إن كلامنا حول مناقب الصحابة -ومنهم الشيخان أبو بكر وعمر- ليس من باب الافتراء، ولا هو تحامل عليهم كما قد يتبادر الى الذهن، بل هو من أجل الكشف عن الزيف في تراثنا وما تعرض له الحديث النبوي من تلاعب، وقد يسأل البعض: ما فائدة الكشف عن نواحي التزييف في أحاديث الفضائل، وهل هي على هذه الدرجة من الأهمية!
مع العلم أن دأب المحدّثين كان التساهل في روايات الفضائل باعتبار عدم ترتُّب الأحكام عليها؟ لكن الحقيقة فإن لأحاديث الفضائل أهمية كبيرة، وقد ترتبت بعض الأحكام ـ عليها، كما لاحظنا في مسألة صلاة أبي بكر -وغيرها كثير، فضلا عن أننا نناقش مسألة مهمة ألا وهي مسألة النص على الخلافة، وهذه القضية على درجة عظيمة من الأهمية لأنها كانت ولا تزال مصدر تفريق بين المسلمين، فلابد إذاً من الاستمرار في معالجة هذا الموضوع حتى تتبين الحقيقة كاملة.
فمن الاُمور المتسالم عليها بين الجمهور أيضاً هي أن عائشة اُم المؤمنين وأباها هما أحب الناس الى النبي (صلى الله عليه وآله)، ولقد ركزت وسائل الإعلام الاُموية على هذه النقطة وانساق المحدّثون وراءها، فقد أخرج البخاري عن عمرو بن العاص "أن النبي (صلى الله عليه وآله) بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلتُ: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال:
ثم عمر بن الخطاب! فعدّ رجالا"(1).
ولست أدري ما الذي يجعل أمير أحد الجيوش على أن يسأل النبي (صلى الله عليه وآله) عن أحب الناس إليه، وما المناسبة لذلك! مع العلم أنه يتهيأ للحرب، والمفترض في هذه الحال أن يسأله عما يفعله والتدابير التي يجيب اتخاذها لتحقيق النصر العسكري! مع أن الرواية عن عمرو بن العاص، وكفى به أمانة.
إنَّ من المعلوم أن كل إنسان سوي معتدل المزاج، لابد وأن يكون أولاده أحبّ الناس إليه، ولا يعقل أن يحب رجل إمرأة أكثر من أولاده، فكيف بالنبي (صلى الله عليه وآله) وهو كما وصفه الله تعالى في محكم كتابه بأنه على خلق عظيم، فهل يعقل أن يحب النبي إمرأته أكثر من إبنته الوحيدة التي بقيت له من مجموع أولاده الذين اختارهم الله إلى جواره؟ أوليست هذه الرواية المفتعلة تعطي لأعداء الإسلام -وبخاصة المستشرقين- مبرّراً لترديد مقالاتهم عن شهوانية النبي وحبّه للنساء -حاشاه- وأن مسألة تزوجه من عدد من النساء إنما كان بدافع الشهوة الجنسية ليس إلاّ!
ورغم ذلك فاننا لا نجد كبير عناء في معرفة الحقيقة، وهي أن هذه الرواية قد وضعت -بأمر معاوية وبتنفيذ عمرو بن العاص- في مقابل الرواية التي تطمئن إليها النفس وتكشف عن حقيقة مشاعر النبي (صلى الله عليه وآله)، والتي تتضمن إعتراف عائشة نفسها بالحقيقة، فعن النعمان بن بشير قال: إستأذن أبو بكر على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فسمع صوت عائشة عالياً وهي تقول: والله لقد عرفتُ أن علياً وفاطمة أحب إليك مني ومن أبي - مرتين أو ثلاثاً-...(2)
فيتضح أن رواية البخاري عن عمرو بن العاص قد وضعت دون شك فيمقابل هذه الرواية، كغيرها من الروايات التي أشرنا إليها والتي استهدفت صرف فضائل علي وأهل بيته إلى غيره من الصحابة وبخاصة الخليفتين الاولين، وكما أمر معاوية. ولقد بلغ الأمر بالجمهور الى عدم تصديق أي رواية توحي بأحبّية علي الى النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن ذلك ما يثبته موقف الجمهور من حديث الطير، ولا بأس بذكر قصة هذا الحديث كمثال لما نقول.
حديث الطير
وهو من الأحاديث التي أقامت الدنيا وأقعدتها، لسبب بسيط هو مخالفته لعقيدة الجمهور في ترتيب الأفضلية بين الصحابة. وقد جمع الحافظ إبن كثير الروايات التي وردت في هذا الحديث، وسوف أقتطف قسماً من مقالته، فتحت عنوان (حديث الطير) كتب يقول:
وهذا الحديث قد صنّف الناس فيه، وله طرق متعددة، وفي كل منها نظر! ونحن نشير الى شيء من ذلك. قال الترمذي: عن أنس، قال: كان عند النبي (صلى الله عليه وآله) طير، فقال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير"، فجاء علي فأكل معه. ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه من حديث السُّدّي إلاّ من هذا الوجه، قال: وقد روي من غير وجه عن أنس، وقد رواه أبو يعلى عن الحسين بن حماد عن شهر بن عبدالملك، عن عيسى بن عمر به.
ورواه الحاكم في مستدركه... قال الحاكم: وقد رواه عن أنس أكثر من ثلاثين نفساً! قال شيخنا الحافظ الكبير أبو عبدالله الذهبي: فصلهم بثقة يصح الإسناد إليه. ثم قال الحاكم: وصحت الرواية عن علي وأبي سعيد وسفينة.
