عربي
Tuesday 26th of November 2024
0
نفر 0

التسامح واحترام الرأي

التسامح واحترام الرأي

لكي تعطي حرّيّة الفكر نتائجها الإيجابية في تقدّم مسيرة المجتمع لابدّ من معالجة بعض السّلبيّات والأمراض التي قد ترافقها ، وما قد تجرّ إليه هذه السّلبيّات من تفرّق وصراع.
وهنا لابدّ من مبادئ أخلاقية وتعاليم تربويّة تجعل العقول منفتحة والصّدور متّسعة لاختلاف الرّأي وتعدّد وجهات النّظر ، وهذا ما صنعه الإسلام بالتأكيد على مبدأ التسامح واحترام الرّأي فليس في الإسلام محاكم للتفتيش ، ولا يحقّ لأحد أن يمارس دور الوصاية والرقابة على أفكار الناس ونواياهم ومشاعرهم ، والانتماء إلى الإسلام والعضويّة في مجتمعه لا تحتاج إلى شهادة أو قبول من أحد ، وبذلك لا يمتلك أحد حقّ الحكم بطرد أحد من إطار الإسلام ما دام يعلن قبوله بالإسلام حتّى لا تتكرّر مآسي التكفير والاتّهام بالزندقة والمروق عن الدين كما يفعله البعض.
إنّ التكفير والاتهام بالزّندقة والمروق هو مظهر للإرهاب الفكري حيث يدعي البعض لنفسه أنّ الإسلام ينحصر فيما يراه ويفهمه هو : وأنّ من تخالفه في ذلك الفهم أو الرّأي والمذهب فهو كافر لا مكان له في أجواء الإسلام ومجتمعه! ولقد حذّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أن يشهر مسلم على أخيه المسلم سلاح التكفير ففي الحديث الصحيح : من قال لأخيه : يا كافر فقد باء بها أحدهما (1).
وعن الإمام علي عليه السلام : من قال المؤمن لأخيه : أُفّ انقطع ما بينهما فإذا قال له : أنت كافر كفر أحدهما ، وإذا اتّهمه انماث الإسلام في قلبه كما ينماث الملح في الماء (2).
وعن أبي جعفر الإمام الباقر عليه السلام : ما شهد رجل على رجل بكفر قط إلّا باء به أحدهما ، إن كان شهد على كافر صدق ، وإن كان مؤمناً رجع الكفر عليه فإيّاكم والطعن على المؤمنين (3).
وعن الإمام الصادق عليه السلام ملعون معلون من رمى مؤمناً بكفرٍ ومن رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله (4).
وعنه أيضاً عليه السلام : من اتهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما (5).
ولم يكن مبدأ التسامح مجرّد فكرة نظريّة أو خلق مثالي بل كان سياسة ونظاماً اجتماعياً طبّقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته ، وذلك ملحوظ في تعامله مع المنافقين حيث لم يكفّرهم ولم يطردهم من مجتمع المسلمين ولم يقاتلهم ، وبعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينقل لنا التاريخ صفحات رائعة من حالة التسامح التي كانت سائدة في حياة المسلمين ، ومن أروع الصفحات موقف الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من مخالفيه ومناوئيه فعلي عليه السلام لا يُنكر علمه وفضله ، وإذا كان هناك من يتّهم فهم علي للإسلام فهو ـ الإمام علي ـ بلا شكّ واثق من نفسه متأكّد من فهمه ، وهو أقرب الناس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وألصقهم به ومع ذلك فإنّه لم يحكم على من اختلف معه في الفهم أو الموقف بالخروج عن حضرة الإسلام ، ولم يحرمهم من حقوقهم كأعضاء في المجتمع الإسلامي.
ورغم أنّ المتمرّدين على الإمام علي عليه السلام من الخوارج تجرئوا حتّى على تكفيره واتّهموه بالشّرك ، ولكنّه عليه السلام رفض أن يبادلهم التهمة بل اعترف لهم بالإسلام وعاملهم معاملة سائر المسلمين.
