عربي
Saturday 21st of December 2024
0
نفر 0

طرق إثبات وجود الله

طرق إثبات وجود الله

يمكن تصنيف طرق إثبات وجود الله بشكلٍ عامٍ إلى ثلاثة طرقٍ رئيسة، يتفرّع عنها طرقٌ أخرى، وهي كما يلي:

1ـ طريق الفطرة
2ـ الطريق العلميّ وشبه الفلسفي
3ـ الطريق الفلسفيّ

ونبيّن بإختصار هذه الطرق، حتّى يتّضح الفارق بينها.

1ـ طريق الفطرة:

ويعبّر عنه أيضاً بطريق القلب، وينطلق هذا الطريق من خلال باطن الإنسان و الإحساس الكامن في كيان كلّ إنسان، فقد جُبِل الإنسان في فطرته وخلقته على إحساسٍ وميل ذاتيّ يهديه بصورةٍ طبيعيّةٍ إلى الله ويجذبه إليه.
فهذا الطريق ينطلق من النفس، ليستكشف تلك الجاذبيّة التي تربطه بحقيقة إسمها (الله)، ليثبت من خلال ذلك وجود هذه الحقيقة، من دون أن يكون له علاقةٌ بالعلم التجريبيّ أو بالفكر والاستدلال.

2ـ الطريق العلميّ:

وهو المعبَّر عنه بطريق الحسّ أو العلوم التجريبيّة، والذي يقوم على أساس التجارب والاختبارات. ونحن نعرف أنّ مهمّة العلم هي التعريف بظواهر العالم. ولذلك فإنّ اكتشافات العلم لا بدّ أن تكون محدودةً، كاكتشاف العناصر والكواكب السيّارة.... فينطلق هذا الطريق من الموجودات والمخلوقات والأمور المحسوسة لإثبات وجود الله. ومن هنا، يستحيل أن يقوم العلم وحده بالكشف عن الله وتعريفه ـ خلافاً لرأي الأكثر- فإنّ الشيء الذي يحيط به العلم ويخضعه لتجاربه لا يمكن أن يكون إلهاً ولا روحاً ولا زماناً ولا غيرها من الأمور التي ليس لها حدود، فهذه الأمور خارجة عن دائرة التجربة وأدواتها.
وبعبارة أخرى، فإنّ طريق العلم التجريبيّ يبحث عن العناصر التي تكون إلى جنب الأشياء. وقد ذكرنا في المقدّمات أنّ من خصوصيّات مسألة التوحيد أنّها من نوع المسائل التي يُبحث فيها عن موجود لا يقع إلى جانب الأشياء، وإنّما هو موجودٌ في الأشياء ومعها.
إذاً، لا يتمكّن العلم بشكلٍ مباشرٍ ومستقلٍّ من الكشف عن الله عزّ وجل، وإنّما يلعب العلم دورَ العامل المساعد في عمليّة الكشف هذه، وذلك بعد أن نضمّ إليه العقل(الفلسفة)، فنستعين بالعلم لمعرفة الله عن طريق مخلوقاته التي نحسّ بها.
ولذا، فالجدير أن يسمّى هذا الطريق بالطريق شبه الفلسفيّ.

3ـ الطريق الفلسفيّ:

وهو طريق العقل والاستدلال البرهانيّ، ويقوم على سلسلة من المعاني والمفاهيم، وبوسيلة نوع من المحاسبات والتقسيمات الذهنيّة والعقليّة، يمكن إثبات وجود الله. فلا حاجة في هذا الطريق للإستناد إلى معرفة المخلوقات والظواهر الموجودة والمحسوسة. ولذا، فهو طريق فلسفيّ محض.
وخلاصة الكلام: أنّ طرق معرفة الله الثلاثة، بعضها يرتبط بالقلب والأحاسيس الذاتيّة الفطريّة، وبعضها يستند إلى العلم التجريبيّ فيستدلّ بالمخلوق على معرفة الله، والطريق الأخير يعتمد الاستدلال والبرهان العقليّ.
ذكرنا أنّ طريق الفطرة هو الطريق الأوّل في إثبات وجود الله، وهو يعتمد على التعلّق الذاتيّ والانجذاب الموجود في كيان كلّ إنسانٍ، بحيث يهديه بالطبع والغريزة إلى المبدأ جلّ وعلا، من غير أن يعتمد على التجربة العلميّة أو الاستدلال والبرهان الفلسفي. وتوضيحه:

