• مَن أراد النقد، عليه أوّلاً بالسؤال والمطالعة والمراجعة والتحقيق، وأن يفهم ما قيل ويتفهّم المعاني والمقاصد، وإلاّ زلّ وأخطأ وخطّأ وأوهم الآخرين، وربّما وقع في أعظم المعضلات، وهي الردّ على الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله وآل رسوله صلّى الله عليه وعليهم، فكان موقفه يوم القيامة أشدَّ المواقف وأصعبها وأحرجها وأخزاها!
وفيما يخصّ عبارة «دَيّان الدِّين» ورَدَ السؤال: هل يجوز إطلاقها على غير الله جلّ وعلا ؟ وهنا يلزمنا ابتداءً أن نتعرّف على معنى هاتين الكلمتين:
يقول أهل اللغة: لِلدِّين معانٍ عديدةٍ ومتقاربة، منها: الجزاء، القضاء، الحساب، الحُكم.. و: دانَ اللهُ العبادَ يَدِينُهم يومَ القيامة، أي يَجْزِيهم، وهو عزّوجلّ دَيّان الدِّين وديّان العباد، أي: هو القهّار، والقاضي، والحاكم والمحاسِب، والمُجازي الذي لا يُضيِّع عملَ عاملٍ مِن ذكرٍ أو أُنثى، بل يجزي بالخير والشرّ. ( يراجع في ذلك على سبيل المثال: كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي 83:8، القاموس المحيط للفيروزآبادي 215:4، المحيط في اللغة للصاحب بن عبّاد 360:9، لسان العرب لابن منظور 116:13.. باب دَيَنَ).
والدَّيّان: اسمٌ مِن أسماء الله تبارك وتعالى، على وزن (فَعّال) مِن أوزان المبالغة، مثل: الجبّار، والقهّار، والستّار. وقد سمح الله جلّ وعلا لبعض عباده أن يُسَمَّوا ببعض الأسماء، فتشترك ـ طبعاً مع الفارق العظيم بل الفوارق العديدة ـ بين المعبود وعبده، والخالق ومخلوقه، فالله جلّ جلاله: كريمٌ، مالكٌ، حميدٌ، رؤوف.. والعبد قد يحظى بمِثل هذه الصفات فتُطلق عليه، فيقال: محمّدٌ كريم، وعليٌّ مالك لهذه الأرض ـ مثلاً ـ أي بالمِلك الاعتباريّ التخويليّ، وأمّا المالك الحقيقيّ والمملِّك عبادَه ما يشاء فهو الله القائل في محكم تنزيله الحكيم: «قُلِ اللّهمَّ مالِكَ المُلْكِ تُؤْتي المُلْكَ مَن تَشاءُ وتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشاءُ وتُعِزُّ مَن تَشاءُ وتُذِل مَن تَشاءُ بِيدِكَ الخيرُ إنّك على كُلِّ شَيْءٍ قدير»[ سورة آل عمران:26 ].
كذلك (الديّان) صفة مشتركة بين الله تعالى ورسوله الأكرم وخلفاء رسوله وأوصيائه، ومن هنا نقل ابن الأثير ـ وهو من مشاهير علماء السنّة ـ أنّ أعشى بني مازن خاطب النبيَّ صلَّى الله عليه وآله بقصيدةٍ جاء فيها قوله:
يا سيّدَ الناسِ ودَيّانَ العَرَبْ
أي مَن دان له الناس وخضعوا وأطاعوا. ثمّ قال ابن الأثير بعد ذلك:
وفي الحديث: « كان عليٌّ دَيّانَ هذه الأمّة » ( النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 148:2 ـ باب دَيَنَ ).
ولأنّ الله عزّ شأنه ـ كما في الحديث الشريف ـ أبى أن يُجريَ الأمورَ إلاّ بأسبابها، فقد فوّض سنن الحياة وشؤون الخَلق إلى أسباب، منها ما أوكلها إلى الملائكة، فالله تعالى يقول: «اللهُ يَتوفَّى الأَنفُسَ حينَ مَوتِها» [ سورة الزمر: 42 ]، وهو عزّوجلّ قد وَكّل مَلكَ الموت في إنجاز ذلك فيقبض الأرواح حين تستحكم الآجال، ولا تَعارضَ في ذلك أبداً، فالمشيئة في جميع الأمور هي المشيئة الإلهيّة وحسب، والآية واضحة المعنى في قوله تعالى: «وما تَشاؤون إلاّ أن يشاءَ اللهُ ربُّ العالَمين » [ سورة التكوير:29 ]، فكلُّ المجريات تمضي في وسائلها بأمرٍ من الله وقدرته، وحكمته وإرادته، ولكن بأسبابٍ منه وتفويضٍ وتخويل منه سبحانه وتعالى، إذ هو مُسبِّب الأسباب جلّ وعلا.
