الزواج فی الإسلام مبنی على عقد اسمه "عقد الزواج"، وبمجرد أن یتم هذا العقد بین رجل وامرأة یعنی أن مجموعة من الحقوق والواجبات قد ترتبت على کل منهما، أی أنهما قد وافقا على نمط من العلاقة، وعلى مجموعة من الضوابط بمجرد الموافقة على عقد الزوجیة.
یقول الله: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَکُمْ مِنْ أَزْوَاجِکُمْ بَنِینَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَکُمْ مِنَ الطَّیِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ یُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ یَکْفُرُونَ﴾ (1).وقد اعتبر الإسلام الزواج أمراً إیجابیاً وکمالاً للإنسان، فقد ورد عن الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله وسلم: "ما بنی بناء فی الإسلام أحب إلى اللَّه عزَّ وجلَّ من التزویج" (2).
لقد حثَّت الرسالة الإسلامیة بشکل کبیر على الزواج وبناء الأسرة، وأعطت الامتیازات للمتزوج على العازب، حتى صار نومه أفضل من قیام العازب کما ورد فی روایةٍ عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم: "المتزوج النائم أفضل عند اللَّه من الصائم القائم العزب" (3)، وعباداته أفضل بدرجات کما یستفاد من الروایة عن الإمام الصادق علیه السلام: "إن رکعتین یصلیهما رجل متزوج أفضل من رجل یقوم لیله ویصوم نهاره أعزب" (4).
إذا عدنا إلى الروایات الشریفة نجد عن رسول اللَّه صلى الله علیه وآله وسلم: "إذا تزوج العبد فقد استکمل نصف الدین فلیتق اللَّه فی النصف الباقی"(5).
وفی روایة أخرى عنها تظهر فائدة أکبر للشباب: "ما من شاب تزوج فی حداثة سنّه إلا عجّ شیطانه: یا ویلاه یا ویلاه عصم منی ثلثی دینه، فلیتقِ اللَّه العبدُ فی الثلث الباقی" (6).
یمکن أن نقول: هذا نوع من التشجیع على الزواج، ولکنه لیس کذلک، بل هو وصف للواقع. إن مقومات الزواج الذاتیة قبل أن ندخل إلى تفاصیلها، تحقق نصف الدین، لأنها تشکل حمایة حقیقیة من مجموعةٍ من العقد والمشاکل والعقبات بمجرد حصول الزواج بین الشخصین، فالزواج فی الحقیقة یحقق مجموعة من الأهداف الشرعیة.
فما هی الأهداف التی یرید الشارع المقدس تحقیقها من خلال الزواج، وبناء الأسرة؟ وکیف صار نصف الدین أو ثلثیه؟ هناک عدد من الآیات القرآنیة الکریمة تشیر إلى هذه الأهداف:
الآیة الأولى: ﴿وَمِنْ آیَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْکُنُوا إِلَیْهَا﴾ (7).یذکر تعالى سبب ومبرر الزواج فی عبارة ﴿لِتَسْکُنُوا إِلَیْهَا﴾. وهذه العبارة تعنی الاستقرار والاطمئنان والراحة، فالزواج یؤدی إلى الاستقرار، و هذا الاستقرار شامل ومتنوع:
1- على المستوى النفسی: حیث یصبح الإنسان مرتاحاً یعیش حالة حب وانسجام فی کل العناوین التی لها علاقة بالعامل النفسی، بشکل ینعکس على حیاته کلها، وفی الروایة عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم: "زوجوا أیامکم(8)فإن اللَّه یحسن لهم فی أخلاقهم ویوسع لهم فی أرزاقهم ویزیدهم فی مروتهم" (9).
2- على المستوى الجسدی: هناک متطلبات للجسد عند الرجل وعند المرأة لا یمکن معالجتها إلا بالزواج، الذی یؤدی إلى استقرار الجسد ویلبی متطلباته.
3- على المستوى الاجتماعی: هو سکن اجتماعی، لأن الإطلالة من خلال علاقات الزواج مع الآخرین تمکّن من أن یبنی الإنسان أسرة ویتفاعل مع الآخرین.
4- على المستوى المادی: فهو أیضاً سکن مادی فیه تنظیم الأداء الیومی لحیاة الأسرة.
5- على المستوى الإداری: هو سکن إداری فیه تنسیق للأدوار بین الزوجین.
فکل أنواع الاستقرار موجودة فی الزواج، سکن نفسی وجسدی واجتماعی ومادی وإداری، لأن الزواج لم یشرَّع لیعالج زاویة واحدة فقط.
وقد وقع الکثیرون فی الخطأ عندما نظروا الى الزواج کمعالج لزاویة واحدة. فعندما ینظر الإنسان إلى الزواج بجزء منه دون الأجزاء الأخرى یعطِّل السکن، لأن السکن أشبه بأعمدة لا یمکن أن یستقر البناء بدون أحدها أو بعضها.
