هناک حالات من التمرد العقائدی وقعت فی دائرة أهل السنة على مستوى الماضی والحاضر.
على مستوى الماضی تبرز أمامنا حالة تمرد الخلف على السلف، والتی تمثّلت فی حرکة الأشعری ومن بعده تلامیذه مثل الغزالی والجوینی والأخنائی(1).
وحرکة تمرّد الماتریدی وتلامیذه من بعده(2).
وحرکة تمرّد ابن تیمیة فی القرن الثامن(3).
وعلى مستوى الحاضر برزت حرکة التمرد التی قادها التکفیر.
وحرکة التمرد التی قام بها بعض الرموز مثل الشیخ الغزالی والدکتور عبدالصبور شاهین والدکتور یوسف القرضاوی، وهذه الحرکات المتمردة وجدت فی ظل واقع ومتغیرات تطلبت أن یحدث نوعاً من التغییر فی الأطر العقائدیة والفکریة التی تقوم على عقل الماضی فجاء تمرّدها ضمن الإطار العام لأهل السنة.
لقد کان من الممکن لأطر أهل السنة أن تحتمل حرکات التمرد فی الماضی، وذلک لکون الفجوة لم تکن واسعة بینها وبین الواقع آنذاک، لکن التحدی یکمن فی صمود هذه الأطر أمام متغیرات الواقع الحالی، وهو أمر فیه شک ونحن نرصد حرکات من التمرد الشامل تمثّلت فی انتقال الکثیر من رموز أهل السنة وعناصرها إلى الشیعة(4).
هذا مع الإشارة إلى حرکات التمرّد الداخلیة ضمن الفرق والتی تهدّد کیانها بالتمزق والتشرذم، وهو ما نراه واقعاً داخل فرقة الإخوان والفرق الوهابیة والصوفیة والجهادیة وحتى فرقة الأزاهرة(5).
إن فرق أهل السنة أصیبت بهزّة کبیرة فی العصر الحالی زلزلت کیاناتها، وهذه الهزة کانت بسبب مجموعة من الحوادث والمتغیرات شکّلت ضغطاً کبیراً علیها وترکّزت فیما یلی:
ـ بروز الجماعات.
ـ قیام الثورة الإسلامیة فی إیران.
ـ أزمة الخلیج.
ـ المستنقع الأفغانی.
ـ المواجهة الدولیة.
وهذه التحدیات الخمسة التی تحاصر فرق أهل السنة فی هذا الزمان إنما تمثّل تحدیاً مصیریاً لها.
کان بروز الجماعات بعقائدها وأفکارها المختلفة یمثّل إحراجاً کبیراً لها، وکان عجزها عن احتوائها جعلها فی وضع أکثر حرجاً.
وکان قیام الثورة الإسلامیة فی ایران قد عرى هذه الفرق وحجب عنها الأبصار ودفع بها إلى التحالف مع نظام البعث العراقی فی حربه التی شنّها بدعم من القوى الأجنبیة لإجهاض الثورة فی بدایتها.
وجاءت أزمة الخلیج وغزو الکویت لتلقّن أهل السنة بفرقهم المختلفة درساً قاسیاً تسبب فی إحداث البلبلة الفکریة داخل صفوفهم، وکان المأزق الذی وضعتهم فیه هذه الأزمة هو أسوأ وأشد تعقیداً من مأزقهم السابق فی مواجهة ایران، وقد نتج عنه أن وقعوا فی تناقض عقائدی أمام أتباعهم وخصومهم على السواء(6).
أما المستنقع الأفغانی فقد أوقعهم فیه عقل الماضی والتعصب المذهبی والحکام، فکان بمثابة مصیدة وفخ نصب لهم بإحکام.
کان المتوقع أن تکون نتیجته نصرة أهل السنة وقیام دولة سنیة قویة بجوار المارد الشیعی الذی نهض فی ایران.
الحکومات کانت لها حساباتها.
وفرق السنة کانت لها حساباتها.
وکانت النتائج نکبة على الطرفین.
إلاّ أن الطرف الأقوى وهو الحکومات قام بتحریک الدفة إلى الاتجاه الذی یخدم مصالحه، فکانت النتیجة هی التضحیة بفرق أهل السنة.
وهکذا خذلت الحکومات أهل السنة الذین بارکوها ونصروها.
وأصبح أهل السنة بین أمرین:
إما أن یکفروا بهذه الحکومات وبالتالی ینقضوا معتقداتهم بوجوب طاعتهم.
وإما أن یستسلموا لهم ویستمروا فی مبارکتهم، وهذا من شأنه أن یعرّض مستقبلهم للخطر وکلا الخیارین أمرّ من الآخر بالنسبة لهم.
