اتخذ الأئمة الأطهار من أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم مواقف صريحة وصلبة من الغلو والغلاة، فقد أعلنوا عن كفرهم وإلحادهم والبراءة منهم، حفاظا على الخط الرسالي الذي دافع عنه الأئمة (عليهم السلام) بكل ما أتيح لهم من وسائل، ولم يدخروا في هذا السبيل وسعا وجهدا.
ولقد اندس في صفوف شيعة أهل البيت (عليهم السلام) زمرة خبيثة من أهل الدجل والبدع والأضاليل إلى حد الإلحاد والكفر، حاملين معاول الهدم في صرح مبادئ الإسلام وتعاليمه السامية، فأغروا بعض السذج الذين لا يملكون أي وعي وتدبر.
فلقد انتحل الغلاة بعض الأحاديث ودسوها في أقوال الأئمة (عليهم السلام) وذلك لكسب الأنصار والمؤيدين من جهة، وتهديم الشريعة وتشويهها من جهة أخرى. قال الإمام الرضا (عليه السلام): إن مخالفينا وضعوا أخبارا في فضائلنا، وجعلوهاعلى ثلاثة أقسام:
أحدها الغلو، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلو فينا كفروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا (1).
ومن رؤوس هؤلاء الغلاة المعاصرين للإمام الهادي (عليه السلام) علي بن حسكة، والقاسم بن يقطين، والحسن بن محمد بن باب القمي، وفارس بن حاتم بن ماهويه القزويني، ومحمد بن نصير الفهري النميري.
لقد اختلق هؤلاء الأحاديث على لسان الأئمة (عليهم السلام) التي تشمئز منها النفوس، ومن بدعهم التي حاولوا فيها الكيد للإسلام وتشويه واقع الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ادعاؤهم أن الصلاة والزكاة والصيام وسائر الفرائض جميعها رجل، فاستهتروا بسائر السنن الإلهية، وأسقطوا الفرائض عمن دان بمذهبهم، بل وأباحوا نكاح المحارم واللواط وقالوا بالتناسخ وما إلى ذلك من المحرمات.
والأنكى من جميع ذلك أنهم ادعوا أن الإمام الهادي (عليه السلام) هو الرب الخالق والمدبر للكون، وأنه بعث ابن حسكة ومحمد بن نصير الفهري وابن بابا وغيرهم أنبياء يدعون الناس إليهم ويهدونهم، وكان هدفهم الأساس هو الاستحواذ على أموال الناس والحقوق والوجوه الشرعية التي تحمل إلى الإمام (عليه السلام) كما هو ظاهر بعض الروايات الآتية.
وعلى الرغم من الإقامة الجبرية التي فرضت على الإمام الهادي (عليه السلام) في ظل خلفاء بني العباس، وملاحقة مواليه وشيعته ومحبيه، فإنه (عليه السلام) وأصحابه رضوان الله عليهم لم يدخروا جهدا في سبيل التصدي لهذه الحركة المنحرفة، ضمن المسؤولية الشرعية والعلمية المناطة به (عليه السلام) لتصحيح المسار الإسلامي بكل ما حوى من علوم ومعارف واتجاهات، فقد لعنهم الإمام (عليه السلام) وأعلن البراءة منهم، ودعا إلى نبذ أتباعهم، وحذر أصحابه وسائر المسلمين من الاتصال بهم أو الانخداع بمفترياتهم ودسائسهم، بل وأمر بقتل زعيم الغلاة في وقته فارس بن حاتم، وضمن لقاتله الجنة، كما سيأتي بيانه في الروايات.
أسباب الغلو: يقول الشيخ باقر شريف القرشي: أما الأسباب التي دعت إلى الغلو، والقول بأن الإمام الهادي (عليه السلام) هو الإله والخالق للأكوان فهي فيما نحسب ما يلي:
وفي ما يلي نورد طائفة مختارة من الأحاديث الدالة على كفر هؤلاء الملحدين وخروجهم عن ملة الإسلام، وعلى موقف الإمام وأصحابه الحاسم منهم،واستخدام شتى الوسائل في سبيل تفتيت دسيستهم وتشتيت شملهم، ومن ثم تفنيد آرائهم ونبذهم.
ومن أقاويلهم: إنهم يقولون: إن قول الله تعالى: *(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)*(3) معناها رجل، لا سجود ولا ركوع، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل لا عدد دراهم ولا إخراج مال، وأشياء من الفرائض والسنن والمعاصي فأولوها وصيروها على هذا الحد الذي ذكرت لك. فإن رأيت أن تبين لنا وأن تمن على مواليك بما فيه سلامتهم ونجاتهم من هذه الأقاويل التي تخرجهم إلى الهلاك؟ فكتب (عليه السلام): ليس هذا ديننا فاعتزله (4).
وروى الكشي عن إبراهيم بن شيبة نحو هذا الحديث (5)، مما يدل على أنأكثر من واحد من أصحاب الإمام (عليه السلام) كتب إليه في هذا المضمار لما فيه من خطورة بالغة.
وروى الكشي أيضا بالإسناد عن محمد بن عيسى، قال: كتب إلي أبو الحسن العسكري (عليه السلام) ابتداء منه: لعن الله القاسم اليقطيني، ولعن الله علي ابن حسكة القمي، إن شيطانا يتراءى للقاسم فيوحي إليه زخرف القول غرورا (6).
وروى بالإسناد عن سهل بن زياد الآدمي، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن العسكري (عليه السلام): جعلت فداك يا سيدي، إن علي بن حسكة يدعي أنه من أوليائك وأنك أنت الأول القديم، وأنه بابك ونبيك، أمرته أن يدعو إلى الأقاويل التي تخرجهم إلى الهلاك؟ فكتب (عليه السلام): ليس هذا ديننا فاعتزله.
وروى الكشي عن إبراهيم بن شيبة نحو هذا الحديث ، مما يدل على أن أكثر من واحد من أصحاب الإمام (عليه السلام) كتب إليه في هذا المضمار لما فيه من خطورة بالغة.
وروى الكشي أيضا بالإسناد عن محمد بن عيسى، قال: كتب إلي أبو الحسن العسكري (عليه السلام) ابتداء منه: لعن الله القاسم اليقطيني، ولعن الله علي ابن حسكة القمي، إن شيطانا يتراءى للقاسم فيوحي إليه زخرف القول غرورا.
وروى بالإسناد عن سهل بن زياد الآدمي، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن العسكري (عليه السلام): جعلت فداك يا سيدي، إن علي بن حسكة يدعي أنه من أوليائك وأنك أنت الأول القديم، وأنه بابك ونبيك، أمرته أن يدعو إلى ذلك، ويزعم أن الصلاة والزكاة والحج والصوم كل ذلك معرفتك ومعرفة من كان في مثل حال ابن حسكة فيما يدعي من البابية والنبوة، فهو مؤمن كامل سقط عنه الاستعباد بالصلاة والصوم والحج، وذكر جميع شرائع الدين أن معنى ذلك كله ما ثبت لك، ومال الناس إليه كثيرا، فإن رأيت أن تمن على مواليك بجواب في ذلك تنجيهم من الهلكة.
قال: فكتب (عليه السلام): كذب ابن حسكة عليه لعنة الله، وبحسبك أني لا أعرفه في موالي، ما له لعنة الله، فوالله ما بعث الله محمدا والأنبياء قبله إلا بالحنيفية والصلاة والزكاة والصيام والحج والولاية، وما دعا محمد (صلى الله عليه وآله) إلا إلى الله وحده لا شريك له، وكذلك نحن الأوصياء .
روى الكشي بالإسناد عن العبيدي، قال: كتب إلي العسكري ابتداء منه: أبرأ إلى الله من الفهري، والحسن بن محمد بن بابا القمي، فابرأ منهما، فإني محذرك وجميع موالي، وإني ألعنهما عليهما لعنة الله مستأفكين يأكلان بنا الناس، فتانين مؤذيين آذاهما الله، أركسهما في الفتنة ركسا، يزعم ابن بابا أني بعثته نبيا، وأنه باب، عليه لعنة الله، سخر منه الشيطان فأغواه، فلعن الله من قبل منه ذلك، يا محمد، إن قدرت أن تشدخ رأسه بالحجر فافعل، فإنه قد آذاني، آذاه الله في الدنيا والآخرة (7).
