اتضح من خلال ما تقدم اتفاق المسلمين على الايمان بظهور الاِمام المهدي المبشر به في الاخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهنا لابدّ للمسلم ان يسأل نفسه ويقول :
إذا كانت أخبار المهدي المبشر بظهوره في آخر الزمان بهذه الدرجة والوضوح عند علماء الاِسلام حتى قطعوا بصحتها ، وصرّحوا بتواترها، فلماذا اختلفت بعض الروايات الواردة في نسب المهدي، وربما وصل بعضها إلى درجة التناقض والتضاد ؟ ومِن ثم ، فمن هو الاِمام المهدي؟ وهل يمكننا ـ في خضم هذه الاختلافات ـ تشخيصه ، بحيث لاتكون هناك أدنى شبهة في صرف لقب (المهدي) عن مسمّاه في الواقع ؟
وللاجابة عن ذلك لابدّ من بيان نوعية المعوقات التي تعترض البعض في تشخيص نسب الاِمام المهدي على الرغم من اعتقاده بظهوره في آخر الزمان ، ولكن يجب التأكيد ـ قبل بيان تلك المعوقات ـ على أن من يعتقد بظهور الاِمام المهدي بنحو قاطع ، ولم يتعين له من هو المهدي على طبق الواقع ، فمثله كمثل من يعلم يقينا بوجوب الصلاة ولكنه يجهل أركانها، ومن كان كذلك فهو لايسمى مصلِّيا ، فكذلك الحال في من ينتظر مهديّاً لايعرفه ، كما سنبرهن عليه .
وعلى أية حال فإن علاج أية مسألة تعترض تشخيص نسب المهدي قد تكفل بها هذا الفصل ، واذا ما واصل القارىء العزيز الشوط معنا إلى آخره، سيدرك قسطاً وافراً من الاجابة عن سؤال : من هو المهدي الموعود المنتظر ؟ ونعاهده بأننا سنتجرد عن قناعاتنا السابقة حتى لا تكون حاكمة على الدليل ما دام الهدف هو الوصول إلى الحق سواء كان الحق معنا أو علينا، والعاقل هو من لم يكن بينه وبين الحق عداء، وإن تأمّل في كلامنا هذا فإنه سيشهد لنا بالصدق على ما نقوله في علاج معوقات التشخيص الحديثية في المباحث التالية :
ونعني بمعوقات التشخيص الحديثية : هي تلك الاحاديث التي تبدو متضاربة بعضها ببعض ، مما قد يصعب على كثير من الناس ـ لاسيما اُولئك الذين ليسوا على اتصال مباشر بعلوم الحديث الشريف ـ معالجتها ، مما يُسهّل ـ إلى حد بعيد ـ وقوع ضعيف الاِيمان منهم في شراك اللامهدويين سواء كانوا من المتسمّين بالاِسلام أو من المعلنين العداء لهذا الدين.
أحاديث في نسب الاِمام المهدي
الاحاديث الصحيحة الواردة في بيان نسب الاِمام المهدي عليه السلام على طوائف وجميعها مؤتلفة غير مختلفة، ولا تشكّل عائقاً في تشخيص نسب الاِمام المهدي كما سيتضح من دراستها على النحو الآتي:
المهدي : كناني ، قرشي ، هاشمي :
أورد المقدسي الشافعي في عقد الدرر ، ومثله الحاكم في المستدرك حديثاً ينسب الاِمام المهدي إلى كنانة ، ثم إلى قريش ، ثم إلى بني هاشم ، وهو من رواية قتادة عن سعيد بن المسيب ، قال : قلت لسعيد بن المسيب: « المهدي حقّ ؟ قال : حقّ .
قلت : ممّن ؟ قال : من كنانة .
قلت : ثمّ ممّن ؟ قال : من قريش .
قلت : ثمّ ممّن ؟ قال : من بني هاشم... الحديث » .
ثم قال : أخرجه الاِمام أبو عمر عثمان بن سعيد المقري في سننه.
وأورده بلفظ آخر قريب من الاَول عن قتادة عن سعيد بن المسيب أيضاً.
وقال : أخرجه الاِمام أبو الحسين أحمد بن جعفر المنادي ، وأخرجه الاِمام أبو عبدالله نعيم بن حماد(79).
وقد يُتصور أن الحديث يتناقض مع نفسه ! إذ جمع في نسب الاِمام المهدي أنه من كنانة تارة ، ومن قريش أُخرى ، ومن بني هاشم ثالثة.
