وعليه يكون محصّل الآيتين الكريمتين هو الدلالة على حتمية وجود إمام حق يُهتدى به في كل عصر، يكون حجة الله عزّ وجلّ على أهل زمانه في الدنيا والآخرة، فتكون معرفته وأتباعه في الدنيا وسيلة النجاة يوم الحشر; فيما يكون العمى عن معرفته واتباعه في الدنيا سبباً للعمى والضلال الأشد في الآخرة يوم يُدعى كل اُناس بإمام زمانهم الحق، ويُقال للضالين عنه: هذا إمامكم الذي كان بين أظهركم فلماذا عميتم عنه؟ وبذلك تتم الحجة البالغة عليهم، وتتضح حكمة دعوتهم وإحضارهم به يوم القيامة.
ونصل الآن للسؤال المحوري المرتبط بما دلّت عليه هاتان الآيتان، وهو: ـ مَن هو الإمام الحق الذي يكون حجة الله على خلقه في عصرنا هذا؟ فإنّه لابد للإمام الحقّ من مصداق في كلّ العصور كما نصت عليه الآيتان المتقدمتان.
وللإجابة على هذا السؤال من خلال النصوص القرآنية وحدها ـ باعتبارها حجة على الجميع ـ ينبغي معرفة الصفات التي تحددها الآيات الكريمة للإمام الحق، ثم البحث عمن تنطبق عليه في زماننا هذا.
المواصفات القرآنية لإمام الهدى
والمستفاد من تفسير الآيتين المتقدمتين أن الإمام المقصود يجب أن تتوفر فيه الصفات التي تؤهله للاحتجاج به على قومه يوم القيامة مثل القدرة على الهداية والأهلية لأن يكون اتّباعه موصلاً للهدى وتكون طاعته معبّرةً عن طاعة الله تبارك وتعالى، وأن يكون قادراً على معرفة حقائق أعمال الناس وليس ظواهرها، أي أن يكون هادياً لقومه وشهيداً على أعمالهم، الأمر الذي يستلزم أن يكون قادراً على تلقي الهداية الإلهية وحفظها ونقلها للناس، كما يجب أن يكون أهلاً لأن يتفضل عليه الله عزّ وجلّ بعلم الكتاب والأسباب التي تؤهله لمعرفة حقائق أعمال الناس للشهادة بشأنها والاحتجاج به عليهم يوم القيامة. وسيأتي المزيد من التوضيح لذلك في الفقرتين اللاحقتين.
كما ينبغي أن يكون متحلياً بأعلى درجات العدالة والتُّقى لكي لا يخلّ بأمانة نقل الهداية الإلهية الى قومه، وكذلك لكي لا يحيف في شهادته عليهم يوم القيامة. أي أن يتحلى بدرجة عالية من العصمة، وهذا ما صرّح به القرآن الكريم في قوله تعالى: (وإذْ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال: ومن ذريتي قال: لا ينال عهدي الظالمين)[1]. فالإمامة «عهد» من الله تبارك وتعالى لا ينال من تلبس بظلم مطلقاً، ومعلومٌ أن ارتكاب المعاصي مصداق من مصاديق الظلم; لذا فالمؤهل للإمامة يجب أن يكون معصوماً.
وحيث إن الله تبارك وتعالى قد أقرَّ طلب خليله إبراهيم النبي(عليه السلام) في جعل الإمامة في ذريته ولم يقيّدها إلاّ بأنها لا تنال غير المعصومين، نفهم أن الذرية الابراهيمية لا تخلو من متأهل للإمامة الى يوم القيامة، وهذا ما يؤكده قوله عزّ وجلّ: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلّهم يرجعون)[2].
ولما كانت الإمامة عهداً إلهياً، كان الإمام مختاراً لها من الله عزّ وجلّ ـ وهو الأعلم حيث يجعل رسالته ـ وهذا ما تؤكده الآيات الكريمة فقد نسبت جعل الإمام الى الله مباشرة ولم تنسبه لغيره كما هو واضحٌ في الآيتين المتقدمتين من سورتي الزخرف والبقرة وغيرهما. ويتحقق هذا الاختيار الإلهي لشخص معيّن للإمامة من خلال النص الصادر من ينابيع الوحي ـ القرآن والسنة ـ أو مَن ثبتت إمامته وعصمته، أو ظهور المعجزات الخارقة للعادة على يديه حيث تثبت صحة ادعائه الإمامة.
