هل هي دولة أم قومة
يتطلب الأمر عودا إلى المعجم السياسي للوقوف على مفهوم الدولة بمدلوله المعاصر. وحتما إننا ندرك أن الدولة لم تبرح حياة الاجتماع الإنساني منذ عرف الأشكال الأولى للتنظيم والإدارة العقلانية لجماعة بشرية ما. لكن هذا لا يمنع من القول أن مفهوم الدولة الحديثة برسم التعريف الويبري الشهير لا يغدو أن يكون إلا كما ذكرنا؛ التدبير العقلاني ، حيث لا يسعنا تمييزه عن أي دولة في تاريخ النوع سوى بهذا الشمول والعمق والنضج العقلاني كما شهده تاريخنا الحديث. لذا كان الأمر سيكون صعبا لا بل متعذرا أن تقوم دولة الموعود في شروط تاريخية غير الشروط التي ينعم بها تاريخنا الحديث والمعاصر. إن الدولة بمعناها اللغوي تحيل أيضا إلى الجولة. ودولة الموعود هي خاتمة الجولات ، وبالتالي خاتمة الدول. وهي منتهى التدبير العقلاني الذي لا يدع مجالا للاحتمالات الكبرى، لأن نضج البشرية بهذا النموذج سوف يتعدى كل أشكال النضج التي وسم بها تاريخنا الحديث منذ قررها كانط مجيبا عن سؤال "ما معنى التنوير".
إننا ندرك أن معضلة الاجتماع السياسي والذي فجر إشكاليات الفكر السياسي والاقتصادي ، هو الندرة. فلو أننا سلطنا الضوء على كبرى نظريات الاقتصاد السياسي والعلوم السياسية والفكر السياسي ، سنقف على تلك الحقيقة التي لا زالت تؤرق العقول: لدينا دائما في أي اجتماع سياسي أو جغرافيا سياسية عددا محدودا من المناصب والموارد والامتيازات. وحيث أصبح من الصعوبة بمكان تأمين الحقوق برسم الرفاهية لكل الشعب، إلا على أساس التوزيع الظالم للثروة وبالتالي النفوذ، فإننا سنجدنا دائما أمام ذلك المبدأ الأساسي والطبيعي الذي توارى بمخاتلة وراء مفهوم العقد الاجتماعي والديمقراطية ؛ أعني مبدأ القوة الذي هو العامل الوحيد الذي لا نزال نفسر به كل أشكال الاجتماع السياسي بما في ذلك الشكل الذي ينتمي إلى دولة الرفاهية. وجود القوة الفئوية ووجود الندرة عاملان أساسيان في هذا الانسداد السياسي الأعظم.
تزعم دولة الموعود بأنها ستنطلق من هذين العاملين في تحقيق نموذجها. إنها من جهة تتحدث عن القوة، ولكن وحيث يتعذر غياب القوة فإن دولة الموعود تتحدث عن تمركز عادل للقوة. إن قوة المهدي لا تستمد فقط من القدرة على التغلب بوسائط بالغة الإعجاز. بل هي ارتقاء في الأسباب والسنن. لعل أهم مصدر لقوة المهدي هي قناعة الشعوب بقيمة النموذج الأمثل الذي سيجعلهم بعد يأس جماعي مرير يقفون على معنى جديد ومطلق للعدالة الاجتماعية. إن الإلحاد لا يملك كل هذه الخاصية من اليقين والقوة حتى يصمد أمام الحجة الكبرى للموعود أو يملك حتى من المصالح حينئذ ما يغري به دنيا البشر. فالمهدي سينمي دنيا البشر حتى يصل إلى كل ذي حق حقه، فلا مجال للابتزاز والمساومة باسم الدين. بل لا مجال أن يتعرى الإنسان من قيمه النبيلة ليكسب رهان المصلحة المشروعة. فدولة المهدي ستجعل المعاش متماهيا مع القيم. بل ستجعل غداء الإنسان قيما كبرى بعد أن يتشبع بحقوقه المادية ويدرك أنها لا تفرض عليه كل هذا الحرص والخوف من فوات الفرص. إن واحدة من مصاديق القوة المهدوية ، امتلاكه الحجة الكبرى. فلا يظل صاحب دين في غمرة الشبه. فالناس هم أنفسهم سيثورون في وجه من عارض المهدي.
فعن أمير المؤمنين:" إذا بعث السفياني إلى المهدي جيشا فخسف به بالبيداء، وبلغ ذلك أهل الشام قالوا لخليفتهم: قد خرج المهدي فبايعه وأدخل في طاعته وإلا قتلناك، فيرسل إليه بالبيعة. ويسير المهدي حتى ينزل بيت المقدس وتنقل إليه الخزائن وتدخل العرب والعجم وأهل الحرب والروم وغيرهم في طاعته من غير قتال حتى تبنى المساجد بالقسطنطينية وما دونها"[12].