والجواب : لافرق في ذلك كلّه ، فإن كل هاشمي هو من قريش ، وكل قرشي هو من كنانة لاَنَّ قريش هو النضر بن كنانة باتفاق أهل الانساب .
حديث المهدي من أولاد عبد المطلب :
وهو ما رواه ابن ماجة وغيره بالاسناد عن أنس بن مالك قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة : أنا، وحمزة ، وعلي ، وجعفر ، والحسن ، والحسين ، والمهدي »(80).
وأورده في عقد الدرر بلفظ : «نحن سبعة بنو عبد المطلب سادات أهل الجنة : أنا ، وأخي علي ، وعمي حمزة ، وجعفر ، والحسن ، والحسين، والمهدي» ثم قال : أخرجه جماعة من أئمة الحديث في كتبهم ، منهم : الاِمام أبو عبدالله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني في سننه، وأبو القاسم الطبراني في معجمه ، والحافظ أبو نعيم الاصبهاني وغيرهم(81).
وهذا الحديث لايعارض ماتقدم بل يقيّد (82) ما قبله ، إذ لاخلاف في كون عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابناً لهاشم، فأبناء عبد المطلب هاشميون بالضرورة. فالمهدي اذن من أولاد عبد المطلب بن هاشم القرشي الكناني.
حديث المهدي من ولد أبي طالب :
وهذا الحديث أخرجه الشيخ المفيد في الارشاد ، والمقدسي الشافعي في عقد الدرر ، وقال : أخرجه نعيم بن حماد في كتاب الفتن . والحديث من رواية سيف بن عميرة قال : كنت عند أبي جعفر المنصور فقال لي ابتداءً : « يا سيف بن عميرة ، لا بدّ من منادٍ ينادي من السماء باسم رجل من ولد أبي طالب، فقلت جعلت فداك يا أمير المؤمنين تروي هذا؟ قال : أي والذي نفسي بيدهِ لسماع أُذُني له . فقلت : يا أمير المؤمنين، إن هذا الحديث ما سمعته قبل وقتي هذا ! فقال : يا سيف إنّه لَحَقٌّ ، وإذا كان فنحن أوّل من يجيبه ، أمَا إنَّ النداء إلى رجل من بني عمّنا . فقلت : رجل من ولد فاطمة ؟ فقال : نعم يا سيف ، لولا أنني سمعت من أبي جعفر محمد بن علي يحدّثني به، وحدّثني به أهل الاَرض كلهم ما قبلته منهم ، ولكنه محمد بن علي »(83).
وهذا الحديث يقيّد ما قبله أيضاً لاَنَّ كل من انتسب إلى أبي طالب بالولادة لاشك في انتسابه إلى أبيه عبد المطلب.
وبغض النظر عن التصريح الوارد في هذا الحديث بكون المهدي من أولاد فاطمة عليها السلام ـ لما سنبحثه بطائفة أخرى من الاحاديث ـ ستكون النتيجة إلى هنا هو أن المهدي المبشر بظهوره في آخر الزمان إنّما هو من أولاد أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الكناني.
أحاديث (المهدي من ولد العباس) :
لا شكَّ ان هذه الطائفة من الاحاديث تشكل عائقاً في تشخيص نسب المهدي بدقة ؛ لاَن أولاد العباس غير أولاد أبي طالب ، ولهذا لابدّ من دراسة هذه الطائفة من الاحاديث ، فنقول :
يمكن تقسيم الاحاديث الواردة في هذا الشأن إلى قسمين وهما:
أولاً : الاَحاديث المجملة في هذا المعنى :
وهي منحصرة بأحاديث الرايات ، منها : ما أخرجه أحمد في مسنده ، عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال : «اذا رأيتم الرايات السود قد أقبلت من خراسان فأتوها ولو حبواً على الثلج، فان فيها خليفة الله المهدي»(84) وقريب منه حديث ابن ماجة في سننه(85).
كما روى الترمذي بسنده ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: «تخرج من خراسان رايات سود، فلا يردها شيء حتى تنصب بإيلياء»(86).
وهذه الاحاديث وان لم يصرح فيها بكون المهدي من ولد العباس لكنه قد يستفيد البعض منها دلالتها عليه، بتقريب أن تلك الرايات السود، يحتمل ان تكون هي الرايات التي أقبل بها أبو مسلم الخراساني من خراسان فوطّد بها دولة بني العباس، فتكون تلك الاحاديث ناظرة إلى المهدي العباسي!
