عربي
Friday 22nd of November 2024
0
نفر 0

مباني علم المعرفة في الفلسفة الإنسية القسم الأول

مباني علم المعرفة في الفلسفة الإنسية القسم الأول

مباني علم المعرفة في الفلسفة الإنسية *
 

القسم الأول :

ديكارت ، إسبينوزا

أ . مريم صانع بور
 

تمهيد :

الفلسفة الإنسانية ، أو الإنسية ، التي ظهرت في القرن السادس عشر ، بوصفها تفكيراً خاصاً يعتمد على الأصل الديكارتي :( أنا أفكر ، إذاً أنا موجود ) ، ركزت على الإنسان بوصفه مبنى وحيداً للمعرفة ، ووصلت في مسيرتها إلى التناقض ، لدى ( هيوم ) ، في اعتماده وجهتين هما : ( الأنا العقلانية والدين التجريبي ) ، لأنّه أنكر العالم المادي ، كما أنكر النفس الإنسانية التي كانت محور المعرفة .
 

وبعد هيوم ، سعى كانط في ثورته الكوبرنيكية إلى إعادة أحياء ( الأنا ) ، أمّا خلفاؤه ، فلتلافي الثنائية بين ( مفهوم الشيء ) و( الظاهرة ) ، الذات والموضوع ، وعدم الوصول إلى حقائق الأشياء ، اختاروا الوحدة بين الذات والموضوع . وفي الوقت الذي كانوا أوفياء فيه لذاتية كانط طرحوا بعض الحلول : كطرح ( اسبينوزا ) للجوهر الفرد ، و( لايبنتز ) للمذهب الذري و( ماليرانش ) للمذهب الظرفي ، وبعضهم قدم ملاحظات سفسطائية ك ـ ( فيخته ) القائل : أن ( اللا أنا ) مخلوق ( الأنا ) ، وقد تواصلت المسيرة ، إلى أن انتهت بموت الله على يد ( نيتشه ) وإلوهية الإنسان لدى ( سارتر ) .

تعريف الإنسية (Humanis) ، جمهورية الإنسان :
 

الإنسية حركة فلسفية وأدبية ، انطلقت في النصف الثاني من القرن الرابع عشر من إيطاليا ، وانتقلت إلى البلدان الأوربية الأخرى ، وقد شكّلت هذه الحركة أحد عوامل الثقافة الجديدة ، كما أنّ الإنسية فلسفة تقيم وزناً لقيمة الإنسان أو لمقامه ، وتجعله ميزان كلّ شيء . وبتوضيح آخر ، ترى أنّ الأصل هو مصير الإنسان وحدوده وميوله وطبيعته البشرية ، فقد كان الإنسيّون مصمّمين على أن يعيدوا إلى الإنسان ، بوساطة الآداب الكلاسيكية ، تلك الحياة الروحية التي كان يتمتع بها في العصر الكلاسيكي والتي فقدها في القرون الوسطى ، وهي نفسها روح ( الحرية ) تلك التي توجه الإنسان نحو الاستقلالية والقيادة الذاتية ( autonoq ) ، وتسمح له ، حين يجد نفسه أسير الطبيعة والتاريخ ، بأن يبحث عن استعداداته ، ليستطيع التحكّم بالطبيعة وبالتاريخ .

بيكودلا ميراندولا (Picodellu Mirandola)ا(1463 - 1494م) أعلن عن إيمانه بالإنسان في خطبته المعروفة : ( مقام الإنسان ) ، وقد ورد في هذه الخطبة من كلام الله ما يأتي :

( أيّها الإنسان ، أنا لم أهبك مقاما مقدّرا سلفاً ، أو سيماء خاصة ، أو امتيازات خاصة ، إنّما أنت الذي يجب أن تحدّد مصيرك من دون أي ضغط أو إكراه ، بوساطة ( القدرة على الاختيار ) التي خلقتها في جبلَّتك ، لقد جعلتك في مركز الكون بحيث تتمكّن من تلك النقطة أن ترى بشكل أفضل كلّ ما هو في الكون ، أنا لم أصنعك سماوياً أو أرضياً ، فانياً أو خالداً ، لتتمكّن ، كأستاذ مطلق وحرّ ، أن تصبّ قالباً ، وتصنع نفسك على الشكل الذي تختار ) .

