ما سطر فی المکنون من کتابه ماضون لا یعملون خلاف ما علم منهم ولا غیره یریدون»(8) .
هذا کلّه بحسب هذا الخبر وهناک خبر آخر یدلّ علی أنّ الإستنساخ یکون من العمل ، والذی یخطر بالبال أنّ هذا الخبر یساعده ظاهر الآیه المبارکه کما أشار الإمام علیه السلام علی ذلک بقوله : «أو لستم عُرباً» فیحتمل أن یکون الخبر الآخر مشیراً إلی بطن الآیه واللّه تعالی العالم .
نعم ، إنّ اللّه تعالی علم أنّهم سیفعلونها عن قدره واختیار ، ولذا لا یضرّ العلم باختیارهم فهم من حیث أنّهم تحمّلوا نور القدره مختارون لما یشاوءون ، والعلم المحمول تابع لا متبوع وتفصیل الکلام حول شبهه الجبر ونقضها فی کتابنا «سدّ المفرّ علی القائل بالقدر» ، فراجع .
فتحصّل أنّ الظاهر من الآیه المبارکه أنّها تشیر إلی العلم المحمول ، وقد استدلّ الإمام علیه السلام بها علی علمه تعالی بالأشیاء قبل کونها ، وبذلک یتّضح أنّ العلم المحمول أیضاً علم بلا معلوم .
وبناء علی ما استظهرناه من الآیه المبارکه ، لا تکون هذه من الآیات الدالّه علی علمه المکفوف إلاّ باعتبار أنّ العلم المحمول متقوّم بالعلم المخزون المکنون ، ولعلّ الإمام علیه السلام کان بصدد بیان علمه الأزلیّ غیر المحمول لدلاله قوله علیه السلام :
«فلم یزل اللّه عزّ وجلّ علمه سابقاً للأشیاء قدیماً قبل أن یخلقها فتبارک ربّنا وتعالی علواً کبیراً» علی أنّ اللّه تعالی عالم بالأشیاء قدیماً وقبل خلق الخلائق إلاّ أنّه لمّا کان معرفه علمه المکنون المخزون ممّا یصعب علی الرواه ، لذا استدلّ علی علمه تعالی بالأشیاء قبل کونها بالعلم المحمول ، فإنّ وجدان کون علمه تعالی بلا حصر ولا حدّ ولا تعیّن ، وأّنه تعالی عالم بالأنظمه اللامتناهیه أزلاً بالعلم بلا معلوم ممّا لا یمکن إلاّ لمن استنار قلبه بأنوار معارف أهل البیت علیهم السلام .
وبما أنّ منشأ العلم المحمول هو العلم الأزلیّ المخزون المکنون الذی لا یطّلع علیه أحد ، یکون علمه تعالی بالأشیاء قبل کونها بالعلم المکفوف بطریق أولی ، واللّه تعالی العالم .
و من المحتمل أن یکون وجه الإستشهاد بقوله تعالی « إنَّا کُنَّا نَسْتَنْسِخُ » الآیه علی العلم بلا معلوم فی خبر الإمام الرضا علیه السلام هو أنّها تدلّ علی الإستنساخ ، فلابدّ من أن یکون هناک أصل یستنسخ منه وهو ما یدلّ علیه الخبر الوارد فی تفسیر القمّی ، ولا یتصوّر ، ولا یعقل وجود ذلک الأصل إلاّ من جهه العلم بلا معلوم کما هو واضح .
وعلی أیّ تقدیر ، فإنّ دلاله الآیه المبارکه علی العلم بلا معلوم لیست إلاّ من جهه دلالتها علی أصل یکون الإستنساخ منه وهو لا یتصوّر إلاّ من جهه العلم بلا معلوم فلا تنافی بین الخبرین . واللّه تعالی العالم وأولیاؤه بحقائق کلامه .
و أمّا استشهاده علی علمه تعالی قبل الأشیاء بقوله تعالی « وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ »(9)
فهو لأجل دلاله الآیه المبارکه علی أنّ اللّه تعالی مع أنّه لا یعید الکفّار إلی دار الدنیا إلاّ أنّه عالم بأنّه إن ردّهم إلی دار الدنیا سیعودون إلی کفرهم القدیم .
فهده الآیه المبارکه آیه علمه بجمیع التقدیریّات ، فإنّه عالم بأنّه إن قدّر لزید أن یعیش کذا من العمر کیف سیکون عمله ، ولذا ورد فی الدعاء «فإذا کان عمری مرتعاً للشیطان فاقبضنی إلیک»(10)
فإنّه تعالی عالم بأنّ عمر الإنسان سیکون مرتعاً للشیطان فی المستقبل أو سبباً لنیل المکارم والفضائل .
و أمّا استشهاده علیه السلام بقوله تعالی « إِنِّی جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ خَلِیفَهً »(11)
الآیه فهو لأجل علمه تعالی بشرف الخلیفه وإطاعته له تعالی ، وهذا هو ما جهله الملائکه ، فصار جهلهم سبباً للإعتراض علی اللّه تعالی . وبما أنّ اللّه تعالی عالم بمآل الخلیفه فی المستقبل ، یکون علمه تعالی بحاله علماً بلا معلوم وقبل وقوع الشیء .
وقال تعالی : « لَوْ کَانَ فِیهِمَا آلِهَهٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا یَصِفُونَ »(12)
وقال تعالی : « مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا کَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذا لَّذَهَبَ کُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَی بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا یَصِفُونَ »(13) .
عن فتح بن یزید الجرجانی عن الإمام أبی الحسن علیه السلام قال : قلت له : یعلم القدیم الشیء الذی لم یکن أن لو کان کیف کان یکون ؟
قال : ویحک ، إنّ مسألتک لصعبه ، أما سمعت اللّه یقول « لو کان فیهما آلهه إلاّ اللّه لفسدتا » وقوله « ولعلا بعضهم علی بعض » وقال یحکی قول أهل النار « أخرجنا نعمل صالحاً غیر الّذی کنّا نعمل » وقال « ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه » فقد علم الشیء الذی لم یکن أن لو کان کیف کان یکون ، الخبر(14) .
بیان : فیظهر من هذا الخبر الشریف أنّ اللّه تعالی عالم بالأشیاء الممتنعه أیضاً ، فإنّه تعالی عالم بأنّ وجود إلهین یوجب الفساد فی العالم وأنّه تعالی عالم بالتقدیریّات أیضاً .
المصادر :
1- بحارالأنوار : 4/80 ، معانی الأخبار : 146 .
2- الجاثیه : 29 .
3- الأنعام : 28 .
4- البقره : 30 .
5- بحارالأنوار : 4/78 ، التوحید : 136 ، عیون أخبار الرضا علیه السلام : 1/118 .
6- القلم : 1 .
7- تفسیر القمّی : 2/379 .
8- التوحید : 47 .
9- الأنعام : 28 .
10- بحارالأنوار : 70/62 ، الصحیفه السجادیه : 94 .
11- البقره : 30 .
12- الأنبیاء : 22 .
13- المؤمنون : 91 .
14- بحارالأنوار : 4/82 ، التوحید : 64 .