وبالإسناد عن سهل بن محمد [أنه كتب إليه (عليه السلام):] قد اشتبه يا سيدي على جماعة من مواليك أمر الحسن بن محمد بن بابا، فما الذي تأمرنا يا سيدي في أمره نتولاه، أم نتبرأ منه، أم نمسك عنه، فقد كثر القول فيه؟
فكتب بخطه وقرأته: ملعون هو وفارس، تبرأوا منهما، لعنهما الله، ضاعف ذلك على فارس (8).
قال الكشي: وجدت بخط جبرئيل بن أحمد، حدثني موسى بن جعفر بن وهب، عن محمد بن إبراهيم، عن إبراهيم بن داود اليعقوبي، قال: كتبت إليه - يعني إلى أبي الحسن (عليه السلام) - اعلمه أمر فارس بن حاتم، فكتب: لا تحفلن به، وإن أتاك فاستخف به (9).
وعنه بإسناده عن موسى، قال: كتب عروة إلى أبي الحسن (عليه السلام) في أمر فارس بن حاتم، فكتب: كذبوه واهتكوه، أبعده الله وأخزاه، فهو كاذب في جميع ما يدعي ويصف، ولكن صونوا أنفسكم عن الخوض والكلام في ذلك، وتوقوا مشاورته، ولا تجعلوا له السبيل إلى طلب الشر، فكفانا الله مؤونته ومؤونة من كان مثله (10).
وبالإسناد عن إبراهيم بن محمد أنه قال: كتبت إليه: جعلت فداك، قبلنا أشياء تحكى عن فارس، والخلاف بينه وبين علي بن جعفر، حتى صار يبرأ بعضهم من بعض، فإن رأيت أن تمن علي بما عندك فيهما، وأيهما يتولى حوائجي قبلك حتى لا أعدوه إلى غيره، فقد احتجت إلى ذلك، فعلت متفضلا إن شاء الله؟ فكتب (عليه السلام): ليس عن مثل هذا يسأل، ولا في مثله يشك، قد عظم الله قدر علي بن جعفر - متعنا الله تعالى به - من أن يقايس إليه، فاقصد علي بن جعفر بحوائجك، واخشوا فارسا وامتنعوا من إدخاله في شيء من أموركم، تفعل ذلك أنت ومن أطاعك من أهل بلادك، فإنه قد بلغني ما يموه به على الناس، فلا تلتفتوا إليه إن شاء الله.
وعنه بالإسناد عن محمد بن عيسى بن عبيد: أن أبا الحسن العسكري (عليه السلام) أمر بقتل فارس بن حاتم وضمن لمن قتله الجنة، فقتله جنيد، وكان فارس فتانا يفتن الناس ويدعوهم إلى البدعة، فخرج من أبي الحسن (عليه السلام): هذا فارس لعنه الله يعمل من قبلي فتانا داعيا إلى البدعة، ودمه هدر لكل من قتله، فمن هذا الذي يريحني منه ويقتله، وأنا ضامن له على الله الجنة (11).
وعنه، قال: قال سعد: وحدثني جماعة من أصحابنا من العراقيين وغيرهم هذا الحديث عن جنيد، قال: سمعته أنا بعد ذلك من جنيد، أرسل إلي أبو الحسن العسكري (عليه السلام) يأمرني بقتل فارس بن حاتم لعنه الله، فقلت لأخي: أسمعته منه يقول لي ذلك يشافهني به؟ قال: فبعث إلي فدعاني، فصرت إليه، فقال:
آمرك بقتل فارس بن حاتم، فناولني دراهم من عنده وقال: اشتر بهذه سلاحا فاعرضه علي، فاشتريت سيفا فعرضته عليه، فقال: رد هذا وخذ غيره. قال: فرددته وأخذت مكانه ساطورا، فعرضته عليه، فقال: هذا نعم، فجئت إلى فارس، وقد خرج من المسجد بين الصلاتين المغرب والعشاء، فضربت على رأسه فصرعته، فثنيت عليه فسقط ميتا، ووقعت الضجة، فرميت الساطور من يدي واجتمع الناس، وأخذت إذ لم يوجد هناك أحد غيري، فلم يروا معي سلاحا ولا سكينا، وطلبوا الزقاق والدور فلم يجدوا شيئا، ولم يروا أثر الساطور بعد ذلك.
وعن أبي محمد الرازي، قال: ورد علينا رسول من قبل الرجل ، أما القزويني فارس، فإنه فاسق منحرف، ويتكلم بكلام خبيث، فلعنه الله. وروى المجلسي (رحمه الله) عن غيبة الطوسي، قال: ومن المذمومين فارس بن حاتم بن ماهويه القزويني، على ما رواه عبد الله بن جعفر الحميري، قال: كتب أبو الحسن العسكري (عليه السلام) إلى علي بن عمرو القزويني بخطه: اعتقد فيما تدين الله به أن الباطن عندي حسب ما أظهرت لك فيمن استنبأت عنه، وهو فارس لعنه الله، فإنه ليس يسعك إلا الاجتهاد في لعنه، وقصده ومعاداته، والمبالغة في ذلك بأكثرما تجد السبيل إليه.
ما كنت آمر أن يدان الله بأمر غير صحيح، فجد وشد في لعنه وهتكه وقطع أسبابه، وصد أصحابنا عنه، وإبطال أمره، وأبلغهم ذلك مني، واحكه لهم عني، وإني سائلكم بين يدي الله عن هذا الأمر المؤكد، فويل للعاصي وللجاحد.
وكتبت بخطي ليلة الثلاثاء لتسع ليال من شهر ربيع الأول سنة 250قال السيد هاشم معروف الحسني: مما لا شك فيه أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يحرصون بكل ما يملكون من قوة وبيان على أن يجعلوا من أصحابهم وشيعتهم ومن يتصل بهم دعاة حق وخير، يمثلون الإسلام، ويجسدون تعاليمه بأفعالهم قبل أقوالهم، كما كانوا يحرصون على تنزيه تعاليم الإسلام من التشويه والتحريف والافتراء، وعلى أنهم عبيد الله لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم ضرا، ولا أن يجلبوا لها خيرا إلا بمشيئة الله، وقد تعرضوا في حياتهم لظلم الحكام واضطهادهم، ولما يمكن أن يتعرض له كل إنسان من البلاء وأنواع التقلبات، وعاشوا مع الناس كغيرهم من الناس، ولعنوا من قال فيهم ما لم يقولوه في أنفسهم، ومن نسب إليهم علم الغيب والخلق والرزق وكل ما هو من خصائص الخالق وصفاته، ومع ذلك فقد أضاف إليهم بعض المحبين والمبغضين ما ليس بهم، وأظهر الغلو فيهم أناس عن سوء نية، ولكنهم وقفوا للجميع بالمرصاد، فلعنوا المغالين وتبرأوا منهم، وأعلنوا للناس ضلالهم وجحودهم، وأمروا محبيهم بالاعتدال، ومبغضيهم بالرجوع إلى وصايا نبيهم (صلى الله عليه وآله) في أهل بيته وعترته (عليهم السلام)، وخرجوا من هذه الدنيا وهم من أنصح خلق الله لخلقه، وأحرصهم على دينه وشريعته، وأصبرهم على بلائه، وأخوفهم من سخطه وعقابه (12).
اهتداء بعضهم:هذا ومن جانب آخر كان الإمام (عليه السلام) يتخذ موقفا هادئا رصينا من أصحابه الذين دخلت عليهم مثل هذه الشبهة، وذلك لأجل سوقهم إلى شاطئ الهداية والسلام. ومن هؤلاء الفتح بن يزيد الجرجاني، قال: ضمني وأبا الحسن الطريق حين منصرفي من مكة إلى خراسان، وهو صائر إلى العراق... إلى أن قال: فخرجت، فلما كان من الغد تلطفت في الوصول إليه، فسلمت عليه، فرد علي السلام، فقلت: يا بن رسول الله، أتأذن لي في مسألة اختلج في صدري أمرها ليلتي؟ قال: سل، وإن شرحتها فلي، وإن أمسكتها فلي، فصحح نظرك، وتثبت في مسألتك، وأصغ إلى جوابها سمعك، ولا تسأل مسألة تعينت، واعتن بما تعتني به، فإن العالم والمتعلم شريكان في الرشد، مأموران بالنصيحة، منهيان عن الغش.
