1 - ضوابط حركة المجتمع
حركة المجتمع - أي مجتمع سياسي على الاطلاق - تسير وفق ضابطين رئيسيين، والمجتمع المسلم كواحد من المجتمعات السياسية الإنسانية لا يشذ عن هذه القاعدة، فحركته أيضا محكومة بضابطين:
1 - الضابط الأول: وهو العقيدة أو المنظومة الحقوقية الإلهية، وهي بمثابة القانون النافذ في المجتمع الإسلامي وهي عبارة عن مخططات عامة وتفصيلية تعطي بالكامل حركة المجتمع الإسلامي في كل مجالات الحياة بالحال والمآل وإن شئت فقل إنها الصيدلية الكبرى التي تحوي العلاج الشافي من كل داء قد أصاب المجتمع الإسلامي أو سيصيبه. وتحتوي هذه المنظومة على التجذير النظري والعملي والتنظير لكل داء ودواء وتقدم ضمانة مؤكدة لفاعلية هذا العلاج ونتائجه. وهذه المنظومة معدة ومصاغة لتغطي حياة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والعالم كله وتنظيم علاقات المجتمع وقيادتهم إلى التعاون والانسجام وإشباع حاجاتهم المادية والروحية أيضا.
2 - الضابط الثاني: وهو القيادة السياسية المنبثقة عن هذه العقيدة فهي الجهة المخولة وفق أحكام هذه المنظومة الإلهية بإبقاء حركة المجتمع الإسلامي دائما وفق أحكام هذه المنظومة الحقوقية الإلهية وتوضيحا هو بمثابة المهندس الذي استوعب المخططات العامة والتفصيلية للعقيدة الإلهية، وهو بمثابة الطبيب والصيدلاني الذي يشخص المرض ويصف العلاج ويقدمه لك ويصف كيفية استعماله، ويتابعك وأنت تتناوله حتى يتم الشفاء.
وهو المنظر للمنظومة الحقوقية الإلهية وهو المشرف العام على تطبيقها والمرجع العام لفهم أحكامها ومراميها، لأنه هو الأعلم بها والأفهم لقواعدها وغاياتها والأفضل من بين أتباعها والأنسب من بين كل الموجودين لقيادة أتباع هذه العقيدة وهو المبين لها من خلال نقلها وتبليغها بالضبط كما تلقاها من ربه، ومن خلال ترجمتها من النص إلى الحركة بعد عملية النقل والتبليغ. وهو الشاهد على عملية البيان بشقيها النظري والعملي، وهو المبشر للمخلصين للعقيدة والمنذر للمعاندين لها وهو الداعية إلى الله وهو السراج المنير الذي ينير درب المجتمع أثناء حركة هذا المجتمع الحياتية.
2 - الترابط والتكامل بين العقيدة الإلهية والقيادة السياسية
العقيدة الإلهية الإسلامية بكليتها وأساسها قائمة على ركنين أساسيين، أولهما كتاب الله المنزل وهو القرآن الكريم، وثانيهما نبي الله المرسل وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). محمد هو القيادة السياسية المخولة إلهيا بقيادة الدعوة إلى العقيدة والمعينة إلهيا لتقود الدولة بعد أن تسفر الدعوة عن الدولة بمعنى أن القيادة السياسية لدعوة العقيدة ودولتها هي جزء لا يتجزأ من هذه العقيدة وهي أصل من أصولها، فالإيمان بقيادة محمد السياسية وولايته هي جزء من الإيمان بالعقيدة الإلهية، كذلك فإن الإيمان بقيادة طالوت السياسية كان جزءا لا يتجزأ من العقيدة الإلهية الناقدة آنذاك، وكذلك الإيمان بقيادة داود، وسليمان (عليهما السلام).