لذلک عندما یقع خللٌ ما فی الحیاة الزوجیة فقد یکون من البدایة بسبب طریقة التفکیر. فإذا سُئلَ الرجل لماذا تزوجت؟ یقول لأننی أرید من یخدمنی، یعنی أنه أخذ جانباً من هذا الزواج. وإذا سُئلت المرأة لماذا تزوجت؟ تقول: أنا تزوجت لأنی لم أعد أحتمل البقاء عند أهلی. إذاً کل واحد منهما أخذ جانباً ولم یلتفت للجوانب الأخرى، لذلک یمکن أن تتعرض مؤسسة الزواج بینهما إلى مشاکل، ویقول کل واحد منهما أنا لا أشعر بسکن فی الزواج، نعم لأنهما لم یُکملا مقومات السکن، فمقومات السکن مشترکة ومتعددة وبالتالی لا بد من العمل معاً لهذا التعدد من أجل تحقیق السکن فیما بینهما.
الآیة الثانیة: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَکُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُن﴾ (10).هذه الآیة الکریمة تشبّه کلا الزوجین بالنسبة للآخر بأنه لباس، وهناک فوائد ثلاث یمکن استفادتها:
1- کلاهما حصن للآخر، فاللباس یحصّن من یلبسه، فیقیه من البرد فی الشتاء، ویرد عنه حرارة الشمس فی الصیف. وکلٌ من الزوجین یقوم بمثل هذا الدور بالنسبة للآخر، فالزوجة حصن للزوج وهو حصن لها، وهذا ما تؤکده الروایة عن رسول الله: "من أحب أن یلقى اللَّه طاهراً مطهراً فلیلقه بزوجة" (11).فبالزواج یقی الإنسان نفسه عن الانزلاق وراء شهواته وغرائزه لأن الزواج یلبی حاجته الطبیعیة التی غرسها اللَّه تعالى فیه.
2- کلاهما ستر للآخر، فاللباس یستر البدن ویواری سوءته، والزوجة تسد الثغرات الموجودة عند الزوج على مستوى الغرائز المعنویة والنواقص المادیة، وهو کذلک.والغرائز هی مواصفات مغروزة فی الإنسان، لهذا سمیت غرائز لأنها مغروزة فیه منذ فطرته، کغریزة النوع (الإنسان یمیل إلى نوعه) ومن مظاهرها العلاقة الجنسیة، والحب بین الإبن وأمه، وبین الأخ وأخیه، یعنی المیل إلى النوع الإنسانی حیث نلاحظ فی المظاهر الیومیة الانعکاس الطبیعی للعلاقة مع الأخ، ومع الزوج، ومع الجار، والصاحب، والزوجة، وهکذا. حیث نلاحظ مثلاً أن الإنسان وبشکل طبیعی بمجرد أن یکون ابناً لفلان تولد عنده حس عاطفی لا یحتاج معه إلى عناءٍ وجهد، فلا نستغرب وجود هذه المحبة لأنَّها مغروزة غرزاً، وهذا منسجم مع ما فطرنا الله سبحانه علیه، فإذاً غریزة النوع من مظاهرها الحب، العلاقات البشریة، الجنس...، وهی تعبیر عن المیل للطرف الآخر کائناً من کان، بألوان وأشکال مختلفة.
أیضاً عندنا غریزة حب البقاء التی تبرز من خلال الطمع والحرص على الحیاة والتعلق بها، والدفاع عن النفس، کلها مظاهر تدل أن الإنسان یحب البقاء ویتمسک به، لهذا یقاتل من أجل أن یبقى.إنها أمور تکوینیة مع خلقِ الإنسان، تتهذب بالتربیة وبالإختیار، وتنحرف بعدم التربیة وبالإختیار.
إذا لم یلبِّ الإنسان مطالب الغریزة بشکل سلیم، تنحرف وتؤدی إلى أزمات نفسیة واجتماعیة لکنها لا تقتل. فلو افترضنا شخصاً لیس لدیه أب لا یموت، أو شخصاً لیس لدیه ولد، أو لم یتزوج، أو ما شابه ذلک، لا یموت، لأنها لیست حاجات عضویة. فمشکلة الغرائز مشکلة الشقاء والسعادة، ونحن عندما نتحدث عن الزواج نتحدث عن مظهر من مظاهر الغریزة، أی نتحدث عن أداء یمکن أن یؤدی إلى سعادة ویمکن أن یؤدی إلى شقاء.
3- اللباس زینة لمن یلبسه، وبالتالی فالزوجة تعتبر زینة للزوج، والعکس صحیح، والزینة تنشأ من تصرفاته وشخصیته فی المجتمع التی ستؤثر بالتأکید على الطرف الآخر وصورته فی المجتمع، وتنشأ کذلک من طریقة تقدیمه للطرف الآخر وعلاقته معه فی المجتمع.