ضعف الاَحاديث المجملة مع عدم دلالتها على نسب المهدي :
إن حديث مسند أحمد ، وسنن ابن ماجة ضعفهما غير واحد من العلماء، منهم ابن القيم في (المنار المنيف) ثم قال : « وهذا ـ أي : حديث ابن ماجة ـ والذي قبله لم يكن فيه دليل على ان المهدي الذي تولّى من بني العباس هو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان »(87).
ومما يدل على ذلك هو ان المهدي العباسي قد مات سنة (169 هـ) ، وقد شهد عصره تدخل النساء في شؤون دولته ، فقد ذكر الطبري تدخل الخيزران زوجة الخليفة المهدي العباسي بشؤون دولته ، وانها استولت على زمام الاَُمور في عهد ابنه الهادي(88)، ومن يكون هذا شأنه فكيف يسمى بخليفة الله في أرضه ؟!
هذا ، زيادة على أن المهدي العباسي ، بل خلفاء بني العباس كلهم لم يكونوا في آخر الزمان ولم يحث المال حثواً أحد منهم ، ولم يبايعوا بين الركن والمقام ، ولم يقتلوا الدجال ، ولم ينزل نبي الله عيسى عليه السلام ليصلي خلف مهديهم ، ولم تخسف البيداء في عهدهم ، ولم تظهر أدنى علامة من علامات ظهور المهدي في سائر عصورهم .
وأما عن حديث الترمذي فقد وصفه ابن كثير بأنّه حديث غريب ثم قال : « وهذه الرايات السود ليست هي التي أقبل بها أبو مسلم الخراساني فاستلب بها دولة بني أُمية في سنة ثنتين وثلاثين ومائة ، بل رايات سود أُخر تأتي بصحبة المهدي.. والمقصود أن المهدي الممدوح الموعود بوجوده في آخر الزمان يكون أصل خروجه وظهوره من ناحية المشرق »(89).
أقول : لايبعد استغلال دعاة العباسيين لمثل هذه الاحاديث ترويجاً لاَمرهم ، كما يدل عليه وضعهم لاحاديث صريحة في هذا المعنى كما سنقف عليه في هذا البحث ، وإلاّ فمن الصعب جداً إنكار حديث الرايات السود الذي لايدل على أكثر من خروج الجيش المؤيد للمهدي من جهة المشرق ، لروايته بطرق كثيرة صحّح الحاكم بعضها على شرط البخاري ومسلم(90).
ثانياً : الاَحاديث المصرّحة بهذا المعنى :
1 ـ حديث : «المهدي من ولد العباس عمي» فقد أورده السيوطي في الجامع الصغير ، وقال : « حديث ضعيف »(91)وقال المناوي الشافعي في فيض القدير : « رواه الدارقطني في الافراد . قال ابن الجوزي : فيه محمد بن الوليد المقري، قال ابن عدي يضع الحديث ويصله ويسرق ويقلب الاَسانيد والمتون. وقال ابن أبي معشر : هو كذاب ، وقال السمهودي : ما بعده وما قبله أصح منه ، وأما هذا ففيه محمد بن الوليد ، وضّاع »(92).
وضعفه السيوطي في الحاوي ، وابن حجر في صواعقه ، والصبان في إسعافه، وأبو الفيض في إبراز الوهم المكنون ، وأوردوا كلمات كثيرة تصرح بوضعه(93).
2 ـ حديث ابن عمر : «رجل يخرج من ولد العباس» فقد رواه في خريدة العجائب مرسلاً عن ابن عمر وهو من الموقوف عليه(94)وهو زيادة على إرساله المُسقِط لحجيّته لم يصرّح فيه بالمهدي، فالاَولى إلحاقه بالقسم الاَول المجمل وإن صرّح فيه باسم العباس.
3 ـ حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال لعمه العباس : «إنَّ الله ابتدأ بي الاِسلام وسيختمه بغلام من ولدك وهو الذي يتقدم عيسى بن مريم».
فقد رواه الخطيب البغدادي في تاريخه وفي إسناده محمد بن مخلد(95)، وابن مخلد هذا ضعفه الذهبي وتعجّب من عدم تضعيف الخطيب لابن مخلد فقال : « رواه عن محمد بن مخلد العطار، فهو آفته، والعجب أن الخطيب ذكره في تاريخه ولم يضعفه، وكأنّه سكت عنه لانتهاك حاله »(96).
