الثورة الحسينية
أسبابها ومخطَّطاتها *
ـ القسم الأول : أسبابها ـ
باقر شريف القرشي
لم يفجّر الإمام الحسين (ع) ثورته الكبرى أشِراً ، ولا بَطِراً ، ولا ظالماً ، ولا مُفسِداً ـ حسب ما يقول ـ وإنَّما انطلق ليُؤسِّس معالم الإصلاح في البلاد ، ويحقِّق العدل الاجتماعي بين الناس ، ويقضي على أسباب النكسة الأليمة التي مُنِيَ بها المسلمون في ظل الحكم الأموي ، الذي ألحقَ بهم الهزيمة والعار.
لقد انطلق الإمام ليُصحِّح الأوضاع الراهنة في البلاد ، ويُعيد للأُمَّة ما فقدته من مقوِّماتها وذاتيَّاتها ، ويُعيد لشراينها الحياة الكريمة التي تملك بها إرادتها وحرِّيَّتها في مسيرتها النضالية لقيادة أُمم العالم ، في ظل حكمٍ متوازنٍ ، تُذاب فيه الفوارق الاجتماعية ، وتُقام الحياة على أُسس صلبة من المحبة والإخاء . إنّه حكم الله خالق الكون وواهب الحياة ، لا حكم معاوية الذي قاد مركبة حكومته على إماتة وعي الإنسان ، وشل حركاته الفكرية والاجتماعية .
لقد فجَّر الإمام (ع) ثورته الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب ، وجعلها عبرة لأُولي الألباب ، فأضاء بها الطريق ، وأوضح بها القصد ، وأنار بها الفكر ، فانهارت بها السدود والحواجز التي وضعها الحكم الأموي أمام التطوُّر الشامل الذي يُريده الإسلام لأبنائه ، فلم يَعُد بعد الثورة أيُّ ظلٍ للسلبيات الرهيبة التي أقامها الحكم الأموي على مسرح الحياة الإسلامية ، فقد انتقضت الأُمَّة ـ بعد مقتل الإمام ـ كالمارد الجبار وهي تسخر من الحياة ، وتستهزئ بالموت ، وتزُج بأبنائها في ثوراتٍ متلاحقة حتى أطاحت بالحكم الأموي ، واكتسحت معالم زهوه .
ولم يَقْدِم الإمام على الثورة إلاَّ بعد أن انسدت أمامه جميع الوسائل ، وانقطع كل أمل له في إصلاح الأُمَّة ، وإنقاذها من السلوك في المنعطفات ، فأيقن أنّه لا طريق للإصلاح إلاَّ بالتضحية الحمراء ؛ فهي وحدها التي تتغيَّر بها الحياة ، وترتفع راية الحق عالية في الأرض .
وفيما أعتقد أنّ أهم ما يتطلَّبه القرَّاء لأمثال هذه البحوث ، الوقوف على أسباب الثورة الحسينية ومخطَّطاتها ، وفيما يلي ذلك :
أسباب الثورة :
وأحاطت بالإمام (ع) عدَّة من المسؤوليات الدينية والواجبات الاجتماعية وغيرها ، فحفَّزته إلى الثورة ، ودفعته إلى التضحية والفداء ، وهذه بعضها :
1 ـ المسؤولية الدينية :
وأعلن الإسلام المسؤولية الكبرى على كل مسلم عمَّا يَحدث في بلاد المسلمين ، من الأحداث والأزمات التي تتنافي مع دينهم ، وتتجافي مع مصالحهم . فإنّه ليس من الإسلام في شيء ، أن يقف المسلم موقفاً يتَّسم بالميوعة واللاَّمبالاة أمام الهزَّات التي تدهم الأُمَّة وتُدمِّر مصالحها .
وقد أعلن الرسول (ص) هذه المسؤولية ، يقول (ص) : ( كلكم راعٍ ، وكلكم مسؤول عن رعيته ) ، فالمسلم مسئول أمام الله عن رعاية مجتمعه ، والسهر على صالح بلاده ، والدفاع عن أمته .
وعلى ضوء هذه المسؤولية الكبرى ، ناهض الإمام جور الأمويِّين ، وناجز مخطَّطاتهم الهادفة إلى استعباد الأُمَّة وإذلالها ، ونهب ثرواتها . وقد أدلى (ع) بما يُحتِّمه الإسلام عليه من الجهاد لحكم الطاغية يزيد ، أمام الحُر وأصحابه ، قال (ع): ( يا أيُّها الناس ، إنّ رسول الله (ص) قال : مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسُنَّة رسول الله (ص ) ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يُغيِّر عليه بقول ولا فعل ، كان حقَّاً على الله أن يُدخله مدخله ) .
لقد كان الواجب الديني يُحتِّم عليه القيام بوجه الحكم الأموي الذي استحل حرمات الله ، ونكث عهوده ، وخالف سُنَّة رسول الله (ص) . وقد صرَّح جماعة من علماء المسلمين ، بأنّ الواجب الديني كان يقضي على الإمام أن ينطلق في ميادين الجهاد دفاعاً عن الإسلام ، وفيما يلي بعضهم :
1 ـ الإمام محمد عبده .
والمع الإمام محمد عبده في حديثه عن الحكومة العادلة والجائرة في الإسلام ، إلى خروج الإمام على حكومة يزيد ، ووصفه بأنّه كان واجباً شرعياً عليه ، قال :
" إذا وُجِد في الدنيا حكومة عادلة تُقيم الشرع ، وحكومة جائرة تُعطِّله ، وَجَب على كل مسلم نصر الأولى ، وخذل الثانية ... ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين (ع) سبط الرسول (ص) ، على إمام الجور والبغي ، الذي ولي أمر المسلمين بالقوة والمنكر ، يزيد بن معاوية خذله الله ، وخذل مَن انتصر له من الكرامية والنواصب " (1) .
2ـ محمد عبد الباقي .