بعد ذلك بسنوات ، بحث الفيلسوف الإنسي الفرنسي ( تشارلز بويل ) Charles Bouilleا (1475 ـ 1553م) ، هذا الموضوع في كتابه المسمى ( سبينْت ) De Sapiente ، حيث يجعل فيه ( الإنسان العاقل ) معادلا لبروموثيوس (1) ، وتلك المعادلة تكمن في العقل الذي أعطاه بروموثيوس لقوى الإنسان ، ( ليهب طبيعته الكمال ) (2) .

وهكذا كان الإنسيون يعتقدون أنّ العقل البشري الموازي لعقل الله ، قادر على أن يتحكّم بالإنسان وبالنظام البشري .

أنّ ( مفهوم الذات ) ، انطلاقا من أسس علم النفس الإنسي ، نقطة محورية في هذا التركيب الشخصي الذي طرح في نظرية المعالج النفسي ( كارل راجرز ) Carl Rogers (المولود عام 1902م) ، أنّ استنتاجات الفرد عن العالم المحيط به مستمدة من تجربته الشخصية ، وتسوقه هذه الاستنتاجات قسرا نحو التحيز لحاجات ( الذات ) ، ويؤكّد روجرز أن الفرد في مسيرة نموّه يتعب كثيراً ( لتحقيق الذات ) Self ـactualization و( الدفاع عن الذات ) Self ـmainenance ، و( تعزيز الذات ) Self ـCempercerent . وقد شدد عالم النفس السويسري ( لودفيك بنيس فانجر ) Ludwing Beins wangerا (1881 ـ 1957م) ، أحد طلائع علم النفس الوجودي ، على مفهوم ( الوجود المتعيّن ) World desing ، الذي اهتمّ فيه بكلّية الوجود الإنساني ، وفي هذا النمط من الفهم ، ينظر إلى النمو والرشد بشكل خلاّق يتمكّن الإنسان في إثنائه من تحقيق ذاته ، متّبعا نظام قيمه الذاتية (3) .

الملاحظ أنّ علم النفس الإنسي ، يتوجّه إلى الإنسان بوصفه موجوداً يتكئ على ذاته تماماً . وفي هذه الرؤية ، كلّ واحد يتحرّك فرداً وحيداً منعزلاً ، ولا يتحرّك الناس بوصفهم أفراداً من نوع واحد مشترك . أمّا نظام القيم المتحكّم بسلوك كلّ فرد من الأفراد ، فقائم بذاته كلّياً ، كان هنالك بحسب رؤية الإنسيين عللا فاعلية وعللاً غائية داخل الإنسان أيضاً ، إلى حد أنّ الفرد يحقّق عملياً جميع استعداداته وقواه الذاتية ، وهو وحيد ومنقطع عن العلل الخارجية . وأكثر من ذلك ، بإمكانه التحكّم في غاية وجوده ، وهو في سعيه لتحقيق ذاته والدفاع عنها وتعزيزها ، يبقى وحيداً كلياً وقائماً بنفسه ، بحيث إنّ هذه الوحدة الوجودية ، الوجود المقيّد ، وصلت في عقيدة بعض علماء النفس ، من أمثال ( جون كلارك مرتكاس ) Clarc Mortakas ، إلى اضطرابٍ مفرط .

لقد تأثّرت أكثر المذاهب الفلسفية ، بعد عصر النهضة ، بالفكر الإنساني على نحو ما ، كالشيوعية التي قدّمت أكثر النظريات المتعلّقة بالشعب وبالصراع الطبقي ، وكالداغماتية التي أكّدت على أصالة العمل ، والشخصانية التي قالت بقدرة الروح الإنسانية على التأثير ، والوجودية التي أكّدت بشدّة على الوجود الفعلي للإنسان (4) ، هذه الفلسفات جميعها نظرت إلى الإنسان بوصفه موجوداً قائماً بذاته ، هو الفاعل وذاته الغاية .
 