لأنه ليس بالإمكان وفق نواميس الحياة تبليغ العقيدة الإلهية وبيان أحكامها وتطبيق هذه الأحكام دون القيادة السياسية لمحمد بالذات، فهو نفسه المخول بترجمة نصوصها من الكلمات إلى الحركات وهكذا فعل عبر دعوة قادها بنفسه، وعبر دولة ترأسها بنفسه، لأنه هو بالذات محور وأسس القيادة السياسية التي أسندت إليها مهمة قيادة الدعوة والدولة معا.
ويؤكد هذا الترابط العضوي والتكامل المحتوم بالضرورة أن الله سبحانه وتعالى وطوال التاريخ البشري لم يرسل رسالة إلى بني البشر بدون رسول ولم ينزل كتابا إلا على عبد ليقود المؤمنين وفق أحكام هذا الكتاب بعد أن بين لهم تلك الأحكام، ولو كان مجديا فك الترابط بين العقيدة الإلهية والقيادة السياسية، وبين الرسالة والرسول وبين الكتاب والعبد لكان يسيرا على الله أن يرسل نسخا من كل الكتب السماوية إلى كل إنسان بالغ وأن يكلفه بفهمها والعمل بها، ولما كانت هنالك حاجة لإرسال عشرات الآلاف من الرسل والأنبياء والمهديين.
ففك الارتباط والتكامل بين العقيدة الإلهية وبين القيادة السياسية غير وارد بكل المقاييس العقلية والمنطقية والدينية والفطرية، ويخرج عن دائرة المعقول تماما التمسك بالقرآن وحده وتجاهل القيادة السياسية الإلهية، فمن يقول إنه يؤمن بالقرآن ولا يؤمن بمحمد كقائد له وكولي هو ليس مؤمنا بالإجماع. ومن يقول أنه يوالي محمدا كقيادة سياسية ولا يؤمن بالقرآن هو أيضا ليس مؤمنا بالإجماع لأن من مستلزمات الإيمان الإيمان بالعقيدة الإلهية كقانون نافذ، والإيمان بمحمد كقائد وكولي يقود حياة المؤمنين ضمن هذا القانون النافذ.
فالقيادة السياسية هي بمثابة الهيئة التأسيسية فهي المختصة ببيان العقيدة وبقيادة الأتباع وفق أحكام هذه العقيدة.
وعمليات البيان وعمليات القيادة عمليات فنية تماما كالطب أو علم الذرة أو علم الهندسة، ومن المستحيل أن نترك لأهوائنا واجتهاداتنا.
مؤهلات القيادة السياسية الإسلامية الشرعية
أول ولي وقائد سياسي للأمة الإسلامية هو محمد (صلى الله عليه وآله) فهو القدوة وهو المثال الذي يقاس عليه، والذين تولوا الولاية والقيادة والمرجعية من بعده تولوها بوصفهم خلفاء للنبي، فالمؤهلات العلمية للنبي كولي وكقائد سياسي وكمرجع للأمة هي أنه أعلم أهل زمانه بالعقيدة الإلهية وأفهم أهل زمانه بأحكامها وأفضل الموجودين من أتباعها وأنسبهم لقيادة ولايتها ومرجعيتها، بالإجماع. ودليلا على ذلك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي عينه وجمع له الولاية والقيادة والمرجعية، ولا يعارض بذلك أحد من أبناء الملة.
وأي قيادة وولاية ومرجعية تأتي من بعده يجب أن تكون لها نفس المؤهلات
فالولي القائد المرجع بعده يجب بالضرورة أن يكون:
1 - الأعلم بالعقيدة 2 - الأفهم بأحكامها 3 - أفضل الموجودين من أتباعها 4 - أنسب هؤلاء الأتباع لقيادة الأمة.
وهذه معايير موضوعية، وأمنيات مجردة، وغايات محددة لكل من أراد الحق وجانب الهوى. فمن مصلحة كل المؤمنين أن يتولاهم ويقودهم الأعلم والأفهم والأفضل والأنسب ولا مصلحة شرعية لأي واحد منهم بأن يتولى غير من كانت هذه صفاته.
