قال أبوعبدالله عليه السلام: (..علم الله عزوجل ألا يقوم أحد من خلقه بحقه، فلما علم بذلك وهب لاهل محبته القوة على معرفته ووضع عنهم ثقل العمل بحقيقة ماهم أهله«أي بحقيقة المحبة التي هم أهلها فان المحبة تدفع ثقل العمل كما يشهد به الوجدان» ووهب لاهل المعصية القوة على معصيتهم لسبق علمه فيهم) مع أن كلا الفريقين قادرون على الطاعة والمعصية الا أن محبة الله تدفع ثقل الطاعة وتمنع عن المعصية، ومحبة النفس والدنيا تجر إلى المعصة وتثقل الطاعة، فيصح حينئذ أن يقال: لهم القوة على المعرفة والطاعة ولهم القوة على المعصية. ولم يمنعهم إطاقة القبول منه لان علمه أولى بحقيقة التصديق، فوافقوا ماسبق لهم في علمه، وإن قدروا أن يأتوا خلالا تنجيهم عن معصيته« في الكافي باب السعاة والشقاوة: (ولم يقدروا أن يأتوا حالا تنجيهم من عذابه) وفي نسخة (ولم يقدروا أن يأتو حالا تنجيهم عن معصيته) وقوله في النسختين: (ولم يقدروا) لايناسب قوله: (ولم يمنعهم اطاقة القبول منه) لانه تعالى ان لم يمنعهم ذلك فهم قادرون على أن يأتوا حالا تنجيهم عن معصيته فالمناسب (وان قدروا) كما في سائر النسخ، الا أن في الكافي: (ومنعهم اطاقة القبول) فيناسب.» وهو معنى شاء ماشاء، وهو سر« في الكافي: (وهو سره) والسر يأتي بمعنى الامر المكتوم والامر المعزوم عليه، والاصل، وجوف كل شئ ولبه، وعلى نسخة الكتاب فالانسب المعنى الاول، فمعنى الكلام: وهو أي هبة القوة للفريقين معنى شاء ماشاء، وهذا المعنى أمر مكتوم عن أفهام العامة.»
ثم ان معنى الحديث على ما في الكتاب ظاهر لا اشكال فيه كما قلنا من قبل: ان كلا الفريقين قادرون - الخ، وأما على مافي الكافي فمنع الاطاقة وعدم القدرة على ماينجيهم من عذابه لاجل عدم المحبة له تعالى بحيث لاينبعث ارادتهم على القبول لما من عنده من المعارف والاوامر والنواهي وغيرها وعلى الاتيان بما فيه رضى الرب تعال ومع عدم انبعاث الارادة امتنع القبول والاتيان، وعدم المحبة لاجل عدم المعرفة وهو معلول لعدم التوجه والاقبال إلى الحق وهو معلول للتغافل ثم الغفلة عن مبدئه ومعاده وهو معلول للاشتغال بما عنده من اللذات المادية ومافي الدنيا من الامور الفانية وتوهم أنها مطلوبة نافعة بما هي هي، والحاصل أن امتناع الاطاقة وعدم القوة على الاتيان معلول لمنعه تعالى اياهم محبته فلذا أسنده إلى نفسه، لكن ذلك ليس جزافا وظلما بل لعدم قابلية المحل لمحبته بسبب الاشتغال بمحبة نفسه ومحبة مايراه ملائما لنفسه، وببيان آخر أن القدرة قد يراد بها كون الفاعل بحيث يصح منه الفعل والترك ويمكنانه، وقد يراد بها القوة المنبعثة في العضلات على الاتيان بعد تحقق الارادة، ويعبر عنها بالاستطاعة والايطاقة أيضا، والمنفية عنهم في الحديث هي القدرة بالمعنى الثاني، فتدبر.
و على ما في الكافي فالانسب أن يكون بمعنى الاصل، فمعناه: وهو أي معنى شاء ماشاء أصل الامر فيما قلت لك من شأن أهل المحبة وأهل المعصية.
1- حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن علي بن أسباط، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عزوجل: (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا)(1) قال: بأعمالهم شقوا.
حدثنا الشريف أبوعلي محمد بن أحمد بن محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: حدثنا علي بن محمد ابن قتيبة النيسابوري، عن الفضل بن شاذان، عن محمد بن أبي عمير، قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله: (الشقي من شقي في بطن امه والسعيد من سعد في بطن امه) فقال: الشقي من علم الله وهو في بطن امه أنه سيعمل أعمال الاشقياء والسعيد من علم الله وهو في بطن امه أنه سيعمل أعمال السعداء، قلت له: فما معنى قوله صلى الله عليه وآله: (اعملوا فكل ميسر لما خلق الله)؟ فقال: إن الله عزوجل خلق الجن والانس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه، وذلك قوله عزوجل: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون)(2) فيسر كلا لما خلق له، فالويل لمن استحب العمى على الهدى. في نسخة بعد الحديث هكذا: (قال مصنف هذا الكتاب: ولهذا الحديث معنى آخر وهو أن ام الشقي جهنم، قال الله عزوجل: (وأما من خفت موازينه فامه هاوية) والشقي من جعل في الهاوية، والسعيد من اسكن الجنة.