ففي مصنّف ابن أبي شيبة بسنده عن كثير بن نمر قال : بينا أنا في الجمعة وعلي بن أبي طالب على المنبر إذ جاء رجل فقال : لا حكم إلّا لله ، ثم قام آخر فقال : لا حكم إلّا لله ، ثم قاموا من نواحي المسجد يحكّمون الله ، فأشار عليهم بيده : أجلسوا : نعم ، لا حكم إلّا لله : كلمة حقّ يبتغى بها باطل ، حكم الله ينتظر فيكم ، الآن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا : لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، ولا نمنعكم فيئاً ما كانت أيديكم مع أيدينا ، ولا نقاتلكم حتّى تقاتلوا ، ثمّ أخذ في خطبته (6).
وينقل عن إمام المذهب الحنفي أبو حنيفة أنّه قد جلس بالمسجد يوماً فدخل عليه بعض الخوارج شاهري سيوفهم ، فقالوا : يا أبا حنيفة ، نسألك عن مسألتين ، فإن أجبت نجوت وإلّا قتلناك ، قال : اغمدوا سيوفكم فإنّ برؤيتها ينشغل قلبي. قالوا : وكيف نغمدها ونحن نحتسب الأجر الجزيل بإغمادها في رقبتك؟
قال : سلوا إذن. قالوا : جنازتان بالباب ، إحداهما رجل شرب الخمر فمات سكران ، والأخرى امرأة حملت من الزنا فماتت في ولادتها قبل التوبة ، أهما مؤمنان أم كافران؟
فسألهم : من أيّ فرقة كانا؟ من اليهود؟ قالوا : لا ، قال : من النصارى؟ قالوا : لا ، قال : ممن كانا؟ قالوا : من المسلمين. قال : قد أجبتم!
قالوا : هما في الجنّة أم في النار؟
قال : أقول فيهما ما قال الخليل عليه السلام فيمن هو شر منهما (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (7)
وأقول كما قال عيسى عليه السلام : (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (8).
فنكسوا رؤوسهم وانصرفوا (9).
التعصب واحتكار الحق :
إن يكون لك رأي فذلك حقّ طبيعي ، لكنّ الإسلام ينصحك أن تتوخّى في آرائك الصّواب وتبحث عن الحقّ ، وأن لا تصمّ أُذنك وتحجب عقلك على الآراء الأخرى ، فلعلّها أصوب من رأيك وأقرب إلى الحقّ ، وإذا ما تبيّن لك الخطأ فلا يصحّ لك الإصرار على الرأي الخاطئ يقول تعالى : (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (10).
ففي مقابل خلق التسامح واحترام الرأي هناك مرض التعصّب واحتكار الحقّ بأن يتشبّث الإنسان برأيه ، ويرفض مجرّد النّقاش والبحث في الرأي الآخر ، ويعتقد بأنّ رأيه الحقّ المطلق ، ليس بعده إلّا الكفر والضّلال.
إنّ هذا المرض المقيت يسبّب تحجّر الفكر ، ويؤدّي إلى الإرهاب الفكري ، وينتج الصّراع والنزّاع في المجتمع.
فالحقّ والصّواب في أيّ أمر علمه الواقعي عند الله سبحانه ، وأّيّ رأي بشري يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ ، وقد لا يكون الصواب والخطأ في أيّ رأي مطلقاً وتاماً بل قد تختلف نسبته المئوية فهو صحيح أو خطأ بنسبة ١% أو ١٠% أو ٥٠% أو ٩٠% وهكذا.
من هنا يربّي الإسلام أبناءه على خلق التسامح واحترام الرأي والبحث عن الحقّ واستماع القول لاتباع أحسنه ، ويحذّرهم من التعصّب المقيت وادعاء الحقّ المطلق.
سئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام : ما أدنى ما يكون به العبد كافراً؟ قال : أن يبتدع به شيئاً فيتولّى عليه ويتبرأ ممن خالفه (11).
وفي نصّ آخر قال عليه السلام : أن يقول لهذه الحصاة إنّها نواة ويبرئ ممّن خالفه على ذلك (12).
وعن الإمام علي عليه السلام : أدنى ما يكون به كافراً أن يتديّن بشيء فيزعم أنّ الله أمره به ممّا نهى الله عنه ثمّ ينصبه ديناً فيتبرّأ ويتولّى ويزعم أنّه يعبد الله الذي أمره به (13).
وعن أبي العباس قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أدنى ما يكون به الإنسان مشركاً قال : فقال : من ابتدع رأياً فأحبّ عليه أو أبغض عليه (14).
مآسي الإرهاب الفكري :
في عصور الإسلام الأولى كان التسامح واحترام الرأي هو الخلق الاجتماعي السّائد الذي ينظّم حرّيّة الفكر ، ولكن بعد بروز الانحراف السيّاسي في حياة المسلمين ، وضعف الالتزام بمبادئ الإسلام وأخلاقه وتعاليمه وخاصّة لدى بعض الفئات والجهات المؤثّرة ، بدأ الفكر يعيش حالة المعاناة ، وابتلى المسلمون بمآسي الإرهاب الفكري في العديد من الفترات والعهود ، فالسلطات الحاكمة كانت تتدخّل بقوّتها لفرض رأي أو لمحاربة آخر ، وبعض رجال الدين المرتبطين بالسّلطات كانوا يشجّعونها بهذا الأتجاه ولعلّ الخوارج هم أوّل من مارس هذا النوّع من الإرهاب الفكري في تاريخ المسلمين حيث كفّروا من يخالفهم في الرأي أو الموقف السياسي حتّى وإن كان علي بن أبي طالب أوّل الناس إسلاماً وأسبقهم إيماناً وأقربهم من رسول الله.
وحدثت من جرّاء ذلك الآلام والمآسي بتبادل اتهامات التكفير والمروق من الدين ، وباستباحة الدّماء وهتك الحرمات لخلاف على فكرة أو حكم فقهي!
الوحدة والإرهاب الفكري :
ولآن نحن نعيش القرن الخامس عشر للهجرة ، ونلاحظ تطوّر العلم والتكنولوجيا ، والمدى الذي وصلت إليه المجتمعات الصناعية المتقدّمة ، ونلاحظ تنامي مستوى الوعي والإدراك في أوساط أُمّتنا الإسلامية الناهضة ، فهل يمكن القبول بتكرار مآسي الماضي ، وعودة أجواء التحجّر والتزّمت والإرهاب الفكري؟
ومن المؤسف أنّ هناك من لا يزال يعيش بتلك العقلية الضيّقة ويريد فرض وصايته وآرائه على الآخرين ، وإذا ما خالفه أحد أو ناقشه بادر إلى إصدار فتوى التكفير والمروق عن الدين بحقه أو اتّهمه بالابتداع والضلال.
يقول الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي :
وقد عرفنا في عصرنا أناساً يجهدون أنفسهم ، ويجهدون النّاس معهم ، ضانّين أنّهم قادرون على أن يصبّوا الناس في قالب واحد يصنعونه هم لهم ، وأن يجتمع الناس على رأي واحد ، يمشون فيه وراءهم ، وفق ما فهموه من النصوص الشرعية ، وبذلك تنقرض المذاهب ، ويرتفع الخلاف ، ويلتقي الجميع على كلمة سواء.
ونسي هؤلاء أنّ فهمهم للنصوص ليس أكثر من رأي يحتمل الخطأ ، كما يحتمل الصّواب ، إذ لم تضمن العصمة لعالم فيما ذهب إليه ، وإن جمع شروط الاجتهاد كلها ، كلّ ما ضُمن له هو الأجر على اجتهاده أصاب أم أخطأ ...