من هو المختص بالتأكد من توافر المؤهلات
لا يوجد في الدنيا فرد أو جماعة أو أمة تستطيع أن تؤكد لنا على وجه الجزم واليقين أن هذا أو ذاك هو: الأعلم والأفهم والأفضل والأنسب، لأن الأفراد والجماعات والأمم لا يعرفون ذلك على وجه الجزم واليقين، لأن إمكانياتهم وطاقاتهم العقلية والفطرية والعلمية لا تمكنهم من ذلك، ولأنهم لا يعرفون إلا الظاهر، أما البواطن فهم يجهلونها، وإذا اجتهدوا وحاولوا أن يبحثوا عن الأعلم والأفهم والأفضل والأنسب فإن النتائج التي سيتوصلون إليها قائمة على الفرض والتخمين فقد تكون وقد لا تكون، ولكن المؤكد أن هذه النتائج هي ثمرة مبلغهم من العلم مشبعة بكل نوازع النفس الإنسانية.
والمطلب الحقيقي للجميع ليس الفرض والتخمين إنما الجزم واليقين. إذا، فإن المؤهل والمختص بإعطاء المعلومات اليقينية القائمة على الجزم واليقين هو الله جل وعلا، فهو نفسه الذي قدم لنا محمدا وأكد لنا أنه الأعلم والأفهم والأفضل والأنسب وهو نفسه صاحب العقيدة والأحرص على مصلحتها، وهو المعني تماما بأن يقدم لنا من تتوفر فيه هذه الصفات على وجه اليقين وفي كل زمن من الأزمان من بعد وفاة النبي وحتى تقوم الساعة.
فمنذ اليوم الذي شرع فيه محمد بالدعوة شرع بأمر من ربه بإعداد هذا الذي سيتولى الولاية والقيادة والمرجعية من بعده، وبين الطريقة التي ستتم بها عملية استكشاف من كانت هذه صفاته.
والخلاصة أن المختص بالتأكد من توافر هذه الصفات هو الله تبارك وتعالى.
القبول بالتكييف الإلهي
إذا قبلت الأمة بالتكييف الإلهي ووافقت على أن فلانا هو الأعلم وهو الأفضل وهو الأفهم وهو الأنسب، فإنها تعبر عن هذا القبول بالمبايعة فتتفق إرادة الأمة مع إرادة الله، وغاية الأمة مع غاية الله فيكون فلان هذا معين من الله ومقبول من الأمة فيستمد شرعية وجوده كولي وكقائد من مصدرين: الأول الله الذي كيف صفاته وعينه على أساسها، والمصدر الثاني الأمة التي قبلت بالتكييف الإلهي بأن فلانا هذا هو الأعلم والأفهم بالعقيدة وأفضل أتباعها لقيادتها فبايعته على هذا الأساس وقبلت به وليا وقائدا ومرجعا.
وبهذه الحالة تستقيم أمور الأمة وعقيدتها وقيادتها السياسية ويقطف الجميع أحلى الثمرات وأطيبها وتشق الدعوة والدولة طريقهما إلى الله بيسر ورخاء وريح مواتية ويتفيأ الجميع في ظلال النعمة الإلهية.
رفض التكييف الإلهي
إذا لم تقبل الأمة التكييف الإلهي بأن فلانا هو الأعلم والأفهم والأفضل والأنسب لقيادتها على وجه الجزم واليقين، واجتهدت الأمة أو هكذا خيل إليها بأن فلانا هو الأنسب لخلافة النبي من فلان. فمعنى ذلك هو رفض التكييف الإلهي القائم على الجزم واليقين واستبداله بتكييف بشري قائم على الفرض والتخمين.