وأما الذي اختلج في صدرك ليلتك، فإن شاء العالم أنبأك، إن الله لم يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول، فكلما كان عند الرسول كان عند العالم، وكلما اطلع عليه الرسول فقد أطلع أوصياءه عليه، لئلا تخلو أرضه من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته، وجواز عدالته. يا فتح، عسى الشيطان أراد اللبس عليك، فأوهمك في بعض ما أودعتك،وشككك في بعض ما أنبأتك، حتى أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم، فقلت: متى أيقنت أنهم كذا فهم أرباب، معاذ الله، إنهم مخلوقون مربوبون مطيعون لله، داخرون راغبون، فإذا جاءك الشيطان من قبل ما جاءك فاقمعه بما أنبأتك به.
فقلت له: جعلت فداك، فرجت عني، وكشفت ما لبس الملعون علي بشرحك، فقد كان أوقع في خلدي أنكم أرباب. قال: فسجد أبو الحسن وهو يقول في سجوده: راغما لك يا خالقي، داخرا خاضعا. قال: فلم يزل كذلك حتى ذهب ليلي، ثم قال: يا فتح، كدت أن تهلك وتهلك، وما ضر عيسى إذا هلك من هلك، فاذهب إذا شئت رحمك الله.
قال: فخرجت وأنا فرح بما كشف الله عني من اللبس، بأنهم هم، وحمدت الله على ما قدرت عليه، فلما كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهو متكئ وبين يديه حنطة مقلوة يعبث بها، وقد كان أوقع الشيطان في خلدي أنه لا ينبغي أن يأكلوا ويشربوا، إذ كان ذلك آفة، والإمام غير مأوف.
فقال: اجلس يا فتح، فإن لنا بالرسل أسوة، كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، وكل جسم مغذو بهذا إلا الخالق الرازق، لأنه جسم الأجسام، وهو لم يجسم ولم يجزأ بتناه، ولم يتزايد ولم يتناقص، مبرء من ذاته، ما ركب في ذات من جسمه، الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، منشئ الأشياء، مجسم الأجسام، وهو السميع العليم، اللطيف الخبير، الرؤوف الرحيم، تبارك وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
لو كان كما وصف لم يعرف الرب من المربوب، ولا الخالق من المخلوق، ولا المنشئ من المنشأ، ولكنه فرق بينه وبين من جسمه، وشيئا الأشياء، إذ كان لا يشبهه شيء يرى، ولا يشبه شيئا.
الواقفة : وهم الواقفون على الإمام الكاظم (عليه السلام) والقائلون: إنه حي يرزق، وإنه هو القائم من آل محمد (عليهم السلام)، وإن غيبته كغيبة موسى بن عمران عن قومه، ويلزم من ذلك عدم انتقال الإمامة إلى ولده الإمام الرضا (عليه السلام) حسب اعتقادهم. وقد روج لهذه الفكرة بعض الكبار من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) كعلي بن أبي حمزة البطائني، وزياد بن مروان القندي، وعثمان بن عيسى الرواسي، ويعتبر هؤلاء الثلاثة أول من ابتدع هذا المذهب، وأظهر الاعتقاد به، والدعوة إليه.
ولم تكن الجذور الأساسية لهذه الدعوة ناشئة عن محض الاعتقاد والاقتناع بواقعيتها، بل هي رغبات مادية وعوامل دنيوية أثرت في نفوسهم الضعيفة، فانحرفت بهم إلى هذا الطريق. ويعتذر هؤلاء لتورطهم في هذا المذهب بأخبار وضعوها أو سمعوها عن الإمام الصادق (عليه السلام)، ولكنهم جهلوا أو تجاهلوا محتواها، وانغلق عليهم فهمها، وأغرتهم عروض الدنيا الزائلة، فقد كان عند علي بن أبي حمزة البطائني ثلاثون ألف دينار، وعند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار، وعند عثمان الرواسي ثلاثون ألف دينار، لأنهم كانوا من قوام الإمام الكاظم (عليه السلام) وخزنة أمواله، فنازعتهم نفوسهم في تسليم هذه الأموال لولده القائم بعده، فتحيلوا بإنكار موت الإمام الكاظم (عليه السلام)، وادعاء أنه حي يرزق، وأنهم لن يسلموا الأموال حتى يرجع فيسلموها له.
ولقد غرر هؤلاء بصفوة بريئة من أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، وألقوا عليهم الشبهة، واستمالوا بعضهم بالأموال، فدانوا بما قالوا، ولكنهم سرعان ما رجع بعضهم إلى الاعتراف بإمامة الرضا (عليه السلام) بعد أبيه الكاظم (عليه السلام) وحادوا عن مذهب الوقف إلى قول الحق، وقد استغرقت هذه الفرقة ردحا طويلا من الزمن، تخللها المنازعات والخلافات إلى أن انقرضت، ولم يبق لها أثر، ويطلق عليهم الممطورة والموسوية .
ولا نريد هنا الإسهاب في موضوع الواقفة، فقد تعرضنا لمواقف الإمام الكاظم والإمام الرضا (عليهما السلام) من هذه الفرقة، وذكرنا مجمل اعتقاداتهم والرد عليها، وبينا بطلان ما تمسكوا به من أحاديث موضوعة أو مؤولة على غير ظاهرها، وذكرنا أيضا جمله أحاديث وردت عن أئمة الهدى (عليهم السلام) في الطعن عليهم، وأخيرا بينا اهتداء كثير منهم على يد الإمام الرضا (عليه السلام) ، والذي يهمنا هنا هو بيان بعض أحوال المعتقدين بالوقف في زمان الإمام الهادي (عليه السلام)، ومواقفه (عليه السلام) منهم، واهتداء بعض منهم على يديه (عليه السلام)، بعد أن بهرتهم معاجزه وسعة علومه (عليه السلام)، فقالوا بإمامته وسلموا لأمره (عليه السلام).
روى الكشي عن محمد بن الحسن، قال: حدثني أبو علي الفارسي، قال: حكى منصور عن الصادق علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام) أن الزيدية والواقفة والنصاب بمنزلة عنده سواء.
وفي مناقب ابن شهرآشوب، عن أبي سعيد العامري، عن صالح بن الحكم بياع السابري، قال: كنت واقفيا، فلما أخبرني حاجب المتوكل بذلك أقبلت أستهزئ به، إذ خرج أبو الحسن (عليه السلام) فتبسم في وجهي من غير معرفة بيني وبينه، وقال: يا صالح، إن الله تعالى قال في سليمان: *(وسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب)* ، ونبيك وأوصياء نبيك أكرم على الله تعالى من سليمان، قال: وكأنما انسل من قلبي الضلالة، فتركت الوقف.
وعن أبي الحسن سعيد بن سهل البصري المعروف بالملاح، قال: دلني أبو الحسن (عليه السلام) وكنت واقفا، فقال لي: إلى كم هذه النومة، أما لك أن تنتبه منها؟ فقدح في قلبي شيئا، وغشي علي، وتبعت الحق (13).
وروى المسعودي بإسناده عن الحميري، عن أحمد بن محمد بن مابنداذ الكاتب الإسكافي، قال: تقلدت ديار ربيعة وديار مضر، فخرجت وأقمت بنصيبين، وقلدت عمالي وأنفذتهم إلى نواحي أعمالي، وتقدمت أن يجعل إلي كل واحد منهم كل من يجده في عمله ممن له مذهب، فكان يرد علي في اليوم الواحد والاثنان والجماعة منهم فأسمع منهم وأعامل كل واحد بما يستحقه.