وتحدَّث الأستاذ محمد عبد الباقي سرور عن المسؤولية الدينية والاجتماعية اللتين تحتِّمان على الإمام القيام بمناهضة حكم يزيد ، قال :
" لو بايع الحسين يزيد الفاسق المستهتر ، الذي أباح الخمر والزنا ، وحطَّ بكرامة الخلافة إلى مجالسة الغانيات ، وعقد حلقات الشراب في مجلس الحكم ، والذي ألبس الكلاب والقرود خلاخل من ذهب ، ومئات الألوف من المسلمين صرعى الجوع ، والحرمان . لو بايع الحسين يزيد أن يكون خليفة لرسول الله (ص) على هذا الوضع ، لكانت فُتْـيَا من الحسين بإباحة هذا للمسلمين ، وكان سكوته هذا أيضاً رضى . والرضا من ارتكاب المنكرات ، ولو بالسكوت ، إثمٌ وجريمةٌ في حكم الشريعة الإسلامية .. والحسين بوضعه الراهن في عهد يزيد ، هو الشخصية المسؤولة في الجزيرة العربية ، بل في البلاد الإسلامية كافة ، عن حماية التراث الإسلامي ؛ لمكانته في المسلمين ، ولقرابته من رسول رب العالمين ، ولكونه ـ بعد موت كبار المسلمين ـ كان أعظم المسلمين في ذلك الوقت علماً وزهداً وحَسَباً ومكانة.
فعلى هذا الوضع أحسَّ بالمسؤولية تناديه وتطلبه ، لإيقاف المنكرات عند حدِّها ، ولا سيَّما أنَّ الذي يضع هذه المنكرات ويُشجِّع عليها هو الجالس في مقعد رسول الله (ص) ، هذا أُوَّلاً.
وثانياً :
أنّه (ع) جاءته المبايعات بالخلافة من جزيرة العرب ، وجاءه ثلاثون ألفاً من الخطابات ، من ثلاثين ألف من العراقيين ، من سكَّان البصرة والكوفة ، يطلبون فيها منه الشخوص لمشاركتهم في محاربة يزيد بن معاوية ، وألحَّوا تكرار هذه الخطابات حتى قال رئيسهم عبد الله بن الحصين الأزدي :
" يا حسين ، سنشكوك إلى الله تعالى يوم القيامة إذا لم تُلبِّ طلبنا ، وتقوم بنجدة الإسلام . وكيف والحسين ذو حمية دينية ونخوة إسلامية ، والمفاسد تترى أمام عينيه ، كيف لا يقوم بتلبية النداء ؟! وعلى هذا الوضع لبَّى النداء ، كما تأمر به الشريعة الإسلامية ، وتوجَّه نحو العراق " (2) .
وهذا الرأي وثيق للغاية ؛ فقد شُفع بالأدلة الشرعية ، التي حملت الإمام مسؤولية الجهاد والخروج على حكم طاغية زمانه .
3 ـ عبد الحفيظ أبو السعود .
يقول الأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود : " ورأى الحسين أنَّه مطالب الآن ( يعني بعد هلاك معاوية ) أن يُعلِن رفضه لهذه البيعة ، وأن يأخذ البيعة لنفسه من المسلمين ، وهذا أقل ما يجب ؛ حفاظاً لأمر الله ، ورفعاً للظلم ، وإبعاداً لهذه العابث ( يعني يزيد ) عن ذلك المنصب الجليل " (3) .
4 ـ الدكتور أحمد محمود صبحي .
وممَّن صرّح بهذه المسؤولية الدينية الدكتور أحمد محمود صبحي ، قال :
" ففي إقدام الحسين على بيعة يزيد ، انحراف عن أصل من أصول الدين ؛ من حيث إنّ السياسة الدينية للمسلمين لا ترى في ولاية العهد ووراثة المُلْك ، إلاَّ بدعة هرقلية دخيلة على الإسلام ، ومن حيث إنّ اختيار شخص يزيد ، مع ما عرف عنه من سوء السيرة ، وميله إلى اللهو وشرب الخمر ، ومنادمة القرود ، ليتولَّى منصب الخلافة عن رسول الله (ص) ، أكبر وِزْر يحل بالنظام السياسي للإسلام . يتحمَّل وِزْره كل مَن شارك فيه ورضى عنه ، فما بالك إذاً كان المُقْدِم على ذلك هو ابن بنت رسول الله .
كان خروج الحسين ـ إذاً ـ أمراً يتَّصل بالدعوة والعقيدة ، أكثر ممَّا يتَّصل بالسياسة والحرب " (4) .
5 ـ العلائلي .
يقول العلائلي : " وهناك واجب على الخليفة ، إذا تجاوزه ، وجب على الأُمَّة إسقاطه ، ووجبت على الناس الثورة عليه ، وهو المبالغة باحترام القانون الذي يخضع له الناس عامة ، وإلاَّ فأي تظاهر بخلافه يكون تلاعباً وعبثاً . ومن ثَمَّ وجب على رجل القانون أن يكون أكثر تظاهراً باحترام القانون من أيِّ شخصٍ آخر ، وأكبر مسؤولية من هذه الناحية . فإذا فسق المَلِك ، ثمَّ جاهر بفسقه ، وتحدَّى الله ورسوله والمؤمنين ، لم يكن الخضوع له إلاَّ خضوعاً للفسق ، وخضوعاً للفحشاء والمنكر ، ولم يكن الاطمئنان إليه إلاَّ اطمئناناً للتلاعب والمعالنة الفاسقة .
هذا هو المعنى التحليلي لقوله (ع) : " ويزيد رجل فاسق ، وشارب للخمر ، وقاتل النفس المحرمة ، مُعلِن بالفسق " " (5) .
هذه بعض الآراء التي أدلى بها جماعة من العلماء في إلزام الإمام شرعاً بالخروج على حكم الطاغية يزيد ، وأنّه ليس له أن يقف موقفاً سليبا أمام ما يقترفه يزيد من الظلم والجور .
2 ـ مسؤولية الاجتماعية :
وكان الإمام (ع) ـ بحكم مركزه الاجتماعي ـ مسؤولاً أمام الأُمَّة عمَّا مُنيت به من الظلم والاضطهاد من قيل الأمويين ، ومَن هو أولى بحمايتها ورد الاعتداء عنها غيره ؛ فهو سبط رسول الله (ص) وريحانته ، والدين دين جده ، والأُمَّة أُمَّة جده ، وهو المسؤول بالدرجة الأولى عن رعايتهما .
لقد رأى الإمام أنّه مسئول عن هذه الأُمَّة ، وأنّه لا يُجدي بأيِّ حال في تغيير الأوضاع الاجتماعية التزام جانب الصمت ، وعدم الوثوب في وجه الحكم الأموي المالئ بالجور والآثام . فنهض (ع) بأعباء هذه المسؤولية الكبرى ، وأدَّى رسالته بأمانة وإخلاص ، وضحَّى بنفسه وأهل بيته وأصحابه ؛ ليعيد على مسرح الحياة عدالة الإسلام وحكم القران .