وهذه العملية " الرفض والاستبدال " لا تغير من الحقيقة شيئا، ولا تجعل فلانا أنسب من فلان لكن تحدث عملية انفكاك واقعية فيتولى الولاية والقيادة والمرجعية شخص آخر غير الشخص الذي عينه الله، وبما أن الولاية والقيادة والمرجعية اختصاص، وحيث أن الشخص البديل غير مؤهل لهذا الإختصاص فتحدث تبعا لذلك انهيارات متلاحقة، وما تزال تتوالى حتى تعصف بالأمة وتفرقها بعد وحدة وتذلها بعد عزة، وتخرج رويدا رويدا من دائرة المنظومة الحقوقية الإلهية إلى دائرة العقل أو دائرة الفرض، أو دائرة الشهوة أو مزيج من هذه الدوائر مجتمعة، وتتوقف العقيدة عن العطاء ويحل غضب الله بالأمة ولا يزول إلا بإعادة الأمور إلى نصابها ووضع القيادة التي كيفها الله وعينها. ومن الطبيعي أن الله لا يكره المريض على تناول العلاج، ولا يجبر الضال على سلوك طريق الهدى، فما على الله إلا أن يقدم العلاج ويرغب المريض فيه، ويبين طريق الهدى للضال ويشجعه على السير فيه، فإذا رفض المريض العلاج مع سبق الاصرار فهو المفرط بحق نفسه، وإذا رفض الضال طريق الهدى فجنايته على نفسه وعلى الذين ساروا خلفه. وهذه حال الذين رفضوا العقائد الإلهية ورفضوا موالاة الرسل، أو كانوا على استعداد للنظر في العقائد الإلهية لكنهم غير مستعدين لموالاة الرسل.
أشكال رفض التكييف الإلهي
1 - الشكل الأول: القبول بالعقيدة الإلهية وعدم القبول بولاية القيادة السياسية كالإيمان بنبي بني إسرائيل ورفض موالاة طالوت لأنه ليس الأحق بالقيادة حسب رأيهم، فبين الله سبحانه وتعالى لهم أنه زاده بسطة في العلم والجسم ودعمه بالبينات فقبلوه مكرهين وانتهى الرفض إلى القبول.
2 - الشكل الثاني: الإيمان بالعقيدة الإلهية وعدم القبول بولاية القيادة السياسية من بعد النبي بتأويل مفاده أن الله لم يعين هذه القيادة إنما عينها النبي حسب اجتهاده كبشر، وأنه لا حرج من مخالفة هذا الاجتهاد واختبار شخص آخر بدلا من الذي اختاره النبي، لأن الذي اختاره النبي من بني هاشم، والله قد أعطى الهاشميين النبوة والأفضل لمصلحة الجميع أن يهنأ الهاشميون بالنبوة وأن يتولى الخلافة غيرهم، أضف إلى ذلك أن هذا الذي اختاره النبي به دعابة، وعنده زهو بنفسه، وما زال فتى، وهنالك من هو أسن منه، وهم مشيخة قريش. لكل هذه الأسباب آمنوا بالعقيدة الإلهية ورفضوا موالاة الرجل الذي كيفه الله وأعده رسوله وعينه خليفة من بعده. وهذا ما حدث لعلي بن أبي طالب.
3 - الشكل الثالث: رفض العقيدة الإلهية كقانون نافذ للأمة، ورفض موالاة الذي عينه الله، وهذا الرفض يدخل صاحبه الكفر من أوسع الأبواب والعياذ بالله.
3 - الإعداد الإلهي لخلافة النبي
قبل أن يلد آدم ، شاء الله تعالى أن يكون النبي العربي خاتم الأنبياء، وأن يكون دين الإسلام آخر الديانات السماوية، وأن يتولى هذا النبي بيان هذا الدين عبر دعوة يقودها بنفسه، تتمخض عن دولة الإيمان التي ترأسها بنفسه، ومن خلال مرحلتي الدعوة والدولة ثم بيان الإسلام نظريا، وتحول النظر إلى التطبيق، واتضحت أدق خفاياه وأبرز معالمه حتى لكان البيان المحمدي تصوير فني بطئ مصحوب بالصورة والصوت والحركة.