فأنا ذات يوم جالس إذ ورد كتاب عامل بكفر توثى ، يذكر أنه توجه إلي برجل يقال له إدريس بن زياد، فدعوت به فرأيته وسيما قسيما قبلته نفسي، ثم ناجيته فرأيته ممطورا ، ورأيته من المعرفة بالفقه والأحاديث على ما أعجبني، فدعوته إلى القول بإمامة الاثني عشر، فأبى وأنكر علي ذلك وخاصمني فيه، وسألته بعد مقامه عندي أياما أن يهب لي زورة إلى سر من رأى، لينظر إلى أبي الحسن (عليه السلام) وينصرف.
فقال لي: أنا أقضي حقك بذلك، وشخص بعد أن حمله، فأبطأ عني وتأخر كتابه، ثم إنه قدم ودخل إلي، فأول ما رآني أسبل عينيه بالبكاء، فلما رأيته باكيا لم أتمالك حتى بكيت، فدنا مني وقبل يدي ورجلي، ثم قال: يا أعظم الناس منة، نجيتني من النار وأدخلتني الجنة. وحدثني فقال لي: خرجت من عندك وعزمي إذا لقيت سيدي أبا الحسن أن أسأله عن مسائل، وكان فيما أعددته أن أسأله عن عرق الجنب، هل يجوز الصلاة في القميص الذي أعرق فيه وأنا جنب، أم لا؟ فصرت إلى سر من رأى، فلم أصل إليه، وأبطأ من الركوب لعلة كانت به، ثم سمعت الناس يتحدثون بأنه يركب، فبادرت ففاتني، ودخل دار السلطان.
فجلست في الشارع، وعزمت أن لا أبرح أو ينصرف، واشتد الحر علي،فعدلت إلى باب دار فيه، فجلست أرقبه ونعست، فحملتني عيني فلم أنتبه إلا بمقرعة قد وضعت على كتفي، ففتحت عيني، فإذا هو مولاي أبو الحسن (عليه السلام) واقف على دابة، فوثبت فقال لي: يا إدريس، أما آن لك؟ فقلت: بلى يا سيدي، فقال: إن كان العرق من حلال فحلال، وإن كان من حرام فحرام، من غير أن أسأله، فقلت به وسلمت لأمره.
الفطحية :وهم القائلون بإمامة عبد الله بن جعفر الصادق (عليه السلام) بعد أبيه، واعتلوا في ذلك بأنه كان أكبر ولد أبي عبد الله (عليه السلام)، وهذه الطائفة تسمى الفطحية، وإنما لزمهم هذا اللقب لأن عبد الله كان أفطح الرجلين، وقيل: أفطح الرأس، ويقال: لأن داعيهم إلى ذلك رجل اسمه عبد الله بن الأفطح، وقد رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لما ظهرت عندهم براهين إمامته إلا طائفة يسيرة.
أما اعتقاد الفطحية بإمامة عبد الله فهو واضح البطلان والتهافت، وذلك لأنهم ادعوا أن الإمامة تكون في الأكبر، وهذا إنما يكون مشروطا بالسلامة، فقد ورد أن الإمامة تكون في الأكبر ما لم تكن به عاهة، وكان عبد الله يعاني من عاهة البدن والعقيدة، فقد كان أفطح الرأس أو الرجلين، وكان يقول بقول المرجئة الذين يقعون في أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، هذا فضلا عن أنه لم يرد عنه شيء من الفتيا في الحلال والحرام، ولا كان بمنزلة من يستفتى في الأحكام، وقد امتحن بمسائل صغار فلم يجب عنها، ولا نريد هنا الإطالة في هذا الموضوع، بل نود الإشارة إلى أن بعض الفطحية انطلت عليهم الشبهة وبقوا إلى زمان الإمام الهادي (عليه السلام)، كما هو واضح من بعض النصوص، وقد اهتدى بعضهم كغيرهم من أصحاب الأفكار المنحرفة عن خط الإمامة الأصيل.
روى الشيخ الكليني بإسناده عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، قال: كان عبد الله بن هليل يقول بعبد الله، فصار إلى العسكر، فرجع عن ذلك، فسألته عن سبب رجوعه، فقال: إني عرضت لأبي الحسن (عليه السلام) أن أسأله عن ذلك، فوافقني في طريق ضيق، فمال نحوي حتى إذا حاذاني أقبل نحوي بشيء من فيه، فوقع على صدري، فأخذته فإذا هو رق فيه مكتوب: ما كان هنالك ولا كذلك (14).
الصوفية ونهى الإمام الهادي (عليه السلام) أصحابه وسائر المسلمين عن الاتصال بالصوفية والاختلاط بهم، كما دل على زيفهم بإظهار التقشف والزهد لإغراء عامة الناس وبسطائهم وغوايتهم، ووصفهم بأنهم حلفاء الشياطين في خداع الناس، وأن زهدهم لم يكن حقيقيا وإنما لإراحة أبدانهم، وأن تهجدهم في الليل لم يكن نسكا وإخلاصا في طاعة الله تعالى، وإنما هو وسيلة لصيد أموال الناس وإغوائهم، وأن أورادهم ليست عبادة خالصة لله بل هي رقص وغناء، وأن الذي يتبعهم الحمقى والسفهاء.
روى الحسين بن أبي الخطاب، قال: كنت مع أبي الحسن الهادي (عليه السلام) في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري، وكان بليغا وله منزلة مرموقة عند الإمام (عليه السلام)، وبينما نحن وقوف إذ دخل جماعة من الصوفية المسجد فجلسوا في جانب منه، وأخذوا بالتهليل، فالتفت الإمام إلى أصحابه فقال لهم: لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخداعين، فإنهم حلفاء الشياطين، ومخربوا قواعد الدين، يتزهدون لإراحة الأجسام، ويتهجدون لصيد الأنعام، يتجوعون عمرا حتى يديخوا للإيكاف حمرا، لا يهللون إلا لغرور الناس، ولا يقللون الغذاء إلا لملأ العساس واختلاف قلب الدفناس ، يتكلمون الناس بإملائهم في الحب، ويطرحونهم بإدلائهم في الجب، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنم والتغنية، فلا يتبعهم إلا السفهاء، ولا يعتقد بهم إلا الحمقى، فمن ذهب إلى زيارة أحدهم حيا أو ميتا، فكأنما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان، ومن أعان واحدا منهم فكأنما أعان معاوية ويزيد وأبا سفيان.
فقال له رجل من أصحابه: وإن كان معترفا بحقوقكم؟ قال: فنظر إليه شبه المغضب وقال: دع ذا عنك، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا، أما تدري أنهم أخس طوائف الصوفية؟ والصوفية كلهم من مخالفينا، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا، وإن هم إلا نصارى ومجوس هذه الأمة، أولئك الذين يجتهدون في إطفاء نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون (15).
إلى هنا نكتفي بهذا اليسير، ومن أراد التفصيل فليراجع الموسوعات المعنية بها أو يراجع موسوعة المصطفى والعترة، في ترجمة حياة الأئمة الكاظم والرضا والجواد (عليهم السلام).
المصادر:
1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 304.
2- حياة الإمام الهادي (عليه السلام): 336، لباقر شريف القرشي.
3- العنكبوت: 45.
4- رجال الكشي: 517 / 994.
5- رجال الكشي: 517 / 995.
6- رجال الكشي: 518 / 996.
7- رجال الكشي: 520 / 999.
8- رجال الكشي: 528 / 1011.
9- رجال الكشي: 522 / 1003.
10- رجال الكشي: 522 / 1004.
11- رجال الكشي: 523 / 1005. / 1006.
12- سيرة الأئمة الاثني عشر - القسم الثاني: 465.
13- رجال الكشي: 229 / 410. و ص: 36. المناقب 4: 407.
14- الكافي 1: 355، بحار الأنوار 50: 184 / 61.
15- روضات الجنات 3: 134، سفينة البحار 2: 58.
