عربي
Thursday 2nd of May 2024
0
نفر 0

مناظرة الإمام الصادق(ع) مع زنديق في مسائل شتى -2

مناظرة الإمام الصادق(ع) مع زنديق في مسائل شتى -2

قال الزنديق : فما تقول في الملكين هاروت وماروت ؟ وما يقول الناس بأنهما يعلمان الناس السحر ؟

قال ( عليه السلام ) : إنهما موضع ابتلاء وموقع فتنة ، تسبيحهما : اليوم لو فعل الإنسان كذا وكذا لكان كذا وكذا ، ولو يعالج بكذا وكذا لكان كذا ، أصناف السحر ، فيتعلمون منهما ما يخرج عنهما ، فيقولان لهم : إنما نحن فتنة فلا تأخذوا عنا ما يضركم ولا ينفعكم .

قال الزنديق : أفيقدر الساحر أن يجعل الإنسان بسحره في صورة الكلب أو الحمار أو غير ذلك ؟

قال ( عليه السلام ) : هو أعجز من ذلك ، وأضعف من أن يغير خلق الله ، إن من أبطل ما ركبه الله وصوره وغيره فهو شريك الله في خلقه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، لو قدر الساحر على ما وصفت لدفع عن نفسه الهرم والآفة والأمراض ، ولنفى البياض عن رأسه والفقر عن ساحته ، وإن من أكبر السحر النميمة ، يفرق بها بين المتحابين ، ويجلب العداوة على المتصافيين ، ويسفك بها الدماء ، ويهدم بها الدور ، ويكشف بها الستور ، والنمام أشر من وطئ الأرض بقدم ، فأقرب أقاويل السحر من الصواب أنه بمنزلة الطب ، إن الساحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النساء ، فجاء الطبيب فعالجه بغير ذلك العلاج ، فابرئ .

قال الزنديق : فما بال ولد آدم فيهم شريف ووضيع ؟

قال ( عليه السلام ) : الشريف المطيع ، والوضيع العاصي .

قال الزنديق : أليس فيهم فاضل ومفضول ؟

قال ( عليه السلام ) : إنما يتفاضلون بالتقوى .

قال الزنديق : فتقول إن ولد آدم كلهم سواء في الأصل لا يتفاضلون إلا بالتقوى ؟

قال ( عليه السلام ) : نعم ، إني وجدت أصل الخلق التراب ، والأب آدم والأم حواء ، خلقهم إله واحد ، وهم عبيده ، إن الله عز وجل اختار من ولد آدم أناسا طهر ميلادهم ، وطيب أبدانهم ، وحفظهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، أخرج منهم الأنبياء والرسل ، فهم أزكى فروع آدم ، فعل ذلك لأمر استحقوه من الله عز وجل ، ولكن علم الله منهم – حين ذرأهم – أنهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئا ، فهؤلاء بالطاعة نالوا من الله الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده ، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب ، وسائر الناس سواء ، ألا من اتقى الله أكرمه ، ومن أطاعه أحبه ، ومن أحبه لم يعذبه بالنار ! !

قال الزنديق : فأخبرني عن الله عز وجل كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحدين وكان على ذلك قادرا ؟

قال ( عليه السلام ) : لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب ، لأن الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم يكن جنة ولا نار ، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته واحتج عليهم برسله وقطع عذرهم بكتبه ، ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون ويستوجبون بطاعتهم له الثواب وبمعصيتهم إياه العذاب .

قال الزنديق : فالعمل الصالح من العبد هو فعله ، والعمل الشر من العبد هو فعله ؟

قال ( عليه السلام ) : العمل الصالح من العبد بفعله والله به أمره ، والعمل الشر من العبد بفعله والله عنه نهاه . قال الزنديق : أليس فعله بالآلة التي ركبها فيه ؟

قال ( عليه السلام ) : نعم . ولكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر على الشر الذي نهاه عنه .

قال الزنديق : فإلى العبد من الأمر شئ ؟

قال ( عليه السلام ) : ما نهاه الله عن شئ إلا وقد علم أنه يطيق تركه ، ولا أمره بشئ إلا وقد علم أنه يستطيع فعله ، لأنه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون .

قال الزنديق : فمن خلقه الله كافرا ، أيستطيع الإيمان ، وله عليه بتركه الإيمان حجة ؟

قال ( عليه السلام ) : إن الله خلق خلقه جميعا مسلمين ، أمرهم ونهاهم ، والكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد ، ولم يخلق الله العبد حين خلقه كافرا ، إنه إنما كفر من بعد أن بلغ وقتا لزمته الحجة من الله ، فعرض عليه الحق فجحده ، فبإنكاره الحق صار كافرا ( ۱ ) .

قال الزنديق : أفيجوز أن يقدر على العبد الشر ، ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير أن يعلمه ، ويعذبه عليه ؟

قال ( عليه السلام ) : إنه لا يليق بعدل الله ورأفته أن يقدر على العبد الشر ويريده منه ، ثم يأمره بما يعلم أنه لا يستطيع أخذه ، والإنزاع عما لا يقدر على تركه ، ثم يعذبه على أمره الذي علم أنه لا يستطيع أخذه .

قال الزنديق : بماذا استحق الذين أغناهم وأوسع عليهم من رزقه الغناء والسعة ، وبماذا استحق الفقير التقتير والتضييق ؟

قال ( عليه السلام ) : اختبر الأغنياء بما أعطاهم لينظر كيف شكرهم ، والفقراء بما منعهم لينظر كيف صبرهم . ووجه آخر : أنه عجل لقوم في حياتهم ، ولقوم أخر ليوم حاجتهم إليه .