وقد قضت مشيئة الله أن ينطلق النبي وخليفته ووليه من بعده معا وأن يكونا معا حتى يبين النبي دين الإسلام، ويكون قاعدته، ويؤسس دولته وبعد ذلك يختار ما عند الله ويسلم الراية لولي عهده وخليفته من بعده، فينطلق على نفس البصيرة، ويتابع نفس الطريق، تلك هي الصورة الزاهية التي رسمتها العناية الإلهية وعرضتها على شاشة أذهان الذين أمنوا وتمنت عليهم لو عملوا على تنفيذها طوعا وبدون إكراه، لأن الصلة بين النبي وولي عهده تصلح أن تكون منارا لنمط الأخوة الإيمانية، وأسلوب تبعية الخط الإيماني. وتفسر طبيعة العلاقة بين السلف والخلف وبين التابع والمتبوع في الإسلام.
يقول النبي (صلى الله عليه وآله): " كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق آدم قسم ذلك فيه وجعله جزئين فجزء أنا وجزء علي ". فالله تعالى هو الذي خلق النورين وسيرهما معا ثم وزع الأدوار بينهما. والله تعالى هو الذي اطلع إلى أهل الأرض فاختار منها رجلين أحدهما النبي صلی الله عليه وآله وسلم والآخر زوج ابنته والولي من بعده، وعملية الاختيار الإلهي للرجلين من أبرز الثوابت (1).
قبيل الدعوة
مات والد النبي وهو في بطن أمه، فكفله جده عبد المطلب، ثم مات جد النبي فكفله عمه عبد مناف بن عبد المطلب المكنى بأبي طالب، فأبو طالب عم النبي الشقيق ووالد الخليفة والولي من بعده علي. ويشب النبي ويترعرع ويتزوج امرأة فاضلة ميسورة الحال وهي خديجة بنت خويلد، ويكون لنفسه بيتا ويستقل، وأراد أن يساعد عمه صاحب العيال وفقير الحال عبد مناف والد علي، فأخذ أحد أطفال عمه ليغدوه له، وشاءت العناية الإلهية أن يكون هذا الطفل هو علي والخليفة والولي فيما بعد، ونما الصبي، وترعرع في كنف ابن عمه ولم يفارقه حتى اختص الله محمدا بالنبوة، ثم لازمه حتى انتقل الرسول صلی الله عليه وآله وسلم إلى جوار ربه.
بعد النبوة
نبئ النبي يوم الاثنين، وأسلم علي يوم الثلاثاء، وتابع الفتى التصاقه بالنبي ولم يفارقه قط، كانا في مكة معا، وكانا في المدينة معا، وسكنا في بيت واحد طوال حياة النبي. فكان محمد صلی الله عليه وآله وسلم هو الذي جاء بالصدق وعلي هو الذي صدق به وهذا معنى قوله تعالى: * (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) * (2)
فما جادل النبي ولا عانده إنما كان الصديق لكل أقوال النبي وطوال حياته مع النبي.
كان فارسه الأول في كل حروبه، ومن هنا سمي الصديق الأكبر بالنص الشرعي والفارق الأعظم بالنص الشرعي.
وقال علي فيما بعد يصف علاقته بالنبي في تلك الفترة: " وضعني في حجره وأنا وليد، يضمني إلى صدره، ويكتنفني فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرقه، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه.... وما وجد لي كذبة في قول أو خطلة بفعل، وكنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه يرفع لي كل يوم من أخلاقه، ويأمرني بالاقتداء به، وكنت في حراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة ".
وسئل قثم بن العباس: كيف ورث علي رسول الله دونكم ؟
فقال: كان أولنا لحوقا به وأشدنا به لصوقا (3).
