قال الإمام علي (عليه السلام) واصفاً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
\"طبيب دوَّارٌ بطبهِ، قد أحكمَ مراهِمَهُ، وأحمى مواسِمَه، يضعُ ذلكَ حيثُ الحاجة إليهِ مِن قلوبٍ عُميٍ، وآذانٍ صُمٍ، وألسنةٍ بُكم.. متتبعٍ بدوائهِ مواضعِ الغفلةِ، ومواطنِ الحيرة\".
لا يستطيع معرفة كنه الكامل إلا كاملٌ مثله، وهذا تلميذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووصيه، وخازن علمه، ومستودع سره، يبين لنا جانباً من الجوانب الرسالية الاجتماعية في شخصية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
\"طبيبٌ دوارٌ بطبه\"
فهو في مجتمعه وأمته كالطبيب لمرضاه، ولكن يختلف عن بقية الأطباء القابعين في عياداتهم، المنتظرين لمرضاهم، إنه لا ينتظر من الآخرين أن يأتوه ويشكو إليه آلامهم ومعاناتهم، بل يتحرك من موقع الإحساس بالمسؤولية المتجذرة في أعماقه، والرأفة التي ملأت كيانه، والرحمة التي هيمنت على قلبه، ينطلق من حسِّ المبادرة في إصلاح مجتمعه, فهو كالطبيب الذي يحمل حقيبته؛ ليبحث عن مرضى النفوس والعقول والقلوب.
وما أصعب تشخيص واكتشاف الجذور العميقة لهذه الأمراض، ولكن رسول الله كان مؤهلاً لأكثر من ذلك.
\"قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه\"
وهنا إشارة إلى أسلوبين تربويين لمن أراد التحرك في ميدان الإصلاح الاجتماعي، هما:
1- اللين والترغيب، وهذا ما عبَّرَ عنه بـ\"أحكم مراهمة\".
2- الحزم والترهيب، وهذا ما عبَّر عنه بـ\"أحمى مواسمه\". والموسم: هو آلة حديدية توضع في النار لتوسم بها الإبل والمواشي، (توضع لها علامة لِتُعرَف).
وهنا لفتة رائعة من سيد البلغاء والمتكلمين (عليه السلام)، فهو لم يقل مرهمه وموسمه (بصيغة المفرد) بل جاء (بصيغة الجمع) ليبين أنَّ الدعوة إلى الله، وتهذيب النفوس، وإصلاح المجتمع، وتربية العقول، لا تعتمد على أحادية الأسلوب كما هو الحال عن الكثير ممن وضع نفسه في هذا الطريق.
وإنما يجب أن تنطلق حركة التغيير من خلال تنوع الأساليب وتعددها في ثنائية الترغيب والترهيب، والخوف والرجاء والحزم واللين.
والسؤال: كيف نوظف هذه الأساليب؟
\"يضعُ ذلكَ حيثُ الحاجة إليهِ\"
يستخدم اللين والرفق في موضعه، وموطن حاجته. وهنا إشارة أخرى في تقديم \"أحكم مراهمه\" على \"أحمى مواسمه\", أي تقديم الرفق واللين على الشدة والخشونة؛ لأن من طبيعة الإنسان السوي الاستجابة مع اللغة الهادئة اللينة، والحوار الهادف الذي يقدر ذاته وكينونته ويحترم شخصيته.
غير أن هناك شخصيات تحولت بفعل تماديها في التجبر، والطغيان، والاستغراق في الغفلة إلى ما يشبه الصخور الصماء، والحجارة الصلداء؛ التي لا تتأثر إلا بالشدة.
مثل هؤلاء قد يتحولوا إلى قنابل موقوتة في المجتمع فلابُدَّ من تفكيكها، وإبطال مفعولها، وتفريغها من محتواها، وإعادة تأهيلها لما فيه صلاحها، وصلاح مجتمعها، لا الوقوف منها موقف المتفرج، وتركها تعيث في الأرض فساداً!
\"يضعُ ذلكَ حيثُ الحاجة إليهِ مِن قلوبٍ عُميٍ، وآذانٍ صُمٍ، وألسنةٍ بُكم.. متتبعٍ بدوائهِ مواضعِ الغفلةِ، ومواطنِ الحيرة\".
إنَّ تقدير موطن الحاجة يتطلب قدرة تشخيصية، وتحليلية نافذة، ومعرفة علمية متعمقة، وثقافة واعية بظروف الساحة، وهذا لا يكون إلا بالاقتراب من المجتمع، والتعايش معه، ومحاورته، وتحسس مواطن ضعفه، ونقاط قوته، والمؤثرات الاقتصادية والسياسية والموروثات التربوية التي أسهمت في وصوله إلى ما هو عليه؛ ومن ثمَّ تحديد \"مواضع الغفلة ومواطن الحيرة\".
وإذا عَمِيت القلوبُ صُمَّت الآذان وبُكِمَت الألسنُ، فالقلب هو القائد، إنْ صلحَ صلحت الجوارح، وإنْ فسدَ فسدت الجوارح.
وما الإعاقات الروحية التي تنتاب الإنسان نتيجة السقوط من أبراج إنسانيته العالية إلا عوامل ضياع ودمار لإنسانية الإنسان الذي كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا.
فالتقديم والتأخير الذي اعتمده أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديثه يُحيلنا إلى دلالات قد يطول بشرحها المقام، ولكن ما لا ينبغي تفويته هنا هو: تقديم عمى القلوب على صم الآذان، وبُكمت الألسن، ولا يمكن للأصم أن يتكلم، إذ تُعتَبر اللغة في بدايتها سماعية التلقي.
وهكذا في عالم المعنى، فمن سَدَّ أُذنيه عن سماع الحقيقة لا يمكن أن ينطق بها! ولا يعمد لذلك إلا من عميَ قلبُهُ، وتحجرت مداخله وموارده.
إنَّ هذه الروح الناصعة بنورانيتها، وهذا القلب الشفيق الرؤوف على خلق الله، والحريص على هدايتهم ـ لا من موقع المسؤولية الرسالية فحسب بل من موقع المحبة للإنسان لأن يكون في زمرة الطاهرين من لوثة الجاهلية، الناجين من تبعاتها ـ جديرة بالتأمل والوقوف من قِبل المصلحين والخطباء والمبلغين والرساليين، كلٌ في خندقه، وميدانه؛ للاستفادة من معينها النابض بالعطاء، والذي لا تزيده عاديات الأيام إلا تجدداً وعطاء.
قال تعالى: {لقد جاءكم رسولٌ مِن أنفُسِكم عزيزٌ عليهِ ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.