فلقد انتحل الغلاة بعض الأحاديث ودسوها في أقوال الأئمة (عليهم السلام) وذلك لكسب الأنصار والمؤيدين من جهة، وتهديم الشريعة وتشويهها من جهة أخرى. قال الإمام الرضا (عليه السلام): إن مخالفينا وضعوا أخبارا في فضائلنا، وجعلوهاعلى ثلاثة أقسام:
أحدها الغلو، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلو فينا كفروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا (1).
ومن رؤوس هؤلاء الغلاة المعاصرين للإمام الهادي (عليه السلام) علي بن حسكة، والقاسم بن يقطين، والحسن بن محمد بن باب القمي، وفارس بن حاتم بن ماهويه القزويني، ومحمد بن نصير الفهري النميري.
لقد اختلق هؤلاء الأحاديث على لسان الأئمة (عليهم السلام) التي تشمئز منها النفوس، ومن بدعهم التي حاولوا فيها الكيد للإسلام وتشويه واقع الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ادعاؤهم أن الصلاة والزكاة والصيام وسائر الفرائض جميعها رجل، فاستهتروا بسائر السنن الإلهية، وأسقطوا الفرائض عمن دان بمذهبهم، بل وأباحوا نكاح المحارم واللواط وقالوا بالتناسخ وما إلى ذلك من المحرمات.
والأنكى من جميع ذلك أنهم ادعوا أن الإمام الهادي (عليه السلام) هو الرب الخالق والمدبر للكون، وأنه بعث ابن حسكة ومحمد بن نصير الفهري وابن بابا وغيرهم أنبياء يدعون الناس إليهم ويهدونهم، وكان هدفهم الأساس هو الاستحواذ على أموال الناس والحقوق والوجوه الشرعية التي تحمل إلى الإمام (عليه السلام) كما هو ظاهر بعض الروايات الآتية.
وعلى الرغم من الإقامة الجبرية التي فرضت على الإمام الهادي (عليه السلام) في ظل خلفاء بني العباس، وملاحقة مواليه وشيعته ومحبيه، فإنه (عليه السلام) وأصحابه رضوان الله عليهم لم يدخروا جهدا في سبيل التصدي لهذه الحركة المنحرفة، ضمن المسؤولية الشرعية والعلمية المناطة به (عليه السلام) لتصحيح المسار الإسلامي بكل ما حوى من علوم ومعارف واتجاهات، فقد لعنهم الإمام (عليه السلام) وأعلن البراءة منهم، ودعا إلى نبذ أتباعهم، وحذر أصحابه وسائر المسلمين من الاتصال بهم أو الانخداع بمفترياتهم ودسائسهم، بل وأمر بقتل زعيم الغلاة في وقته فارس بن حاتم، وضمن لقاتله الجنة، كما سيأتي بيانه في الروايات.
أسباب الغلو: يقول الشيخ باقر شريف القرشي: أما الأسباب التي دعت إلى الغلو، والقول بأن الإمام الهادي (عليه السلام) هو الإله والخالق للأكوان فهي فيما نحسب ما يلي:
1 - ما ظهر للإمام من المعاجز والكرامات التي منحها الله له ولآبائه (عليهم السلام)، فاستغلها المنحرفون عن الدين والحاقدون عليه لإظهار البدع وإماتة الإسلام والإجهاز عليه.
2 - التحلل من القيم والآداب الإسلامية، فقد أباحوا كل ما حرمه الإسلام ونهى عنه.
3 - الطمع بأموال الناس وأخذها بالباطل، والاستيلاء على الأموال التي تدفعها الشيعة إلى أئمتها (عليهم السلام)...
وفي ما يلي نورد طائفة مختارة من الأحاديث الدالة على كفر هؤلاء الملحدين وخروجهم عن ملة الإسلام، وعلى موقف الإمام وأصحابه الحاسم منهم،واستخدام شتى الوسائل في سبيل تفتيت دسيستهم وتشتيت شملهم، ومن ثم تفنيد آرائهم ونبذهم.
علي بن حسكة والقاسم اليقطيني:
روى الكشي بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، قال: كتبت إليه (عليه السلام) في قوم يتكلمون ويقرأون أحاديث ينسبونها إليك وإلى آبائك، فيها ما تشمئز منها القلوب، ولا يجوز لنا ردها، إذ كانوا يروون عن آبائك (عليهم السلام)، ولا قبولها لما فيها، وينسبون الأرض إلى قوم يذكرون أنهم من مواليك، وهو رجل يقال له علي ابن حسكة، وآخر يقال له القاسم اليقطيني.ومن أقاويلهم: إنهم يقولون: إن قول الله تعالى: *(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)*(3) معناها رجل، لا سجود ولا ركوع، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل لا عدد دراهم ولا إخراج مال، وأشياء من الفرائض والسنن والمعاصي فأولوها وصيروها على هذا الحد الذي ذكرت لك. فإن رأيت أن تبين لنا وأن تمن على مواليك بما فيه سلامتهم ونجاتهم من هذه الأقاويل التي تخرجهم إلى الهلاك؟ فكتب (عليه السلام): ليس هذا ديننا فاعتزله (4).
وروى الكشي عن إبراهيم بن شيبة نحو هذا الحديث (5)، مما يدل على أنأكثر من واحد من أصحاب الإمام (عليه السلام) كتب إليه في هذا المضمار لما فيه من خطورة بالغة.
وروى الكشي أيضا بالإسناد عن محمد بن عيسى، قال: كتب إلي أبو الحسن العسكري (عليه السلام) ابتداء منه: لعن الله القاسم اليقطيني، ولعن الله علي ابن حسكة القمي، إن شيطانا يتراءى للقاسم فيوحي إليه زخرف القول غرورا (6).
وروى بالإسناد عن سهل بن زياد الآدمي، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن العسكري (عليه السلام): جعلت فداك يا سيدي، إن علي بن حسكة يدعي أنه من أوليائك وأنك أنت الأول القديم، وأنه بابك ونبيك، أمرته أن يدعو إلى الأقاويل التي تخرجهم إلى الهلاك؟ فكتب (عليه السلام): ليس هذا ديننا فاعتزله.
وروى الكشي عن إبراهيم بن شيبة نحو هذا الحديث ، مما يدل على أن أكثر من واحد من أصحاب الإمام (عليه السلام) كتب إليه في هذا المضمار لما فيه من خطورة بالغة.
وروى الكشي أيضا بالإسناد عن محمد بن عيسى، قال: كتب إلي أبو الحسن العسكري (عليه السلام) ابتداء منه: لعن الله القاسم اليقطيني، ولعن الله علي ابن حسكة القمي، إن شيطانا يتراءى للقاسم فيوحي إليه زخرف القول غرورا.
وروى بالإسناد عن سهل بن زياد الآدمي، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن العسكري (عليه السلام): جعلت فداك يا سيدي، إن علي بن حسكة يدعي أنه من أوليائك وأنك أنت الأول القديم، وأنه بابك ونبيك، أمرته أن يدعو إلى ذلك، ويزعم أن الصلاة والزكاة والحج والصوم كل ذلك معرفتك ومعرفة من كان في مثل حال ابن حسكة فيما يدعي من البابية والنبوة، فهو مؤمن كامل سقط عنه الاستعباد بالصلاة والصوم والحج، وذكر جميع شرائع الدين أن معنى ذلك كله ما ثبت لك، ومال الناس إليه كثيرا، فإن رأيت أن تمن على مواليك بجواب في ذلك تنجيهم من الهلكة.
قال: فكتب (عليه السلام): كذب ابن حسكة عليه لعنة الله، وبحسبك أني لا أعرفه في موالي، ما له لعنة الله، فوالله ما بعث الله محمدا والأنبياء قبله إلا بالحنيفية والصلاة والزكاة والصيام والحج والولاية، وما دعا محمد (صلى الله عليه وآله) إلا إلى الله وحده لا شريك له، وكذلك نحن الأوصياء .