3 ـ إقامة الحجة عليه :
وقامت الحجة على الإمام لإعلان الجهاد ، ومناجزة قوى البغي والإلحاد ؛ فقد تواترت عليه الرسائل والوفود من أقوى حامية عسكرية في الإسلام ، وهي الكوفة . فكانت رسائل أهلها تحمِّله المسؤولية أمام الله ، إن لم يستجب لدعواتهم الملِّحة لإنقاذهم من عسف الأمويين وبغيهم .
ومن الطبيعي أنَّه لو لم يجيبهم ، لكان مسئولاً أمام الله ، وأمام الأُمَّة ، في جميع مراحل التاريخ ، وتكون الحجة قائمة عليه .
4 ـ حماية الإسلام :
ومن أوكد الأسباب التي ثار من أجلها حفيد الرسول (ص) : حماية الإسلام من خطر الحكم الأموي ، الذي جهد على محو سطوره ، وقلع جذوره ، وإقبار قيمه . فقد أعلن يزيد ـ وهو على دست الخلافة الإسلامية ـ الكفر والإلحاد بقوله :
لَعِبتْ هاشمُ بالمُلْكِ فلا = خبرٌ جاءَ ولا وحيٌ نَزَل
وكشف هذا الشعر عن العقيدة الجاهلية التي كان يدين بها يزيد ، فهو لم يُؤمن بوحي ولا كتاب ، ولا جنَّة ولا نار . وقد رأى السبط أنَّه إن لم يثأر لحماية الدين ، فسوف يجهز عليه حفيدُ أبي سفيان ويجعله أثراً بعد عين ، فثار (ع) ثورته الكبرى التي فدى بها دين الله ، فكان دمه الزاكي ، المعطَّر بشذى الرسالة ، هو البلسم لهذا الدين .
فإنَّ من المؤكَّد أنَّه لو لا تضحيته ، لم يبق للإسلام اسم ولا رسم ، وصار الدين دين الجاهلية ، ودين الدعارة والفسوق ، ولذهبت سُدى جميع جهود النبي (ص) وما كان ينشده للناس من خير وهدى .
وقد نظر النبي (ص) من وراء الغيب واستشفَّ مستقبل أُمَّته ، فرأى بعين اليقين ، ما تُمنى به الأُمَّة من الانحراف عن الدين ، وما يُصيبها من الفِتَن والخطوب على أيدي أُغَيْلِـمَةٍ من قريش ، ورأى أنّ الذي يقوم بحماية الإسلام هو الحسين (ع ) ، فقال (ص) كلمته الخالدة : " حسين مني وأنا من
حسين " ، فكان النبي (ص) حقَّاً من الحسين ؛ لأنّ تضحيته كانت وقاية للقران . وسيبقي دمه الزكي يروي شجرة الإسلام على مرِّ الأحقاب والآباد .
5 ـ صيانة الخلافة :
ومن ألمع الأسباب التي ثار من أجلها الإمام الحسين (ع) ؛ تطهير الخلافة الإسلامية من أرجاس الأمويين الذين نزوا عليها بغير حق.. فلم تَعُد الخلافة ـ في عهدهم ـ وسيلة لتحقيق العدل الاجتماعي بين الناس كما يريدها الإسلام ، والقضاء على جميع أسباب التخلُّف والفساد في الأرض .
لقد اهتم الإسلام اهتماماً بالغاً بشأن الخلافة ؛ باعتبارها القاعدة الصلبة لإشاعة الحق والعدل بين الناس . فإذا صلُحت ، نَعِمَت الأُمَّة بأسرها . وإذا انحرفت عن واجباتها ، فإنّ الأُمَّة تصاب بتدهور سريع في جميع مقوِّماتها الفكرية والاجتماعية.
ومن ثَمَّ فقد عنى الإسلام في شأنها أشدَّ ما تكون العناية ؛ فألزم مَن يتصدَّى لها بأن تتوفَّر فيه النزعات الخيِّرة والصفات الشريفة ، من العدالة والأمانة ، والخبرة بما تحتاج إليه الأُمَّة في مجالاتها الاقتصادية والإدارية والسياسية . وحرَّم على مَن فقد هذه الصفات أن يُرشِّح نفسه للخلافة..
وقد تحدَّث (ع) في أُولى رسائله إلى أهل الكوفة ، عن الصفات التي يجب أن تتوفَّر فيمَن يُرشِّح نفسه إلى إمامة المسلمين وإدارة شؤونهم ، قال (ع) :
" فلعمري ، ما الإمام إلاَّ العامل بالكتاب ، والآخذ بالقسط ، والدائن بالحق ، والحابس نفسه على ذات الله " (6) .
فمَن تحلَّى بهذه الصفات ، كان له الحق في تقديم نفسه لإمامة المسلمين وخلافتهم . ومَن لم يتَّصف بها ، فلا حقَّ له في التصدِّي لهذا المركز الخطير الذي كان يشغله الرسول (ص).
إنّ الخلافة الإسلامية ليست مجرد سلطة زمينة على الأُمَّة ، وإنَّما هي نيابة عن الرسول (ص) ، وامتداد ذاتي لحكومته المشرقة . وقد رأي الإمام الحسين أنّ مركز جده قد صار إلى سكِّير مستهتر ، لا يعي إلاَّ شهواته ورغباته ؛ فثار (ع) ليعيد للخلافة الإسلامية كيانها المشرق وماضيها الزاهر .
6 ـ تحرير إرادة الأُمَّة :
ولم تملك الأُمَّة في عهد معاوية ويزيد إرادتها واختيارها ؛ فقد كانت جثَّة هامدة ، لا وعي فيها ولا اختيار ، قد كُبِّلت بقيود ثقيلة سدَّت في وجهها منافذ النور والوعي ، وحيل بينها وبين إرادتها .