تحليل للبناء الذاتي في التفكير الإنسي :

وكما تمّ ، في عصر النهضة ، التأكيد على قيمة الإنسان واستقلاليته وحرّيته ( إلى حد وضع عقل الإنسان بموازاة عقل الله ) ، وقعت فلسفات ما بعد النهضة تحت تأثير هذا الاعتقاد ، وسعت لصوغ الإنسان القائم بذاته والمكتفي بذاته مبدأ للعلم المعرفي ، وكانت نقطة البداية أن نسبت إلى الإنسان ، مستقلاً ، القدرة على خلق العلم والمعرفة ، من دون العودة إلى أيّ مصدر متعال؛ أيّ إنّهم عرفوا الوجود الإنساني مبدأ للعلم المعرفي .

سنبدأ ، في هذا القسم ، بالكلام على المراحل التي مرّ بها مثل هذا الفهم للإنسان ، انطلاقا من آراء الفلاسفة الذين يمثّلون أبرز شخصيات الفكر الإنسي .

1 ـ رينيه ديكارت (1596 ـ 1650) :

افتتح ديكارت مسيرة علم المعرفة الإنسي بجملته المعروفة : ( أنا أفكر إذاً أنا موجود ) . وبعد أن شكّ في كلّ ما يمكن الشكّ فيه ، شكّ في القضية التي لا يمكن الشك فيها ، وهي ( الأنا ) أو ( الذات ) ، ومنها انطلق إلى إثبات وجود الله ، بمعنى : بما إنّني موجود فإنّ الله موجود (5) .

النقطة الأخرى التي يجدر بنا أن ننتبه لها هي أن ديكارت ، في كتاب ( التأملات ) ، حيث ابتدع المنهج التحليلي البرهاني ، انشغل بنظام الاكتشاف وليس بنظام الوجود . في نظام الوجود ، الله هو المقدّم ... ديكارت في فلسفته الماورائية لم يبدأ بالأصل الوجودي المقدّم في نظام الوجود أي ( الله ) ، وإنّما بدا بالنفس المتناهية ... لقد بدأ من الإدراك الشهودي لوجود النفس ، وانطلق منها لإثبات معيار الحقيقة ، أي وجود الله ، ووجود العالم المادي . . .من الضروري أن نذكر أنّ المقصود من ( الشهود ) في فلسفة ديكارت الفاعلية العقلية المحضة والرؤية العقلية الواضحة والمتمايزة من دون أي شك (6) .

المعرفة ، في تفكير ديكارت ، بدلاً من ان تبدأ بقوس انحداري يبدأ من مبدأ الفيض ( الله ) ليصل إلى أشياء العالم المادي ، ليعود في مسيرته التصاعدية ليصل من جديد بصورة أكمل إلى شهود الحقّ ، بَدَأ أوّلا من النفس الإنسانية المتناهية ، ثمّ جهد بعد ذلك ليصل إلى المعرفة اللامتناهية ؛ ومعرفة الله الموجود بالضرورة ، هي الحجّة لإثبات وجود العالم المادي؛ وبما أنّ الله موجود وغير خادع ، وكلّ شيء يعتمد عليه ، إذا هنالك عالم مادي موجود تدركه نفس ( الأنا ) وفكرها ، ولو أنّ هنالك وسائل أخرى لإثبات وجود العالم المادي ، لما بقي من حاجة لوجود الله .

في مسيرة علم المعرفة الديكارتي ، يبدو أنّ الفاعل هو قوّة تفكير الإنسان ، والغاية أيضا هي قوة إدراكه ، والله هو الذي هيأ الوسائل فقط . وبتعبير آخر : الإنسان هو الهدف الفاعلي والهدف الغائي ، وقد اختص الله نفسه بخلق علّة الاستعداد للمعرفة والاطلاع لدى الإنسان .
 

في مقدمة كتابه : ( تأمّلات في الفلسفة الأولى ) ، يقول ديكارت موجها كلامه إلى رؤساء كلية الإلهيات في باريس : ( لقد كنت اعتقد دائماً أنّ القضيتين المتعلّقتين بالله وبالنفس في مقدمة القضايا التي يجب أن يُعتمد على الأدلة الفلسفية لا الكلامية لإثباتها ؛ لأنّه على الرغم من أنّه كاف بالنسبة إلينا ، نحن المؤمنين ، أن نصدق من طريق الإيمان بأن الله موجود ، وأنّ الروح لا تفنى بفناء الجسد ، ولكنّني واثق بأنّه من غير الممكن أن يؤمن الملحدون بواقعية أي دين ، وحتى بأي فضيلة أخلاقية ، ما لم نثبت لهم أوّلاً هذين الأمرين بالعقل الفطري ) (7) .
 