ولا تحسبنّ أنّي أنكر عليهم دعوتهم إلى اتباع النصّوص ، أو اجتهادهم في فهمها فهذا من حقّ كلّ مسلم استوفى شرائط الاجتهاد وأدواته ، ولا يملك أحد أن يغلق باباً فتحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأمّة ، إنّما أنكر عليهم تطاولهم على مناهج علماء الأمّة ، واحتقارهم للفقه الموروث ، ودعاواهم العريضة في أنّهم وحدهم على الحقّ ، وما عداهم على خطأ أو ضلال ، وتوهّمهم أنّ باستطاعتهم إزالة الخلاف ، وجمع الناس قاطبة على قول واحد ، هو قولهم.
قال لي واحد من طلبة العلم المخلصين من تلاميذ هذه المدرسة مدرسة الرأي الواحد : ولِمَ لا يلتقي الجميع على الرأي الذي معه النصّ؟
قلت : لابدّ أن يكون النصّ صحيحاً مسلّماً به عند الجميع ، ولابدّ أن يكون صريح الدلالة على المعنى المراد ، ولابدّ أن يسلم من معارض مثله أو أقوى منه من نصوص الشريعة الجزئية أو قواعدها الكلية ، فقد يكون النصّ صحيحاً عند إمام ، ضعيفاً عند غيره ، وقد يصحّ عنده ولكن لا يسلم بدلالته على المراد ، فقد يكون عند هذا عاماً وعند غيره خاصّاً ، وقد يكون عند إمام مطلقاً ، وعند آخر مقيّداً ، وقد يراه هذا دليلاً على الوجوب أو الحرمة ، ويراه ذلك دالّاً على الاستحباب أو الكراهية وقد يعتبره بعضهم محكماً ، ويراه غيره منسوخاً إلى غير ذلك من الاعتبارات (15).
إنّ وجود فئات تحمل هذا التوجّه المتشدّد ، وترفض حرّيّة الفكر وخلق التسامح ، ليهدّد الحركة العلمية والفكرية بالشلل والتحجّر ، كما يخلق حالة النزاع والعداوة ويمنع من الوحدة والتعاون.
وخاصّة إذا ما كانت هناك مصالح سياسية تدفع بعض الحكومات ذات النفوذ والثروة لتبنّي مثل هذه التوجّهات ، وهذا هو ما تعاني منه الأُمّة الإسلامية في هذا العصر.
فحينما تأسّست في القاهرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في الستينات وهي مشروع وحدوي حضاري قام به نخبة من علماء المسلمين السنّة والشيعة ، ثارت ثائرة أولئك المتشدّدين وبدأو يصدرون الكتب والمجلّات ، التي توزع أحكام التكفير والمروق من الدين على هذا المذهب وتلك الطائفة ، حتّى كتب أحدهم كتاباً قال في مقدمته مهاجماً فكرة التقارب بين المذاهب الإسلامية : إنّه لا يمكن الجمع بين النور والظلام والتقريب بين الحقّ والباطل!
وبعد انتشار الصحوة الإسلامية وانبثاق الحركات والانتفاضات الجماهيرية في الأُمّة جدّد هؤلاء المتزمِّتون نشاطهم وضمن مخطّط سياسي لمواجهة الصحوة المباركة ، فصاروا يصدرون ألوان الكتب والمجلّات ، ويمارسون نشاطاً مكثفّاً ضدّ المذاهب والمدارس الفكرية المخالفة لهم ، بهدف إيجاد البلبلة وتعميق الفرقة ، ولإضعاف الجهود الوحدوية الصادقة.