لقد عمل الحكم الأموي على تخدير المسلمين وشلِّ تفكيرهم . وكانت قلوبهم مع الإمام الحسين ، إلاَّ أنَّهم لا يتمكَّنون من متابعة قلوبهم وضمائرهم . فقد استولت عليها حكومة الأمويين بالقهر ، فلم يملكوا من أمرهم شيئاً . فلا إرادة لهم ولا اختيار ، ولا عزم ولا تصميم ، فأصبحوا كالأنصاب ، لا وعي فيهم ولا حراك ، قد قبعوا أذلاَّء صاغرين ، تحت وطأة سياط الأمويين وبطشهم .
لقد هبَّ الإمام إلى ساحات الجهاد والفداء ليُطعم المسلمين بروح العزة والكرامة ، فكان مقتله نقطة تحوُّل في تاريخ المسلمين وحياتهم ، فانقلبوا رأساً على عَقِب ، فتسلَّحوا بقوة العزم والتصميم ، وتحرَّروا ومن جميع السلبيات التي كانت مُلمَّة بهم ، وانقلبت مفاهيم الخوف والخنوع التي كانت جاثمة عليهم إلى مبادئ الثورة والنضال ، فهبَّوا متضامنين في ثورات مكثَّفة ، وكان شعارهم : ( يا لثارات الحسين ) ، فكان هذا الشعار هو الصرخة المدوِّية التي دكَّت عروش الأمويين وأزالت سلطانهم .
7 ـ تحرير اقتصاد الأُمَّة :
وانهار اقتصاد الأُمَّة ، الذي هو شريان حياتها الاجتماعية والفردية . فقد عَمَد الأمويين ـ بشكل سافر ـ إلى نهب الخزينة المركزية ، والاستئثار بالفيء ، وسائر ثمرات الفتوح والغنائم ؛ فحازوا الثراء العريض ، وتكدَّست في بيوتهم الأموال الهائلة التي حاروا في صرفه .
وقد أعلن معاوية أمام المسلمين : أنّ المال مال الله ، وليس مال المسلمين ؛ فهو أحق به .
ويقول سعيد بن العاص :
إنَّما السواد بستان قريش ، وقد أخذوا يُنفقون الأموال على أغراضهم السياسية ، التي لا تمتُّ بصلة لصالح الأُمَّة .
أما موادُّ إنفاقهم البارزة ، فهي :
أ ـ شراء الضمائر والأديان . وقد تقدَّمت الشواهد المؤيِّدة لذلك عند البحث عن سياسة معاوية الاقتصادية .
ب ـ الإنفاق على لجان الوضع ؛ لافتعال الأخبار التي تدعم الكيان الأموي وتحطُّ من قيمة أهل البيت ، وقد ألمعنا إلى ذلك بصورة مفصَّلة .
ج ـ الهِبَات الهائلة ، والعطايا الوافرة ، للوجوه والأشراف ؛ لكمِّ أفواههم عمَّا تقترفه السلطة من الظلم للرعية .
د ـ الصرف على المجون والدعارة ، فقد امتلأت بيوتهم بالمغنِّين والمغنِّيات ، وأدوات العزف وسائر المنكرات .
هذه بعض الموارد التي كان يُنفق عليها الأموال ، في حين أنّ الجوع قد نهش الأُمَّة وعمَّت فيها المجاعة ، وانتشر شبح الفقر في جميع الأقطار الإسلامية سوى الشام ، فقد رفَّه عليها ؛ لأنَّها الحصن المنيع الذي كان يحمي جور الأمويين وظلمهم .
وقد ثار الإمام الحسين (ع) ليحمي اقتصاد الأُمَّة ويعيد توازن حياتها المعاشية ، وقد صادر أموالاً من الخراج كانت قد أُرسلت لمعاوية ، كما صادر أموالاً أخرى أُرسلت من اليمن إلى خزينة دمشق في أيَّام يزيد ، وقد أنفقها على الفقراء والمعوزين . وكان (ع) أكثر ما يعاني من الآلام ، هو أنّه يرى الفقر قد أخذ بخناق المواطنين ، ولم يُنفق شيء من بيت المال على إنعاش حياتهم .
8 ـ المظالم الاجتماعية :
وانتشرت المظالم الاجتماعية في أنحاء البلاد الإسلامية ، فلم يَعُد قطر من الأقطار إلاَّ وهو يعجُّ بالظلم والاضطهاد من جورهم . وكان من مظاهر ذلك الظلم ما يلي :
1 ـ فَقْد الأمن . وانعَدَمَ الأمن في جميع أنحاء البلاد ، وساد الخوف والإرهاب على جميع المواطنين . فقد أسرفت السلطة الأموية بالظلم ، فجعلت تأخذ البريء بالسقيم ، والمُقبِل بالمُدبِر ، وتعاقب على الظِّنَّة والتهمة ، وتسوق الأبرياء بغير حساب إلى السجون والقبور . وكان الناس في عهد زياد يقولون :
" انج سعد ؛ فقد هلك سعيد " . ولا يوجد أحد إلاَّ وهو خائف على دمه وماله ؛ فثار الإمام الحسين (ع) لينقذ الناس من هذا الجور الهائل .
2 ـ احتقار الأُمَّة . وكان الخط السياسي الذي انتهجه الأمويون ، العملَ على إذلال الأُمَّة والاستهانة بها . وكان من مظاهر ذلك الاحتقار ، أنّهم كانوا يختمون في أعناق المسلمين ـ كما تُوسَم الخيل ـ علامة لاستعبادهم ، كما نقشوا على أكُفِّ المسلمين علامة لاسترقاقهم كما يصنع بالعُلُوج من الروم والحبشة (7) . وقد هب الإمام (ع ) في ميادين الجهاد ليفتح للمسلمين أبواب العزة والكرامة ، ويُحطِّم عنهم ذلك الكابوس المظلم ، الذي أحال حياتهم إلى ظلام قاتم ، لا بصيص فيه من النور .
9 ـ المظالم الهائلة على الشيعة :
وذهبت نفس الإمام الحسين أسىً على ما عانته الشيعة في عهد معاوية من ضروب المحن والبلاء . فقد أمعن معاوية في ظلمهم وإرهاقهم ، وفتك بهم فتكاً ذريعاً ، وراح يقول للإمام الحسين : " يا أبا عبد الله ، علمتَ أنَّا قتلنا شيعة أبيك ، فحنَّطناهم وكفَّناهم وصلَّينا عليهم ودفنَّاهم " (8) .