إعلان الخلافة بعد النبوة
لما نزلت آية * (وأنذر عشيرتك الأقربين.....) * قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في اجتماعه ببني عبد المطلب: " يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا في العرب قد جاء قومه بأفضل مما جئتكم به. إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني ربي أن أدعوكم، فأيكم يؤازرني على هذا الامر على أن يكون أخي ووصيي خليفتي فيكم بعدي ؟ " قال علي: فأحجم القوم منها جميعا وقلت وإني " أي عليا " لأحدثهم سنا: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثم قال (أي الرسول صلى الله عليه وآله): إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.... الخ
هذا نص شرعي بأن عليا بن أبي طالب قد عينه الرسول وصيا وخليفة من بعده. والسنة النبوية القول والفعل والتقرير جزء من العقيدة الإلهية، ولم يرد ما يشير إلى نسخ هذا النص. وهو حديث صحيح وقد صححه ابن جرير وأبو جعفر الإسكافي إذ أرسلا صحته إرسال المسلمات كما يقول الإمام العاملي في مراجعاته، وهو واضح المعاني ولا يمكن تأويله. فكيف تؤول الواضحات.
ومن الطبيعي أن النبي لم يقل ما قاله في اجتماع بني عبد المطلب " الأقربين " من تلقاء نفسه إنما كان بأمر من ربه، لأن النبي يتبع ما يوحى إليه ومن غير المعقول أن يعين النبي ولي عهده والخليفة من بعده دون الرجوع إلى ربه.
الاعلان عن ولاية العهد والتوطيد للولي
1 - المنزلة
قال النبي لعلي على مسمع من المسلمين: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ".
ففي هذا النص أعطى النبي لعلي كافة المنازل التي كان لهارون ولم يستثن إلا النبوة، واستثناء النبوة دليل على العموم كما يقول الإمام العاملي، ومن أبرز المنازل التي كانت لهارون من موسى وزارته وشد أزره وإشراكه في أمره وخلافته عنه وفرض طاعته على أمته بدليل قوله تعالى: * (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري) *. وقوله تعالى: * (اخلفني في قومي وأصلح) * وقوله تعالى مخاطبا موسى: * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) * فعلي بحكم هذا النص خليفة النبي وولي عهده. وحديث المنزلة من أصح الآثار وقد بلغ من التواتر والشيوع أن رواه حتى معاوية إمام الفئة الباغية، وقد كرر النبي الاعلان عن هذه المنزلة عشرات المرات.
2 - الأخوة
وحتى يحكم الشرع الحلقة آخى الله بين النبي وبين علي وهذا شرف لم ينله غير علي ومرتبة لم يحصل عليها سواه، وأعلن النبي هذه المؤاخاة قبل الهجرة وبعد الهجرة وقد أكد النبي هذه الأخوة عشرات المرات في عشرات المناسبات حتى لا ينساها المسلمون، مثل قوله (صلى الله عليه وآله): " بشارة أتتني من ربي في أخي وابن عمي وابنتي بأن الله زوج عليا فاطمة " ، ولما زفت فاطمة إلى علي قال الرسول: " يا أم أيمن ادعي لي أخي، فقالت: هو أخوك وتنكحه ؟ قال:
نعم.... ".
وانظر إلى قوله (صلى الله عليه وآله) لعلي: أنت أخي وصاحبي ورفيقي في الجنة (4).
ومثل قوله لعلي: " وأما أنت يا علي فأخي وأبو ولدي ومني وإلي... " وظل النبي يردد ويعلن هذه الأخوة طوال حياته، ولما حضرته الوفاة قال: " ادعو لي أخي ".
فدعا عليا فقال له: ادن مني فدنا منه وأسنده إليه فلم يزل يكلمه حتى فاضت نفسه الزكية.
من هنا فقد كان يقول: " أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب ".
ومن الأمور التي كان يعرفها العامة والخاصة أن عليا كان أخ النبي قبل الهجرة وبعدها، وأن المؤاخاة بين أبي بكر وعمر تمت قبل الهجرة وبعدها وقد أوصى أبو بكر بالخلافة لأخيه عمر من بعد ونفذت وصيته.
