كانت بنو أمية لا تستخلف بني الإماء وكانوا يتحرون أن يكون من تقلد الخلافة منهم من أم عربيةٍ ، وكان أبو سعيد مسلمة بن عبد الملك من رجالهم المعدودين ، إلا أن كونه ابن أمة حال بينه وبين الخلافة. وعرض مسلمة على عَمرَة بنت الحارس أن يتزوج منها ، فقالت : يا بن التي تعلم ! وانك لهناك ؟ تعني أن امه أمة. (1)
وجاء الإسلام ، فكان لا بد له من كلمة فصل تخفف من مآسي الإنسانية في شتى المجالات ، فكان له في هذا الأمر دور كبير ابتدأه وسابق عبد الملك بين مسلمة وأخيه سليمان ، فسبق سليمان ، فقال عبد الملك :
ألم أنهكم ان تحملوا هجناءكم / على خيلكم يوم الرهان فتدركُ
وما يستوي المرآن هذا بن حرة / وهذا بن أخرى ظهرها متشركُ
فأجابه ابنه مسلمة بقول حاتم الطائي :
وما انكحونا طائعين بناتهم / ولكن خطبناها بأسيافنا قسرا
فما زادها فينا السباء مذلةً / ولا كُلّفت خبزاً ولا طبخت قدراً
ولكن خلطناها بخير نساءنا / فجاءت بهم بيضاً وجوههم زهرا ..(2)
ولما تنقص هشام بن عبد الملك ، الإمام زيد بن علي بن الحسين عليهمالسلام ، لم يجد ما يعيره فيه إلا قوله : أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة ، وأنت ابن أمة ( مروج الذهب ٢ / ١٦٢ ) ثم أختلف الحال في آخر أيام الأمويين ، فإن آخر من تقلد الخلافة منهم ابراهيم بن الوليد ، ومروان بن محمد ، كانا من أبناء الإماء (3)
أما الخلفاء في الدولة العباسية ، وعددهم سبعة وثلاثون ، فلم يكن فيهم من هو عربي الأم الا ثلاثة ، الأول : ابو العباس السفاح ، أمه ريطة بنت عبد المدان الحارثي ( خلاصة الذهب ٥٣ ) وكان يدعى ابن الحارثية ، وكانت عروبة امه السبب في تقدمه على أخيه المنصور الذي يكبره في السن فإن أم المنصور بربرية اسمها : سلامة ، ( خلاصة الذهب ٥٩ ) والثاني : المهدي بن المنصور ، وأمه أم موسى بنت منصور بن عبدالله الحميري ( خلاصة الذهب ٩٠ ) والثالث : محمد الأمين بن هارون الرشيد ، أمه : زبيدة بنت جعفر بن المنصور ، قالوا : لم يلي الخلافة هاشمي من هاشميين الا ثلاثة : الإمام علي بن أبي طالب ، وابنه الحسن ، ومحمد الأمين ، ( خلاصة الذهب ١٧١ ) أما بقية الخلفاء العباسيين فكلهم أبناء امهات أولاد. (4)
صاحب الرسالة صلىاللهعليهوآله بنفسه ليكون عبرةً للآخرين وسُنَّةً يقتدى بها المسلمون عبر العصور.
وقد أوضح الإمام زين العابدين عليهالسلام ذلك في كتاب بعثه إلى هشام بن عبد الملك حين لامه على زواجه من أمته ، كتب يقول :
« ولنا برسول الله أسوة ، زوّج زينب بنت عمه زيداً مولاه ، وتزوج مولاته بنت حيي بن أخطب. » (5)
وكتب إليه أيضاً : « إنه ليس فوق رسول الله صلىاللهعليهوآله مرتقىً في مجدٍ ، ولا مستزادٌ في كرم .. » (6).
« قصة جويبر وجلبيب »
وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد استعمل نفوذه في تطبيق هذه الخطة بين المسلمين من المهاجرين والأنصار ، غنيهم وفقيرهم امعاناً منه صلوات الله عليه في دفن هذه الصرعة الجاهلية المقيتة التي لا تزيد الإنسان إلا بُعداً عن أخيه الإنسان ، بل التي تخلق فجوات بين المسلمين لا تحمد عقباها ، هم في غنىً عنها وعن أمثالها ، انطلاقاً من المفهوم السهل البسيط للإنسانية والرحم : « كلكم لآدم ، وآدم من تراب » وانطلاقاً من المفهوم القرآني السمح : ( إن اكرمكم عند الله أتقاكم ).
إستعمل صلىاللهعليهوآله نفوذه في تطبيق هذه الخطة مع نفسه أولاً ، فتزوج صفية بنت حُييّ بن أخطب بعد أن أعتقها ، وتزوج ابنة عمه زينب بعد أن زوجها من مولاه زيدٍ ، وطلقها زيد. ثم طبقها ثانياً مع المسلمين. ومنهم جويبر.