روى الكشي بالإسناد عن العبيدي، قال: كتب إلي العسكري ابتداء منه: أبرأ إلى الله من الفهري، والحسن بن محمد بن بابا القمي، فابرأ منهما، فإني محذرك وجميع موالي، وإني ألعنهما عليهما لعنة الله مستأفكين يأكلان بنا الناس، فتانين مؤذيين آذاهما الله، أركسهما في الفتنة ركسا، يزعم ابن بابا أني بعثته نبيا، وأنه باب، عليه لعنة الله، سخر منه الشيطان فأغواه، فلعن الله من قبل منه ذلك، يا محمد، إن قدرت أن تشدخ رأسه بالحجر فافعل، فإنه قد آذاني، آذاه الله في الدنيا والآخرة (7).
وبالإسناد عن سهل بن محمد [أنه كتب إليه (عليه السلام):] قد اشتبه يا سيدي على جماعة من مواليك أمر الحسن بن محمد بن بابا، فما الذي تأمرنا يا سيدي في أمره نتولاه، أم نتبرأ منه، أم نمسك عنه، فقد كثر القول فيه؟
فكتب بخطه وقرأته: ملعون هو وفارس، تبرأوا منهما، لعنهما الله، ضاعف ذلك على فارس (8).
قال الكشي: وجدت بخط جبرئيل بن أحمد، حدثني موسى بن جعفر بن وهب، عن محمد بن إبراهيم، عن إبراهيم بن داود اليعقوبي، قال: كتبت إليه - يعني إلى أبي الحسن (عليه السلام) - اعلمه أمر فارس بن حاتم، فكتب: لا تحفلن به، وإن أتاك فاستخف به (9).
وعنه بإسناده عن موسى، قال: كتب عروة إلى أبي الحسن (عليه السلام) في أمر فارس بن حاتم، فكتب: كذبوه واهتكوه، أبعده الله وأخزاه، فهو كاذب في جميع ما يدعي ويصف، ولكن صونوا أنفسكم عن الخوض والكلام في ذلك، وتوقوا مشاورته، ولا تجعلوا له السبيل إلى طلب الشر، فكفانا الله مؤونته ومؤونة من كان مثله (10).
وبالإسناد عن إبراهيم بن محمد أنه قال: كتبت إليه: جعلت فداك، قبلنا أشياء تحكى عن فارس، والخلاف بينه وبين علي بن جعفر، حتى صار يبرأ بعضهم من بعض، فإن رأيت أن تمن علي بما عندك فيهما، وأيهما يتولى حوائجي قبلك حتى لا أعدوه إلى غيره، فقد احتجت إلى ذلك، فعلت متفضلا إن شاء الله؟ فكتب (عليه السلام): ليس عن مثل هذا يسأل، ولا في مثله يشك، قد عظم الله قدر علي بن جعفر - متعنا الله تعالى به - من أن يقايس إليه، فاقصد علي بن جعفر بحوائجك، واخشوا فارسا وامتنعوا من إدخاله في شيء من أموركم، تفعل ذلك أنت ومن أطاعك من أهل بلادك، فإنه قد بلغني ما يموه به على الناس، فلا تلتفتوا إليه إن شاء الله.
وعنه بالإسناد عن محمد بن عيسى بن عبيد: أن أبا الحسن العسكري (عليه السلام) أمر بقتل فارس بن حاتم وضمن لمن قتله الجنة، فقتله جنيد، وكان فارس فتانا يفتن الناس ويدعوهم إلى البدعة، فخرج من أبي الحسن (عليه السلام): هذا فارس لعنه الله يعمل من قبلي فتانا داعيا إلى البدعة، ودمه هدر لكل من قتله، فمن هذا الذي يريحني منه ويقتله، وأنا ضامن له على الله الجنة (11).
وعنه، قال: قال سعد: وحدثني جماعة من أصحابنا من العراقيين وغيرهم هذا الحديث عن جنيد، قال: سمعته أنا بعد ذلك من جنيد، أرسل إلي أبو الحسن العسكري (عليه السلام) يأمرني بقتل فارس بن حاتم لعنه الله، فقلت لأخي: أسمعته منه يقول لي ذلك يشافهني به؟ قال: فبعث إلي فدعاني، فصرت إليه، فقال:
آمرك بقتل فارس بن حاتم، فناولني دراهم من عنده وقال: اشتر بهذه سلاحا فاعرضه علي، فاشتريت سيفا فعرضته عليه، فقال: رد هذا وخذ غيره. قال: فرددته وأخذت مكانه ساطورا، فعرضته عليه، فقال: هذا نعم، فجئت إلى فارس، وقد خرج من المسجد بين الصلاتين المغرب والعشاء، فضربت على رأسه فصرعته، فثنيت عليه فسقط ميتا، ووقعت الضجة، فرميت الساطور من يدي واجتمع الناس، وأخذت إذ لم يوجد هناك أحد غيري، فلم يروا معي سلاحا ولا سكينا، وطلبوا الزقاق والدور فلم يجدوا شيئا، ولم يروا أثر الساطور بعد ذلك.
وعن أبي محمد الرازي، قال: ورد علينا رسول من قبل الرجل ، أما القزويني فارس، فإنه فاسق منحرف، ويتكلم بكلام خبيث، فلعنه الله. وروى المجلسي (رحمه الله) عن غيبة الطوسي، قال: ومن المذمومين فارس بن حاتم بن ماهويه القزويني، على ما رواه عبد الله بن جعفر الحميري، قال: كتب أبو الحسن العسكري (عليه السلام) إلى علي بن عمرو القزويني بخطه: اعتقد فيما تدين الله به أن الباطن عندي حسب ما أظهرت لك فيمن استنبأت عنه، وهو فارس لعنه الله، فإنه ليس يسعك إلا الاجتهاد في لعنه، وقصده ومعاداته، والمبالغة في ذلك بأكثرما تجد السبيل إليه.
ما كنت آمر أن يدان الله بأمر غير صحيح، فجد وشد في لعنه وهتكه وقطع أسبابه، وصد أصحابنا عنه، وإبطال أمره، وأبلغهم ذلك مني، واحكه لهم عني، وإني سائلكم بين يدي الله عن هذا الأمر المؤكد، فويل للعاصي وللجاحد.
وكتبت بخطي ليلة الثلاثاء لتسع ليال من شهر ربيع الأول سنة 250قال السيد هاشم معروف الحسني: مما لا شك فيه أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يحرصون بكل ما يملكون من قوة وبيان على أن يجعلوا من أصحابهم وشيعتهم ومن يتصل بهم دعاة حق وخير، يمثلون الإسلام، ويجسدون تعاليمه بأفعالهم قبل أقوالهم، كما كانوا يحرصون على تنزيه تعاليم الإسلام من التشويه والتحريف والافتراء، وعلى أنهم عبيد الله لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم ضرا، ولا أن يجلبوا لها خيرا إلا بمشيئة الله، وقد تعرضوا في حياتهم لظلم الحكام واضطهادهم، ولما يمكن أن يتعرض له كل إنسان من البلاء وأنواع التقلبات، وعاشوا مع الناس كغيرهم من الناس، ولعنوا من قال فيهم ما لم يقولوه في أنفسهم، ومن نسب إليهم علم الغيب والخلق والرزق وكل ما هو من خصائص الخالق وصفاته، ومع ذلك فقد أضاف إليهم بعض المحبين والمبغضين ما ليس بهم، وأظهر الغلو فيهم أناس عن سوء نية، ولكنهم وقفوا للجميع بالمرصاد، فلعنوا المغالين وتبرأوا منهم، وأعلنوا للناس ضلالهم وجحودهم، وأمروا محبيهم بالاعتدال، ومبغضيهم بالرجوع إلى وصايا نبيهم (صلى الله عليه وآله) في أهل بيته وعترته (عليهم السلام)، وخرجوا من هذه الدنيا وهم من أنصح خلق الله لخلقه، وأحرصهم على دينه وشريعته، وأصبرهم على بلائه، وأخوفهم من سخطه وعقابه (12).