ولكن يبدو أنّه ، على الرغم من جهوده النزيهة ، قد أخطأ في طرقه الاستدلالية ، لأنّ براهينه قبل أن تثبت وجود عالم الروح والمعنى ، انجرت إلى إثبات عالم المادة والجسم . وبعبارة أخرى ، حين تعتمد ( أنا ) الإنسان مبدأ للمعرفة ( في حال فقدت اتّصالها بكلّ ما هو فوق قوّة فهمها المحدودة ) ، سيكون في النهاية عالم المادة المتناهي مصدراً للمعرفة ، طبقا لقاعدة سنخيّة العلة والمعلول (عوضا من الله وخلود الروح التي هي أمور لا متناهية) .

النقطة الأخرى ، هي أنّ ديكارت وصل في فلسفته إلى معضلة ( الثنائية ) ، هنا يجب القول : إنّنا حين نعد الموجود المتفكّر متميّزاً كلّيا عن البدن ، حينئذٍ سيكون جوهراً ذهنياً ، وسيفكّر على هذا النحو حتى إن لم ينوجد في العالم جسم ( كان جسمه أو أي جسم آخر ) .

الآن ، من أين سيأتي هذا الذهن بأفكاره ؟ الجواب واضح كلياً : من نفسه ، ومن نفسه فقط . فالذهن لديه هذا الاستعداد الطبيعي لأن يجد في ذاته بوساطة الشهود المباشر ، المفاهيم التي تدلّ على ذوات حقيقية أزلية وثابتة لا تتغيّر ؛ كالذهن نفسه ، والله ، والجسم ( أي الامتداد المحض ) ، المثلث وغيرها . . في المجموعة الأولى من المفاهيم يمكننا العثور بسهولة على أوصاف مفاهيم ( سانت أوغسطين ) الإلهية ، ولكنّ مفاهيم سانت أوغسطين تسطع على سطح الذهن ، في حين أن ديكارت يعدّها الآن موجودة في داخل الذهن نفسه (8) .

لقد كان ديكارت ، في الواقع ، باعث توسع فكرة ( أصالة المادة ) طوال القرن السابع عشر ، وليس فولتير ( فكيف ب ـ : لوك ) ، لأنّ ديكارت أخذ في عهدته المهمّة الصعبة ، وهي إثبات تجرّد النفس بوساطة المنهج الرياضي ، ولينجز العمل كاملاً ، بدأ من أنّ النفس التي كانت تعدّ صورة البدن بحسب الفلسفة المدرسية (9) جعلها هو الروح المفارقة للبدن ، وهنا ، حين تموت هذه الروح ، يبقى بدن لا روح فيه ولا نفس ، صحيح أن البدن ليس أكثر من آلة ، وديكارت نفسه كان يقول مثل هذا ، ولكنّه لم يتوقّع أن تفقد هذه الآلة الإنسانية روحها في يوم من الأيام ، سيطلب إليها ـ وهي كذلك ـ أن تنتج الفكر . هذا أنموذج من النتائج غير المتوقّعة ، وفي الوقت نفسه التي لا يمكن تلافيها ـ من منهج ديكارت الرياضي ، إذا كنتم تريدون تجزيء واقعة مشخصة عينية ـ مع الأخذ في الاعتبار مفاهيمها المتمايزة ـ إلى أشياء متعدّدة منفصلة عن بعضها ، فان الجوهر الإنساني الواحد ، يتجزأ إلى جوهرين متمايزين واقعياً باسم النفس والبدن . لنفترض الآن إنّكم لم تتمكّنوا من إثبات وجود مثل هذه الروح المفارقة بالبرهان الرياضي ، وهذا معناه أنّ إثباتها بأي طريقة أخرى ليس ممكناً ، ليس لديكم الحقّ بأن تتمسّكوا بما يصيب البدن لإثبات وجود الروح ، لأنّكم بهذا المنهج يمكن أن تثبتوا وجود النفس بوصفها صورة فقط لمادة البدن ، وليس وجود الروح المفارقة ، لأنّ وجود الروح لا يمكن أن يثبت بالمنهج الرياضي ولا بالطريقة التجريبية ، وإنّما النتيجة البديهية لهاتين الطريقتين أنّ الروح غير موجودة (10) .

