عربي
Tuesday 23rd of July 2024
0
نفر 0

دولة الموعود -8

دولة العدالة ودولة الوفرة

ليست دولة الموعود هي فقط دولة العدالة التي بها تطمئن النفوس وتندك الفوارق الباعثة على كل أشكال الصراع والاستغلال. بل هي أيضا دولة الوفرة الحقيقية القائمة على أساس الوفرة بمدلولها الاستغراقي وليس الطبقي. لقد كانت دولة علي بن أبي طالب هي المجلي الحقيقي للأزمة التي ظهر أن ليس لها مخرج إلا في دولة الموعود. وذلك حينما قال في النهج:

" الله الله في الطبقات السفلى من الناس".

أو لما قال أيضا:" ما رأيت من نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع".

أو لما قال:" ما جاع فقير إلا بما متع به غني"

وقوله:" وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها. وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع".

إن دولة الموعود تؤكد على أن لحل مشكلة الفقر وإدخال البشرية في حالة من الاستقرار المادي والاستهلاك الجماهيري الحقيقي، يقتضي الأمر النهوض بجملة عوامل بدءا بترشيد أمثل لنمط الانتاج وعدالة قصوى في التوزيع وثروة هائلة تكفي حاجيات المستهلكين. فهي تناهض الظلم الاجتماعي في التوزيع والظلم القائم على نمط الانتاج وأيضا تناهض اقتصاد الندرة وتعد بمستقبل الوفرة الاقتصادية للنوع.. ولذا فإنها أكدت على وفرة الموارد وتغيير النموذج وتأمين النفوس واعادة الاعتدال الى النفوس، حيث ان من أسباب اهتزال العدل هو فقدان العدل في النفس وشيوع أنماط انتاج فاسدة سرعان ما جعلت الاقتصاد ينمو بخلق حاجيات وهمية على حساب سلامة الاجتماع والبيئة، فيصبح الانسان خادما للاقتصاد وليس العكس. إن دولة الموعود تخطئ كل التوقعات التي تقررها الهيئات والخبراء في مجال الاقتصاد والبيئة. إن التوقعات تشير إلى تراجع في الموارد الطبيعية . إحدى أهم المؤشرات تؤكد على نضوب مهول في مصادر الطاقة، مضافا إلى ارتفاع معدل التصحر مضافا إلى أزمة المياه وارتفاع الحرارة وتراجع المساحات الخضراء ، وبالتالي تقلص مصدر الاكسجين ، ويزداد الامر سوءا حين الحديث عن ثقب الاوزون والمشاكل التي يسببها التلوث المستدام والتخريب الممنهج للبيئة دون أن نتحدث عن مخاطر الاقدام على حرب نووية. إننا حسب هذه التوقعات أصبحنا أمام مستقبل كارثي للكوكب، فكيف تكون دولة الموعود لا تزال تعدنا ببيئة نظيفة وموارد هائلة كما لو كانت كل هذه التوقعات مجرد هواجس خرافية ليس لها رصيد من الحقيقة. والحق أن الانسان ما يزال بصدد ترميم ما أمكنه من أزماته . حتى أنه ما أن يحل مشكلة حتى يغرق فيما هو أنكى وأمر. ففي الفكر السياسي ما زالت الديمقراطية التي باتت أمل المجتمعات الرازحة تحت نير النظم الفردية والطغيان السياسي، هي نفسها مصدر استغلال لا يزال يحول دون السعي إلى بدائل يفرضها الاحساس بعدم انسداد الآفاق أمام نظم أكثر ضمانا للحرية والعدالة. وكذلك ظلت البشرية في مستوى الاقتصاد السياسي رهينة تصورات خاطئة في تقدير الثروة ورهينة انسدادات في تدبير الموارد البشرية. على الرغم من كل المعارضة التي أبداها نقاد الاقتصاد السياسي ضد النسق الرأسمالي اللاأخلاقي، استطاعت الرأسمالية أن تنتصر في نهاية المطاف ، باعتبارها النظام الأكثر قدرة على الصمود حتى الآن رغم ما يحمله في طياته من أزمات بنيوية. لعل انتصار الرأسمالية على كل مناهضاتها بما في ذلك نقيضها الأشرس ، المعسكر الاشتراكي، دليل على أننا وصلنا عصر الانسداد. اذا كان فوكوياما رأى في هذا الانتصار تكريسا لليبرالية وتوابعها ـ في مقدمتها اقتصاد السوق ـ بعد أن غطى على كل أزماتها البنيوية، فهو لم يفعل أكثر من أن يقدم شهادة على هذا البؤس الذي يشكل ظاهرة عالم يعيش يوما بعد يوم على إيقاع فريد من التفقير. يتساءل كبير الرأسماليين المضاربين جورج سوروس كيف أمكن هذا النظام الاستمرار حتى اليوم. فانهيار " السوق العالمية سيكون حدثا يسفر عن نتائج يتعذر تصورها، ومع ذلك أجد أن تصور هذا الانهيار أيسر من تصور استمرار النظام الراهن"[15].

