وضّح الإمام (عليه السلام) حقيقة التآمر الفكري في بلبلة عقول المسلمين، وأعطى قاعدة كلية في الأساليب والممارسات التي يستخدمها أعداء الاسلام لتشويه الافكار والمفاهيم الاسلامية فقال (عليه السلام) : «إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام أحدها : الغلو، وثانيها : التقصير في أمرنا، وثالثها : التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم الى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، واذا سمعوا مثالب أعدائنا باسمائهم; ثلبونا باسمائنا ...»(1).
واتخذ الإمام (عليه السلام) عدّة أساليب في مجال الاصلاح الفكري وإليك إيضاحها:
أوّلاً : الرد على الانحرافات الفكرية.
قام الإمام (عليه السلام) بالرد على جميع ألوان الانحراف الفكري من أجل كسر الالفة بين المنحرفين وبينها، وكان يستهدف الافكار والاقوال تارة، كما يستهدف الواضعين لها والمتأثرين بها تارة اُخرى.
ففي ردّه على المشبّهة قال(عليه السلام) : «الهي بدت قدرتك ولم تبد واهية فجهلوك، وقدروك والتقدير على غير ما به وصفوك وإنّي بريء يا الهي من الذين بالتشبيه طلبوك ليس كمثلك شيء»(2).
وفي ردّه على المجبرة والمفوضة قال (عليه السلام) : «من زعم انّ الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها، فقد قال بالجبر، ومن زعم أنّ الله عزوجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام، فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك»(3).
وله ردود عديدة على الغلاة والمجسّمة وأصحاب التفسير بالرأي والقياس، كما ان له ردوداً على الفرق غير الاسلامية كالزنادقة واليهود والنصارى وغيرهم .
وفنّد الإمام (عليه السلام) جميع الروايات التي يعتمد عليها المنحرفون، ووضّح بطلان صدورها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأرشد المسلمين الى الروايات الصحيحة، ففي رده على الرواية المفتعلة والمنسوبة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتي جاء فيها: «إن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة جمعة الى السماء الدنيا»، قال (عليه السلام) : «لعن الله المحرّفين الكلم عن مواضعه، والله ما قال رسول الله كذلك، وانّما قال: انّ الله تعالى ينزل ملكاً الى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الاخير، وليلة الجمعة في أول الليل فيأمره فينادي هل من سائل فأعطيه، هل من تائب فاتوب عليه، هل من مستغفر فاغفر له ... حدثني بذلك أبي عن جدي عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) »(4) .
كما دعا الإمام الرضا (عليه السلام) الى مقاطعة المنحرفين كالمجبّرة والمفوّضة والغلاة مقاطعة كلية لمنع تأثيرهم في الاُمة، وأسند هذه الأوامر الى أجداده (عليهم السلام) تارة واليه ابتداءً تارة اُخرى .
قال (عليه السلام) : «حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد (عليهما السلام)، انه قال : من زعم انّ الله تعالى يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون، فلا تأكلوا ذبيحته، ولا تقبلوا شهادته، ولا تصلّوا ورائه، ولا تعطوه من الزكاة شيئاً»(5).
وقال (عليه السلام) عن مقاطعة الغلاة والمفوّضة: «الغلاة كفّار والمفوّضة مشركون، من جالسهم أو خالطهم أو واكلهم، أو شاربهم، أو واصلهم، أو زوّجهم، أو تزوّج منهم، أو آمنهم، أو ائتمنهم على أمانة أو صدّق حديثهم، أو أعانهم بشطر كلمة خرج من ولاية الله عزّوجل وولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وولايتنا أهل البيت»(6).
بل أمر بمقاطعة جميع أصناف الغلاة فقال (عليه السلام) : «لعن الله الغلاة الا كانوا يهوداً، الا كانوا مجوساً، الا كانوا نصارى، الا كانوا قدريّة، الا كانوا مرجئة، الا كانوا حرورية... لا تقاعدوهم ولا تصادقوهم، وابرؤوا منهم برئ الله منهم»(7).
وأمّا موقفه(عليه السلام) من الواقفة فيمكن تلخيصه بما يلي:
بعد أن استشهد الإمام الكاظم (عليه السلام) طالب الإمام الرضا (عليه السلام) جماعة من وكلائه بارسال المال الذي كان بحوزتهم اليه، ولكنهم طمعوا به، فأجابوه : إن أباك صلوات الله عليه لم يمت وهو حي قائم، ومن ذكر أنّه مات فهو مبطل(8).
واستطاع هؤلاء ان يستميلوا بعض الناس لترويج فكرة أنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) لم يمت وأنّه القائم المنتظر .
وكان دور الإمام (عليه السلام) هو إثبات موت أبيه في المرحلة الأولى من مواجهة هذه الأفكار الهدّامة .
واستمر في مواجهتهم بشتى الأساليب، وكانت الحكومة آنذاك تشجع مثل هذه الأفكار الهدّامة لتفتيت التآزر والتآلف بين اتباع أهل البيت (عليهم السلام). وما كان من الإمام (عليه السلام) إلاّ ان يعلن المواجهة مع الواقفة للقضاء عليهم، فقد لعنهم أمام أصحابه فقال (عليه السلام) : «لعنهم الله ما أشدّ كذبهم»(9).