ووجه آخر : فإنه علم احتمال كل قوم فأعطاهم على قدر احتمالهم ، ولو كان الخلق كلهم أغنياء لخربت الدنيا وفسد التدبير ، وصار أهلها إلى الفناء ولكن جعل بعضهم لبعض عونا ، وجعل أسباب أرزاقهم في ضروب الأعمال وأنواع الصناعات ، وذلك أدوم في البقاء وأصح في التدبير ، ثم اختبر الأغنياء بالاستعطاف على الفقراء ، كل ذلك لطف ورحمة من الحكيم الذي لا يعاب تدبيره .

قال الزنديق : فما استحق الطفل الصغير ما يصيبه من الأوجاع والأمراض بلا ذنب عمله ، ولا جرم سلف منه ؟

قال ( عليه السلام ) : إن المرض على وجوه شتى : مرض بلوى ، ومرض عقوبة ، ومرض جعل علة للفناء ، وأنت تزعم أن ذلك عن أغذية ودية ، وأشربة وبية (۲) ، أو من علة كانت بأمه ، وتزعم أن من أحسن السياسة لبدنه ، وأجمل النظر في أحوال نفسه ، وعرف الضار مما يأكل من النافع لم يمرض ، وتميل في قولك إلى من يزعم أنه لا يكون المرض والموت إلا من المطعم والمشرب ! قد مات أرسطاطاليس معلم الأطباء وإفلاطون رئيس الحكماء ، وجالينوس شاخ ودق بصره وما دفع الموت حين نزل بساحته ، ولم يألوا حفظ أنفسهم والنظر لما يوافقها ، كم مريضا قد زاده المعالج سقما ، وكم من طبيب عالم وبصير بالأدواء (۳) والأدوية ماهر مات ، وعاش الجاهل بالطب بعده زمانا ، فلا ذاك نفعه علمه بطبه عند انقطاع مدته وحضور أجله ، ولا هذا ضره الجهل بالطب مع بقاء المدة وتأخر الأجل .

ثم قال ( عليه السلام ) : إن أكثر الأطباء قالوا : إن علم الطب لم تعرفه الأنبياء ، فما نصنع على قياس قولهم بعلم زعموا ليس تعرفه الأنبياء الذين كانوا حجج الله على خلقه ، وأمناءه في أرضه ، وخزان علمه ، وورثة حكمته ، والأدلاء عليه ، والدعاة إلى طاعته ؟

ثم إني وجدت أن أكثرهم يتنكب في مذهبه سبل الأنبياء ، ويكذب الكتب المنزلة عليهم من الله تبارك وتعالى ، فهذا الذي أزهدني في طلبه وحامليه .

قال الزنديق : فكيف تزهد في قوم وأنت مؤدبهم وكبيرهم ؟

قال ( عليه السلام ) : إني رأيت الرجل الماهر في طبه إذا سألته لم يقف على حدود نفسه ، وتأليف بدنه ، وتركيب أعضائه ، ومجرى الأغذية في جوارحه ، ومخرج نفسه ، وحركة لسانه ، ومستقر كلامه ، ونور بصره ، وانتشار ذكره ، واختلاف شهواته ، وانسكاب عبراته ، ومجمع سمعه ، وموضع عقله ، ومسكن روحه ، ومخرج عطسته ، وهيج غمومه ، وأسباب سروره ، وعلة ما حدث فيه من بكم وصمم وغير ذلك ، لم يكن عندهم في ذلك أكثر من أقاويل استحسنوها ، وعلل فيما بينهم جوزوها .

قال الزنديق : فأخبرني هل يعاب شئ من خلق الله وتدبيره ؟

قال ( عليه السلام ) : لا .

قال الزنديق : فإن الله خلق خلقه غرلا (۴) ، أذلك منه حكمة أم عبث ؟

قال ( عليه السلام ) : بل منه حكمة .

قال الزنديق : غيرتم خلق الله ، وجعلتم فعلكم في قطع الغلفة (۵) أصوب مما خلق الله لها ، وعبتم الأغلف والله خلقه ، ومدحتم الختان وهو فعلكم ، أم تقولون إن ذلك من الله كان خطأ غير حكمة ؟ !

قال ( عليه السلام ) : ذلك من الله حكمة وصواب ، غير أنه سن ذلك وأوجبه على خلقه ، كما أن المولود إذا خرج من بطن أمه وجدنا سرته متصلة بسرة أمه ، كذلك خلقها الحكيم فأمر العباد بقطعها ، وفي تركها فساد بين للمولود والأم ، وكذلك أظفار الإنسان : أمر إذا طالت أن تقلم ، وكان قادرا يوم دبر خلق الإنسان أن يخلقها خلقة لا تطول ، وكذلك الشعر في الشارب والرأس يطول فيجز ، وكذلك الثيران خلقها الله فحولة وإخصاؤها أوفق ، وليس في ذلك عيب في تقدير الله عز وجل .