وفیما یتعلق بالمواجهة الدولیة فهی ناتجة عن وقوع فرق أهل السنة فی المستنقع الأفغانی، فقد حازت هذه الفرق على نقمة حکومات العالم التی کانت ترتع فی ظلها هذه الفرق خاصة فی دول أوروبا، والتی أصبحت تنظر لها الیوم بعین الشک، وتسعى إلى استئصالها والاستراحة من شرها.
ومن هنا أصبحت الحکومات التی کانت فرق أهل السنة تستظل بظلها وتحتمی بها مصدر تهدید لوجودها ومستقبلها، وهذا یعنی أنها نقضت التحالف القائم معها.
ولقد کان أهل السنة فی الماضی یستمدون قوتهم من الحکام وفقدهم هذا السند فی الحاضر یعنی فقدهم القدرة على الاستمرار والبقاء.
وعلى ضوء هذا کله یمکن الحکم أن مستقبل فرق أهل السنة فی خطر.
خطر من الداخل.
وخطر من الخارج.
ولیس هناک من سبیل لدرء هذا الخطر سوى الاتجاه نحو التصحیح فی مواجهة تمرّد الفرق الجدیدة وفی مواجهة تغیر موقف الحکومات منها(7).
تصحیح العقائد.
تصحیح الروایات.
تصحیح المفاهیم.
تصحیح المواقف(8).
ولما کان أهل السنة على وجه العموم الیوم یرفضون التصحیح، فهم سوف یصطدمون حتماً بحالات التمرد الواقعة فی دائرتهم، بل قد اصطدموا بها فعلا وتخطتهم الفرق الجدیدة التی برزت على ساحة الواقع منذ أکثر من نصف قرن وهی مستمرة حتى الیوم فی تخطّی الفرق القدیمة العاجزة عن مواکبة الواقع والمتغیرات.
ولما کانت فرقة الجهاد تواجه ضغوطاً شدیدة من قبل أهل السنة ومن قبل الحکومات الیوم، فإنا نستطیع التنبأ أن هذا الضغط سوف ینتج عنه فرق جهادیة أکثر تطرفاً فی مواجهة الواقع والحکومات وأهل السنة أیضاً.
وطالما استمر الواقع فی تخطی القیم والابتعاد عن الدین فسوف تستمر حالة التفریخ للفرق المتطرفة فی دائرة أهل السنة وعلى رأسها فرق التکفیر.
واعتقد أن فرق الجهاد والتکفیر هی الفرق التی سوف تکون لها السیادة والانتشار فی واقع أهل السنة مستقبلا، بینما لن یکون هناک وجود للفرق التقلیدیة کفرق السلفیین والوهابیین والفرق ذات التوجه السیاسی کفرقة الإخوان وفرقة حزب التحریر.
إن هناک انهیاراً قادماً لعدد من الحکومات التقلیدیة التی تستثمر الورقة الإسلامیة من خلال أهل السنة، وانهیارها هذا سوف تکون نتائجه بالغة الخطورة على فرق أهل السنة التی تعمل تحت مظلة هذه الحکومات والتی أخذ بعضها یضغط على حکوماته لتلافی هذا الانهیار الذی یهددهما(9).
إن التاریخ قد طوى لنا صفحات الکثیر من فرق أهل السنة بحیث لم یبق من هذه الفرق سوى نصوص تحویها صفحات الکتب تدرس فی المدارس الدینیة وتعمل بها بعض المؤسسات الدینیة الحکومیة.
وبرزت محلها فرقاً أخرى جدیدة مثل فرق التکفیر والجهاد والإخوان والجماعة الإسلامیة والسلفیین واستحوذت على الجیل الجدید من شباب أهل السنة.
والفرق الجدیدة الکثیر منها فی الطریق إلى الزوال لتصبح فی ذمة التاریخ وتلحق بسابقتها من الفرق القدیمة.
ولا یعود سبب الانهیارات الدائمة فی دائرة أهل السنة وغیاب فرق وظهور فرق إلى الخلل فی الطرح السنی وضعف عقائدهم وأفکارهم فی مواجهة الواقع فقط بل یعود الى ارتباطهم الدائم بالحکومات التی کان زوالها سبباً فی زوال الفرق التی ارتبطت بها.
والیوم أسهمت الحکومات فی قیام الکثیر من الفرق مثل الجماعة الإسلامیة والسلفیین والإخوان فی مصر وطالبان فی أفغانستان وجند الصحابة فی باکستان والفرق الوهابیة فی جزیرة العرب، ثم انقلبت علیها فیما بعد وقررت القضاء علیها لمّا تبیّن أنها تشکّل خطراً على أمنها ونفوذها(10).