وكان جويبر هذا من أهل اليمامة وكان قصيراً دميماً محتاجاً عارياً ، وكان من قباح السودان ، إلا أنه كان قد أسلم وحسن إسلامه. وفي ذات يوم ، نظر رسول الله إليه بعطف ورقة ، وقال له :
« يا جويبر ، لو تزوجت إمرأة » فعففت بها فرجك وأعانتك على دنياك وآخرتك ؟
فقال له جويبر : يا رسول الله ؛ بأبي أنت وأمي ، من يرغب فيّ ؟! فوالله ما من حسب ولا نسب ، ولا مال ، ولا جمال ، فأيّة إمرأة ترغب فيّ ؟
فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا جويبر ، إن الله قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً ، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً ، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها ، وباسق أنسابها ، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم ، وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم ، وان آدم خلقه الله من طين ، وان أحب الناس إلى الله ، اطوعهم له وأتقاهم ، وما أعلم ـ يا جويبر ـ لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً ؟ إلا لمن كان أتقى لله منك وأطوع.
ثم قال له : إنطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنه أشرف بني بياضة حسباً فيهم ، فقل له : إني رسول رسول الله إليك ، وهو يقول لك : زوج جويبراً بنتك الدلفاء. فزوجه إياها. (7)
ومرة ثانية يأتي رجل من الأنصار إلى النبي صلىاللهعليهوآله فيقول له :
يا رسول الله ، عندي مهيرة العرب ، وأنا أحب أن تقبلها ، وهي ابنتي.
قال : فقال صلىاللهعليهوآله : قد قبلتها.
قال : وأخرى ، يا رسول الله ، قال : وما هي ؟ قال : لم يضرب عليها صدع قَط !
قال صلىاللهعليهوآله : لا حاجة لي فيها ، ولكن زوجها من « جلبيب » ! قال : فسقط رجلا الرجل مما دخله ـ أي اسقط ما في يديه لشدة
الصدمة لأن جلبيب هذا كان قصيراً دميماً. ـ ثم أتى أمها فأخبرها الخبر ، فدخلها مثل ما دخله فسمعت الجارية مقالته ورأت ما دخل أباها ( وأمها ) فقالت لهما : ارضيا لي ما رضي الله ورسوله.
قال : فتسلى ذلك عنهما ، وأتى أبوها النبيَّ صلىاللهعليهوآله وأخبره الخبر. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : قد جعلت مهرها الجنة. (8)
وقال في الإستيعاب : وكان فيه دمامة وقصر ، فكأن الأنصاري وامرأته كرها ذلك ، فسمعت ابنتهما بما أراد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)من ذلك ، فتَلَت قوله تعالى :
( وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخَيرةُ من أمرهم ) وقالت : رضيتُ وسلّمت لما يرضى لي به رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، فدعا لها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): اللهم أصبب عليها الخير صبّاً ولا تجعل عيشها نكدا. ثم قتل عنها جلبيبها فلم يكن في الأنصار أيم انفق منها. وفي الوسائل : فمات عنها جلبيب ، فبلغ مهرها بعده مائة ألف درهم ( تتمة زيادة الحديث ).(9)
ومن حديث أنس بن مالك ، عن جلبيب : قال : فعرض عليه رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)التزويج. فقال : إذن تجدني ـ يا رسول الله ـ كاسداً ! فقال (صلی الله عليه وآله وسلم): انك عند الله لست بكاسد.
وفي حديث عن ابي برزة الأسلمي : ان رسول الله كان في مغزاه ، فأفاء الله عليه ، فقال لأصحابه : هل تفقدون أحداً ؟ قالوا : نعم ، فلاناً وفلاناً ، ثم قال : هل تفقدون أحداً ؟ قالوا : لا ! قال : لكني أفقد جلبيباً ، فاطلبوه. قال فوجدوه الى جنب سبعة قد قتلهم ، ثم قُتل ، فأتاه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)فوقف عليه وقال : قَتَل سبعة ثم قُتِل ، هذا مني وأنا منه .. ثم أحتمله النبي على ساعديه ، ماله سريرٌ غير ساعدي رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)ثم حفروا له ، فوضعه في قبره (10)
المصادر :
1- بلاغات النساء ـ ١٩٠
2- العقد الفريد ٦ / ١٣٠.
3- خلاصة الذهب المسبوك ٤٦ و ٤٧
4- راجع الفرج بعد الشدة ج ١ / ٢٤٥ تحقيق عبود الشالجي.
5- الوسائل ١٤ ب ٢٧ من أبواب النكاح ح ١٠ / ص ٥٠.
6- الوسائل ١٤ ب ٢٧ من أبواب النكاح ح ٢ / ٤٨.
7- الوسائل ١٤ / ب ٢٥ ح ١ ص ٤٣ ـ ٤٤.
8- الوسائل ١٤ ب ٥ من ابواب النكاح ح ٢ ص ٤٤ ـ ٤٥.
9- الإستيعاب ١ / ٢٥٦
10- الإستيعاب ١ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