أجهزة الإنسان:

يمتلك الإنسان نوعين من الأجهزة:

1ـ جهاز الحسّ والإدراك:

ونقصد به ما يدركه بحواسّه الخمس ـ أو أكثر ـ بالإضافة إلى تعقّله وتفكيره بواسطة العقل والإدراك وتحليله لما أحسّ به، وهو الجهاز الذي يعتمد عليه في الإحساس بالموجودات من حوله، ويصل من خلاله إلى اكتشاف العلوم الطبيعيّة، وإلى اكتساب المعارف الفلسفيّة.

2ـ الميول والأحاسيس:

لدى الإنسان جهاز آخر يتمثّل بتلك الميول الكامنة في نفسه والتي ترتبط بقلبه ـ حسب الإصطلاح الشائع ـ، إذ توجد في الإنسان مجموعة من الميول والغرائز، بعضها من الغرائز الحيوانيّة، كغريزة الرغبة في الطعام والجنس، وبعضها يشكّل مجموعةً من الميول والتطلّعات السامية، كالميل إلى الفضائل وإلى البحث والتحقيق(حبّ الاستطلاع والمعرفة).
وهنا نشير إلى أنّ أكثر العلماء يقرّون ويسلّمون بوجود هذه الميول والأحاسيس.

تقرير طريق الفطرة:

إذا تبيّن ذلك نقول: إذا رجع الإنسان إلى نفسه، فإنّه سوف يرى أنّه مرتبطٌ بحقيقةٍ يرغب في التقرّب منها، متحرّراً من سجن (الأنا)، فيندفع إلى التسبيح لها والسير إليها.
إذاً، هناك ميلٌ سامٍ كامنٌ في مركز ميول الإنسان القلبيّة ـ لا العقليّة ـ يدفعه إلى الاعتراف بالله وعبادته والسير إليه.
وبعبارة أخرى: إنّ في قرارة كلّ إنسانٍ نزوعاً وإندفاعاً داخلياً نحو مصدر العالم، ونحو القدرة المطلقة والعلم المطلق والوجود المطلق، فالاعتقاد بالله مخلوقٌ ضمن فطرة كلّ إنسان، ولكن يحجبهم عنه ستار الغفلة الماديّ، فإذا انزاح هذا الستار، يرى الإنسان معبوده الفطريّ. ولذا، فإنّ الإنسان إذا أحسّ بالخطر والضرر وانقطعت عنه الأسباب الماديّة والظاهريّة يحيا هذا الشعور
الفطريّ من جديد، فيندفع هذا الإنسان إلى الله وينسى العلل والأسباب الظاهريّة، وذلك ما أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام عندما جاءه ذلك الرجل المتحيّر وقال له: (يا ابن رسول الله، دلّني على الله ما هو؟، فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني، فقال له: يا عبد الله، هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم، قال: فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟، قال: نعم، قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟، قال: نعم، قال الصادق عليه السلام: فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجّي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث)(1).

القرآن والفطرة

ويعدّ الإسلام أوّل من أماط اللثام عن حقيقة أنّ الله سبحانه قد خلق الإنسان مفطوراً على الدين: ومن أبرز الآيات وأوضحها قوله تعالى:﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾(2).

تنبيه القرآن إلى طريق الفطرة:

نبّه القرآن في آياتٍ متعدّدةٍ إلى طريق الفطرة. ولذلك، فإنّ القرآن يُعدّ أصل هذا الطريق، ويعبّر القرآن عن هذه الحقيقة بأشكالٍ متعدّدةٍ، فيعتمد أحياناً لغةَ الرمز والإشارة، كما في (آية عالم الذرّ) وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾(3)، فالمقصود من قوله: ﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾
أنّه جذبهم إليه وهم لا يزالون في أصلاب آبائهم. ولذلك، فهو لم يعبّر بأنّه أخذ من ظهر آدم الذريّة بل عبّر من ظهورهم، وأشهدهم على أنفسهم وسألهم: ﴿ألستُ بِرَبِّكُمْ﴾ فأقرّوا و: ﴿قَالُوا بَلَى﴾.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(4).
حيث تبيّن الآية أنّ أي قوّة سوى الله عاجزةٌ عن بعث الطمأنينة والسكينة فيه، وما ذلك إلا للتوجّه والميل الباطني للإنسان بفطرته إلى الله.
والقرآن إذ يبيّن هذه الحقيقة، فهو تارةً يبيّنها بمفهومها الخاصّ (أي يبيّن التوجّه والميل لدى خصوص الإنسان)، وذلك من قبيل الآيات الآنفة الذكر، وأخرى يبيّنها بمفهومها العام القائل بأنّ جميع المخلوقات - بما فيها الإنسان - تتحرّك نحو الله، يقول تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾(5).