إنّ محاربة أيّ مذهب أو فكرة بالقمع والإرهاب غالباً ما لا يقضي على ذلك المذهب أو تلك الفكرة بل يفجّر إرادة التحدّي عند الاتباع ، ويجعلهم أكثر إصراراً وتمسّكاً برأيهم ، بل قد يدفعهم إلى الهجوم المضاد ، والردّ الانتقامي وبذلك تتمزّق وحدة الأمّة ، وتتبدّد طاقاتها على حساب معركتها المصيرية وقضاياها الأساسية.
والواعون من الأمّة مطالبون بمقاومة الإرهاب الفكري ، وتشجيع حرّية الفكر ، وبثّ أخلاق الإسلام الداعية إلى التسامح واحترام الرأي.
ومن المبادرات الإيجابية في هذا المجال الكتاب الذي أصدره الدكتور الشيخ محمّد سعيد رمضان البوطي من أبرز علماء المسلمين في سوريا تحت عنوان ( السّلفيّة مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي ) فالكتاب وإن كانت بعض نقاطه مورد نقاش واختلاف نظر ، لكن الموضوع الأساسي للكتاب دفاع عن حرّية الرأي والفكر وإدانة للإرهاب الفكري ، ويشير المؤلّف إلى أخطار التحجّر الفكري ومصادرة حقّ الآخرين في إبداء آرائهم وما ينتجه هذا التوجّه الذي تتخّذه السّلفيّة شعاراً ولواءاً من تكريس للخلافات وتمزيق للصفّ الإسلامي الواحد.
يقول :
الأذى المتنوّع البليغ الذي انحطّ في كيان المسلمين من جرّاء ظهور هذه الفتنة المبتدعة فلقد أخذت تقارع وحدة المسلمين ، وتسعى جاهدة إلى تبديد تآلفهم وتحويل تعاونهم إلى تناحر وتناكر ، وقد عرف الناس جميعاً أنّه ما من بلدة أو قرية في أيّ من أطراف العالم الإسلامي ، إلّا وقد وصل إليها من هذا البلاء شظايا ، وأصابها من جرّائه ما أصابها من خصام وفرقة وشتات ، بل ما رأيت أو سمعت شيئاً من أنباء هذه الصّحوة الإسلامية التي تجتاح اليوم كثيراً من أنحاء أوروبا وأمريكا وآسيا ، مما يثلج الصدر ، ويبعث على البشر والتفاؤل إلّا ورأيت أو سمعت بالمقابل من أخبار هذه الفتنة الشّنعاء التي سبقت إلى تلك الأوساط سوقاً ، ما يملأ الصدر كرباً ويزجّ المسلم في ظلام من الخيبة الخانقة والتشاؤم الأليم.
كنت في هذا العام المنصرم ١٤٠٦ هـ واحداً ممّن استضافتهم رابطة العالم الإسلامي للاشتراك في الموسم الثقافي ، وأُتيح لي بهذه المناسبة أن أتعرّف على كثير من ضيوف الرّابطة الذين جاؤوا من أوروبا وأمريكا وآسيا وإفريقيا ، وأكثرهم يشرفون في الأصقاع التي أتوا منها على مراكز الدّعوة الإسلامية أو يعملون فيها ، والعجيب الذي لابدّ أن يهيّج آلاماً ممزقة في نفس كلّ مسلم أخلص لله في إسلامه ، إنّني عندما كنت أسأل كلاّ منهم عن سير الدّعوة الإسلامية في تلك الجهات ، أسمع جواباً واحداً يطلقه كلّ من هؤلاء الإخوة على انفراد ، بمرارة وأسى خلاصته : المشكلة الوحيدة عندنا هي الخلافات والخصومات الطاحنة التي تثيرها بيننا جماعة السلفية.
ولقد اشتدّت هذه الخصومات منذ بضع سنوات ، في مسجد واشنطون إلى درجة الجات السلطات الأمريكية إلى التدخّل ، ثمّ إلى إغلاق المسجد لبضعة شهور!