ولا ندري كيف سيتخلف عن دولته اليهود والنصارى وقد استخرج التوراة والإنجيل وأوضح أنه موعود العالم جميعا. بل كيف يظل الغرب المسيحي بعيدا عن هذه الدولة وقد تزامن ذلك مع نزول المسيح(ع). حيث لنزوله مغزى عميق. فهو أكبر شاهد على شرعية الموعود، لما يصلي وراءه ويبايعه.
عن عبد الله بن عباس، قال رسول الله ـ ص ـ :" والذي بعثني بالحق بشيرا لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي فينزل عيسى ابن مريم فيصلي خلفه"[13].
كل الأحداث والوقائع التي ستجري تباعا وتزامنا مع ظهور المهدي ، تجعل قناعة الناس بدولته أكبر، وتفقد قوى الباطل شعبيتها المزيفة. لأن الناس ترفض بطبيعتها أهل الباطل، وهي لا تنقاد إليهم إلا إذا أجبروها على ذلك الشكل من الاستعباد بقوة البطش والابتزاز. فإذا تحولت سلطة السيف إلى المهدي ولم يعد في أيديهم ما يصلح للابتزاز ، تحول الناس طوعا إلى حكومة العادل وتركوا الباطل بلا رجعة. فتكون الأغلبية خيرة، لأن الأغلبية بإنسانيتها خيرة، وكذلك الأغلبية برسم التهميش والفقر والاستضعاف ستدرك قيمة العدالة الموعودة. وتدرك أيضا أن دولة المهدي سوف تحتكر العنف العالمي على أساس مشروع العدالة الإنسانية. هذا بالإضافة إلى عدالة الإمام التي تضمنها عصمته بوصفها أعلى مدارك العدالة. فلا عدالة فوق عدالة المعصوم. بل إن قومة المهدي لن تكون إلا بعد أن يصبح الناس مؤهلين لاستيعاب أزمتهم وانحطاطهم فتتجه أفئدتهم لنموذج آخر جديد وحاسم. وهذا يتحقق على خلفية تفاقم خيبات الأمل وانسدادات الفكر السياسي وبداية التطلع إلى طريق ثالث حتمي لكنه مستحيل في ما بين يد البشر من مقدمات مضادة. فحينما تملأ حكومة المهدي ثغرات النظم السياسية سيدرك العالم أنه الأعدل لا محالة. بل سيدركون متأسفين أنهم كانوا ظالمين لأنفسهم أو كانوا مخدوعين عبر تاريخ من الجهل والطغيان والانحطاط السياسي. إن حكومة المهدي قد تستوعب كل إيجابيات نموذج المستبد العادل وكل إيجابيات الديمقراطية ، لكنها ستتجاوز كل ثغراتهما. ومن هنا كان لا بد للناس أن يجربوا إيجابيات المستبد العادل والديمقراطيات وأيضا يقفوا على ثغراتهما ليدركوا قيمة حكومة المهدي. فقوة دولة الموعود هي قوة نموذجه. ورعب المهدي هو ضد حراس ثغرات نموذج المستبد العادل وثغرات الديمقراطية التي هي سبب بؤس الإنسان وعامل تدمير للعدالة الإنسانية. ليس فقط أن دولة المهدي هي تجاوز للنظم السياسية الوضعية، بل هي تجاوز للتطبيقات الفاسدة للنظم الدينية وثورة على التحريفية. فهي نموذج مستقبلي وليست نموذجا سلفويا.
ففي غيبة النعمان ذكر رواية التيملي، قال: حدثنى أخواي محمد وأحمد ابنا الحسن، عن أبيهما، عن ثعلبة بن ميمون، وعن جميع الكناسي جميعا عن أبي بصير، عن كامل، عن أبي جعفر(عليه السلام) أنه قال: " إن قائمنا إذا قام دعا الناس إلى أمر جديد كما دعا إليه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإن الاسلام بدا غريبا وسيعود غريبا كما بدا، فطوبى للغرباء ".
وكذلك، أخبرنا عبدالواحد بن عبدالله بن يونس قال: حدثنا محمد بن جعفر القرشى، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، قال: حدثنا محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنه قال: " الاسلام بدا غريبا، وسيعود غ؟؟؟ ا كما بدا فطوبى للغرباء، فقلت: اشرح لي هذا أصلحك الله، فقال: [مما] يستأنف ا؟؟ اعي منا دعاء جديدا كما دعا رسول الله(صلى الله عليه وآله) "[14].