الأحاديث والفطرة:

وكذلك نجد الإشارة إلى وجود الاعتقاد بالله في فطرة وعمق كلّ إنسان في الأحاديث، كما في الحديث الشريف: (كلّ مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه)(6). وفي الخطبة الأولى من خطب نهج البلاغة يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (...فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته...)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة في هذا الباب.
وقد أيّد هذا الطريق كلّ من علماء النفس والفلاسفة والعرفاء، إلا أنّ كلّ واحدٍ قام ببيانه على طريقته ووفق أدواته واصطلاحاته، ونتعرّض لذلك على نحو الاختصار(7).
موقف علماء النفس والفلاسفة المعاصرين تجاه فطريّة التوحيد:
قام علماء النفس المعاصرون بالكشف بواسطة التجربة وأساليب علم النفس عن الإحساس الذاتيّ والانجذاب المعنويّ إلى الله، ولذلك، فإنّ من النظريّات المهمّة والرصينة في أدلّتها التي توصّل إليها المحقّقون من علماء النفس هي النظريّة المؤيّدة لحقيقة فطريّة معرفة الله9، ونتعرّض لأهمّ هؤلاء:
ـ عالم النفس الشهير يونغ: يوافق (يونغ) ما قام بكشفه أستاذه (فرويد) من عدم حصر الشعور الإنساني بمصداقه الظاهر، ويعتقد- بالتالي- بوجود شعورٍ غفلوا عنه هو: الشعور الباطنيّ في الإنسان، ويعتقد أنّ هذا الشعور موجودٌ في فطرة كلّ إنسانٍ وأصل خلقته قبل أن يولد ويأتي إلى الدنيا.
إلى ذلك يعتقد (يونغ) بأنّ الاعتقاد بالله عنصر أصليّ في الشعور الباطنيّ(8).
ـ عالم النفس والفيلسوف الأميركي وليم جيمس(ويعدّ هذا العالم من العلماء المعاصرين حيث أدرك القرن العشرين وتوفّي في النصف الأول منه.): ويعدّ هذا العالم من المدافعين بقوّة عن مسألة وجود الميل والنزوع الغريزيّ للاعتقاد بالله في كيان الإنسان، فهو يعتقد بأنّ معظم الرغبات والميول الموجودة فينا هي منبعثة من عالم ما وراء الطبيعة ولا سيّما تلك الميول السامية، ولذلك، فإنّه من غير الممكن تفسير الكثير من هذه الميول على ضوء الحسابات الماديّة والعقلائيّة (أي المنافع والمصالح). وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على أنّ تعلّقنا بذلك العالم أشدّ وأقوى من تعلّقنا بهذا العالم المحسوس والمعقول. ويصرّح هذا العالم بما ذكرناه من حقيقة فطريّة الميل نحو الله، وهو يقول: (إنّني مقتنع - وبقوّة- بكون القلب منبع الحياة الدينيّة ومبعث التوجّه الدينيّ (...)، وإنّني مقتنع بأنّ الرؤى والمناهج العمليّة الفلسفيّة والتوحيديّة هي بمثابة ترجمات لحقائق كتبت بلغة أخرى).
ـ ألكسيس كارل: يدافع هذا العالم المشهور في كتابه (الدعاء) بحماس عن نظريّة الحسّ الديني وكونه حسّاً أصيلاً في الإنسان. فمثلاً عندما يتحدّث عن أصالة الدعاء، يقول: (الدعاء عروج روحيّ إلى الله، وهو عروج الروح الحقيقيّ إلى الله). وفي فقرة أخرى يقول: (الدعاء أسمى حالة دينيّة مقدّسة، حيث تحلق روح الإنسان إلى الله... ويوجد في الوجدان الإنسانيّ شعلة تعرّف الإنسان إلى خطاياه وانحرافاته، وهي التي تصدّه عن الوقوع فيها...).
ومن الفلاسفة المعاصرين الذين توصّلوا إلى عين هذه النتائج:
ـ المؤرّخ والفيلسوف الفرنسي أرنست رينان: ينقل فريد وجدي في دائرة المعارف عن (رينان) قوله: (من الممكن أن يضمحلّ ويتلاشى كلّ شيءٍ نحبّه وكلّ شيء نعدّه من ملاذ الحياة ونعيمها (...)، ولكن يستحيل أن ينمحي التديّن أو يتلاشى، بل سيبقى أبد الآباد حجةً ناطقةً على بطلان المذهب الماديّ الذي يودّ أن يحصر الفكر الإنسانيّ في المضائق الدنيئة للحياة الطينيّة)(9).
ومن العلماء الذين صرّحوا بفطريّة الدين والاعتقاد بالله عزّ وجلّ:
ـ إينشتاين: يقول في كتابه (العالم كما أراه أنا): (.. يوجد اعتقاد ودين... موجودٌ في الجميع بلا إستثناء، وإن كان لا يوجد بصورةٍ نقيّةٍ وخالصةٍ بالكامل في أيٍّ منهم. وأعتقد أنّ هذا هو إحساسٌ دينيٌّ كامنٌ في خلقة الإنسان أو وجوده)، ويقول لاحقاً: (..إنّ الحديث هنا ليس عن الإله الذي يظهر بصورٍ مختلفةٍ، بل عن إله هو أعظم من أن يكون بالإمكان وصفه)( ويعتبر إينشتاين، وهو ينتمي إلى الديانة اليهوديّة، أنّ الصورة التي يعرضها كتاب اليهود وكذلك الإنجيل عن الله هي بمستوى متدنٍّ، لأنّهما عرّفا الله بصورة إنسان، في حين نجد هذا الإحساس الدينيّ الفطريّ متجليّاً بالكامل في مزامير داود، وكذلك في البوذيّة).