ولا شک أن القضاء على فرقة طالبان وفرقة الجهاد فی أفغانستان سوف تکون له ردود أفعال تسهم فی خلق فرق أکثر تطرّفاً فی أوساط أهل السنة.
والفرق القادمة فی محیط أهل السنة لن تنحصر فی حدود العالم الإسلامی وإنما سوف تمتد إلى أوربا حیث تبعث على هیئة متطورة على ید المسلمین الأوربیین تنذر بخطر داهم یهدد أوروبا من قبل العالم الإسلامی.
المصادر والتعلیق :
1- انظر سیرة الغزالی والرازی والاخنائی والجوینی فی کتب التراجم والتاریخ، وقد انتقل الغزالی من الأشعریة إلى الفلسفة، ثم إلى التصوف، وهوجم بشدة من قبل فرق أهل السنة. ونفس الحالة مرّ بها الرازی والأخنائی وغیرهم.
2- انظر سیرة الماتریدی وتلامیذه الذین تمرّدوا على نهج الأشعری فی کتب التاریخ التی أشرنا إلیها.
3- قال ابن تیمیة بعدم اعتبار الثلاث طلقات فی مکان واحد ـ طلقة بائنة بینونة کبرى ـ وهذا یخالف مذهب عمر بن الخطاب الذی علیه فرق أهل السنة. ویتفق مع الشیعة الذین یعتبرون الثلاثة طلقات فی مکان واحد طلقة واحدة. وقد اصطدمت فرق أهل السنة بابن تیمیة بسبب هذا القول. انظر الدرر الکامنة ج1.
4- انظر کتاب ثم اهتدیت للدکتور التیجانی التونسی، وکتاب لقد شیعنی الحسین لإدریس الحسینی، وکتاب لماذا اخترت مذهب آل البیت للأنطاکی، وهذه الکتب وغیرها تتضمن تجارب عدد من رموز وعناصر السنة الذین تحوّلوا إلى الشیعة.
5- کتاب الحرکة الإسلامیة فی مصر. وقد برزت انشقاقات کثیرة داخل فرقة الأزاهرة کان آخرها بروز جبهة معادیة لشیخ الأزهریة الحالی تحت مسمى جبهة علماء الأزهر.
6- کان مأزق أهل السنة تجاه ایران یکمن فی مناصرتهم لنظام بعثی إسلامه موضع شک فی نظرهم ضد نظام إسلامی خارج دائرة معتقداتهم ومذاهبهم، وکان مأزقهم تجاه العراق یکمن فی کونهم سحبوا منه المشروعیة لغزوه الکویت فی الوقت الذی أضفوا علیه المشروعیة حین غزا ایران، وفوق ذلک أعلنوا مشروعیة الاستعانة بالمشرکین لحمایة آل صباح وآل سعود وحکّام الخلیج الأمر الذی یخالف روایاتهم ومعتقداتهم لکنهم برّروه کعادتهم وفق معتقداتهم الثابتة فی الحکام.
7- اتجهت بعض فرق أهل السنة المعاصرة الى تبنّی الجمع فی الصلوات بلا سفر ولا مطر، أی فی الحضر، وهو ما تقول به الشیعة، وقد وجدوا له أسانید فی مصادرهم، لکن الفرق السابقة عتمت علیها، کذلک خالفت هذه الفرق فی مسألة توقیت الصلوات. وبخصوص الحکومات فهناک تغیر واضح فی موقف الحکم السعودی وحکومة باکستان تجاه فرق أهل السنة، وما یجب ذکره هنا هو ان الواقع السعودی والواقع الباکستانی کانا مرکز تفریخ الفرق السنیة المعاصرة.
8- أهل السنة والتصحیح.
9- ضغط رموز الفرقة الوهابیة على حکّام آل سعود فی الفترة الأخیرة کی یتخذوا موقفاً معارضاً للموقف الأمریکی تجاه الفرق الجهادیة فی أفغانستان وغیرها وقام آل سعود بالضغط على الأنشطة الوهابیة المتطرّفة وتمثّل هذا مؤخراً فی الحد من نشاط جماعات الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.
وبرز فی باکستان مؤخراً موقفاً متشدّداً من قبل حکومة "مشرف" تجاه الفرق السنیة خاصة تلک التی تحالفت منها مع فرقة طالبان مثل فرقة شریعة محمد وفرقة جند الصحابة.
10- أخرج السادات الإخوان والتکفیر والقطبیین من المعتقل بعد أن تسلّم السلطة فی مصر، ودعم السلفیین والجماعة الإسلامیة فی محیط الجامعة المصریة کی تطوق النشاطات الناصریة والیسار