الآیة الثالثة: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَکُمْ مِنْ أَزْوَاجِکُمْ بَنِینَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَکُمْ مِنَ الطَّیِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ یُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ یَکْفُرُون﴾ (12).إن تکثیر النسل المؤمن واستمرار الحیاة هدف أساسی أیضاً، وقد ورد عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم: "ما یمنع المؤمن أن یتخذ أهلاً لعل الله یرزقه نسمة تثقل الأرض بلا إله إلا الله" (13).
إن العزوبة وهی العزوف عن الزواج، وبغض النظر عن الأسباب الداعیة إلیها- تعتبر من المصائب الکبرى التی قد تؤدی بمجتمع مترابط إلى التفکک والإنهیار، لأن العائلة هی الحصن الأساسی للمجتمع، فإذا ضُرب هذا الحصن، فسیکون المجتمع کله فی مهب الریح على المستوى الاجتماعی، وهذه التجربة الغربیة ماثلة بتفککها ومشاکلها الإجتماعیة.
ومن هنا فإن حکمة الباری وعلمه بمصالح العباد قضت بکراهیة العزوبة، وأوجبت الزواج على من یخاف على نفسه الوقوع فی الحرام، ففی روایات کثیرة أن رسول اللَّه صلى الله علیه وآله وسلم قد ذمَّ ترک الزواج فعنها: "شرار موتاکم العُزَّاب"(14).وفی روایة أن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم قال -لرجل اسمه عکاف: "ألک زوجة؟ قال: لا یا رسول الله، قالا: ألک جاریة؟ قال: لا یا رسول الله، قالا: أفأنت موسر؟ قال: نعم، قالا: تزوج وإلا فأنت من المذنبین" (15).
ومن المناسب هنا أن نلتفت إلى ما قد یتصوره البعض من أن ترک الزواج هو مسألة حسنة، ویهدف إلى إماتة الشهوة، وتهذیب النفس، فیتصور أن ترک الزواج من الطرق المؤدیة إلى الله تعالى.إن هذا التصور لا ینسجم مع سیرة الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله وسلم وأهل البیت علیهم السلام، فلقد کانوا یتزوجون کباقی الناس بل إن الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله وسلم کان یحث الناس دائماً على الزواج، ویروى أنه منع بعض أصحابه ممن ترک الناس رغبة فی العبادة فقال له: "لا رهبانیة فی الإسلام" (16).ویروى أنَّ امرأةً سألت أبا جعفرٍ الباقر علیه السلام فقالت: أصلحک الله إنی متبتلة فقال لها: وما التبتل عندک؟ قالت: لا أرید التزویج أبداً، قالد: ولم؟ قالت: ألتمس فی ذلک الفضل، فقال: "انصرفی فلو کان فی ذلک فضل لکانت فاطمة أحق به منک، إنه لیس أحد یسبقها إلى الفضل"(17).
قد یبرر بعض الشباب ترکهم وتأخیرهم للزواج بأن الوضع الاقتصادی لا یسمح لهم بذلک، وهذا ما نهت عنه الروایات ففی الحدیث الشریف عن الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله وسلم: "من ترک التزویج مخافة العیلة، فقد ساء ظنه بالله عز وجل، إن الله عز وجل یقول: ﴿إِنْ یَکُونُوا فُقَرَاءَ یُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه﴾" (18-19)، فالله تعالى هو وکیل المتزوج کما فی هذه الآیة الشریفة، وکذلک فی الروایة عن الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله وسلم: "اتخذوا الأهل فإنه أرزق لکم" (20).
المصادر :
الزواج الناجح, نشر جمعیة المعارف الاسلامیة الثقافیة, ط1، 2006م-1427هـ-ص:7-5.
1- النحل:72.
2- دلائل الشیعة، ج14، ص3.
3- میزان الحکمة، حدیث7810.
4- میزان الحکمة، حدیث7812.
5- میزان الحکمة، حدیث7807.
6- بحار الأنوار، ج100، ص221.
7- الروم:21.
8- الأیم، الأیامى: الذین لا أزواج لهم من الرجال والنساء.
9- میزان الحکمة، ج2، ص1179.
10- البقرة:187.
11- میزان الحکمة، ج2، ص1178.
12- النحل:72.
13- وسائل الشیعة، ج20، ص14.
14- بحار الأنوار، ج100، ص220.
15- میزان الحکمة، محمدی الریشهری، ج2، ص1180.
16- مستدرک سفینة البحار، مؤسسة النشر الإسلامی، ج4، ص261.
17- میزان الحکمة، محمدی الریشهری، ج2، ص1180.
18- النور:32.
19- وسائل الشیعة، آل البیت، ج20، ص42.
20- میزان الحکمة، محمدی الریشهری، ج2، ص1197.