الطريق الفطريّ :

قد يتوهّم البعض بأنّ علماء النفس المعاصرين هم السبّاقون في مجال اكتشاف ذلك الانجذاب الباطني الكامن في كلّ واحدٍ منّا نحو الله، إلا أنّ هذا الأمر كان قد سبق إليه الفلاسفة، وقد بيّنوا هذه الحقيقة وفق طريقتهم في الاستدلال والبرهان الفلسفيّ.

المسلك العرفانيّ :

وممّن سبق العلماءَ المعاصرين في كشف حقيقة الانجذاب الباطني للإنسان إلى الله العرفاءُ، بل يعدّ أصحاب المسلك العرفانيّ من أشدّ المتحمّسين والمهتميّن بحقيقة فطريّة التوجّه إلى الله، إلى درجةٍ جعلت العرفاء ينتقدون الفلاسفة ويهاجمون الحكماء حين أفنوا جهدهم في الاعتماد على العقل والاستدلال، ويتّهمونهم بأنّهم لم يدركوا قيمة هذه القوّة المعنويّة التي أسموها واصطلحوا عليها بمصطلح: (العشق) الذي يكثر في الأدبيّات العرفانيّة(وهنا تكمن نقطة الافتراق بين المسلك العرفانيّ والمسلك الفلسفيّ، فالعارف يعتقد بلزوم الاهتمام بتنمية الإحساس الوجدانيّ بالله، أمّا الفيلسوف فيعتقد بأن الأولويّة هي لتنمية العقل والفكر وقوّة الاستدلال) .
بل ذهب العرفاء إلى أبعد من ذلك، حيث اعتبروا أنّ الإنسان لا يمكن أن يعبد غير الله. فحتى في مثل الوثنيّ، فإنّه يعبد الله من حيث لا يدري، ففطرته تدفعه إلى عبادة الله، ولكنّه يخطئ في تشخيص المصداق. وقد أثارت عباراتٌ لهم في هذا المجال الضجّة واعتراضات الفقهاء، كما في تفسير العرفاء لقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ (10)، بكون هذا القضاء تكوينيّاً محتوماً على كلّ إنسان .