لم يهزم النظام الرأسمالي المهيمن معارضيه ،على فظاعة توحشه ، لأنهم لا يحملون البديل القادر على الإحلال محله بجدارة ، ولا لأنهم حاربوه بوسائل أقل نظافة منه. بل لعله حاربهم بأقذر ما لديه. من المؤكد أن الأزمات التي واجهت الرأسمالية كادت تعجل برحيلها لولا التدخل السافر للدولة في حمايتها وتمكينها. لم تكن الرأسمالية حقا مساوقة للطبيعة إلا إذا اعتبرنا تشجيعها على الجشع وعبادة المال والنزعة الأنانية هي هذه الطبيعة الانسانية التي تزعم الرأسمالية مسايرتها. وقد صدق جورج سوروس حينما عزى انتصار الغرب إلى أمر آخر غير رأسماليته. ففي رأيه أنه " من المناسب أن نعزو انتصار الغرب إلى حقيقة أنه مجتمع منفتح أكثر من كونه مجتمعا رأسماليا"[16].

لم تستطع الماركسية على الرغم من أنها قدمت تحليلا نقديا للنظام الرأسمالي لعله الأهم من كل النقود، لأنها لم تستطع أن تضع اليد على المشكل الحقيقي، وهو أن النسق الرأسمالي بما أنه نسق متكامل يستطيع أن يحتوي أزماته بما في ذلك الأزمات التي تصورتها الماركسية عللا تامة برسم نظرية الأزمات. هكذا استطاع هذا النظام تحييد أو تعطيل النشاط البروليتاري وصرفه عن فكرة التموقف التاريخي الجذري من النظام الرأسمالي . كما طورت الرأسمالية الكثير من أساليبها ، ما أبطل مفهوم الثورة الشيوعية التي لم يعد لها أي معنى لا سيما بعد انهيار معسكر كامل قام على أساسها. حاولت الماركسية أن تجد الحل في التطور الطبيعي للرأسمالية الذي ينتهي بها إلى حتمية الانفجار. لكن الرأسمالية عرجت على مسارات أخرى جنبتها كل المخاطر التي تكهنت بها الماركسية. الأمر يتعلق بالأثر الأوديبي بالمعنى الذي ذهب إليه بوبر في إبطال النبوءة. إن القيم الأخلاقية الماركسية التي استقوت بها الحركة الماركسية في نضالها ضد النظام الرأسمالي لا يمكن أن يدان بها هذا النظام ، لأنه لم يستدعيها منذ النشأة الأولى ولا يمكن محاكمته بشيء لا يعنيه في صميم النسق. كان لا بد على الماركسية أن تبحث خارج هذه المنظومة عن سند تستقوي به في إعلان ثورتها. لقد استندت على الضمير الداخلي للرأسمالية فيما هي نسق نصب نفسه خارج مفهوم الضمير الاخلاقي في الاقتصاد. ولأن الماركسية نفسها راهنت على الرأسمالية في استدماج كل الانماط الأخرى ما قبل الرأسمالية انتظارا لانسدادها الحتمي. مع ذلك كان للاجهاز على الحقيقة الدينية الدور الأكبر في جعل الماركسية عاجزة عن إيجاد ضامن أخلاقي . يتساءل أندره كونت سبونفيل إن كانت الرأسمالية أخلاقية. سيضطر هذا الأخير رغم إلحاده غير المبرر أن يسلك طريقا كانطيا لإحلال الاخلاق المجردة أو القانون الاخلاقي محل الدين كضامن من خارج النسق لنوع من الاخلاقية ـ
ethiqueـ بدل الاخلاق ـ moral ـ. بين الاخلاق كفعل للواجب وبين الاخلاقية كفعل باعثه الحب. هذه عودة مبطنة للقيم الدينية نفسها مع تمثل حالة من خفة اليد. أي خلع كل صفات وقيم الدين على هذا الشكل المثالي من الاخلاق. يعيدنا ذلك إلى النكتة نفسها التي واجه بها شوبنهاور القانون الأخلاقي الكانطي. أخلاق بلا ضمانات. لكن كان رأي هذا الأخير صائبا في فضح انسداد النظام الرأسمالي الذي جعل إنماء الثروة ليس فرصة للفقراء المحتاجين، بل هي فرصة سانحة فقط للاثرياء. أليس هذا هو مبدء بيروث: المال يولد لمال. نعم. وإذن صح قول الباحث:" أفضل وسيلة لكي تصبح ثريا في بلد رأسمالي هو أن تكون ثريا"[17].


0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

تکالیف العباد فی عصر الغیبة
هل تعرف كيف تجامل الناس؟
کتابة رقعة الحاجة إلی مولانا صاحب العصر والزمان ...
سيرة الإمام المهدي المنتظر(عجل الله فرجه)
الإمام المهدي خليفة الله في أرضه (عجّـل الله ...
المحطة الأخیرة فی خطّ الإمامة
رئيس مؤسسة آينده روشن: المهدوية سر هويتنا
دعاء الندبة
المهدي والحسين عليه السلام الدور والتجلي
محن وآلام صاحب الزمان (عج)-2

 
user comment