وقد بذل قصارى جهوده في تصفية الحساب معهم . وقد ذكرنا عرضاً مفصَّلاً لِمَا عانوه في عهد معاوية ، وخلاصته :
1 ـ إعدام أعلامهم : كحجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وصيفي بن فسيل ، وغيرهم .
2 ـ صلبهم على جذوع النخل .
3 ـ دفنهم أحياءاً .
4 ـ هدم دورهم .
5 ـ عدم قبول شهادتهم .
6 ـ حرمانهم من العطاء .
7 ـ ترويع السيِّدات من نسائهم .
8 ـ إذاعة الذعر والخوف في جميع أوساطهم .
إلى غير ذلك من صنوف الإرهاق الذي عانوه .وقد ذُعِرَ الإمام الحسين (ع) ممَّا حَلَّ بهم ، فبعث بمذكَّرته الخطيرة لمعاوية ، التي سجَّل فيها جرائم ما ارتكبه في حق الشيعة ، وقد ذكرناها في البحث عن حكومة معاوية .
لقد كانت الإجراءات القاسية التي اتخذها الحكم الأموي ضد الشيعة من أسباب ثورته ، فهبَّ لإنقاذهم من واقعهم المرير ، وحمايتهم من الجور والظلم .
10 ـ محو ذكر أهل البيت :
ومن ألمع الأسباب التي ثار من أجلها أبو الشهداء (ع) ، هو أنّ الحكم الأموي قد جهد على محو ذكر أهل البيت (ع) ، واستئصال مآثرهم ومناقبهم . وقد استخدم معاوية في هذا السبيل أخبث الوسائل ، وهي :
1 ـ افتعال الأخبار في الحطِّ من شأنهم .
2 ـ استخدام أجهزة التربية والتعليم لتربية النُّشَّئ على بغضهم.
3 ـ معاقبة مَن يذكر مناقبهم بأقصى العقوبات.
4 ـ سبُّهم على المنابر والمآذن وخطب الجمعة . وقد عقد الإمام الحسين (ع) مؤتمره السياسي الكبير في مكَّة المكرَّمة ، وأحاط المسلمين علماً بالإجراءات الخطيرة التي اتخذها معاوية إلى إزالة أهل البيت عن الرصيد الإسلامي ...
وكان (ع) يتحرَّق شوقاً إلى الجهاد ، ويودُّ أنَّ الموت قد وافاه ولا يسمع سبَّ أبيه على المنابر والمآذن .
11 ـ تدمير القيم الإسلامية :
وعمَد الأمويون إلى تدمير القيم الإسلامية ، فلم يعُد لها أيُّ ظلٍّ على واقع الحياة الإسلامية ، وهذه بعضها :
أ ـ الوحدة الإسلامية .
وأشاع الأمويون الفِرْقة والاختلاف بين المسلمين ، فاحيوا العصبيات القبلية ، وشجَّعوا الهجاء بين الأُسر والقبائل العربية ؛ حتى لا تقوم وحدة بين
المسلمين . وقد شجَّع يزيدُ الأخطلَ على هجاء الأنصار ، الذين آووا النبي (ص) وحاموا عن دينه أيَّام غربة الإسلام ومحنته .
لقد كانت الظاهرة البارزة في شعر ذلك العصر هي الهجاء المقذع ، فقد قَصَر الشعراء مواهبهم الأديبة على الهجاء ، والتفنُّن في أساليب القذف ، والسب للأُسر التي كانت تنافس قبائلهم . وقد خلى الشعر الأموي عن كل نزعة إنسانية أو مقصد اجتماعي ، وتفرَّد بظاهرة الهجاء . وقد خولف بذلك ما كان ينشده الإسلام من الوحدة الشاملة بين أبنائه .
ب ـ المساواة .
وهدم الأمويون المساواة العادلة التي أعلنها الإسلام ، فقدَّموا العرب على الموالي ، وأشاعوا جواً رهيباً من التوتُّر والتكتُّل السياسي بين المسلمين . وكان من جراء ذلك أن ألَّف الموالي مجموعة من الكتب في نقص العرب وذمِّهم ، كما ألَّف العرب كتباً في نقص الموالي واحتقارهم . وعلى رأس القائمة التي أثارت هذا النحو من التوتر بين المسلمين ، زياد بن أبيه ، فقد كان حاقداً على العرب ، وقد عهد إلى الكتَّاب بانتقاصهم .
وقد خالفت هذه السياسة النكراء روح الإسلام ، الذي ساوى بين المسلمين في جميع الحقوق والواجبات على اختلاف قوميَّاتهم .
ج ـ الحرية .
ولم يَعُد أي مفهوم للحرية ماثلاً على مسرح الحياة طيلة الحكم الأموي . فقد كانت السلطة تحاسب الشعب حساباً منكراً وعسيراً ، على كل بادرة لا تتَّفق مع رغباته ، حتى لم يعد في مقدور أيِّ أحدٍ أن يُطالب بحقوقه ، أو يتكلَّم بأي مصلحة للناس ؛ فقد كان حكم النطع والسيف هو السائد في ذلك العصر .
لقد ثار أبو الأحرار لينقذ الانسان المسلم وغيره من الاضطهاد الشامل ، ويُعيد للناس حقوقهم التي ضاعت في أيَّام معاوية ويزيد .
12 ـ انهيار المجتمع :
وانهار المجتمع في عصر الأمويين ، وتحلَّل من جميع القيم الإسلامية .
أما أهمُّ العوامل التي أدَّت إلى انهياره ، فهي :
1 ـ حرمان المجتمع من التربية الروحية . فلم يحفل بها أحد من الخلفاء سوى الإمام أمير المؤمنين (ع) ، فقد عُنِـي بها عناية بالغةً ، إلاَّ أنَّه قد مُنِي بالأحداث الرهيبة التي منعته من مواصلة مسيرته في إصلاح الناس وتقويم أخلاقهم .
2 ـ إمعان الحكم الأموي في إفساد المجتمع وتضليله ، وتغديته بكل ما هو بعيد عن واقع الإسلام وهديه .
إنّ هذين العاملين ـ فيما نحسب ـ من أهمِّ العوامل التي أدَّت على إلى انهيار ذلك المجتمع ... .
أمَّا مظاهر ذلك التحلل والانهيار ، فهي :
1 ـ نقض العهود .