تنمية التوجّه الفطريّ :

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن تبليغ أو تقوية هذا التوجّه الفطريّ؟
وفي جواب ذلك نقول: إنّ هذا الحسّ الأصيل الموجود في الإنسان هو من قبيل الحسّ الفنيّ كالإحساس بالجمال، ولذلك، فهو لا يحتاج إلى تعليمٍ وتدريسٍ لإيجاده، بل هو موجود في داخل الإنسان، فهو إنّما يحتاج إلى إثارةٍ فحسب، بحيث يُحفظ حيّاً في وجودنا.
ومن طرق إثارة هذا الحسّ مسألةُ العبادات، فالإنسان بعد أن يقتنع بواسطة الطرق الأخرى ـ كالاقتناع العقليّ ـ بتوحيد الله، لكي يصير موحّداً عمليّاً ولكي ينمّي هذا الإحساس فلا بدّ أن يلجأ إلى العبادات بشروطها المطلوبة. كالاستيقاظ عند السحر أو عند مطلع الفجر ويتفرّغ في خلوةٍ مناسبةٍ لإقامة ركعتين بتوجّهٍ قلبي ونيّةٍ خالصةٍ، فهذا يهزّ باطنه ويحرّكه في طريق السير إلى الله.
وأمّا العوامل التي تضعف هذا الميل والتوجّه، فهي الرغبات التي تسوق الإنسان إلى الحياة الماديّة الدانية والانحطاط.

إشكال وردّ:

يتوهّم بعض الناس أنّ الإنسان بطبعه يرغب في التنوّع ويميل إليه، فهو يطلب شيئاً ويميل إليه ثمّ بعد أن يصل إليه يتبدّل شوقه إلى برود وملل، ثم يميل إلى شيءٍ آخر، وهكذا...

وبناءً عليه فإنّ الإنسان يطلب التنوّع بحدّ ذاته.

وهذا التوهّم باطلٌ، فإنّ السبب في كون الإنسان يطلب التنوّع هو أنّه يطلب أهدافاً متوهمة ينجذب إليها باعتقاد أنّها معشوقه الحقيقيّ، وعندما يصل إليها ينكشف له زيفها، فيما الإنسان الذي يطلب المعشوق الحقيقيّ والأصيل، الإنسان الذي يطلب الله وحده، فإنّ إنساناً كهذا لن يهدأ شوقه ولن يتبدّل، ولن يطلب شيئاً آخر إذا ما وصل إليه، لأنّه مطلوبه الحقيقيّ الذي طالما بحث عنه.
ونحن نلاحظ إشاراتٍ إلى هذه الحقيقة في الآيات الكريمة التي تتحدث عن المؤمنين الذين يصلون إلى الجنة وهي هدفهم الحقيقي، كما في قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً﴾(11)، والسرّ في ذلك أنّهم قد حصلوا على مطلوبهم الواقعيّ والحقيقيّ، فهم لا يستبدلون به غيره.
المصادر :
1- معاني الأخبارـ الشيخ الصدوق ـ ص: 4
2- الروم:30
3- الأعراف:172
4- الرعد:28
5- آل عمران:83
6- المجلسي-بحار الأنوار-ج3 -الطبعة الثانية المصححة- مؤسسة الوفاء - بيروت.
7- هذا المقطع من البحث منتقى من كتاب الفطرة، الشهيد مطهري، مؤسسة البعثة، ط1، ص:196 ـ 208
8- يختلف (يونغ) مع أستاذه (فرويد) في تشكّل الشعور الباطني، ففيما يعتقد (فرويد) أنّ الشعور الباطني إنّما يتشكل من العناصر التي ينبذها الشعور الظاهريّ ولا يرغب بها، يعتبر (يونغ) أنّ هذه العناصر إنّما تشكّل جزءاً من الشعور الباطنيّ فحسب.
9- دائرة المعارف 4: 111، مادة - دين
10- الإسراء: 23
11- الكهف:108

source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

العدل في القرآن الكريم
واقعة الغدير و أهميتها (1)
ثالث النواب الأربعة الحسين بن روح النوبختي
برامج الرعاية الاجتماعية في ضوء مقاصد الشريعة
بَينَ يَدَيّ الخِطاب العظيم لِسَيّدَةِ نِسَاءِ ...
أين يقع غدير خُمّ؟
الملكية ووظيفتها الاجتماعية في الفقه الإسلامي
العلاقة بين القضاء والقدر، وإختيار الإنسان
جهاد النفس في فكر الإمام الخميني (قدس سره)
وصايا رمضانية ( ضرورة صلة الرحم)

 
user comment