قال الزنديق : ألست تقول : يقول الله تعالى : * ( ادعوني أستجب لكم ) * (۶) وقد نرى المضطر يدعوه فلا يجاب له ، والمظلوم يستنصره على عدوه فلا ينصره ؟

قال ( عليه السلام ) : ويحك ! ما يدعوه أحد إلا استجاب له ، أما الظالم : فدعاؤه مردود إلى أن يتوب إليه ، وأما المحق : فإنه إذا دعاه استجاب له ، وصرف عنه البلاء من حيث لا يعلمه ، أو ادخر له ثوابا جزيلا ليوم حاجته إليه ، وإن لم يكن الأمر الذي سأل العبد خيرا له إن أعطاه ، أمسك عنه ، والمؤمن العارف بالله ربما عز عليه أن يدعوه فيما لا يدري أصواب ذلك أم خطأ ، وقد يسأل العبد ربه هلاك من لم تنقطع مدته أو يسأل المطر وقتا ولعله أوان لا يصلح فيه المطر ، لأنه أعرف بتدبير ما خلق من خلقه ، وأشباه ذلك كثيرة ، فافهم هذا .

قال الزنديق : أخبرني أيها الحكيم ، ما بال السماء لا ينزل منها إلى الأرض أحد ، ولا يصعد من الأرض إليها بشر ، ولا طريق إليها ولا مسلك ، فلو نظر العباد في كل دهر مرة من يصعد إليها وينزل ، لكان ذلك أثبت في الربوبية ، وأنفى للشك وأقوى لليقين ، وأجدر أن يعلم العباد أن هناك مدبرا إليه يصعد الصاعد ، ومن عنده يهبط الهابط ؟ !

قال ( عليه السلام ) : إن كل ما ترى في الأرض من التدبير إنما هو ينزل من السماء ، ومنها يظهر ، أما ترى الشمس منها تطلع وهي نور النهار وفيها قوام الدنيا ، ولو حبست حار من عليها وهلك ، والقمر منها يطلع وهو نور الليل ، وبه يعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام ، ولو حبس لحار من عليها وفسد التدبير ؟ وفي السماء النجوم التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، ومن السماء ينزل الغيث الذي فيه حياة كل شئ من الزرع والنبات والأنعام ، وكل الخلق لو حبس عنهم لما عاشوا ، والريح لو حبست لفسدت الأشياء جميعا وتغيرت ، ثم الغيم والرعد والبرق والصواعق ، كل ذلك إنما هو دليل على أن هناك مدبرا يدبر كل شئ ومن عنده ينزل ، وقد كلم الله موسى وناجاه ، ورفع الله عيسى بن مريم ، والملائكة تنزل من عنده ، غير أنك لا تؤمن بما لم تره بعينك ، وفيما تراه بعينك كفاية إن تفهم وتعقل .

قال الزنديق : فلو أن الله رد إلينا من الأموات في كل مائة عام واحدا لنسأله عمن مضى منا ، إلى ما صاروا وكيف حالهم ، وماذا لقوا بعد الموت ، وأي شئ صنع بهم ، لعمل الناس على اليقين ، واضمحل الشك وذهب الغل عن القلوب .

قال ( عليه السلام ) : إن هذه مقالة من أنكر الرسل وكذبهم ، ولم يصدق بما جاءوا به من عند الله ، إذ أخبروا وقالوا : إن الله أخبر في كتابه عز وجل على لسان أنبيائه حال من مات منا ، أفيكون أحد أصدق من الله قولا ومن رسله . وقد رجع إلى الدنيا مما مات خلق كثير ، منهم : أصحاب الكهف ، أماتهم الله ثلاثمائة عام وتسعة ، ثم بعثهم في زمان قوم أنكروا البعث ليقطع حجتهم وليريهم قدرته وليعلموا أن البعث حق .

وأمات الله ( أرميا ) النبي ( عليه السلام ) الذي نظر إلى خراب بيت المقدس وما حوله حين غزاهم بخت نصر وقال : * ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ) * ثم أحياه ونظر إلى أعضائه كيف تلتئم ، وكيف تلبس اللحم ، وإلى مفاصله وعروقه كيف توصل ، فلما استوى قاعدا قال : * ( أعلم أن الله على كل شئ قدير ) * . وأحيا الله قوما خرجوا عن أوطانهم هاربين من الطاعون لا يحصى عددهم ، وأماتهم الله دهرا طويلا حتى بليت عظامهم وتقطعت أوصالهم وصاروا ترابا ، بعث الله – في وقت أحب أن يرى خلقه قدرته – نبيا يقال له : ” حزقيل ” فدعاهم فاجتمعت أبدانهم ، ورجعت فيهم أرواحهم ، وقاموا كهيئة يوم ماتوا ، لا يفقدون من أعدادهم رجلا ، فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا .

وإن الله أمات قوما خرجوا مع موسى ( عليه السلام ) حين توجه إلى الله فقالوا : * ( أرنا الله جهرة ) * ، فأماتهم الله ثم أحياهم .

قال الزنديق : فأخبرني عمن قال بتناسخ الأرواح ، من أي شئ قالوا ذلك ، وبأي حجة قاموا على مذاهبهم ؟

قال ( عليه السلام ) : إن أصحاب التناسخ قد خلفوا وراءهم منهاج الدين ، وزينوا لأنفسهم الضلالات ، وأمرجوا أنفسهم (۷) في الشهوات وزعموا أن السماء خاوية ما فيها شئ مما يوصف ، وأن مدبر هذا العالم في صورة المخلوقين ، بحجة من روى أن الله عز وجل خلق آدم على صورته ، وأنه لا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا نشور ، والقيامة عندهم خروج الروح من قالبه وولوجه في قالب آخر ، فإن كان محسنا في القالب الأول أعيد في قالب أفضل منه حسنا في أعلى درجة من الدنيا ، وإن كان مسيئا أو غير عارف صار في الدواب المتعبة في الدنيا ، أو هوام مشوهة الخلقة وليس عليهم صوم ولا صلاة ، ولا شئ من العبادة أكثر من معرفة من تجب عليهم معرفته ، وكل شئ من شهوات الدنيا مباح لهم : من فروج النساء وغير ذلك من الأخوات والبنات والخالات وذوات البعولة.