قال شيخنا أبو عبدالله: لا والله ما صح شيء من ذلك...! وبعد أن يورد إبن كثير مجموعة كبيرة من روايات الحاكم في نفس الغرض -نقلا عن الذهبيـ ويستشهد بقول الذهبي: الجميع بضعة وتسعون نفساً! أقربها غرائب ضعيفة، وأردؤها طرق مختلفة مفتعلة، وغالبها طرق واهية. يخلص إبن كثير الى القول: وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنفات مفردة، منهم أبو بكر بن مردويه، والحافظ أبو طاهر محمد بن أحمد بن حمدان، فيما رواه شيخنا أبو عبدالله الذهبي، ورأيت فيه مجلداً قد جمع طرقه وألفاظه لأبي جعفر بن جرير الطبري المفسّر صاحب التأريخ، ثم وقفت على مجلد كبير في ردّه وتضعيفه سنداً ومتناً للقاضي أبي بكر الباقلاني المتكلم، وبالجملة ففي القلب من صحة هذا الحديث نظر، وإن كثرت طرقه والله أعلم(3).
أما إبن تيمية فقال: إن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل(4).
وقال الشيخ ناصر الدين الألباني -في تعليقه على قول الترمذي (هذا حديث غريب)- قال: أي ضعيف، وهو كما قال.
أما الحافظ إبن حجر العسقلاني، فقال عنه: هو خبر منكر(5).
إن المتبادر الى الذهن لأول وهلة -بعد كل ما قيل- هو طرح الحديث جانباً لعدم صلاحيته للاحتجاج به، إلاّ أن اُولئك الحفّاظ سرعان ما يتراجعون عن مواقفهم المتصلّبة تلك، ويبدو التردد عليهم في ردّ الحديث، فنجد الذهبي يعود الى القول:
وحديث الطير على ضعفه، فله طرق جمّة، وقد أفردتها في جزء، ولم يثبت، ولا أنا بالمعتقد بطلانه!(6).
أما إبن حجر -الذي أنكر الحديث فيما سبق- فيقول في الأجوبة عن أحاديث وقعت في مصابيح السنّة- عن السُّدي وهو أحد رواة هذا الحديث الذي اُنكر بسببه-: السّدي، إسماعيل بن عبدالرحمان، أخرج له مسلم، ووثقه جماعة، منهم: شعبة، وسفيان، ويحيى القطان!(7).
فالأمر يدور على السدي إذاً، فماذا قال عنه العلماء، ومن الذي طعن عليه؟
قال علي بن القطان: لا بأس به، ما سمعت أحداً يذكره إلاّ بخير، وما تركه أحد.
وقال أبو طالب عن أحمد: ثقة.
وقال إبن عدي: له أحاديث يرويها عن عدة شيوخ، وهو عندي مستقيم الحديث، صدوق لا بأس به.
أما الجوزجاني فقال: هو كذّاب شتّام.
وقال العقيلي: ضعيف، وكان يتناول الشيخين!
وقال حسين بن واقد: سمعت من السدي فأقمت حتى سمعته يتناول أبا بكر وعمر، فلم أعد إليه...(8)
فيتبين لنا من ترجمة السدي، أن الغالبية متفقون على تعديله، وتركه البعض، وضعفه آخرون لأنه كان يتناول الشيخين، ولم يتهمه بالكذب غيرالجوزجاني، فلماذا؟ ومن هو الجوزجاني؟
قال ابن عدي: سكن دمشق، فكان يحدّث على المنبر... وكان يتحامل على علي(رضي الله عنه).
وقال الدارقطني: كان من الحفاظ الثقات المصنفين، وفيه انحراف عن علي...(9)
فالجوزجاني ناصبي يبغض علي بن أبي طالب، فماذا يتوقع منه إزاء فضيلة لعلي بن أبي طالب، لكن الأمر الغريب أن يوثقه الجماعة ويمتدحوه، ويذكرون نصبه العداوة لعلي ووقوعه فيه دون اكتراث، في حين نجد موقفهم تجاه من يروي شيئاً في مثالب الشيخين شديداً جداً، ومن الأمثلة على ذلك. موقف الذهبي من أحد الحفاظ، وهو ابن خراش، فبعد أن يثبت عدالته وحفظه وبراعته، يقول: خرّج ابن خراش مثالب الشيخين، وكان رافضياً.. (ثم يقول مخاطباً إياه): فأما أنت أيها الحافظ البارع.. فأنت زنديق معاند للحق، فلا رضي الله عنك! مات ابن خراش الى غير رحمة الله... الخ(10)
وبعد كل هذا وذاك، فان الحافظ نورالدين الهيثمي قد ذكر حديث الطير برواية سفينة، وقال عنه: رواه البزار والطبراني باختصار، ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير فطر بن خليفة وهو ثقة!(11).
ومهما يكن من أمر، فان العادة جرت على تحسين أو تصحيح الحديث الضعيف إذا تكاثرت طرقه، وقد حسّن المحدّثون أحاديث ضعيفة لا تبلغ طرقها عُشر طرق حديث الطير، ولكنهم هنا يقفون طويلا، لا لأن طرق الحديث هي المشكلة، بل لأن متنه يخالف عقيدتهم في المفاضلة.
المصادر :
1- صحيح البخاري 5: 6 باب مناقب المهاجرين وفضلهم، و 5: 209 باب غزوة ذات السلاسل.
2- مجمع الزوائد 9: 201 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
3- البداية والنهاية 7: 350.
4- منهاج السنّة النبوية 7: 371 مؤسسة قرطبة ط الاُولى 406 هـ.
5- سان الميزان 3: 336.
6- سير أعلام النبلاء 13: 233.
7- مشكاة المصابيح 2: 553.
8- تهذيب التهذيب 1: 274.
9- تذكرة الحفاظ 2: 249.
10- المصدر السابق 2: 685.
11- مجمع الزوائد 9: 126.