اهتداء بعضهم:هذا ومن جانب آخر كان الإمام (عليه السلام) يتخذ موقفا هادئا رصينا من أصحابه الذين دخلت عليهم مثل هذه الشبهة، وذلك لأجل سوقهم إلى شاطئ الهداية والسلام. ومن هؤلاء الفتح بن يزيد الجرجاني، قال: ضمني وأبا الحسن الطريق حين منصرفي من مكة إلى خراسان، وهو صائر إلى العراق... إلى أن قال: فخرجت، فلما كان من الغد تلطفت في الوصول إليه، فسلمت عليه، فرد علي السلام، فقلت: يا بن رسول الله، أتأذن لي في مسألة اختلج في صدري أمرها ليلتي؟ قال: سل، وإن شرحتها فلي، وإن أمسكتها فلي، فصحح نظرك، وتثبت في مسألتك، وأصغ إلى جوابها سمعك، ولا تسأل مسألة تعينت، واعتن بما تعتني به، فإن العالم والمتعلم شريكان في الرشد، مأموران بالنصيحة، منهيان عن الغش.
وأما الذي اختلج في صدرك ليلتك، فإن شاء العالم أنبأك، إن الله لم يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول، فكلما كان عند الرسول كان عند العالم، وكلما اطلع عليه الرسول فقد أطلع أوصياءه عليه، لئلا تخلو أرضه من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته، وجواز عدالته. يا فتح، عسى الشيطان أراد اللبس عليك، فأوهمك في بعض ما أودعتك،وشككك في بعض ما أنبأتك، حتى أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم، فقلت: متى أيقنت أنهم كذا فهم أرباب، معاذ الله، إنهم مخلوقون مربوبون مطيعون لله، داخرون راغبون، فإذا جاءك الشيطان من قبل ما جاءك فاقمعه بما أنبأتك به.
فقلت له: جعلت فداك، فرجت عني، وكشفت ما لبس الملعون علي بشرحك، فقد كان أوقع في خلدي أنكم أرباب. قال: فسجد أبو الحسن وهو يقول في سجوده: راغما لك يا خالقي، داخرا خاضعا. قال: فلم يزل كذلك حتى ذهب ليلي، ثم قال: يا فتح، كدت أن تهلك وتهلك، وما ضر عيسى إذا هلك من هلك، فاذهب إذا شئت رحمك الله.
قال: فخرجت وأنا فرح بما كشف الله عني من اللبس، بأنهم هم، وحمدت الله على ما قدرت عليه، فلما كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهو متكئ وبين يديه حنطة مقلوة يعبث بها، وقد كان أوقع الشيطان في خلدي أنه لا ينبغي أن يأكلوا ويشربوا، إذ كان ذلك آفة، والإمام غير مأوف.
فقال: اجلس يا فتح، فإن لنا بالرسل أسوة، كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، وكل جسم مغذو بهذا إلا الخالق الرازق، لأنه جسم الأجسام، وهو لم يجسم ولم يجزأ بتناه، ولم يتزايد ولم يتناقص، مبرء من ذاته، ما ركب في ذات من جسمه، الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، منشئ الأشياء، مجسم الأجسام، وهو السميع العليم، اللطيف الخبير، الرؤوف الرحيم، تبارك وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
لو كان كما وصف لم يعرف الرب من المربوب، ولا الخالق من المخلوق، ولا المنشئ من المنشأ، ولكنه فرق بينه وبين من جسمه، وشيئا الأشياء، إذ كان لا يشبهه شيء يرى، ولا يشبه شيئا.
الواقفة : وهم الواقفون على الإمام الكاظم (عليه السلام) والقائلون: إنه حي يرزق، وإنه هو القائم من آل محمد (عليهم السلام)، وإن غيبته كغيبة موسى بن عمران عن قومه، ويلزم من ذلك عدم انتقال الإمامة إلى ولده الإمام الرضا (عليه السلام) حسب اعتقادهم. وقد روج لهذه الفكرة بعض الكبار من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) كعلي بن أبي حمزة البطائني، وزياد بن مروان القندي، وعثمان بن عيسى الرواسي، ويعتبر هؤلاء الثلاثة أول من ابتدع هذا المذهب، وأظهر الاعتقاد به، والدعوة إليه.
ولم تكن الجذور الأساسية لهذه الدعوة ناشئة عن محض الاعتقاد والاقتناع بواقعيتها، بل هي رغبات مادية وعوامل دنيوية أثرت في نفوسهم الضعيفة، فانحرفت بهم إلى هذا الطريق. ويعتذر هؤلاء لتورطهم في هذا المذهب بأخبار وضعوها أو سمعوها عن الإمام الصادق (عليه السلام)، ولكنهم جهلوا أو تجاهلوا محتواها، وانغلق عليهم فهمها، وأغرتهم عروض الدنيا الزائلة، فقد كان عند علي بن أبي حمزة البطائني ثلاثون ألف دينار، وعند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار، وعند عثمان الرواسي ثلاثون ألف دينار، لأنهم كانوا من قوام الإمام الكاظم (عليه السلام) وخزنة أمواله، فنازعتهم نفوسهم في تسليم هذه الأموال لولده القائم بعده، فتحيلوا بإنكار موت الإمام الكاظم (عليه السلام)، وادعاء أنه حي يرزق، وأنهم لن يسلموا الأموال حتى يرجع فيسلموها له.
ولقد غرر هؤلاء بصفوة بريئة من أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، وألقوا عليهم الشبهة، واستمالوا بعضهم بالأموال، فدانوا بما قالوا، ولكنهم سرعان ما رجع بعضهم إلى الاعتراف بإمامة الرضا (عليه السلام) بعد أبيه الكاظم (عليه السلام) وحادوا عن مذهب الوقف إلى قول الحق، وقد استغرقت هذه الفرقة ردحا طويلا من الزمن، تخللها المنازعات والخلافات إلى أن انقرضت، ولم يبق لها أثر، ويطلق عليهم الممطورة والموسوية .
ولا نريد هنا الإسهاب في موضوع الواقفة، فقد تعرضنا لمواقف الإمام الكاظم والإمام الرضا (عليهما السلام) من هذه الفرقة، وذكرنا مجمل اعتقاداتهم والرد عليها، وبينا بطلان ما تمسكوا به من أحاديث موضوعة أو مؤولة على غير ظاهرها، وذكرنا أيضا جمله أحاديث وردت عن أئمة الهدى (عليهم السلام) في الطعن عليهم، وأخيرا بينا اهتداء كثير منهم على يد الإمام الرضا (عليه السلام) ، والذي يهمنا هنا هو بيان بعض أحوال المعتقدين بالوقف في زمان الإمام الهادي (عليه السلام)، ومواقفه (عليه السلام) منهم، واهتداء بعض منهم على يديه (عليه السلام)، بعد أن بهرتهم معاجزه وسعة علومه (عليه السلام)، فقالوا بإمامته وسلموا لأمره (عليه السلام).
روى الكشي عن محمد بن الحسن، قال: حدثني أبو علي الفارسي، قال: حكى منصور عن الصادق علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام) أن الزيدية والواقفة والنصاب بمنزلة عنده سواء.
وفي مناقب ابن شهرآشوب، عن أبي سعيد العامري، عن صالح بن الحكم بياع السابري، قال: كنت واقفيا، فلما أخبرني حاجب المتوكل بذلك أقبلت أستهزئ به، إذ خرج أبو الحسن (عليه السلام) فتبسم في وجهي من غير معرفة بيني وبينه، وقال: يا صالح، إن الله تعالى قال في سليمان: *(وسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب)* ، ونبيك وأوصياء نبيك أكرم على الله تعالى من سليمان، قال: وكأنما انسل من قلبي الضلالة، فتركت الوقف.
وعن أبي الحسن سعيد بن سهل البصري المعروف بالملاح، قال: دلني أبو الحسن (عليه السلام) وكنت واقفا، فقال لي: إلى كم هذه النومة، أما لك أن تنتبه منها؟ فقدح في قلبي شيئا، وغشي علي، وتبعت الحق (13).
وروى المسعودي بإسناده عن الحميري، عن أحمد بن محمد بن مابنداذ الكاتب الإسكافي، قال: تقلدت ديار ربيعة وديار مضر، فخرجت وأقمت بنصيبين، وقلدت عمالي وأنفذتهم إلى نواحي أعمالي، وتقدمت أن يجعل إلي كل واحد منهم كل من يجده في عمله ممن له مذهب، فكان يرد علي في اليوم الواحد والاثنان والجماعة منهم فأسمع منهم وأعامل كل واحد بما يستحقه.