وكذلك الميتة والخمر والدم ، فاستقبح مقالتهم كل الفرق ، ولعنهم كل الأمم ، فلما سئلوا الحجة زاغوا وحادوا ، فكذب مقالتهم التوراة ، ولعنهم الفرقان ، وزعموا مع ذلك أن إلههم ينتقل من قالب إلى قالب ، وأن الأرواح الأزلية هي التي كانت في آدم ، ثم هلم جرا تجري إلى يومنا هذا في واحد بعد آخر ، فإذا كان الخالق في صورة المخلوق فبما يستدل على أن أحدهما خالق صاحبه ؟ !

وقالوا : إن الملائكة من ولد آدم كل من صار في أعلى درجة من دينهم خرج من منزلة الامتحان والتصفية فهو ملك ، فطورا تخالهم نصارى في أشياء ، وطورا دهرية يقولون : إن الأشياء على غير الحقيقة ، فقد كان يجب عليهم أن لا يأكلوا شيئا من اللحمان ، لأن الذرات عندهم كلها من ولد آدم حولوا من صورهم ، فلا يجوز أكل لحوم القربات .

قال الزنديق : ومن زعم أن الله لم يزل ومعه طينة مؤذية ، فلم يستطع التفصي منها (۸) إلا بامتزاجه بها ودخوله فيها ، فمن تلك الطينة خلق الأشياء ! !

قال ( عليه السلام ) : سبحان الله تعالى ! ! ما أعجز إلها يوصف بالقدرة ، لا يستطيع التفصي من الطينة ! إن كانت الطينة حية أزلية ، فكانا إلهين قديمين فامتزجا ودبرا العالم من أنفسهم ، فإن كان ذلك كذلك ، فمن أين جاء الموت والفناء ؟ وإن كانت الطينة ميتة فلا بقاء للميت مع الأزلي القديم ، والميت لا يجئ منه حي .

وهذه مقالة الديصانية ، أشد الزنادقة قولا وأمهنهم مثلا ، نظروا في كتب قد صنفها أوائلهم ، وحبروها بألفاظ مزخرفة من غير أصل ثابت ، ولا حجة توجب إثبات ما ادعوا ، كل ذلك خلافا على الله وعلى رسله بما جاءوا عن الله . فأما من زعم أن الأبدان ظلمة ، والأرواح نور ، وأن النور لا يعمل الشر ، والظلمة لا تعمل الخير ، فلا يجب عليهم أن يلوموا أحدا على معصية ولا ركوب حرمة ولا إتيان فاحشة ، وإن ذلك عن الظلمة غير مستنكر ، لأن ذلك فعلها ولا له أن يدعو ربا ، ولا يتضرع إليه ، لأن النور الرب ، والرب لا يتضرع إلى نفسه ولا يستعبد بغيره ، ولا لأحد من أهل هذه المقالة أن يقول : أحسنت يا محسن ، أو : أسأت ، لأن الإساءة من فعل الظلمة وذلك فعلها ، والإحسان من النور ، ولا يقول النور لنفسه أحسنت يا محسن ، وليس هناك ثالث ، وكانت الظلمة على قياس قولهم ، أحكم فعلا ، وأتقن تدبيرا ، وأعز أركانا من النور ، لأن الأبدان محكمة ، فمن صور هذا الخلق صورة واحدة على نعوت مختلفة ؟ وكل شئ يرى ظاهرا من الزهر والأشجار والثمار والطير والدواب يجب أن يكون إلها ، ثم حبست النور في حبسها والدولة لها ، وأما ما ادعوا بأن العاقبة سوف تكون للنور ، فدعوى ، وينبغي على قياس قولهم أن لا يكون للنور فعل ، لأنه أسير ، وليس له سلطان ، فلا فعل له ولا تدبير ، وإن كان له مع الظلمة تدبير ، فما هو بأسير بل هو مطلق عزيز ، فإن لم يكن كذلك وكان أسير الظلمة ، فإنه يظهر في هذا العالم إحسان وجامع فساد وشر ، فهذا يدل على أن الظلمة تحسن الخير وتفعله ، وكما تحسن الشر وتفعله ، فإن قالوا محال ذلك ، فلا نور يثبت ولا ظلمة ، وبطلت دعواهم ، ورجع الأمر إلى أن الله واحد وما سواه باطل ، فهذه مقالة ماني الزنديق وأصحابه .

وأما من قال : النور والظلمة بينهما حكم ، فلا بد من أن يكون أكبر الثلاثة الحكم ، لأنه لا يحتاج إلى الحاكم إلا مغلوب أو جاهل أو مظلوم ، وهذه مقالة المانوية ، والحكاية عنهم تطول .

قال الزنديق : فما قصة ماني ؟

قال ( عليه السلام ) : متفحص أخذ بعض المجوسية فشابها ببعض النصرانية ، فأخطأ الملتين ولم يصب مذهبا واحدا منهما ، وزعم أن العالم دبر من إلهين ، نور وظلمة ، وأن النور في حصار من الظلمة على ما حكينا منه ، فكذبته النصارى ، وقبلته المجوس .