لقد كانت الثنائية الديكارتية النتيجة الحتمية التي لا يمكن تجنبها لمباني علمه المعرفي ، لأنّه بحسب علم المعرفة الديكارتية ، حين تعرف ( الأنا ) يقطع اتصالها كلياً ( بما فوق ) الأمور الماورائية . إنّ انفصال النفس الإنسانية المفكّرة عن الروح المفارقة يؤدّي في النهاية إلى ثنائية الجسم والروح ، إلى حدّ أنّ ديكارت لم يجد أيّ حل لمشكلة علاقة المادة والمعنى . وعلى الرغم من استعانته بالرياضيات ، لإيجاد براهين تدلّ على أصالة الروح ، لم يستطع إثبات الروح المجرّدة ، التي قطع علاقتها بالنفس الإنسانية في بداية نظريته المعرفية ، إنّما اثبت فقط تلك النفس التي هي صورة البدن .

فمن ناحية معينة ، حتى إذا أخذنا في الاعتبار جوهر ديكارت الذهني مستقلاً استقلالاً كاملاً ولا علاقة له بالجسم ـ لأنّه بناءً على نظريته ، جميع أفكار هذا الجوهر الذهني وتصوراته تنبع من النفس الآدمية ، وليس للمجرّدات فوق المادية دور في إفاضة تلك الصور ـ فان هذا الأمر لن يؤدي إلى إثبات أصالة الروح ، وإنّما سينتهي بالضبط إلى عكس ما هدف إليه ديكارت ، ( الذي كان يريد أن يثبت وجود الله وخلود الروح ) ، أي إلى أصالة المادة في تفكير ( لامتري ) ، أي من قلب البحث عن الروح الديكارتي خرج تفكير لامتري المادي ، لأن أفكار ديكارت ، كانت صادرة عن نفس الإنسان المتناهية والمحدودة ، وخرجت من قلب ( الأنا ) كفاعل معرفي . في النتيجة ، وصل زمان وجد فيه الجسم أصالة ـ تبعاً لقطع الارتباط بين الروح والمادة ـ ( حتى وإن تشكّل من منظور إثبات الروح ) ، لأنّ لأصالة الروح الديكارتية جذوراً في النفس البشرية المتناهية كما أنّ للنفس الآدمية المتناهية جذوراً في التصوّرات والأفكار المنبعثة من ذات الإنسان المتناهية . بناء على ذلك ، فإنّ نظرية المعرفة الديكارتية هي التي أوصلت إلى أصالة الجسم والمادة في الفكر المادي ، إلى حدّ أنّه يظهر عياناً في فكر ماركس ، أنّ ظاهرة التفكير ناشئة أيضاً عن الجسم والمادة ، وقد فقدت النفس والروح القيمة والمنزلة اللتين كانتا لهما في فكر ديكارت ، وقد جاء هذا الأمر نتيجة حتمية للاعتماد على النفس الإنسانية المتناهية ، كفاعل معرفي في فكر ديكارت . من ناحية أخرى ، بناء على عقيدة ( جيلسون ) لا يمكن الاستفادة مطلقاً ،لإثبات وجود الروح ، من منهج ديكارت الرياضي ، أو المنهج التجريبي للتجريبيين ، لأنّه ليس للتعقّل المحض في الرياضيات القدرة على الإحاطة بالروح المفارقة ، وليس للمشاهدة والتجربة والخطأ في العلوم التجريبية مثل هذه القدرة ، وكل من العقل أو التجربة يثبت ما هو واقع تحت مجموعاته فقط ، وليس قادرا على أثبات أمور تقع خارج تخومه .

