(ان الذين يكتمون ما آنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب اولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون )
( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على مافي قلبه وهو ألد الخصام. واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد).
هذا ما القاه علينا استاذنا الاكبر، وشيخنا الاعظم، حجة الاسلام، آية الله في الانام، علامة الدهر، مولانا الشيخ محمد حسين دامت بركاته في شأن الوهابية، واستفتاء علماء المدينة المتضمن تهديم القبور وغير ذلك في عدة مجالس ضممنا بعضها الى بعض وجلوناها مجموعة عليك .
قال دامت ايام إفاداته: وقفنا من جريدة العراق في العدد الموافق منها 13 ذي القعدة سنة 1344 على سؤال قاضي الوهابيين ابن بليهد مستفتياً علماء المدينة عن البناء على القبور، واتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها وما يفعل عند الضرائح، من التمسح والتقرب إليها بالذبائح والنذور، وتقبيلها وعن التكبير والترحيم والتسليم في اوقات مخصوصة ...
هذا ملخص السؤال وكان الجواب من علماء المدينة بالمنع مطلقاً ووجوب الهدم، مستدلين على المنع في بعضها، ومرسلين الفتوى بغير دليل في الباقي.
وقد رغب إلينا الكثير من الاعلام والافاضل في إبداء ملاحظتنا على تلك الفتوى ، ووضعها في معيار الاختبار وميزان الصحة والسقم، وعرضها على محك النقد، ومطرقة القبول أو الرد ايضاحاً للحقيقة وطلباً للصواب، كي لا تعرض الاوهام والشكوك وتعلق الشبهة باذهان البسطاء من المسلمين، فإن البلية عامة، والمصيبة شاملة، والرزية على الجميع عظيمة ؛ وعليه فنذكر نص الفتوى جملة جملة حسبما ذكر في تلك الجريدة، ثم نعقب كل جملة منها بما يحق لها من البيان، وبالله المستعان .
قالوا في الجواب: اما البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً لصحة الاحاديث الواردة في منعه، وبهذا افتى كثير من العلماء بوجوب هدمه، مستندين على ذلك بحديث علي ـ رضي الله عنه ـ انه قال لابن الهياج: « الا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ الاادع تمثالاً الاطمسته، ولا قبراً مشرفاً الا سويته » (1) رواه مسلم. انتهى .
فتراهم قد تمسكوا تارة بالإجماع، واخرى بالحديث، او بالاجماع المستند الى الحديث .
اما دعوى الاجماع فهي مدحوضة مرفوضة ولكن لاتتسع اعمدة الصحف والمجلات لنقل كلمات العلماء في جوازه، بل رجحانه، وفساد توهم الاجماع وبطلانه من اول الاسلام والى هذه الايام، واي حاجة بك الى ان اسرد لك او املي عليك ما يوجب الملل ( قال فلان وقال فلان )، وهذا عمل المسلمين وسيرتهم القطعية في جميع الاقطار والامصار ملء المسامع والابصار، على اختلاف طبقاتهم وتباين نزعاتهم، من بدء الاسلام إلى هذه الغاية من العلماء وغيرهم، من الشيعة والسنة وغيرهم، وأي بلاد من بلاد الاسلام من مصر أو سوريا أو العراق أو الحجاز وهلم جراً ليس لها جبانة شاسعة الاطراف واسعة الاكناف، وفيها القبور المشيدة والضرائح المنجدة؟!
وهؤلاء أئمة المذاهب: الشافعي في مصر، وأبو حنيفة في بغداد، ومالك بالمدينة وتلك قبورهم من عصرهم الى اليوم سامقة المباني شاهقة القباب، وأحمد بن حنبل مباءة الوهابية ومرجعهم في الفروع كان له قبر مشيد في بغداد جرفه شط دجلة حتى قيل: «أطبق البحر على البحر». وكل تلك القبور قد شيدت وبنيت في الازمنة التي كانت حافلة بالعلماء وأرباب الفتوى وزعماء المذاهب، فما أنكر منهم ناكر، بل كل منهم محبذ وشاكر.
وليس هذا من خواص الاسلام، بل هو من جار في جميع الملل والاديان، من اليهود والنصارى وغيرهم، بل هو لعمر الحق من غرائز البشر ومقتضيات الحضارة والعمران وشارات التمدن والرقي، والدين القويم المتكفل بسعادة الدارين إذا كان لايؤكده ويحكمه فما هو بالذي ينقضه ويهدمه، وإذا كان كل هذا لايكفي شاهداً قاطعاً ودليلاً بيناً على فساد دعوى الاجماع فخير أن تكسر الاقلام ويبطل الحجاج والخصام ولا يقول على شيء دليل ولابينة ولاحجة ولابرهان: هذا حال الاجماع.
وليس يصح في الاذهان شيء إذا احتاج النهار الى دليل
اما حديث مسلم: « لا تدع تمثالاً الا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته » فها هي نسخة من صحيح مسلم بين يدي ، طبع بولاق القديمة سنة 1290، وقد روى الحديث المزبور صفحة 256 ج 1 في باب الامر بتسوية القبر، ولكن بعد هذا بقليل صفحة 265 قال: ( باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها ) وروى فيه بسنده الى عائشة: ان النبي كان يخرج الى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين (2) الى الآخر في حديثين طويلين .
وروى بعدهما بسنده الى سليمان بن بريدة عن ابيه، قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يعلمهم اذا خرجوا الى المقابر فكان قائلهم يقول في رواية ابي بكر: السلام على اهل الديار (3). وفي رواية زهير: السلام عليكم اهل الديار من المؤمنين والمسلمين والمسلمات وانا ان شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العاقبة (4).
ثم بعد ان فرغ من هذا الباب قال تلوه: « باب استئذان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ربه عز وجل في زيارة قبر امه» ، وروى فيه اربعة احاديث صريحة في الامر بزيارة القبور:
أولها: بسنده الى ابي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: استاذنت ربي ان أستغفر لامي فلم يأذن لي، واستأذنته ان أزور قبرها فأذن لي (5).
ثانيها: بسند آخر الى ابي هريرة، قال: زار النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قبر امه فبكى وابكى من حوله فقال: استاذنت ربي ان استغفر لها فلم يأذن لي واساذنته ان ازور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت(6).
ثالثها: بسنده عن ابن بريدة، عن ابيه، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الاضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا (7) لكم، الى آخر الحديث .
رابعها: بسند آخر بالمعنى المتقدم أيضاً (8).
______________________
الهوامش:
(1) صحيح مسلم 2/ 666 باب 31 ح 93، مسند احمد 1/ 96 و 129، سنن النسائي 4/ 88 وفيه : ولاصورة في بيت الا طمستها، سنن ابي داود 3/ 215ح 3218، الجامع الصحيح للترمذي 3/ 366 باب 56ح 1041.
(2 صحيح مسلم 2 / 669 باب 35 ح 102 و 103 .
(3) صحيح مسلم 2/ 671 باب 35 ح 104.
(4) صحيح مسلم 2/ 671 باب 35 ح 104.
(5) صحيح مسلم 2/ 671 باب 35 ح 105.
(6) صحيح مسلم 2/ 671 باب 35 ح 105.
(7) صحيح مسلم 2/ 671 باب 36 ح 106.
(8) صحيح مسلم 2/ 671 باب 36 ح 106.