ولم يتأثَّم أغلب أبناء ذلك المجتمع من نقض العهود والمواثيق ، فقد كان عدم الوفاء بها أمراً عاديَّاً ، ومتسالماً عليه . وقد شجَّعهم على ذلك (كسرى العرب) ، فقد أعلن في خطابه بالنُّخَيلَة أنّ كل ما شرطه على نفسه للإمام الحسن لا يفي به ، وعَمَدَ إلى نقض جيمع الشروط التي أعطاها له .. وكانت هذه الظاهرة من أبرز ذاتيَّات الكوفيين ، فقد أعطوا للإمام الحسين أعظم العهود والمواثيق على مناصرته ، ومناجزة عدوه ، إلاَّ أنَّهم خالفوا ما عاهدوا عليه الله ، فخذلوه وقتلوه .
2 ـ عدم التحرُّج من الكذب .
ومن الأمراض التي أُصيب بها ذلك المجتمع عدم التحرُّج من الكذب ، وقد مُنِي الكوفيون بذلك بصورة خاصة ، فإنَّهم لمَّا أحاطوا بالإمام الحسين (ع) ـ يوم الطف ـ لقتله ، وجَّه (ع) سؤالاً إلى قادة الفِرَق الذين كاتبوه بالقدوم إليهم ، فقال :
" يا شبث بن ربعي ، ويا حجار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا زيد بن الحرث ، ألم تكتبوا إليَّ : أن قد أينعت الثمار ، وأخضرَّ الجناب ، وإنَّما تقدِم على جُنْدٍ لك مجنَّدة.. " .
ولم تخجل تلك النفوس القذرة من تعمُّد الكذب ، فأجابوه مجمعين : " لم نفعل " .
وبُهِرَ الإمام ، فاندفع يقول : ( سبحان الله !! بلى والله ، لقد فعلتم.. ) .
وقد جروا إلى المجتمع ـ بما اقترفوه من الآثام ـ كثيراً من الويلات والخُطوب ، وتسلَّح بهم أئمة الظلم والجور إلى اضطهاد المسلمين ، وإرغامهم على ما يكرهون .
3 ـ عرض الضمائر للبيع .
وقد كان من أحطِّ ما وصل إليه ذلك المجتمع من الانحراف والزَّيْغ ، عرض الضمائر والأديان لبيعها على السلطة جِهاراً . وقد ألمعنا إلى ذلك بصورة مفصَّلة عند البحث عن عهد معاوية .
4 ـ الإقبال على اللهو .
وأقبل المجتمع بنهم على اللهو والدعارة ، وقد شجع الأمويون بصورة مباشرة حياة المجون ؛ لزعزعة العقيدة الدينية من النفوس ، وصرف الناس عمَّا ينشده الإسلام من التوازن في سلوك الفرد .
هذه بعض الأمراض التي ألمَّت بالمجتمع الإسلامي ، وقد أدَّت إلى تسيُّبه ، وانهيار قيمه . وقد ثار الإمام الحسين (ع) ليقضى على التذبذب والانحراف الذي مُنِيت به الأُمَّة .
13 ـ الدفاع عن حقوقه :
وانبرى الإمام الحسين (ع) للجهاد دفاعاً عن حقوقه التي نهبها الأمويون واغتصبوها . وأهمُّها ـ فيما نحسب ـ ما يلي :
1 ـ الخلافة .
وآمن الإمامُ الحسين (ع) ـ كأبيه ـ أنَّ العترة الطاهرة أولى بمقام رسول الله (ص) ، وأحقُّ بمركزه من غيرهم ؛ لأنَّهم أهل بيت النبوة ، ومَعْدِن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بهم فتح الله وبهم ختم ، على حدِّ تعبيره . وقد طُبِع على هذا الشعور وهو في غضون الصبا ، فقد انطلق إلى عمر وكان على منبر رسول الله (ص) فصاح به : ( انزل عن منبر أبي ، واذهب إلى منبر أبيك ) .
ولم ينفرد الإمام الحسين بهذا الشعور ، وإنَّما كان سائداً عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام) . فهم يرون أنَّ الخلافة من حقوقهم ؛ لأنَّهم ألصق الناس برسول الله (ص) ، وأكثرهم وعياً لأهدافه.. .
وهناك شيءٌ آخر جدير بالاهتمام ، وهو أنَّ الحسين (ع) كان هو الخليفة الشرعي بمقتضى معاهدة الصلح التي تم الاتفاق عليها . فقد جاء في بنودها :
( ليس لمعاوية أن يعهد بالأمر إلى أحد من بعده ، والأمر بعده للحسن ، فإن حدث به حدثٌ ، فالأمر للحسين ) (9) .
وعلى هذا ، فلم تكن بيعة يزيد شرعية ، فلم يخرج الإمام الحسين (ع) على إمام من أئمة المسلمين ـ كما يذهب لذلك بعض ذوي النزعات الأموية ـ وإنَّما خرج (ع) على ظالم مغتصب لحقِّه .
2 ـ الخُمس .
والخُمس حقٌّ مفروض لأهل البيت (ع) ، نص عليه القران وتواترت به السُّـنَّة ، ولكن الحكومات السابقة تناهيته ، فلم تُؤدِّ لهم منه شيئاً ؛ لشلِّ حركة المقاومة عند العلويين . وقد أشار الإمام الحسين (ع) إلى ذلك في حديثه مع أبي هرة ، الذي نهاه عن الخروج على بني أمية ، فقال (ع) له :
( ويحك أبا هرة ، إنَّ بني أمية أخذوا مالي ، فصبرت ) .
وأكبر الظن أنَّ المال الذي أخذته بنو أمية منه هو الخُمس . وقد أعلن ذلك دعبل الخزاعي في رائعته التي أنشدها الإمام الرضا (ع) في خراسان ، بقوله :
أَرى فَيئَهُم في غَيرِهِم مُتَقَسَّماً = وَأَيديهُم مِن فَيئِهِم صَفِراتِ
والْتاعَ الإمام الرضا (ع) فجعل يقلب يديه ، وهو يقول : ( إنَّها ـ والله ـ لصَفِرات ) .
وقد أقضَّ مضاجع العلويين منعُهم من الخُمس ، باعتباره أحد المصادر الرئيسية لحياتهم الاقتصادية . ولعل الإمام الحسين قد استهدف بنهضته إرجاع هذا الحق السليب لأهل البيت (ع) .