قال الزنديق : فأخبرني عن المجوس أفبعث الله إليهم نبيا ؟ فإني أجد لهم كتبا محكمة ومواعظ بليغة ، وأمثالا شافية ، يقرون بالثواب والعقاب ، ولهم شرائع يعملون بها .

قال ( عليه السلام ) : ما من أمة إلا خلا فيها نذير ، وقد بعث إليهم نبي بكتاب من عند الله ، فأنكروه وجحدوا كتابه .

قال الزنديق : ومن هو ؟ فإن الناس يزعمون أنه خالد بن سنان .

قال ( عليه السلام ) : إن خالدا كان عربيا بدويا ، ما كان نبيا ، وإنما ذلك شئ يقوله الناس .

قال الزنديق : أفزردشت ؟

قال ( عليه السلام ) : إن زردشت أتاهم بزمزمة ، وادعى النبوة ، فآمن منهم قوم وجحده قوم ، فأخرجوه فأكلته السباع في برية من الأرض .

قال الزنديق : فأخبرني عن المجوس كانوا أقرب إلى الصواب في دهرهم ، أم العرب ؟

قال ( عليه السلام ) : العرب في الجاهلية كانت أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس ، وذلك أن المجوس كفرت بكل الأنبياء وجحدت كتبهم ، وأنكرت براهينهم ولم تأخذ بشئ من سنتهم وآثارهم ، وإن كيخسرو ملك المجوس في الدهر الأول قتل ثلاثمائة نبي ، وكانت المجوس لا تغتسل من الجنابة ، والعرب كانت تغتسل ، والاغتسال من خالص شرايع الحنيفية ، وكانت المجوس لا تختن وهو من سنن الأنبياء ، وأول من فعل ذلك إبراهيم خليل الله ، وكانت المجوس لا تغسل موتاها ولا تكفنها ، وكانت العرب تفعل ذلك ، وكانت المجوس ترمي الموتى في الصحارى والنواويس والعرب تواريها في قبورها وتلحدها ، وكذلك السنة على الرسل ، إن أول من حفر له قبر آدم أبو البشر ، والحد له لحد ، وكانت المجوس تأتي الأمهات وتنكح البنات والأخوات ، وحرمت ذلك العرب ، وأنكرت المجوس بيت الله الحرام وسمته بيت الشيطان ، والعرب كانت تحجه وتعظمه ، وتقول : بيت ربنا ، وتقر بالتوراة والإنجيل ، وتسأل أهل الكتب وتأخذ ، وكانت العرب في كل الأسباب أقرب إلى دين الحنيفية من المجوس .

قال الزنديق : فإنهم احتجوا بإتيان الأخوات أنها سنة من آدم .

قال ( عليه السلام ) : فما حجتهم في إتيان البنات والأمهات وقد حرم ذلك آدم ، وكذلك نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، وسائر الأنبياء ، وكل ما جاء عن الله عز وجل .

قال الزنديق : ولم حرم الله الخمر ولا لذة أفضل منها ؟

قال ( عليه السلام ) : حرمها لأنها أم الخبائث ، ورأس كل شر ، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبه ، ولا يعرف ربه ، ولا يترك معصية إلا ركبها ، ولا حرمة إلا انتهكها ، ولا رحم ماسة إلا قطعها ، ولا فاحشة إلا أتاها ، والسكران زمامه بيد الشيطان ، إن أمره أن يسجد للشيطان سجد ، وينقاد حيث ما قاده .

قال الزنديق : فلم حرم الدم المسفوح ؟

قال ( عليه السلام ) : لأنه يورث القساوة ، ويسلب الفؤاد رحمته ، ويعفن البدن ، ويغير اللون ، وأكثر ما يصيب الإنسان الجذام يكون من أكل الدم .

قال الزنديق : فأكل الغدد ؟

قال ( عليه السلام ) : يورث الجذام .

قال الزنديق : فالميتة لم حرمها ؟

قال ( عليه السلام ) : فرقا بينها وبين ما يذكى ويذكر اسم الله عليه ، والميتة قد جمد فيها الدم وتراجع إلى بدنها ، فلحمها ثقيل غير مرئ لأنها يؤكل لحمها بدمها .

قال الزنديق : فالسمك ميتة ؟

قال ( عليه السلام ) : إن السمك ذكاته إخراجه حيا من الماء ، ثم يترك حتى يموت من ذات نفسه ، وذلك أنه ليس له دم ، وكذلك الجراد .

قال الزنديق : فلم حرم الزنا ؟

قال ( عليه السلام ) : لما فيه من الفساد وذهاب المواريث وانقطاع الأنساب ، لا تعلم المرأة في الزنا من أحبلها ، ولا المولود يعلم من أبوه ، ولا أرحام موصولة ، ولا قرابة معروفة .

قال الزنديق : فلم حرم اللواط ؟

قال ( عليه السلام ) : من أجل أنه لو كان إتيان الغلام حلالا لاستغنى الرجال من النساء ، وكان فيه قطع النسل ، وتعطيل الفروج ، وكان في إجازة ذلك فساد كثير .

