الشفاعة في القرآن الكريم على معان أو أقسام ثلاثة:
ألف ـ الشفاعة التكوينية
اتّفق الواعون من المسلمين على أنّه لا مؤثر مستقل في الوجود غيره سبحانه، وأنّ غيره مفتقر في الوجود والتأثير إليه سبحانه، ولأجل ذلك صار شعار القرآن في حق الإنسان وفي حق غيره قوله: {يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد * إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز} (فاطر/15 ـ 17)
وقوله سبحانه: {والله الغني وأنتم الفقراء} (محمد/38)
وقال سبحانه على لسان نبيّه الكريم: {ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير} (القصص/24).
فبما أنّ عالم الكون عالم إمكاني لا يملك من لدن ذاته وجوداً ولا كمالا، بل كلّ ما يملك من وجود وكمال فقد أُفيض إليه من جانبه سبحانه فهو بحكم الإمكان موجود مفتقر في عامة شؤونه وتأثيره وعلّيته.
ونظراً لتوقف تأثير كل ظاهرة كونيّة على إذنه سبحانه كما جاء في قوله تعالى: {إنّ ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبّر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون} (يونس/3)
فانّ الآية بعدما تصف اللهَ سبحانه بأنّه خالق السماوات والأرض في ستة أيام وأنّه استوى بعد ذلك على العرش، وأنّه يدبر أمر الخلق، تُعلِن بأنّ كل ما في الكون من العلل الطبيعية والظواهر المادية يؤثر بعضه في البعض بإذنه سبحانه، وأنّه ليست هناك علّة مستقلة في التأثير، بل كل ما في الكون من العلل، ذاته وتأثيره، قائمان به سبحانه وبإذنه، فالمراد من الشفيع في الآية هو الأسباب والعلل المادية وغيرها، الواقعة في طريق وجود الأشياء وتحقّقها وإنّما سمِّيت العلة شفيعاً، لأنّ تأثيرها يتوقف على إذنه سبحانه، فهي (مشفوعةً إلى إذنه سبحانه) تؤثر وتعطي ما تعطي.
وعلى ذلك تخرج الآية عن الدلالة على الشفاعة المصطلحة بين المفسّرين وعلماء الكلام، وإنّما اخترنا هذا المعنى لوجود قرائن في نفس الآية، فانّها تبحث في صدرها عن خلق السماوات والأرض وتحديد مدّة الخلق والإيجاد بستة أيام، ثم ترجع الآية، وتنص على سعة قدرته على جميع ما خلق وإحاطته بهم، وانّه بعدما خلق السماوات والأرض، استوى على عرش القدرة وأخذ يدبّر العالم.
وعند ذلك يتساءل القارئ: إذا كان هو المدبر والمؤثر فما حال سائر المدبرات والمؤثرات التي يلمسها البشر في حياته؟ فللإجابة على هذا السؤال قال سبحانه: {ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه} مصرِّحاً بأنّ كل تأثير وتدبير في سبب من الأسباب إنّما هو بإذنه ومشيئته ولولا إذنه ومشيئته لما قام السبب بالسببية، ولا العلة بالعلية، وهذه القرائن توجب حمل هذه الجملة على ما يجري في عالم الكون والوجود من التأثير والعلية، وتفسيرها بالشفاعة التكوينية، وأنّ كل ظاهرة مؤثرة كالشمس والقمر والنار والماء لا تؤثر إلاّ بالاستمداد من قدرته سبحانه والاعتماد على إذنه ومشيئته حتى يتم بذلك التوحيد في الخالقية والتدبير.
ب ـ الشفاعة القيادية
وهو قيام قيادة الأنبياء والأولياء والأئمة والعلماء والكتب السماوية مقام الشفيع والشفاعة في تخليص البشر من عواقب أعمالهم وآثار سيئاتهم. والفرق بين الشفاعة المصطلحة والشفاعة القيادية هو أنّ الشفاعة المصطَلحة توجب رفع العذاب عن العبد بعد استحقاقه له، والشفاعة القيادية توجب أن لا يقع العبد في عداد العصاة حتى يستحق. والظاهر أنّ إطلاق الشفاعة على هذا القسم ليس إطلاقاً مجازياً، بل إطلاق حقيقي. وقد شهد بذلك القرآن والأخبار.
قال سبحانه: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربّهم ليس لهم من دونه وليّ ولا شفيع لعلّهم يتّقون} (الأنعام/51).
والضمير المجرور في {به} يرجع إلى القرآن(1).