ولقد اشتدّت هذه الخصومات ذاتها واهتاجت ، في أحد مساجد باريس منذ ثلاثة أعوام ، حتّى اضطرّت الشّرطة الفرنسية إلى اقتحام المسجد ، والمضحك المبكي بآن واحد ، أنّ أحد أطراف تلك الخصومة أخذته الغيرة الحمقاء لدين الله ولحرمة المسجد ، لما رأى أحد الشرطة داخلاً المسجد بحذائه فصاح فيه أن يخرج أو يخلع حذاءه ، ولكن الشرطي صفعه قائلاً : وهل ألجأنا إلى اقتحام المسجد على هذه الحال غيركم أيّها السخفاء؟!
وفي إحدى الأصقاع النائية ، حيث تُدافع أمّة من المسلمين الصادقين في إسلامهم عن وجودها الإسلامي ، وعن أوطانها وأراضيها المغتصبة ، تصوّب إليهم من الجماعات السلفية سهام الاتهام بالشّرك عن وجودها الإسلامي ، وعن أوطانها وأراضيها المغتصبة ، تصوّب إليهم من الجماعات السلفية سهام الاتهام بالشّرك والابتداع ، لأنّهم قبوريون توسُّليّون ، ثمّ تتبعها الفتاوى المؤكّدة بحرمة إغاثتهم بأيّ دعم معنوي أو عون مادي! ويقف أحد علماء تلك الأمّة المنكوبة المجاهدة ، ينادي في أصحاب تلك الفتاوى والاتهامات : يا عجباً لإخوة يرموننا بالشّرك ، على أنّنا نقف بين يدي الله كلّ يوم خمس مرّات نقول : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (16)
ولكن الندّاء يضيع ويتبدّد في الجهات دون أيّ متدبّر أو مجيب (17).
وأخيراً فإنّ حالات الإرهاب الفكري بالإضافة إلى أضرارها الداخلية وعونها للعدو الخارجي علينا فإنّها تشكّل إساءة وتشويهاً لسمعة الإسلام أمام سائر الشعوب ، التي تمارس الحرّيّة الفكريّة والعلميّة في أجوائها على أوسع نطاق ، فماذا سيكون انطباعهم عن دين يتبادل اتباعه التكفير والتفسيق ، وتسود بينهم لغة القمع والبطش بغطاء ديني؟!
المصادر:
1- مسند أحمد ٢ : ١١٢.
2- الخصال ٢ : ٦٢٢ ، حديث أربعمائة.
3- الكافي ٢ : ٣٦٠ ، الحديث ٥ باب السباب.
4- كنز الفوائد لأبي الفتح الكراجكي : ٦٣.
5- الكافي ٢ : ٣٦١ ، الحديث٢ ، باب التهمة وسوء الظن.
6- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي ٨ : ٧٤٦.
7- إبراهيم: ٣٦.
8- المائدة : ١١٨.
9- القرآن والسلطان : ٢٠٣.
10- الزمر : ١٧ ـ ١٨.
11- معاني الأخبار : ٣٩٣ الحديث٤٣ باب نوادر المعاني.
12- المصدر السابق ، الحديث٤٤.
13- كتاب سليم بن قيس الهلالي : ١٧٧.
14- الكافي٢ : ٣٩٧ ، الحديث٢ باب الشرك.
15- الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرّف : ١٦٣.
16- الفاتحة: ٥.
17- ـ السلفية مرحلة زمنيّة مباركة لا مذهب إسلامي : ٢٤٤.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

موقف الفكر الشيعي من الحركات الباطنية
الحديث والاجتهاد والفقه
أنواع العبودية
تمثال السيد المسيح في ألبرازيل
كم يبلغ عدد الشيعة في العالم ؟
دواء القلوب
المُناظرة العشرون /مناظرة الاِمام الكاظم عليه ...
محكمة الآخرة
الجبر والاختيار
سياحة في الغرب أو مسير الأرواح بعد الموت 3

 
user comment