14 ـ الأمر بالمعروف :
ومن أوكد الأسباب التي ثار من أجلها أبي الضيم (ع) ، إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنَّهما من مقوِّمات هذا الدين ، والإمام بالدرجة الأولى مسؤول عنهما.
وقد أدلى (ع) بذلك في وصيته لأخيه ابن الحنفية ، التي أعلن فيها عن أسباب خروجه على يزيد ، فقال (ع ) : ( إنِّي لم أخرج أشراً ، ولا بَطِراً ، ولا ظالماً ، ولا مُفسِداً ؛ وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي ، أُريد أن أمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ) .
لقد انطلق (ع) إلى ميادين الجهاد ليقيم هذا الصرح الشامخ الذي بُنيت عليه الحياة الكريمة في الإسلام ، وقد انهارت دعائمه أيَّام الحكم الأموي . فقد أصبح المعروف في عهدهم منكر ، والمنكر معروف . وقد أنكر عليهم الإمام في كثير من المواقف ، والتي كان منها خطابه الرائع أمام المهاجرين والأنصار ، فقد شجب فيه تخاذلهم عن نصرة الحق و دحض الباطل ، وإيثارهم للعافية ، وقد ذكرناه في الحلقة الأولى من هذا الكتاب .
وممَّا قاله (ع) في هذا المجال أمام أصحابه وأهل بيته يوم الطف :
(ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ؛ ليرغب المؤمن في لقاء ربِّه ) لقد آثر الموت على الحياة ؛ لأنَّه يرى الحق قد تلاشى والباطل قد استشرى .
15 ـ إماتة البِدَع :
وعَمَدَ الحُكْم الأموي إلى نشر البِدَع بين المسلمين ، التي لم يقصد منها إلاَّ محق الإسلام ، وإلحاق الهزيمة به . وقد أشار الإمام (ع) إلى ذلك في رسالته التي بعثها لأهل البصرة ، يقول (ع) : ( فإنَّ السُّـنَّة قد أُميتت ، والبدعة قد أُحييت ) (10) .
لقد ثار (ع) ليقضي على البدع الجاهلية التي تبنَّاها الأمويون ، ويُحيي سُّـنَّة جدِّه التي أماتوها ، فكانت نهضته الخالدة من أجل إماتة الجاهلية ونشر راية الإسلام .
16 ـ العهد النبوي :
واستشفَّ النبي (ص) من وراء الغيب ما يُمنى به الإسلام من الأخطار الهائلة على أيدي الأمويين ، وأنَّه لا يمكن بأيِّ حال تجديد رسالته وتخليد مبادئه إلاَّ بتضحية ولده الإمام الحسين (ع) ، فإنَّه هو الذي يكون الدرع الواقي لصيانة الإسلام ؛ فعهد إليه بالتضحية والفداء . وقد أدلى الحسين بذلك حينما عدله المشفقون عليه من الخروج إلى العراق ، فقال (ع) لهم : ( أمرني رسول الله (ص) بأمرٍ ، وأنا ماض إليه.. ) .
ويقول المؤرِّخون : إنَّ النبي (ص) كان قد نعى الحسين إلى المسلمين ، وأحاطهم علماً بشهادته وما يعانيه من أهوال المصائب ، وكان ـ باستمرار ـ يتفجَّع عليه ويلعن قاتله . وكذلك أخبر الإمام أمير المؤمنين (ع) بشهادته وما يجرى عليه . وقد ذكرنا في الحلقة الأولى من هذا الكتاب الأخبار المتواترة بذلك.. .
وكان الإمام الحسين (ع) على علم وثيق بما يجرى عليه ، فقد سمع ذلك من جدِّه وأبيه ، وقد أيقن بالشهادة ، ولم يكن له أيُّ أمل في الحياة ، فمشى إلى الموت بعزمٍ وتصميمٍ ؛ امتثالاً لأمر جدِّه الذي عهد إليه بذلك.
17 ـ العزة والكرامة :
ومن أوثق الأسباب التي ثار من أجلها أبو الأحرار ، هو : العزة والكرامة . فقد أراد الأمويون إرغامه على الذُّل والخنوع ، فأبى إلاَّ أن يعيش عزيزاً تحت ظلال السيوف والرماح ، وقد أعلن (سلام الله عليه) ذلك يوم الطف بقوله : ( ألا وإنَّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين : بين السلَّة والذِّلة ، وهيهات منا الذلة ؛ يأبى الله لنا ذلك ورسوله ، ونفوس أبيَّة ، وأنوف حميَّة ، من أن نُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.. ) . وقال (ع) : ( لا أرى الموت إلاَّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاَّ برماً.. ) .
لقد عانق الموت بثغر باسم في سبيل إبائه وعزَّته ، وضحَّى بكل شيءٍ من أجل حرِّيته وكرامته .
18 ـ غدر الأمويين وفتكهم :
وأيقن الإمام الحسين (ع) أنَّ الأمويين لا يتركونه ، ولا تكفُّ أيديهم عن الغدر والفتك به ، حتى لو سالمهم وبايعهم ؛ وذلك لِمِا يلي :
1 ـ أنَّ الإمام كان ألمع شخصية في العالم الإسلامي ، وقد عقد له المسلمون في دخائل نفوسهم خالص الود والولاء ؛ لأنَّه حفيد نبيِّهم ، وسيد شباب أهل الجنَّة . ومن الطبيعي أنَّه لا يروق للأمويين وجود شخصية تتمتَّع بنفوذ قوي ، ومكانة مرموقة في جميع الأوساط ، فإنَّّّّّها تُشكِّل خطراً على سلطانهم وملكهم .
2 ـ أنَّ الأمويين كانوا حاقدين على النبي (ص) ؛ لأنَّه وَتَرَهم في واقعة بدر ، وألحق بهم الهزيمة والعار . وكان يزيد يترقَّب الفُرَص للانتقام من أهل بيت النبي (ص) ليأخذ ثارات بدر منهم . ويقول الرواة : إنَّه كان يقول :
لستُ من خندفَ إنْ لم أنتقم = من بني أحمد ما كانَ فعل
ولمَّا استوفى ثأره وروى أحقاده بإبادتهم ، أخذ يترنَّم ويقول :
قد قتلنا القَرْمَ من ساداتِهم = وعَدَلْنَاه ببَدْرٍ فاعتدل
3 ـ أنَّ الأمويين قد عُرفوا بالغدر ونقض العهود ، فقد صالح الحسن معاوية ، وسلَّم إليه الخلافة ، ومع ذلك فقد غدر معاوية به ، فدسَّ إليه سُمَّاً فقتله ، وأعطوا الأمان لمسلم بن عقيل فخانوا به.. وقد ذكرنا في البحوث السابقة مجموعة من الشخصيات التي اغتالها معاوية خشيةً منهم .