هكذا ، فإنّ الله الذي تثبت وجوده فلسفة ديكارت ، هو بناء على مقولة جيلسون إله مفهومي المفهوم ، مناسب لرفع النقص عن فلسفة ديكارت وليس إلهاً مصداقاً من المصداق ، يمكن أن يعبد ؛ لأنّ ذهن الإنسان إذا كان قائماً بنفسه بشكل من الأشكال ، فإنّه يصبح فاعلاً معرفياً ، وإله خلقه ذهن الإنسان ، لا يمكن أن يكون أكثر من مفهوم قابع في الذهن . وهكذا تصبح ( الأنا ) بعد ديكارت هي الموضوع المعرفي المتقوّم بذاته Sulaject ، وكلّ شيء آخر ، هو متعلّق ( الأنا ) المعرفي Object ، ( الأنا ) موجود وكلّ العالم أيضاً .

في الواقع الذهن التصديقي الذاتي Subjectiveity غير الموضوعي ، هو على نحو ما من وضع الإنسية الديكارتية ، أي أنّ الإنسان هو محور العالم . لم يكن لهذا الذهن التصديقي الذاتي سابقة قبل ديكارت ، ولم يكن البشر يعدون أنفسهم محور الأمور ، بناء على ذلك يمكن عد ديكارت مؤسّس هذه الرؤية .

2 ـ باروخ إسبينوزا (1632 ـ 1677) :

إسبينوزا شخصية أخرى من الشخصيات المشهورة في تاريخ الفلسفة الإنسانية الإنسية ، سنعمد في هذا القسم من البحث إلى تحقيق مباني علمه المعرفي وتحليلها .

لم يأخذ إسبينوزا من فلسفة ديكارت سوى أن وجود الله هو الضامن اليقيني للعلم ، وكذلك القول بالتمايز الذي تقول به هذه الفلسفة بين الفهم والإرادة . في رأي إسبينوزا الفكر الصحيح والسليم ـ كالأفكار الرياضية مثلاً ـ يحمل في ذاته يقينية وجوده . الفكر أو التصوّر تصديقي بنفسه ، وفيه تجد الإرادة اتصالا بموضوعها ، بإمكان الذهن أن يستدلّ على مسيرة الطبيعة وعلى تكوينها وأحداثها بوساطة خط متسلسل ، شريطة أن يتمكّن من الحصول على علل جميع الآثار ، كما يستطيع المهندس أن يصنع دائرة من علّة واضحة هي عبارة عن ( ذات ) الدائرة ، بوضوح كامل ...

لقد أثبتت الهندسة التحليلية أنّ نظم الأفكار والتصوّرات يمكن أن يكون مشابها لنظم التعبيرات الفضائية ، من هذا المنظار فإنّ معادل المنحني والمنحني نفسه هما وجود واحد ، لأنّهما يؤلّفان نظاماً واحداً ، بناء على ذلك إذا توصّل الذهن بالوساطة العلّية ـ التي لها الأولوية بصورة مطلقة ، أو بعبارة أخرى ، علّة جميع الآثار ـ أن يدرك اتصالات العلل والمعلولات ، سنرى أنّ سلاسل العلية هذه في تلك الوحدة تشمل تصوّر الفريقين وموجوداتهما الخارجية ، وما من أمر يمكن إدراكه أو الإحساس به يتقدّم ويرتقي خارج هذا الميدان .

إنّ الفكر في حركة الوحدة التي لها ضرورة منطقية ، وفي وحدتها التي تحمل عمل التعقل والإرادة ، يحتاج إلى عالمي المادة والروح كليهما .

الجوهر ، والدليل ، والعلّة التي لها من الناحية المطلقة الأولوية بذاتها ولذاتها ، سمّاها إسبينوزا ( الجوهر ) . هذا الجوهر يوضح كلاً من الفكر وامتداداته ، ويرى فيه العقل البشري الله وجوداً لا متناهيا بالمطلق (11) .

وهكذا يتبيّن ، من آراء إسبينوزا ، في مباني علمه المعرفي ، أنّه لم يعد هنالك من حاجة إلى الإله الذي كان في فلسفة ديكارت العلّة المعدّة للعلم وللمعرفة ، بمعنى أن إسبينوزا كان يعتقد كذلك بقدرات الإنسان واستقلاليته في المعرفة ، حتى دور الله كعلة إعدادية ( التي كانت في فلسفة ديكارت موجب اليقين بواقعية العالم المادي ) لا يعدّه ضرورياً ، لقد قال بقوّة الفكر الإنساني إلى حدّ أن بإمكانه الإحاطة بجميع الأمور (حتى الأمور التي لا نهاية لها ) ، حتى أنّ الفكر البشري بدلا من أن يكون تحت تأثير مجموعة من العوالم ، صار عالم الوجود نفسه خاضعاً لمجموعة من الأفكار الإنسانية .