قال الزنديق : فلم حرم إتيان البهيمة ؟

قال ( عليه السلام ) : كره أن يضيع الرجل ماءه ويأتي غير شكله ، ولو أباح ذلك لربط كل رجل أتانا (۹) يركب ظهرها ويغشى فرجها ، وكان يكون في ذلك فساد كثير فأباح ظهورها وحرم عليهم فروجها ، وخلق للرجال النساء ليأنسوا بهن ويسكنوا إليهن ، ويكن مواضع لشهواتهم وأمهات أولادهم .

قال الزنديق : فما علة الغسل من الجنابة ، وإن ما أتى حلالا وليس في الحلال تدنيس ؟

قال ( عليه السلام ) : إن الجنابة بمنزلة الحيض ، وذلك أن النطفة دم لم يستحكم ، ولا يكون الجماع إلا بحركة شديدة وشهوة عالية ، فإذا فرغ تنفس البدن ووجد الرجل من نفسه رائحة كريهة ، فوجب الغسل لذلك ، وغسل الجنابة مع ذلك أمانة ائتمن الله عليها عبيده ليختبرهم بها .

قال الزنديق : أيها الحكيم ، فما تقول في من زعم أن هذا التدبير الذي يظهر في العالم تدبير النجوم السبعة ؟

قال ( عليه السلام ) : يحتاجون إلى دليل ، أن هذا العالم الأكبر والعالم الأصغر من تدبير النجوم التي تسبح في الفلك ، وتدور حيث دارت متعبة لا تفتر ، وسائرة لا تقف .

ثم قال : وإن لكل نجم منها موكل مدبر ، فهي بمنزلة العبيد المأمورين المنهيين ، فلو كانت قديمة أزلية لم تتغير من حال إلى حال .

قال الزنديق : فمن قال بالطبائع ؟

قال ( عليه السلام ) : القدرية ، فذلك قول من لم يملك البقاء ولا صرف الحوادث ، وغيرته الأيام والليالي ، لا يرد الهرم ، ولا يدفع الأجل ، ما يدري ما يصنع به .

قال الزنديق : فأخبرني عمن يزعم أن الخلق لم يزل يتناسلون ويتوالدون ويذهب قرن ويجئ قرن وتفنيهم الأمراض والأعراض وصنوف الآفات ، ويخبرك الآخر عن الأول ، وينبئك الخلف عن السلف ، والقرون عن القرون ، إنهم وجدوا الخلق على هذا الوصف بمنزلة الشجر والنبات ، في كل دهر يخرج منه حكيم عليم بمصلحة الناس ، بصير بتأليف الكلام ، ويصنف كتابا قد حبره بفطنته ، وحسنه بحكمته ، قد جعله حاجزا بين الناس ، يأمرهم بالخير ويحثهم عليه ، وينهاهم عن السوء والفساد ويزجرهم عنه ، لئلا يتهارشوا ، ولا يقتل بعضهم بعضا ؟

قال ( عليه السلام ) : ويحك ! إن من خرج من بطن أمه أمس ، ويرحل عن الدنيا غدا ، لا علم له بما كان قبله ولا ما يكون بعده ، ثم إنه لا يخلو الإنسان من أن يكون خلق نفسه أو خلقه غيره ، أو لم يزل موجودا ، فما ليس بشئ ليس يقدر أن يخلق شيئا وهو ليس بشئ ، وكذلك ما لم يكن فيكون شيئا ، يسأل فلا يعلم كيف كان ابتداؤه ، ولو كان الإنسان أزليا لم تحدث فيه الحوادث ، لأن الأزلي لا تغيره الأيام ، ولا يأتي عليه الفناء ، مع أنا لم نجد بناء من غير بان ، ولا أثرا من غير مؤثر ، ولا تأليفا من غير مؤلف ، فمن زعم أن أباه خلقه ، قيل : فمن خلق أباه ؟ ولو أن الأب هو الذي خلق ابنه لخلقه على شهوته ، وصوره على محبته لملك حياته ، ولجاز فيه حكمه ، ولكنه إن مرض فلم ينفعه ، وإن مات فعجز عن رده ، إن من استطاع أن يخلق خلقا وينفخ فيه روحا حتى يمشي على رجليه سويا ، يقدر أن يدفع عنه الفساد .

قال الزنديق : فما تقول في علم النجوم ؟

قال ( عليه السلام ) : هو علم قلت منافعه ، وكثرت مضراته ، لأنه لا يدفع به المقدور ، ولا يتقى به المحذور ، إن المنجم بالبلاء لم ينجه التحرز من القضاء ، إن أخبر هو بخير لم يستطع تعجيله ، وإن حدث به سوء لم يمكنه صرفه ، والمنجم يضاد الله في علمه ، بزعمه أن يرد قضاء الله عن خلقه .

قال الزنديق : فالرسول أفضل أم الملك المرسل إليه ؟

قال ( عليه السلام ) : بل الرسول أفضل .

قال الزنديق : فما علة الملائكة الموكلين بعباده ، يكتبون عليهم ولهم ، والله عالم السر وما هو أخفى ؟

قال ( عليه السلام ) : استعبدهم بذلك وجعلهم شهودا على خلقه ، ليكون العباد لملازمتهم إياهم أشد على طاعة الله مواظبة ، وعن معصيته أشد انقباضا ، وكم من عبد يهم بمعصيته فذكر مكانهما فارعوى وكف ، فيقول ربي يراني ، وحفظتي علي بذلك تشهد ، وإن الله برأفته ولطفه أيضا وكلهم بعباده ، يذبون عنهم مردة الشيطان وهوام الأرض ، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله إلى أن يجئ أمر الله .