ولا شك أنّ ظرف شفاعة هذه الأُمور إنّما هو الحياةُ الدنيويةُ، فانّ تعاليم الأنبياء وقيادتهم الحُكمية وهداية القرآن وغيره، إنّما تتحقّق في هذه الحياة الدنيوية، وإن كانت نتائجها تظهر في الحياة الأُخروية، فمن عمل بالقرآن وجعله أمامه في هذه الحياة، قاده إلى الجنّة في الحياة الأُخروية. ولأجل ذلك نرى أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمر الأُمة بالتمسك بالقرآن ويصفه بالشفاعة ويقول: " فإذا التَبَست عليكم الفتنُ كقطع الليل المظلم فعليكُم بالقرآن فإنّه شافعٌ مشفَّع وماحِل مصدَّق، ومن جَعَلَه أمامَه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفَه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبرهان "(2).
فإنّ قوله: " ومن جعله أمامه "، تفسير لقوله: " فإنّه شافع مشفَّع ". والحاصل: أنّ الشفاعة القيادية شفاعة بالمعنى اللغوي، فإنّ المكلّفين
بضم هداية القرآن وتوجيهات الأنبياء والأئمة إلى إرادتهم وطلباتهم، يفوزون بالسعادة ويصلون إلى أرقى المقامات في الحياة الأُخروية ويتخلّصون عن تبعات المعاصي ولوازمها.
فالمكلّف وحده لا يصل إلى هذه المقامات، ولا يتخلّص من تبعات المعاصي، كما أنّ خطاب القرآن والأنبياء وحده ـ من دون أن يكون هناك من يسمع قولهم ويلبّي نداءهم ـ لا يؤثر ما لم ينضم إليه عمل المكلّف إلى هدايتهم، وهدايتهم إلى عمل المكلّف فعندئذ تتحقّق هذه الغاية.
ج ـ الشفاعة المصطلحة
وحقيقة هذه الشفاعة لا تعني إلاّ أن تصل رحمتهُ سبحانه ومغفرته وفيضه إلى عباده عن طريق أوليائه وصفوةَ عباده، وليس هذا بأمر غريب. فكما أنّ الهداية الإلهية التي هي من فيوضه سبحانه، تصل إلى عباده في هذه الدنيا عن طريق أنبيائه وكتبه، فهكذا تصل مغفرته سبحانه وتعالى إلى المذنبين والعصاة يوم القيامة من عباده عن ذلك الطريق.
ولا يبعد في أن يصل غفرانه سبحانه إلى عباده يوم القيامة عن طريق خِيرة عباده، فإنّ الله سبحانه قد جعل دعاءهم في الحياة الدنيوية سبباً، ونصّ بذلك في بعض آياته. فنرى أنّ أبناء يعقوب لمّا عادوا خاضعين، رجعوا إلى أبيهم، وقالوا له: {يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنّا كنّا خاطئين} (يوسف/97)
فأجابهم يعقوب بقوله: {سوف أستغفر لكم ربّي إنّه هو الغفور الرحيم} (يوسف/98).
ولم يقتصر الأمر على يعقوب فحسب، بل كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)ممّن يستجاب دعاؤه أيضاً في حق العصاة، قال سبحانه: {ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توّاباً رحيماً} (النساء/64).
وهذه الآيات ونظائرها ممّا لم نذكرها مثل قوله: {وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم} (التوبة/103)
تدل على أنّ مغفرته سبحانه قد تصل إلى عباده بتوسيط واسطة كالأنبياء، وقد تصل بلا توسيط واسطة، كما يفصح عنه سبحانه بقوله: {يا أيّها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً} (التحريم/8)
وقوله: {واستغفروا ربّكم ثم توبوا إليه إنّ ربّي رحيم ودود} (هود/90).
إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن أنّ توبة العبد تجلب المغفرة بلا واسطة أحد وقد تصل بتوسيط واسطة هي من أعز عباده وأفضل خليقته وبريته.
وتتضح هذه الحقيقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق ـ وبخاصة دعاء الصالحين ـ من المؤثرات الواقعة في سلسلة نظام العلة والمعلول، ولا تنحصر العلة في العلل الواقعة في إطار الحس فإنّ في الكون مؤثرات خارجة عن إحساسنا وحواسنا، بل قد تكون بعيدة حتى عن تفكيرنا، يقول سبحانه:
{والنازعات غرقاً * والناشطات نشطاً * والسابحات سبحاً * فالسّابقات سبقاً * فالمدبرات أمراً} (النازعات/1 ـ 5).
فما المراد من هذه {المدبّرات أمراً} أهي مختصة بالمدبرات الطبيعية المادية، أو المراد هو الأعم منها؟ فقد روي عن علي (عليه السلام)تفسيرها بالملائكة الأقوياء، الذين عهد الله إليهم تدبير الكون والحياة بإذنه سبحانه، فكما أنّ هذه المدبرات يجب الإيمان بها وإن لم تعلم كيفية تدبيرها وحقيقة تأثيرها، فكذلك الدعاء يجب الإيمان بتأثيره في جلب المغفرة، ودفع العذاب وإن لم تعلم كيفية تأثيره.