إذن فإمام زماننا الذي دلّت آيتا سورة الاسراء على حتمية وجوده يجب أن يكون هادياً لقومه وشهيداً على أعمالهم ليصح الإحتجاج به يوم القيامة، وأن يكون معصوماً أو على الأقل متحليّاً بدرجة عالية من العدالة تؤهله للقيام بمهمته في الهداية والشهادة; ومن الذرية الابراهيمية التي ثبت بقاء الإمامة فيها، وأن يكون منصوصاً عليه من قبل الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) أو مَن ثبتت إمامته، أو أن يكون قد ظهرت على يديه من المعجزات وأثبتت ارتباطه بالسماء وصحة ادعائه الإمامة.
مصداق الإمام في عصرنا الحاضر
فمن الذي تتوفر فيه هذه الصفات في عصرنا الحاضر؟ من الواضح أنه لا يوجد شخص ظاهر تنطبق عليه هذه الصفات وليس ثمة شخصٌ ظاهرٌ يدعيها أيضاً، فهل يكون عدم وجود شخص ظاهر تتوفر فيه هذه الصفات يعني خلو عصرنا من مثل هذا الإمام؟
الجواب سلبي بالطبع; لأنه يناقض صريح دلالة آيتي سورة الاسراء، فلا يبقى أمامنا إلاّ القول بوجوده وغيبته وقيامه بالمقدار اللازم للاحتجاج به على أهل زمانه يوم القيامة والذي هو من مهام الإمام، حتى في غيبته.
وهذا ما تقوله مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) في المهدي المنتظر(عليه السلام) وتتميز به، وتقيم الأدلة النقلية والعقلية الدالة على توفر جميع الشروط والصفات المتقدمة فيه من العصمة والنص عليه من الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) ومَن ثبتت إمامته من آبائه(عليهم السلام)، كما ثبت صدور المعجزات عنه في غيبته الصغرى بل والكبرى أيضاً وقيامه عملياً بما يتيسّر له من مهام الإمامة في غيبته كي يتحقق الاحتجاج به على أهل زمانه، كما هو مدوّن في الكتب التي صنّفها علماء هذه المدرسة[3].
وتكفي هنا الإشارة الى أن بعض هذه الكتب قد دوّنت قبل ولادة الإمام المهدي(عليه السلام) بفترة طويلة تفوق القرن وفيها أحاديث شريفة تضمّنت النص على إمامته والإخبار عن غيبته وطول هذه الغيبة قبل وقوعها وهذا أوضح شاهد على صحتها كما استدل بذلك العلماء إذ جاءت الغيبة مصدّقة لما أخبرت عنه النصوص المتقدمة عليها وفي ذلك دليل واضح على صدورها من ينابيع الوحي[4].
2 ـ في كل زمان إمام شهيد على اُمته
قال تعالى: (فكيف إذا جئنا من كلّ اُمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً)[5].
وقال: (ويومَ نبعث من كلّ اُمة شهيداً ثمّ لا يُؤذن للّذين كفروا ولا هم يُستعتبون)[6].
وقال: (ويومَ نبعثُ في كل أُمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء...)[7].
وقال: (ونزعنا من كلّ اُمّة شهيداً فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أنّ الحقّ لله وضلّ عنهم ما كانوا يفترون)[8].
إن هذه الآيات الكريمة تتحدث عن الاحتجاج الإلهي على البشر يوم القيامة، وهو الاحتجاج نفسه الذي لاحظناه في آيتي سورة الإسراء المتقدمتين، وهي تدعم وتؤكد دلالتهما على حتمية وجود إمام حق في كل عصر يحتج به الله جلّ وعلا على أهل كل عصر «كل أمة، كل اُناس» فيما يرتبط بالهداية والضلال وانطباق أعمالهم على الدين الإلهي القيم.
واضحٌ أن مقتضى كونه حجة لله على خلقه أن يكون عالماً بالشريعة الإلهية من جهة لكي يكون قادراً على هداية الخلق إليها وأن يكون بين أظهرهم للقيام بذلك، هذا أولاً، وثانياً أن يكون محيطاً بأعمال قومه لكي يكون شهيداً عليهم، أي يستطيع الشهادة يوم القيامة بشأن مواقفهم تجاه الدين القيم.
