أ- في ظلال الحديث
عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله:"ليس منّا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منّا من مات على عصبية"(1).معنى العصبية والتعصّب واحد وهو كما جاء في اللغة: أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته (قرابته) والتألّب معهم على من يناويهم ظالمين كانوا أو مظلومين، والعصبي هو من يعين قومه على الظلم ويغضب لعصبته ويحامي عنهم(2).
وهكذا عرّف النبي صلى الله عليه وآله العصبية لما سئل عنها قائلاً: "إن تعين قومك على الظلم"(3).
وقال مولانا علي بن الحسين سيد الساجدين عليه السلام: "العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم"(4).
ولقد جاء في الكتاب الكريم ذكر حميّة الجاهلية والعصبية العمياء التي كانت من الأوصاف المعروفة للكفار وفي الجبهة المقابلة أهل الإيمان وكلمة التقوى في قوله سبحانه: (إِذ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)(5).
فالعصبية بالمعنى المذكور مرفوضة ومذمومة بكل أشكالها فهي لا تستحق أن يدعو لها الإنسان ولا يقاتل عليها ولا يموت كذلك ما من اتخذها خطاً له ومسلكاً خالف خط الإيمان والإسلام حيث جاء في الحديث: "من تعصّب أو تعصّب له فقد خلع ربق الإيمان من عنقه وفي نقل آخر: فقد خلع ربقة الإسلام في عنقه"(6).
ومما روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية"(7).
إن واجب الإنسان المؤمن هو نصرة الحق أينما كان ومحاربة الباطل وإن كان صادراً من عشيرته وأقاربه لأن ذلك سبيل المتقين العاملين بموازين الشريعة الغرّاء، فتغاضي الإنسان عن ظلم قومه ليس من الإسلام وخطه في شيء، والحب الحقيقي الصادق لهم لا بد أن يكون داعياً لردعهم عن الظلم وأعانهم على التقوى وهو المطلوب وليس معاونتهم على الاثم والعدوان، ضرورة أن من يعين الآخر على الخطأ هو كاذب في حبّه له.
فنصرتهم ظالمين معناها كفّهم عن ظلمهم وردعهم عنه ونصرتهم مظلومين معناها الدفاع والمحاماة عنهم ومحاولة ارجاع حقوقهم المغتصبة لهم.
ب- إمام المتعصّبين
للتعصب أساس يعود تاريخه إلى افتخار الشيطان على أبينا آدم عليه السلام بخلقه حيث تعصّب لأصله قائلاً خلقتني من نار وخلقته من طين.فكان إبليس إمام المتعصبين، والعصبية من جنوده المودية إلى الهلاك لأنها تسلك بصاحبها سبيل الضلال والغيّ وتبعده عن طريق الحق والرشاد.
فمما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام في ذم إبليس: "فافتخر على آدم بخلقه وتعصب عليه لأصله، فعدوّ الله إمام المتعصبين وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية ونازع الله رداء الجبرية، وادّرع لباس التعزّز، وخلع قناع التذلّل"(8).
وفي حديث آخر: "اعترته الحمية وغلبت عليه الشقوة وتعزز بخلقه النار واستوهن خلق الصلصال"(9).
وعن مولانا الصادق عليه السلام: "إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم، وكان في علم الله أنه ليس منهم، فاستخرج ما في نفسه بالحمية والغضب فقال: خلقتني من نار وخلقته من طين"(10) فمن تأخذه حميّة النسب، واللون، والمكان واللهجة وغيرها من الاعتبارات التي يتعصب لها بعض الجاهلين لا شك أن ذلك الإنسان هو من معسكر الشيطان ومن جنوده الذين يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه وحينئذٍ سيبوء بالخسران.
ج- هل في الإسلام تعصّب ممدوح؟
التعصّب كما تقدم معناه في الفقرتين السابقتين لا يمكن أن يكون ممدوحاً ومطلوباً بشكل من الأشكال طالما تضمّن المعاونة على الظلم وتجاهل الموازين الإلهية، لكن بالإمكان أن نسمي نصرة الحق تعصباً له أو الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحامد الأفعال تعصباً لها تسمية مجازية باعتبار كون الإنسان المؤمن شديد الدفاع والمحاماة عنها والمحافظة عليها وذلك لا يحوي إلا المعاني الجميلة ونصرة الحق والدعوة إليه.وقد جاءت هذه التسمية في بعض خطب الأئمة عليهم السلام وأحاديثهم الشريفة كقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إن كنتم لا محالة متعصّبين فتعصّبوا لنصرة الحق وإغاثة الملهوف"(11).
ولا شك أن هذا النوع من التعصب ممدوح وراجح وإليه يدعو الإمام عليه السلام.
وفي خطبة القاصعة يقول عليه السلام: "ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصّب لشيء من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء، غيركم فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علة أما إبليس فتعصب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته فقال: أنا ناريّ وأنت طينيّ، وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبّوا لآثار مواقع النعم، فقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذّبين.