أقول: وله معنى آخر مذكور في بعض الاخبار، وهو أن ملك الارحام يكتب له باذن الله بين عينيه أنه سعيد أم شقي وهو في بطن امه، ومعنى آخر أن المراد بالام دار الدنيا فانه كما يولد من بطن امه إلى الدنيا يولد من الدنيا إلى الاخرة فاحديهما حاصلة له في الدنيا بأعماله.
2- أبي رحمه الله قال: حدثنا سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن معلى أبي عثمان(3) عن علي بن حنظلة، عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال: يسلك بالسعيد طريق الاشقياء حتى يقول الناس: ما أشبهه بهم بل هو منهم ثم يتداركه السعادة، وقد يسلك بالشقي طريق السعداء حتى يقول الناس: ما أشبهه بهم بل هو منهم ثم يتداركه الشقاء.
إن من علمه الله تعالى سعيدا وإن لم يبق من الدنيا إلا فواق ناقة ختم له بالسعادة. الختم بالسعادة أو الشقاوة منوط بخير القلب وعدمه، وهو ما أنبأ عنه في قوله تعالى: (لو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم) وقوله: (ان يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا) وهذا الخير هو ميل القلب إلى الحق وحبه له كائنا ماكان وان لم يعرف مصداقه واشتبه عليه الباطل به، فان على الله الهدى ان علم ذلك من عبده.
3- حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن يعقوب بن يزيد، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: إن الله عزوجل خلق السعاة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه«في الكافي: (فمن خلقه الله سعيدا لم يبغضه أبدا - الخ) (وان كان شقيا لم يحبه أبدا - الخ) أقول: لاشبهة أن السعادة التي هي الفوز بالمطلوب والشقاوة التي هي الحرمان عنه لاحقتان بالعبد اثر عقيدته وعمله كما صرح به في الحديث الاول، فمعنى خلقهما قبل خلق الخلق خلق عللهما وان لاتتم الا باختيار العبد، أو المعنى أنه تعالى خلقهما بخلق الانسان الذي هو موضوعهما في العوالم السالفة كالميثاق والارواح قبل أن يخلقه خلقة هذه النشأة، أو معنى خلقهما تقديرهما في الواح التقدير لا ايجادهما في موضوعهما.» فمن علمه الله سعيدا لم يبغضه أبدا، وإن عمل شرا أبغض عمله ولم يبغضه، وإن كان علمه شقيا لم يحبه أبدا، وإن عمل صالحا أحب عمله وأبغضه لما يصير إليه، فأذا أحب الله شيئا لم يبغضه أبدا، وإذا أبغض شيئا لم يحبه أبدا.
حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، وسعد بن عبدالله جميعا، قالا: حدثنا أيوب بن نوح، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عزوجل: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)(4) قال: يحول بينه وبين أن يعلم أن الباطل حق«وكذا أن يعلم أن الحق باطل، وهذا عام لكل أحد من الناس، وذلك لان اليقين من صنع الرب تعالى، ولا يصنع في عبده اليقين بما خالف الحق، بل اما يصنع اليقين أو لايصنع، ولما رواه العياشي في تفسيره عن الصادق عليه السلام انه قال (لايستيقن القلب ان الحق باطل أبدا ولا يستيقن أن الباطل حق أبدا) فاما المخالفون للحق الاخذون الباطل مكان الحق أو الحق مكان الباطل فهم اما مستيقنون بأنفسهم جاحدون بألسنتهم أو شاكون وان استدلوا على ما بأيديهم، والا لم يتم الحجة عليهم لان اليقين حجة بنفسه مع أن لله تعالى الحجة البالغة على جميع خلقه، والحاصل أن متعلق يقين القلب حق أبدا، وأما الاباطيل فهي وراء اليقين، فمن ادعى اليقين بباطل فهو كذاب مفتر» وقد قيل: إن الله تبارك وتعالى يحول بين المرء وقلبه بالموت(5) وقال أبوعبدالله عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى ينقل العبد من الشقاء إلى السعادة ولا ينقله من السعادة إلى الشقاء.« ان قلت: ان كان المراد بالشقاوة والسعادة بحسب ما يراه الناس فالنقل ثابت من كل منهما إلى الاخر كما نطق به الحديث وشهد به الواقع، وان كان المراد بهما بحسب ما في علم الله فلا نقل أصلا لان ماعلمه تعالى لايتغير، قلت: ان الكلام منصرف عن هذا البحث بل المراد أن الله تعالى يلطف بامور لبعض من يسلك سبيل الشقاوة فيقربه من سبيل السعادة لمصالح لشخصه او لغيره سواء ختم أمره بالسعادة أو بالشقاوة، ولا يمكر بمن يسلك سبيل السعادة بأمر فيقربه من سبيل الشقاوة سواء أيضا ختم أمره بها أو بها» والشاهد له الحديث السابع من الباب التالي، ولا يبعد أن يكون الكلام ناظرا إلى مسألة البداء.
المصادر :
کتاب التوحيد للشيخ الجليل الاقدم الصدوق ابي جعفر محمد على بن الحسين بن بابويه القمي المتوفي سنة 381
1- المؤمنون: 106
2- الذاريات: 56
3- هو أبوعثمان معلى بن عثمان الاحول الكوفي الثقة الذي روي عن أبي عبدالله عليه السلام بلا واسطة أيضا، وفي نسخة عن معلى بن عثمان، وأما معلى بن أبي عثمان كما في بعض النسخ فالظاهر أنه خطأ.
4- الانفال: 24
5- الظاهر أن نقل هذا القيل من الصدوق رحمه الله.