وواضح أن الشهادة المذكورة في هذه الآيات مطلقة، «وظاهر الجميع على إطلاقها هو الشهادة على أعمال الأمم وعلى تبليغ الرسل أيضاً»[9] وقد صرّح الزمخشري في الكشاف بذلك وقال: «لأن أنبياء الأمم شهداء يشهدون بما كانوا عليه»[10]، وأن الشهيد: «يشهد لهم وعليهم بالايمان والتصديق والكفر والتكذيب»[11]. والشهيد يجب أن يكون حياً معاصراً لهم غير متوفى كما يشير لذلك قوله تعالى على لسان عيسى(عليه السلام): (وكنت عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرّقيب عليهم وأنت على كلّ شيء شهيد)[12].
يُستفاد من هذه الآية أن إعلان نتاج الشهادة يكون في يوم القيامة لكن الإحاطة بموضوعها أي أعمال القوم يكون في الدنيا وخلال معاصرة الشهيد لاُمته لقوله تعالى: (وكنتُ عليهم شهيداً مادمتُ فيهم، فلمّا توفّيتني...)، لذلك يجب أن يكون الشهيد الذي يحتج به الله يوم القيامة معاصراً لمن يشهد عليهم، لذلك لا يمكن حصر الشهداء على الأمم بالأنبياء(عليهم السلام) كما فعل الزمخشري في تفسيره[13]، بل يجب القول بأن في كل عصر شهيدٌ على أعمال معاصريه، كما صرّح بذلك الفخر الرازي في تفسيره حيث قال: «أما قوله تعالى: (ونزعنا من كل أمة شهيداً)، فالمراد ميّزنا واحداً ليشهد عليهم، ثم قال بعضهم هم الأنبياء يشهدون بأنهم بلّغوا القوم الدلائل وبلّغوا في إيضاحها كل غاية ليُعلم أن التقصير منهم أي من الناس فيكون ذلك زائداً في غمهم.
وقال آخرون: بل هم الشهداء الذين يشهدون على الناس في كل زمان، ويدخل في جملتهم الأنبياء، وهذا أقرب لأنه تعالى عمَّ كل أُمة وكل جماعة بأن ينزع منهم الشهيد فيدخل فيه الأحوال التي لم يُوجد فيها النبي وهي أزمنة الفترات والأزمنة التي حصلت بعد محمد(صلى الله عليه وآله) فعلموا حينئذ أن الحق لله ولرسوله...»[14].
إذن فلابد من وجود شهيد على الأمة في هذا العصر كما هو الحال في كل عصر، يؤيد ذلك استخدام آيتي سورة النساء والحج لاسم الإشارة «هؤلاء» في الحديث عن شهادة الرسول الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله): (وجئنا بك شهيداً على هؤلاء)إشاره الى معاصريه فيما يكون شهداء آخرون على الأجيال اللاحقة[15]. فمَن هو الشهيد علينا في هذا العصر؟! نعود الى الآيات الكريمة لمتابعة ما تحدده من الصفات الهادية الى معرفته والإجابة على هذا التساؤل.
__________________________________
[1] البقرة (2): 124 .
[2] الزخرف (43): 28، ولاحظ قوله تعالى (ووهبنا له اسحاق ويعقوب وجعلنا في ذرّيته النّبوة والكتاب)العنكبوت (29): 27 .
[3] راجع في هذا الباب مثلاً كتاب منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر لآية الله الشيخ لطف الله الصافي فقد جمع الكثير من النصوص المروية من طرق أهل السنة والشيعة، وراجع أيضاً كتاب إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات للحر العاملي، وفرائد السمطين للحمويني الشافعي، وينابيع المودة للحافظ القندوزي الحنفي وغيرها كثير.
[4] راجع هذا الاستدلال في مقدمة كتاب كمال الدين للشيخ الصدوق: 12، والفصل الخامس من الفصول العشرة في الغيبة للشيخ المفيد، وكذلك الرسالة الخامسة من رسائل الغيبة. وكتاب الغيبة للشيخ الطوسي: 101 وما بعدها، وإعلام الورى للشيخ الطبرسي: 2/257 وما بعدها وكشف المحجة للسيد ابن طاووس: 104، وغيرها.
[5] النساء (4): 41 .
[6] النحل (16): 84 .
[7] النحل (16): 89 .
[8] القصص (28): 75.
[9] تفسير الميزان: 1/32.
[10] تفسير الكشاف: 3/429.
[11] تفسير الكشاف: 2/626.
[12] المائدة (5): 117 .
[13] تفسير الكشاف: 3/429.
[14] التفسير الكبير: 25/12 ـ 13. راجع في ذلك مجمع البيان: في ذيل الآية .
[15] التفسير الكبير: 25/12 ـ 13، وتفسير الكشاف: 2/628.