فأنا ذات يوم جالس إذ ورد كتاب عامل بكفر توثى ، يذكر أنه توجه إلي برجل يقال له إدريس بن زياد، فدعوت به فرأيته وسيما قسيما قبلته نفسي، ثم ناجيته فرأيته ممطورا ، ورأيته من المعرفة بالفقه والأحاديث على ما أعجبني، فدعوته إلى القول بإمامة الاثني عشر، فأبى وأنكر علي ذلك وخاصمني فيه، وسألته بعد مقامه عندي أياما أن يهب لي زورة إلى سر من رأى، لينظر إلى أبي الحسن (عليه السلام) وينصرف.
فقال لي: أنا أقضي حقك بذلك، وشخص بعد أن حمله، فأبطأ عني وتأخر كتابه، ثم إنه قدم ودخل إلي، فأول ما رآني أسبل عينيه بالبكاء، فلما رأيته باكيا لم أتمالك حتى بكيت، فدنا مني وقبل يدي ورجلي، ثم قال: يا أعظم الناس منة، نجيتني من النار وأدخلتني الجنة. وحدثني فقال لي: خرجت من عندك وعزمي إذا لقيت سيدي أبا الحسن أن أسأله عن مسائل، وكان فيما أعددته أن أسأله عن عرق الجنب، هل يجوز الصلاة في القميص الذي أعرق فيه وأنا جنب، أم لا؟ فصرت إلى سر من رأى، فلم أصل إليه، وأبطأ من الركوب لعلة كانت به، ثم سمعت الناس يتحدثون بأنه يركب، فبادرت ففاتني، ودخل دار السلطان.
فجلست في الشارع، وعزمت أن لا أبرح أو ينصرف، واشتد الحر علي،فعدلت إلى باب دار فيه، فجلست أرقبه ونعست، فحملتني عيني فلم أنتبه إلا بمقرعة قد وضعت على كتفي، ففتحت عيني، فإذا هو مولاي أبو الحسن (عليه السلام) واقف على دابة، فوثبت فقال لي: يا إدريس، أما آن لك؟ فقلت: بلى يا سيدي، فقال: إن كان العرق من حلال فحلال، وإن كان من حرام فحرام، من غير أن أسأله، فقلت به وسلمت لأمره.
الفطحية :وهم القائلون بإمامة عبد الله بن جعفر الصادق (عليه السلام) بعد أبيه، واعتلوا في ذلك بأنه كان أكبر ولد أبي عبد الله (عليه السلام)، وهذه الطائفة تسمى الفطحية، وإنما لزمهم هذا اللقب لأن عبد الله كان أفطح الرجلين، وقيل: أفطح الرأس، ويقال: لأن داعيهم إلى ذلك رجل اسمه عبد الله بن الأفطح، وقد رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لما ظهرت عندهم براهين إمامته إلا طائفة يسيرة.
أما اعتقاد الفطحية بإمامة عبد الله فهو واضح البطلان والتهافت، وذلك لأنهم ادعوا أن الإمامة تكون في الأكبر، وهذا إنما يكون مشروطا بالسلامة، فقد ورد أن الإمامة تكون في الأكبر ما لم تكن به عاهة، وكان عبد الله يعاني من عاهة البدن والعقيدة، فقد كان أفطح الرأس أو الرجلين، وكان يقول بقول المرجئة الذين يقعون في أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، هذا فضلا عن أنه لم يرد عنه شيء من الفتيا في الحلال والحرام، ولا كان بمنزلة من يستفتى في الأحكام، وقد امتحن بمسائل صغار فلم يجب عنها، ولا نريد هنا الإطالة في هذا الموضوع، بل نود الإشارة إلى أن بعض الفطحية انطلت عليهم الشبهة وبقوا إلى زمان الإمام الهادي (عليه السلام)، كما هو واضح من بعض النصوص، وقد اهتدى بعضهم كغيرهم من أصحاب الأفكار المنحرفة عن خط الإمامة الأصيل.
روى الشيخ الكليني بإسناده عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، قال: كان عبد الله بن هليل يقول بعبد الله، فصار إلى العسكر، فرجع عن ذلك، فسألته عن سبب رجوعه، فقال: إني عرضت لأبي الحسن (عليه السلام) أن أسأله عن ذلك، فوافقني في طريق ضيق، فمال نحوي حتى إذا حاذاني أقبل نحوي بشيء من فيه، فوقع على صدري، فأخذته فإذا هو رق فيه مكتوب: ما كان هنالك ولا كذلك (14).
الصوفية ونهى الإمام الهادي (عليه السلام) أصحابه وسائر المسلمين عن الاتصال بالصوفية والاختلاط بهم، كما دل على زيفهم بإظهار التقشف والزهد لإغراء عامة الناس وبسطائهم وغوايتهم، ووصفهم بأنهم حلفاء الشياطين في خداع الناس، وأن زهدهم لم يكن حقيقيا وإنما لإراحة أبدانهم، وأن تهجدهم في الليل لم يكن نسكا وإخلاصا في طاعة الله تعالى، وإنما هو وسيلة لصيد أموال الناس وإغوائهم، وأن أورادهم ليست عبادة خالصة لله بل هي رقص وغناء، وأن الذي يتبعهم الحمقى والسفهاء.
روى الحسين بن أبي الخطاب، قال: كنت مع أبي الحسن الهادي (عليه السلام) في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري، وكان بليغا وله منزلة مرموقة عند الإمام (عليه السلام)، وبينما نحن وقوف إذ دخل جماعة من الصوفية المسجد فجلسوا في جانب منه، وأخذوا بالتهليل، فالتفت الإمام إلى أصحابه فقال لهم: لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخداعين، فإنهم حلفاء الشياطين، ومخربوا قواعد الدين، يتزهدون لإراحة الأجسام، ويتهجدون لصيد الأنعام، يتجوعون عمرا حتى يديخوا للإيكاف حمرا، لا يهللون إلا لغرور الناس، ولا يقللون الغذاء إلا لملأ العساس واختلاف قلب الدفناس ، يتكلمون الناس بإملائهم في الحب، ويطرحونهم بإدلائهم في الجب، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنم والتغنية، فلا يتبعهم إلا السفهاء، ولا يعتقد بهم إلا الحمقى، فمن ذهب إلى زيارة أحدهم حيا أو ميتا، فكأنما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان، ومن أعان واحدا منهم فكأنما أعان معاوية ويزيد وأبا سفيان.
فقال له رجل من أصحابه: وإن كان معترفا بحقوقكم؟ قال: فنظر إليه شبه المغضب وقال: دع ذا عنك، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا، أما تدري أنهم أخس طوائف الصوفية؟ والصوفية كلهم من مخالفينا، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا، وإن هم إلا نصارى ومجوس هذه الأمة، أولئك الذين يجتهدون في إطفاء نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون (15).
إلى هنا نكتفي بهذا اليسير، ومن أراد التفصيل فليراجع الموسوعات المعنية بها أو يراجع موسوعة المصطفى والعترة، في ترجمة حياة الأئمة الكاظم والرضا والجواد (عليهم السلام).
المصادر:
1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 304.
2- حياة الإمام الهادي (عليه السلام): 336، لباقر شريف القرشي.
3- العنكبوت: 45.
4- رجال الكشي: 517 / 994.
5- رجال الكشي: 517 / 995.
6- رجال الكشي: 518 / 996.
7- رجال الكشي: 520 / 999.
8- رجال الكشي: 528 / 1011.
9- رجال الكشي: 522 / 1003.
10- رجال الكشي: 522 / 1004.
11- رجال الكشي: 523 / 1005. / 1006.
12- سيرة الأئمة الاثني عشر - القسم الثاني: 465.
13- رجال الكشي: 229 / 410. و ص: 36. المناقب 4: 407.
14- الكافي 1: 355، بحار الأنوار 50: 184 / 61.
15- روضات الجنات 3: 134، سفينة البحار 2: 58.
source : راسخون