كان إسبينوزا يقول بقدرة الفكر على تكوين مسيرة الطبيعة وأحداثها ، وأنّ الفكر الإنساني قادر بحصوله على العلّة ، أن يشرف أيضا على المعلولات ، وبالحصول على الجوهر الواحد يمكن أن يدرك الاثنين التاليين له ( أحدهما التصوّرات الذهنية والآخر الموجودات الخارجية ) . لقد سعى إسبينوزا بطرحه لفكرة ( الجوهر الواحد ) أن يحلّ مشكلة انفصال المادة والروح في فلسفة ديكارت ، لأن جوهر إسبينوزا الواحد يمكن أن يكون نقطة البداية للمادة وللفكر ، وفي اعتقاده أنّ العقل البشري قادر حتى في اتصال الفكر بالمادة الذي هو الجوهر نفسه أن يرى الله وجوداً مطلقاً لا نهائياً ، لقد كان مخالفاً للفكر الديني ، وكان يعتقد بالتوحيد العقلاني الصرف ، كان التفكير الديني يخفض فعالية الذهن البشري ، ويجرد وراءه الذهن الانفعالي .

إنّ ركيزة علم المعرفة ، لدى إسبينوزا ، تكمن أيضا في قدرة العقل البشري الموازي للعقل الإلهي . ويرى أنّ التأثر بالتعاليم الدينية مناقض للتوحيد العقلاني ، كان عنصر الوحي بهذا المعنى يخدش استقلالية العقل الآدمي ، ويجب في رأيه عوضاً من التوحيد المنبثق من الدين التفكير بتوحيد عقلاني ، بحيث يجب القول : أنّه إذا كان في نظر إسبينوزا ( شرط حصول الإنسان على الفكر ، وامتداد ذلك الحصول إلى علّتهما أي إلى الجوهر الواحد ) ، فما هي طرق الوصول إلى هذه العلّة وهذا الجوهر الواحد ؟

يبدو ، هنا ، نوع من الخلط بين مجالي المفهوم والمصداق ، يجب طرح السؤال الآتي : هل هذا الجوهر الواحد هو مفهوم العلّة الصرف أو هو مصداق العلة ؟ إذا كان مثل إله الفلسفة الديكارتية هو المفهوم نفسه ، لربّما أمكن تصوّر المفهوم اللامتناهي في الذهن ، الذي هو طبعاً تلك العلة الذهنية مخلوقة الذهن . أمّا إذا كان الله في فلسفة إسبينوزا قد طرح مصداقاً ووجوداً حقيقياً ، فكيف يمكن هكذا للذهن وللعقل المتناهيين ، أن يحيطا بما هو متعيّن في الخارج بوصفه وجوداً لا متناهيا ؟

يبدو أنّه حتى توحيد إسبينوزا العقلاني ، والحصول على العلّة التي تضم الاثنين التاليين في فلسفته : الفكر وامتداداته ،غير ممكن من دون قبول تصوّر الله وكمال الإفاضة من جانب ( الله ) خالقه ، وليس ( الله ) مخلوق الذهن ، أي يجب معرفة العلّة ، التي أفاضها الله من ذاته على الذهن بوصفه موجوداً حقيقياً لا متناهياً ( لازم هذا الأمر أخذ المدد من الوحي ) ليتمكّن بتصوّر العلّة أن يشرف على معلولاتها ، ومثل هذا الأمر لا يأتي من إله مفهومي من خلق الذهن .

المتعالي ، في فكر إسبينوزا ، هو في الأصل فكر الإنسان وعقله ، بحيث إنّ عقل الإنسان محيط والله المعادل للطبيعة محاط في عقل الإنسان ، والنفس والبدن في رأيه شأنان أو حالتان متناهيتان لصفتين من صفات الجوهر الإلهي ، وهذا الأمر معناه تساويهما مع الله ، وهو نفسه المذهب القائل ( كل شيء هو الله ) (12) ، أو وحدة الوجود في فكر إسبينوزا تختلف اختلافا جذريا عن ذلك المعنى العرفاني لوحدة الوجود القائل : أنّ العالم كلّه ـ وضمناً الطبيعة ـ هو تجلّ لله ، لأنّ إله العارفين محيط بعالم الوجود كلّه ، ومن ضمنه الطبيعة ، في حين أنّ إله إسبينوزا محدود في عالم الطبيعة .