3 - الولاية
أعلن النبي للمسلمين أن الولي من بعده هو علي حيث قال له: " أنت ولي في الدنيا وفي الآخرة " وقال لعلي: " أنت ولي كل مؤمن بعدي " (5). وقد سمع المسلمون بذلك وفي إحدى المرات بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) سرية واستعمل على هذه السرية عليا بن أبي طالب فاصطفى علي لنفسه من الخمس جارية فأنكروا عليه وشكوه للرسول، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): " إن لعلي أكثر من الجارية التي أخذ إنه وليكم بعدي ". وطالما أعلن النبي وكرر " من كنت وليه فهو وليه، ومن كنت مولاه فهذا علي مولاه " وتلك النصوص من الذيوع والانتشار بحيث أنها لا تخفى على أحد. فقول النبي صلی الله عليه وآله وسلم : من كنت مولاه فهذا علي مولاه، قالها أمام أكثر من مائة ألف مسلم كما سنرى ولم يكتف النبي صلی الله عليه وآله وسلم بذلك بل كانت أوامره واضحة بضرورة موالاة علي وأهمية هذه الموالاة وأثرها في الدنيا والآخرة وأن من يتولى عليا هو تماما كمن يتولى النبي ومن يحب عليا هو تماما كمن يحب النبي، ومن يبغض عليا هو تماما كمن يبغض النبي ومن يتولى النبي فكأنما تولى الله.
ومن أحكامه (صلى الله عليه وآله) النصوص الشرعية التالية: " من يريد أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي فليتول عليا بن أبي طالب، فإنه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة " (6).
قال وهب بن حمزة: سافرت مع علي فرأيت منه جفاء فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا تقولن هذا لعلي فإنه وليكم بعدي ".
ولاية علي وحبه ولاية لله وحب له
وخاطب النبي صلی الله عليه وآله وسلم أصحابه قائلا: " أوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب فمن تولاه فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولى الله ومن أحبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل ".
وقال لهم يوما: " اللهم من آمن بي وصدقني فليتول علي بن أبي طالب فإن ولايته ولايتي وولايتي ولاية الله تعالى ".
تتابع الاعلان عن الولاية والتوطيد كان يجري بأمر الله
ولتوطيد ولاية علي نزلت آية الولاية * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) *.
وقد نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين وهو راكع واستجابة لدعوة الرسول صلی الله عليه وآله وسلم : " واجعل لي وزيرا من أهلي علي أخي..... " (راجع المصادر المذکورة).
المصادر :
1- المستدرك للحاكم ج 3 ص 129، وترجمة علي من تاريخ دمشق لابن عساكر ج 1 ص 249 وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 4 ص 195 وكنز العمال ج 6 ص 391 و ج 15 ص 95 وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 297.... الخ.
2- شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج 2 ص 120 ح 810 - 815 وراجع المناقب
3- التصوف والتشيع لهاشم معروف الحسني وأخرجه الضياء المقدسي في المختارة وابن جرير في تهذيب الآثار وهو الحديث 6155 من أحاديث الكنز ج 6 ص 408 وأخرجه النسائي في ص 18 من الخصائص العلوية ونقله ابن أبي الحديد في ص 255، مجلد 3 من شرح النهج وراجع ج 1 ص 159 من مسند الإمام أحمد.
4- ذكره ابن عساكر في تاريخه ج 1 ص 122 ومنتخب الكنز بهامش مسند الإمام أحمد ج 5 ص 46.وفي المصادر اعلاه
5- راجع مسند الإمام أحمد ج 5 ص 25 بسند صحيح وراجع الاستيعاب لابن عبد البر بهامش الإصابة ج 3 ص 28 وراجع الإصابة لابن حجر العسقلاني ج 2 ص 509 وراجع ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 55 و 182 وراجع خصائص أمير المؤمنين للنسائي الشافعي ص 64
6- حلية الأولياء لأبي نعيم ج 4 ص 349 - 350، وراجع مجمع الزوائد ج 9 ص 108 وراجع ترجمة علي بن أب