4 ـ حديث أُم الفضل ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «ياعباس اذا كانت سنة خمس وثلاثين ومائة فهي لك ولولدك، منهم السفاح، ومنهم المنصور، ومنهم المهدي» وهذا الحديث أخرجه الخطيب أيضاً وابن عساكر عن أُم الفضل(97)
قال الذهبي عنه : « وفي السند أحمد بن راشد الهلالي، عن سعيد بن خيثم، بخبر باطل في ذكر بني العباس من رواية خيثم، عن حنظلة ـ إلى ان قال عن أحمد بن راشد ـ فهو الذي اختلقه بجهل »(98).
أقول : اشار الذهبي بهذا إلى جهل أحمد بن راشد في وضع الحديث لان حكم العباسيين لم يبدأ بسنة | 513 هـ وإنّما بدأ حكمهم سنة | 132هـ بالاتفاق، وهذا من علامات جهل واضعه بابتداء حكم بني العباس.
5 ـ ونظير هذا الحديث ماأخرجه السيوطي عن ابن عباس في كتابه اللآلي المصنوعة في الاَحاديث الموضوعة وقال : « موضوع، المتهم به: الغلابي »(99).
وأورده ابن كثير في البداية والنهاية من رواية الضحاك ، عن ابن عباس وقال : « وهذا إسناد ضعيف، والضحاك لم يسمع من ابن عباس شيئاً على الصحيح، فهو منقطع »(100).
كما أخرجه الحاكم عن طريق آخر وقع فيه اسماعيل بن ابراهيم المهاجر(101)، وقد حكى أبو الفيض الغماري الشافعي عن الذهبي، أن اسماعيل مجمع على ضعفه، وأباه ليس بذلك(102).
هذه هي الاحاديث التي قد يغتر بها البعض فيتصور كونها عائقاً حقيقياً أمام تشخيص نسب الاِمام المهدي . وقد اتضح أن النتيجة الاخيرة في نسب الاِمام المهدي عليه السلام وهي كونه من أولاد أبي طالب صحيحة ، لوضع أحاديث كون المهدي من ولد العباس ، مع عدم دلالة حديث الرايات على شيء يخالف تلك النتيجة. وسوف يأتي في طوائف أحاديث المهدي الاُخرى ما يقطع بأنّ المهدي ليس من ولد العباس جزماً.
_____________________
(79) عقد الدرر : 42 ـ 44 الباب الاَول، وانظر: مستدرك الحاكم 4 : 553، ومجمع الزوائد 7: 115.
(80) سنن ابن ماجة 2 : 1368 باب خروج المهدي، ومستدرك الحاكم 3 : 211 وكتاب الغيبة للشيخ الطوسي : 113 وجمع الجوامع للسيوطي 1 : 851.
(81) عقد الدرر : 195 الباب السابع.
(82) المراد بالتقييد هنا: حصر نسب المهدي بأولاد عبدالمطلب بعد ان كان النسب إلى قريش مطلقاً.
(83) الارشاد | المفيد 2 : 370 ـ 371، وعقد الدرر : 149 الباب الرابع.
(84) مسند أحمد 5 : 277.
(85) سنن ابن ماجة 2 : 1336 | 4082.
(86) سنن الترمذي 4 : 531 | 2269.
(87) المنار المنيف | ابن القيم : 137 ـ 138 | ذيل الحديثين : 338 و 339.
(88) تاريخ الطبري 3 : 466.
(89) النهاية في الفتن والملاحم | ابن كثير 1 : 55.
(90) مستدرك الحاكم 4 : 502.
(91) الجامع الصغير 2 : 672 | 9242.
(92) فيض القدير شرح الجامع الصغير 6 : 278 | 9242.
(93) أُنظر : الحاوي للفتاوى 2 : 85 ، والصواعق المحرقة : 166 ، واسعاف الراغبين : 151 ، وابراز الوهم المكنون : 563 .
(94) خريدة العجائب | ابن الوردي : 199.
(95) تاريخ بغداد 3 : 323 و 4 : 117.
(96) ميزان الاعتدال 1 : 89 | 328.
(97) تاريخ بغداد 1 : 63 ، وتاريخ دمشق 4 : 178 .
(98) ميزان الاعتدال 1 : 97.
(99) اللآلىء المصنوعة 1 : 434 ـ 435.
(100) البداية والنهاية 6 : 246.
(101) مستدرك الحاكم 4 : 514.
(102) ابراز الوهم المكنون : 543.