وقد أكرم اللهُ عزّوجلّ رسولَه المصطفى الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكذا أكرم آلَه الميامينَ الهداة صلوات الله وسلامه عليهم، أن جعلهم أسبابه في محاسبة الناس يوم القيامة ومجازاتِهم، في قضائه وحُكمه هناك يومَ العرض الأكبر على الله تعالى، فَهُمُ الميزان الأعظم، ومن هنا اشتهر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قوله: «عليٌّ قسيمُ الجنّة والنار» (يراجع ـ على سبيل المثال ـ من كتب علماء أهل السنة: الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي 64:3 / ح 4180، كنوز الحقائق للمناوي الشافعي: 98، ينابيع المودّة لذوي القربى للشيخ سليمان القندوزي الحنفي 78:2 ـ الباب 56 / ح 79، كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب للگنجي الشافعي:72 ـ الباب الثالث).
فلا تضادّ ولا تناقض أبداً ولا تعارض، أن يكون الله عزّ شأنه دَيّانَ الدين، وهو الآمر والحاكم والناصب والمسبّب والمفوِّض والمخوّل، وأن يكون النبيُّ وآله عليهم أزكى صلوات الله دَيّانِي الدِّين أيضًا، بأمرٍ من الله تعالى وتمكينٍ وتفويض؛ إكراماً لمقامهم وشأنهم. فنقرأ في دعاء الافتتاح المرويّ عن الإمام الحجّة المهديّ المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف: «الحمدُ للهِ مالكِ المُلك، مُجْري الفُلْك، مُسَخِّرِ الرياح، فالقِ الإصباح، دَيّانِ الدِّين، ربِّ العالمين» ( إقبال الأعمال للسيّد ابن طاووس:317 ـ طبعة مؤسّسة التاريخ العربي، بيروت، مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي:403 ـ طبعة مؤسسة الأعلمي ـ بيروت، البلد الأمين للكفعمي:272 ـ طبعة مؤسّسة الأعلمي ـ بيروت )، ثمّ نقرأ في إحدى زياراتنا للإمام الرؤوف، والمولى العطوف، عليّ بن موسى الرضا صلوات الله عليه: «اَللّهمَّ صَلِّ على أميرِالمؤمنين عليِّ بنِ أبي طالبٍ عبدِك، وأخي رسولِك، الذي انتجَبْتَه بِعِلمِك، وجعلتَه هادياً لِمَن شئتَ مِن خَلقِك، والدليلَ على مَن بعَثْتَه بِرسالاتِك، ودَيّانَ الدِّين بِعدلِك..».
وقد روى هذه الزيارة الشريفة علماء أجلاّء في كتبٍ معتبرة، منها: كامل الزيارات لابن قُولويه:515 / الرقم 801 ـ الباب 102 / ح 2، مَن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق 603:2 / ح 3210، وكذا في: عيون أخبار الرضا عليه السلام 268:2 ـ الباب 68، عنه: بحار الأنوار للشيخ المجلسي 45:102 / ح 1، وعنهم رواها المحدّث الشيخ عبّاس القمّي في كتابه ( مفاتيح الجنان ـ الفصل التاسع: في فضل زيارة الإنس والجن المدفون بأرض الغربة، وكيفيّة زيارته عليه السلام ).. وكلّ أولئك أهل فضلٍ وعلمٍ وتبحّر وتقوى، فكيف يفوتهم مِثل هذا الأمر الذي حيّر العقول المحدودة التي لم تتطلّع على المعاني اللغويّة للعبارة، ولا المقاصد العقائدية في مخاطبة آل الله عليهم السلام.
كذلك نقرأ في كتاب الله العزيز: « إنَّ إلينا إيابَهُم * ثُمَّ إنَّ علينا حِسابَهُم ) [ سورة الغاشية:25، 26 ]، ونقرأ في الزيارة الجامعة الكبيرة في مخاطبة الأئمّة الميامين سلام الله عليهم أجمعين: «ومِيراث النبوّة عِندَكُم، وإيابُ الخَلْقِ إليكُم، وحسابُهم عليكُم ».
روى هذه الزيارة المباركة المؤكّدة ـ وهي أشمل زيارة في التعريف بالإمام والإمامة ـ الشيخ الصدوق في كتابه ( عيون أخبار الرضا عليه السلام 272:2 ـ 277 / ح 1 )، وكذلك الجويني الشافعي في كتابه ( فرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين ج 2 ).
وهذا من التفويض الإلهيّ المبارك إلى النبيّ وآله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم جميعاً، والتفويض إليهم هو من مسلَّمات عقائدنا، يوافقنا عليه أهل المعرفة والإنصاف ولو بأسلوبٍ آخر في أشخاصٍ آخَرين، ويُغالط في هذا الموضوع آخرون، والحمدلله ربّ العالمين، وأشرف الصلوات على المصطفى الهادي الأمين، وعلى آله الهداة الطيّبين.