وأمر بعدم مجالستهم تحجيماً لأفكارهم ومدّعياتهم، فقال لمحمد بن عاصم: «بلغني أنّك تجالس الواقفة ؟» قال : نعم، جعلت فداك اُجالسهم وأنا مخالف لهم، قال : «لا تجالسهم»(10).
وقال (عليه السلام) فيمن سأله عن الواقفة : «الواقف حائد عن الحق ومقيم على سيئة إن مات بها كانت جهنّم مأواه وبئس المصير»(11).
وأمر بمنع الزكاة عنهم فعن يونس بن يعقوب قال : قلت لابي الحسن الرضا (عليه السلام) اعطي هؤلاء الذين يزعمون إن أباك حيّ من الزكاة شيئاً ؟ قال : «لا تعطهم فانّهم كفار مشركون زنادقة»(12).
وبذلك استطاع تحجيم دورهم وايقاف حركتهم داخل كيان أنصار أهل البيت (عليهم السلام)، ولم تنتشر افكارهم الاّ عند أصحاب المطامع والأهواء.
ثانياً : نشر الافكار السليمة
ابتدأ الإمام (عليه السلام) بالرد على الافكار المنحرفة ثم أمر بمقاطعة واضعيها والقائلين بها والمتأثرين بها; لتطويقها في مهدها والحيلولة دون استشرائها في الواقع، ثم عمل على نشر الافكار السليمة لتتم المحاصرة من جميع الجوانب .
فكان (عليه السلام) يقوم بتفسير الآيات القرآنية التي تتناول اصول وقواعد العقيدة والشريعة، ويهتمّ بنشر الاحاديث الشريفة عن آبائه وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لكي تكون هي الحاكمة على أفكار وتصورات المسلمين .
وكان يستثمر جميع الفرص المتاحة لتبيان الفكر السليم والمفاهيم الشرعية الصحيحة .
ففي مجال التوحيد قال (عليه السلام) : «حسبنا شهادة أن لا اله الاّ الله أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، قيّوماً سميعاً بصيراً قوياً قائماً باقياً نوراً، عالماً لا يجهل، قادراً لا يعجز، غنياً لا يحتاج، عدلاً لا يجور، خلق كل شيء، ليس كمثله شيء، لا شبه له، ولا ضدّ، ولا ندّ، ولا كفو»(13).
وصنّف (عليه السلام) أصناف القائلين بالتوحيد فقال : «للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب : نفي وتشبيه وإثبات بغير تشبيه، فمذهب النفي لا يجوز، ومذهب التشبيه لا يجوز لأن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شيء، والسبيل في الطريقة الثالثة اثبات بلا تشبيه»(14).
وسئل (عليه السلام) : أيكلّف الله العباد ما لا يطيقون ؟ فقال : «هو أعدل من ذلك»، قيل له: فيستطيعون أن يفعلوا ما يريدون ؟ قال : «هم أعجز من ذلك»(15).
ونشر الأفكار الإسلامية يشكّل الركن الأساسي في الإصلاح الفكري لأنه يستبدل فكراً بفكر ورأياً برأي وتشريعاً بتشريع.
ثالثاً : إرجاع الأمة إلى العلماء
بعد توسّع القاعدة الشعبية لأهل البيت (عليهم السلام) وصعوبة الالتقاء بالإمام (عليه السلام) باستمرار، قام الإمام (عليه السلام) بارجاع الامة الى عدد من العلماء لأخذ معالم دينهم، فعن عبدالعزيز بن المهتدي قال : سألت الرضا، فقلت اني لا ألقاك في كل وقت فعن من آخذ معالم ديني ؟ قال : «خذ من يونس بن عبدالرحمن»(16).
وكان له أتباع من الفقهاء منتشرين في جميع الأمصار، يُرجع لهم أنصاره وسائر المسلمين لأخذ معالم الدين من عقائد وتشريعات وأحكام .
منهم : أحمد بن محمد البزنطي، ومحمد بن الفضل الكوفي، وعبدالله بن جندب البجلي، والحسين بن سعيد الاهوازي .
وكان يتابع حركة الرواة لكي لا يكذبوا عليه أو على آبائه، فكان يقول عن يونس مولى علي بن يقطين : «كذب ـ لعنه الله ـ على أبي»(17).
ــــــــــــــــ
(1) عيون أخبار الرضا : 1 / 304 .
(2) عيون أخبار الرضا : 1 / 117 .
(3) عيون أخبار الرضا : 1 / 124 .
(4) عيون أخبار الرضا : 1 / 126، 127 .
(5) عيون أخبار الرضا : 1 / 124 .
(6) عيون أخبار الرضا : 2 / 203 .
(7) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) : 2 / 202 .
(8) الغيبة للطوسي : 65 ح 67 وعنه في بحار الانوار : 48 / 253 .
(9) رجال الكشي : 458 ح 868 .
(10) رجال الكشي : 457 ح 864 .
(11) رجال الكشي : 455 ح 860 .
(12) رجال الكشي: 456 ح 862 .
(13) تحف العقول : 310 .
(14) بحار الانوار : 3 / 263 .
(15) الوافي بالوفيات : 22 / 249 .
(16) رجال الكشي: 483 ح 910 .
(17) بحار الانوار : 49 / 261 ـ 262 عن السرائر: 3/580 .