يمكن الوثوق ، أصولاً ، في تفكير إسبينوزا بالأشياء الجزئية قبل المفاهيم الكلّية ، كما أنّه لا مجال لحضور الكليات في الأشياء ، بحيث أنّ هذه الصور تظهر في الأفراد المختلفين بصورة مختلفة ، وما يسمّيه إسبينوزا ( المفاهيم الكلّية ) ، يختلف من فرد إلى آخر ، ومن هذه الوجهة ، لا شكّ في أنّ المعرفة التي يعبر عنها بهذه ( المفاهيم الكلّية ) معرفة مضطربة (13) .

إذا اعتمد ـ بناء على نظرية إسبينوزا ـ العقل الآدمي وحده ميزان العلم والمعرفة ، معنى ذلك أنّ المعرفة تختلف بحسب تعداد بني آدم ، لذلك ، حتى أنّ اعتقدنا بالجوهر الواحد علّة ومبدأً ، فإنّ هذا الجوهر الفرد الذي خلقه ذهن الإنسان ، لكثرة بني آدم وكثرة المعارف ، سيبتلى بالكثرة ، ولن يبقى بعدئذ جوهراً فرداً ، ليتمكّن من متابعة مقصد واحد ، وسيضطر للانجرار إلى اللا هدف ؛ لأنّه باختلاف المعرفة بالنسبة إلى العلّة الفاعلية ، لا يمكن الوصول إلى الوحدة في الهدف إلى العلة الغائية ، وهنا ، حين يفقد الهدف فان الحسن والقبح يصبحان بلا معنى ، ويصبح الأمر نسبياً ومرتبطاً بمخيلة الأفراد .

3 ـ عمانوئيل كانط (1724 ـ 1804) :

القسم الثاني = يتبع

ـــــــــــــــــــــــــ
 

* تنسيق وتقويم قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام ) ، وأصل المقالة منقول عن : مجلة المنهاج ، العدد 26 .

 1 ـ جاء في الأساطير اليونانية : أنّ ( بروميثيوس ) قام بخلق الإنسان ، ومنحه التكلّم بقدرته وعلمه القراءة والكتابة .

2 ـ .Encyclopedia of philosophy, paul.v. u. p.67.7 edivardo

3 ـ Ency-dopedia snitamca u.6.p. 138

4 ـ See Encyclopedia of . pow IEdwondo .72 . philosophy

5 ـ انظر : ديكارت ، رينيه ، تأملات في الفلسفة الأولى ،  (بالفارسية) ترجمة أحمد حمدي ، التأملات الأول والثاني ‌والثالث .  

6- .See . A History of philosophy. u. a. p. 68-78 fuderik charlo coplestor

7 ـ رينيه ديكارت التأملات ، م .س ، ص 16 .  

8 ـ جيلسون ، أمين ، نقد الفكر الفلسفي الغربي (بالفارسية) ، ترجمة أحمد احمدي ، سردار حكمت للنشر 1373هـ .ش‌1994م ،  ص 158 .

9 ـ إشارة إلى كيفية فهم النفس الإنسانية في القرون الوسط‌ى .

 10 ـ نقد الفكر الفلسفي في الغرب ، ص 167و168 .

 11 ـ ووكاسة ، بيير ، الفلسفات الكبرى (بالفارسية) ، ترجمة احمد  آرام ، طهران ، 1348ه .ش . 1969 ، ص 899

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

سيروا في الارض
تحرم البحث و المناظرة مع الشیعة
في القدم والحدوث وأقسامهما
قالوا حسبنا كتاب الله ولم يستشهدوا بكتاب الله
العدل
عقيدتنا في البعث والمعاد
كيف نفهم القدر؟!
البدعة الحسنة والسيئة
موقف ابن تيمية من حديث خلق الله آدم على صورته ق(6)
الاَحاديث الواردة في بيان أهمية التقية :

 
user comment