(إلى هذا الموضع من الخطبة كان عليه السلام يتحدث عن التعصب المذموم، ثم بعد ذلك شرع بالحديث عن التعصبّ الممدوح قائلاً):
"فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء النجداء من بيوتات العرب ويحاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة والأحلام العظيمة والأخطار الجليلة والآثار المحمودة. فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبّر والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي والإعظام للقتل والانصاف للخلق والكظم للغيظ واجتناب الفساد في الأرض"(12).
من فقه الإسلام
س: اشترى شخص قطعة أرض باسم ولده الصغير وقد سجّل وثيقتها العادية باسم الولد بهذا المضمون: (البائع فلان والمشتري ولده الفلان)، وبعد أن بلغ الصغير باع تلك الأرض من شخص آخر، إلا أن ورثة الأب استولوا على الأرض بدعوى أنها إرث لهم من أبيهم، مع أنه لا يوجد اسم الأب في الوثيقة العادية، فهل يجوز لهم في هذه الحالة مزاحمة المشتري الثاني؟ج: مجرد ذكر اسم الولد الصغير في وثيقة البيع بعنوان المشتري ليس ميزاناً للملكية، فلو ثبت أن الأب قد جعل الأرض التي اشتراها بماله لابنه بأن وهبها له أو صالحه عليها، كانت الأرض له، فإذا باعها بعد بلوغه من المشتري الثاني على الوجه الصحيح شرعاً فلا يحقُّ لأحد مزاحمته وانتزاع الأرض من يده.
س: اشتريت قطعة أرض كانت ممّا تعاقبت عليها أيدي عدد من المشترين، وقد بادرت إلى بناء بيتٍ فيها، والآن قام شخص يدّعي بأن الأرض المذكورة ملك له وقد سجّلها باسمه رسمياً قبل الثورة الإسلامية، ولهذا فقد قدّم شكوى إلى المحكمة ضدي وضد عدد من جيراني، فهل تعتبر تصرفاتي في هذه الأرض بملاحظة دعوى هذا المدعي غصباً؟
ج: الشراء من ذي اليد السابق محكوم بالصحة في ظاهر الشرع وتكون الأرض للمشتري، فما لم يثبت مدّعي الملكية السابقة ملكيته الشرعية في المحكمة ليس له مزاحمة المتصرف وصاحب اليد الفعلي.
س: كان عقار مسجّلاً باسم الأب في الوثيقة العادية، وبعد مدة استصدر السند الرسمي باسم ولده الصغير، وكان العقار لا يزال تحت تصرف الأب، والآن يدّعي الولد بعد أن بلغ: بأن العقار ملك له لأن السند الرسمي للعقار مسجّل باسمه، ولكن الأب يدّعي بأنه اشترى العقار بماله لنفسه وإنما قام بتسجيله باسم ولده من أجل تخفيف الضرائب، فلو أن الابن أخذ العقار وتصرّف فيه من دون رضا الأب هل يكون غاصباً له؟
ج: إذا كان الأب الذي اشترى العقار بماله هو المتصرف فيه إلى ما بعد بلوغ الولد، لما لم يثبت الولد أن أباه قد وهبه ذلك العقار ونقل ملكه إليه ليس له لمجرد أن السند الرسمي مسجّل باسمه مزاحمة الأب في ملكه والتصرف فيه والسيطرة عليه(13).
قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)(14)
من كتاب أمير المؤمنين عليه السلام للأشتر: "أملك حمية أنفك وسورة جدّك وسطوة يدك وغرب لسانك"(15).
حقيقة الإيمان
عن أبي عبد الله عليه السلام قال:"أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إني جئتك أُبايعك على الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أُبايعك على أن تقتل أباك؟ قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: إنّا والله لا نأمركم بقتل آبائكم، ولكن الآن علمت منك حقيقة الإيمان، وإنّك لن تتخذ من دون الله وليجة، أطيعوا آباءكم فيما أمروكم، ولا تطيعوهم في معاصي الله".
المصادر :
1- بحار الأنوار، ج31، ص40 ميزان الحكمة، حديث 13035.
2- راجع لسان العرب، ج9، ص232-233.
3- ميزان الحكمة، حديث 13039.
4- الكافي، ج2، ص308، حديث 7.
5- الفتح: 26.
6- الكافي، ج2، ص308، حديث 2.
7- م.ن. حديث 3.
8- نهج البلاغة، الخطبة 192.
9- نهج البلاغة، الخطبة 1.
10- الكافي، ج2، ص308، حديث 6.
11- غرر الحكم 3738.
12- نهج البلاغة، الخطبة 192.
13- أجوبة الاستفتاءات، ج2، ص295-296.
14- مريم: 73.
15- نهج البلاغة، الكتاب 53.
source : راسخون