قال الزنديق : فخلق الخلق للرحمة أم للعذاب ؟

قال ( عليه السلام ) : خلقهم للرحمة ، وكان في علمه قبل خلقه إياهم أن قوما منهم يصيرون إلى عذابه بأعمالهم الردية وجحدهم به .

قال الزنديق : يعذب من أنكر فاستوجب عذابه بإنكاره ، فبم يعذب من وجده وعرفه ؟

قال ( عليه السلام ) : يعذب المنكر لإلهيته عذاب الأبد ، ويعذب المقر به عذاب عقوبة لمعصيته إياه فيما فرض عليه ، ثم يخرج ، ولا يظلم ربك أحدا .

قال الزنديق : فبين الكفر والإيمان منزلة ؟

قال ( عليه السلام ) : لا .

قال الزنديق : فما الإيمان ؟ وما الكفر ؟

قال ( عليه السلام ) : الإيمان : أن يصدق الله فيما غاب عنه من عظمة الله ، كتصديقه بما شاهد من ذلك وعاين . والكفر : الجحود .

قال الزنديق : فما الشرك ؟ وما الشك ؟

قال ( عليه السلام ) : الشرك هو أن يضم إلى الواحد الذي ليس كمثله شئ آخر . والشك : ما لم يعتقد قلبه شيئا .

قال الزنديق : أفيكون العالم جاهلا ؟

قال ( عليه السلام ) : عالم بما يعلم ، وجاهل بما يجهل .

قال الزنديق : فما السعادة ؟ وما الشقاوة ؟

قال ( عليه السلام ) : السعادة : سبب الخير ، تمسك به السعيد فيجره إلى النجاة ، والشقاوة : سبب خذلان ، تمسك به الشقي فيجره إلى الهلكة ، وكل بعلم الله .

قال الزنديق : أخبرني عن السراج إذا انطفأ ، أين يذهب نوره ؟

قال ( عليه السلام ) : يذهب فلا يعود .

قال الزنديق : فما أنكرت أن يكون الإنسان مثل ذلك ، إذا مات وفارق الروح البدن لم يرجع إليه أبدا ، كما لا يرجع ضوء السراج إليه أبدا إذا انطفأ ؟

قال ( عليه السلام ) : لم تصب القياس ، إن النار في الأجسام كامنة ، والأجسام قائمة بأعيانها كالحجر والحديد ، فإذا ضرب أحدهما بالآخر سقطت من بينهما نار ، تقتبس منها سراج له ضوء ، فالنار ثابت في أجسامها والضوء ذاهب . والروح : جسم رقيق قد البس قالبا كثيفا ، وليس بمنزلة السراج الذي ذكرت ، إن الذي خلق في الرحم جنينا من ماء صاف ، وركب فيه ضروبا مختلفة ، من عروق وعصب وأسنان وشعر وعظام وغير ذلك ، فهو يحييه بعد موته ، ويعيده بعد فنائه .

قال الزنديق : فأين الروح ؟

قال ( عليه السلام ) : في بطن الأرض حيث مصرع البدن إلى وقت البعث .

قال الزنديق : فمن صلب فأين روحه ؟

قال ( عليه السلام ) : في كف الملك الذي قبضها حتى يودعها الأرض .

قال الزنديق : فأخبرني عن الروح أغير الدم ؟

قال ( عليه السلام ) : نعم ، الروح على ما وصفت لك : مادتها من الدم ، ومن الدم رطوبة الجسم وصفاء اللون وحسن الصوت وكثرة الضحك ، فإذا جمد الدم فارق الروح البدن .

قال الزنديق : فهل يوصف بخفة وثقل ووزن ؟

قال ( عليه السلام ) : الروح بمنزلة الريح في الزق ، إذا نفخت فيه امتلأ الزق منها ، فلا يزيد في وزن الزق ولوجها فيه ، ولا ينقصها خروجها منه ، كذلك الروح ليس لها ثقل ولا وزن .

قال الزنديق : فأخبرني ما جوهر الريح ؟

قال ( عليه السلام ) : الريح هواء إذا تحرك يسمى ريحا ، فإذا سكن يسمى هواء ، وبه قوام الدنيا ، ولو كفت الريح ثلاثة أيام لفسد كل شئ على وجه الأرض ونتن ، وذلك أن الريح بمنزلة المروحة ، تذب وتدفع الفساد عن كل شئ وتطيبه ، فهي بمنزلة الروح إذا خرج عن البدن نتن البدن وتغير ، وتبارك الله أحسن الخالقين .

قال الزنديق : أفتتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق ؟

قال ( عليه السلام ) : بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور ، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى ، فلا حس ولا محسوس ، ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبرها ، وذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق وذلك بين النفختين .

قال الزنديق : وأنى له بالبعث والبدن قد بلي ، والأعضاء قد تفرقت ، فعضو ببلدة يأكلها سباعها ، وعضو بأخرى تمزقه هوامها ، وعضو صار ترابا بني مع الطين حائط ؟ ! !

قال ( عليه السلام ) : إن الذي أنشأه من غير شئ ، وصوره على غير مثال كان سبق إليه ، قادر أن يعيده كما بدأه.

قال الزنديق : أوضح لي ذلك !

قال ( عليه السلام ) : إن الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المسئ في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا كما منه الخلق ، وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها مما أكلته ومزقته كل ذلك في التراب ، محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها ، وإن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب ، فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور ، فتربو الأرض ثم تمخضوا مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مخض ، فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه ، فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها ، وتلج الروح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا .

قال الزنديق : فأخبرني عن الناس يحشرون يوم القيامة عراة ؟

قال ( عليه السلام ) : بل يحشرون في أكفانهم .

قال الزنديق : أنى لهم بالأكفان وقد بليت ؟

قال ( عليه السلام ) : إن الذي أحيا أبدانهم جدد أكفانهم .

قال الزنديق : فمن مات بلا كفن ؟

قال ( عليه السلام ) : يستر الله عورته بما يشاء من عنده .

قال الزنديق : أفيعرضون صفوفا ؟

قال ( عليه السلام ) : نعم ، هم يومئذ عشرون ومائة ألف صف في عرض الأرض .

قال الزنديق : أوليس توزن الأعمال ؟

قال ( عليه السلام ) : لا ، إن الأعمال ليست بأجسام ، وإنما هي صفة ما عملوا ، وإنما يحتاج إلى وزن شئ من جهل عدد الأشياء ، ولا يعرف ثقلها أو خفتها ، وإن الله لا يخفى عليه شئ .

قال الزنديق : فما معنى الميزان ؟

قال ( عليه السلام ) : العدل .

قال الزنديق : فما معناه في كتابه : * ( فمن ثقلت موازينه ) * (۱۰) ؟

قال ( عليه السلام ) : فمن رجح عمله .

قال الزنديق : فأخبرني أوليس في النار مقتنع أن يعذب خلقه بها دون الحيات والعقارب ؟

قال ( عليه السلام ) : إنما يعذب بها قوما زعموا أنها ليست من خلقه ، إنما شريكه الذي يخلقه ، فيسلط الله عليهم العقارب والحيات في النار ليذيقهم بها وبال ما كذبوا عليه فجحدوا أن يكون صنعه .

قال الزنديق : فمن أين قالوا : ” إن أهل الجنة يأتي الرجل منهم إلى ثمرة يتناولها ، فإذا أكلها عادت كهيئتها ” ؟

قال ( عليه السلام ) : نعم ، ذلك على قياس السراج ، يأتي القابس فيقتبس عنه ، فلا ينقص من ضوئه شيئا ، وقد امتلأت الدنيا منه سراجا .

قال الزنديق : أليسوا يأكلون ويشربون ، وتزعم أنه لا يكون لهم الحاجة ؟

قال ( عليه السلام ) : بلى ، لأن غذاءهم رقيق لا ثقل له ، بل يخرج من أجسادهم بالعرق .

قال الزنديق : فكيف تكون الحوراء في جميع ما أتاها زوجها عذراء ؟

قال ( عليه السلام ) : لأنها خلقت من الطيب لا يعتريها عاهة ، ولا يخالط جسمها آفة ، ولا يجري في ثقبها شئ ، ولا يدنسها حيض ، فالرحم ملتزقة ملدم (۱۱) ، إذ ليس فيها لسوى الإحليل مجرى .

قال الزنديق : فهي تلبس سبعين حلة ، ويرى زوجها مخ ساقها من وراء حللها وبدنها ؟

قال ( عليه السلام ) : نعم ، كما يرى أحدكم الدراهم إذا ألقيت في ماء صاف قدره قدر رمح .

قال الزنديق : فكيف تنعم أهل الجنة بما فيه من النعيم ، وما منهم أحد إلا وقد فقد ابنه وأباه أو حميمه أو أمه ، فإذا افتقدوهم في الجنة لم يشكوا في مصيرهم إلى النار ، فما يصنع بالنعيم من يعلم أن حميمه في النار ويعذب ؟

قال ( عليه السلام ) : إن أهل العلم قالوا : إنهم ينسون ذكرهم . وقال : بعضهم انتظروا قدومهم ، ورجوا أن يكونوا بين الجنة والنار في أصحاب الأعراف (۱۲) .
—————————————
(۱) قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه ” ، كنز العمال ، الجزء الأول ، الحديث ۱۳۰۷ .
(۲) الودية : المهلكة ، الوبية : الكثيرة الوباء .
(۳) الأدواء : الأمراض .
(۴) في المصدر : ” عزلا ” ، تصحيف صوابه ما أثبتناه . والغرل : جمع أغرل ، وهو ما كان فيه غرلة ، وهي جلدة الصبي التي تقطع في الختان .
(۵) الغلفة أو القلفة : الجلدة التي يقطعها الخاتن من ذكر الصبي .
(۶) غافر : ۶۰ .
(۷) أي خلوها وتركوها .
(۸) التفصي : التخلص ، وتفصى عن الشئ : بان عنه .
(۹) الأتان : الحمارة .
(۱۰) الأعراف : ۸ .
(۱۱) أي كثيرة اللحم .
(۱۲) الاحتجاج : ۳۳۶ .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أي لو أخبر حذيفة بأسماء المنافقين الأحياء منهم ...
ما المقصود بليلة الهرير؟
أسباب انتشار المذهب الشيعي؟
أجوبة القرآن الكريم عن شبهات المنكرين للمعاد
حديث عيد الغدير في مصادر أهل السنة والشيعة
آیات بیعة الغدیر
لغة الحكومة المصرية في دواوينها
عبدالله بن سبأ
لماذا لم يستلم مسلم بن عقيل الكوفة
نقش الخواتيم لدى الأئمة (عليهم السلام)

 
user comment