وقد أعلن الإمام الحسين (ع) أنَّ بني أمية لا يتركونه ، يقول (ع ) لأخيه محمد بن الحنفية : ( لو دخلتُ في حجر هَامَّةٍ من هذه الهَوَام ، لاستخرجوني حتى يقتلوني ) . وقال (ع) لجعفر بن سليمان الضبعي : ( والله ، لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العُلْقَة ( يعني قلبه الشريف ) من جوفي ) .
واختار (ع) أن يُعلن الحرب ويموت ميتة كريمة ، تهُزُّ عروشهم ، وتقضي على جبروتهم وطغيانهم .
هذه بعض الأسباب التي حفَّزت أبا الأحرار إلى الثورة على حكم يزيد .
رأي رخيص :
ووصف جماعة من المتعصِّبين لبني أمية ، خروج الإمام على يزيد ، بأنَّه كان من أجل المُلْك والظفر بخيرات البلاد .
وهذا الرأي ينمُّ عن حقدهم على الإمام بما أحرزه من الانتصارات الرائعة في نهضته المباركة ، التي لم يظفر بمثل معطياتها أيُّ مصلحٍ اجتماعي في الأرض ، وقد يكون لبعضهم العُذر ؛ لجهلهم بواقع النهضة الحسينية ، وعدم الوقوف على أسبابها .
لقد كان الإمام على يقين بإخفاق ثورته في الميادين العسكرية ؛ لأنَّ خصمه كان يدعمه جندٌ مكثَّف ، أولو قوة وأولو بأس شديد ، وهو لم تكن عنده أيَّة قوة عسكرية ليحصل على المُلْك .
ولو كان المُلْك غايته ـ كما يقولون ـ لعاد إلى الحجاز أو مكانٍ آخر حينما بلغه مقتل سفيره مسلم بن عقيل ، وانقلاب الكوفة عليه . ويحصل حينئذٍ ـ من جديد ـ على ضمان غايته ونجاح مهمته . لقد كان الإمام على علمٍ بأنَّ الأوضاع السائدة كلها كانت في صالح بني أمية ، وليس منها ممَّا يدعمه أو يعود لصالحه .
يقول ابن خلدون : ( إنَّ هزيمة الحسين كانت أمراً محتَّماً ؛ لأنَّ الحسين لم تكن له الشوكة التي تُمكِّنه من هزيمة الأمويين ، لأنَّ عصبية مُضر في قريش ، وعصبية قريش في عبد مناف ، وعصبية عبد مناف في بني أمية ، فعرف ذلك لهم قريش ، وسائر الناس لا ينكرونه ) (11) .
لقد كانت ثورة الإمام من أجل غايةٍ لا يُفكِّر بها أولئك الذين فقدوا وعيهم واختيارهم ، فقد كان خروجه على حُكْم يزيد من أجل حماية المُثُل الإسلامية والقيم الكريمة من الأمويين الذين حملوا معول الهدم...
يقول بعض الكتاب المعاصرين :
( ويحقُّ لنا أن نسال : ماذا كان هدف الحسين (عليه السلام) ؟ وماذا كانت القضية التي يعمل من أجلها ؟ أمَّا لو كان هدفه شخصيَّاً يتمثَّل في رغبته في إسقاط يزيد ، ليتولَّى هو بنفسه الخلافة التي كان يطمع إليها ، ما وجدنا فيه هذا الإصرار على التقدُّم نحو الكوفة ، رغم وضوح تفرُّق الناس من حوله ، واستسلامهم لابن زياد ، وحملهم السلاح في أعداد كثيرة لمواجهته والقضاء عليه .
إنَّ أقصر الناس نظراً كان يُدرك أنَّ مصيره لن يختلف عمَّا آل إليه فعله . ولو كان الحسين بهذه المكانة من قصر النظر ، لعاد إلى مكَّة ليعمل من جديد للوصول إلى منصب الخلافة.. ولو كان هدفه في أول الأمر الوصول إلى منصب الخلافة ، ثمَّ لمَّا بلغه مصرع ابن عمِّه قرر مواصلة السفر ؛ للثأر من قاتليه ـ كما يزعم بعض الباحثين ـ استجابةً لقضية أهله وأقاربه ، لو كان هذا هدفه ، لأدرك أنَّ جماعته التي خرجت معه للثأر ـ وهي لا تزيد على التسعين ، رجالاً ونساءً وأطفالاً ـ لن تصل إلى شيءٍ من ذلك من دون أن يُقضى على أفرادها جميعاً ، وبغير أن يُضحِّي هو بنفسه ضحيةً رخيصةً في ميدان الثأر .
ومن ثمَّ يكون من واجبه للثأر أن يَرجع ليُعيد تجميع صفوف أنصاره وأقربائه ، ويتقدَّم في الجمْع العظيم من الغاصبين والموتورين .
فالقضية إذاً ليست ـ في الجمع ـ ثأراً ، والهدف ليس هدفاً شخصياً ، وإنَّما الأمر أمر الأُمَّة ، والقضية كانت للحق ، والإقدام إقدام الفدائي الذي أراد أن يضرب المثل بنفسه في البذل والتضحية . ولم يكن إصرار الحسين على التقدُّم نحو الكوفة ـ بعد ما علم من تخاذل أهلها ، ونكوصهم عن الجهاد ـ إلاَّ ليجعل من استشهاده علَماً تلتفُّ حوله القلَّة التي كانت لا تزال تُؤمن بالمُثُل ، وتلتمس في القادة من يُنير لها طريق الجد في الكفاح.. وتحريكاً لضمائر المتخاذلين القاعدين عن صيانة حقوقهم ورعاية صوالحهم ) .
وألمَّ هذا القول بالواقع المشرق الذي ناضل من أجله الإمام الحسين ، فهو لم يستهدف أيَّ مصلحة ذاتية ، وإنَّما استهدف مصلحة الأُمَّة وصيانتها من الأمويين .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* اقتباس قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي ، المصدر : " حياة الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) " / ج2 / ص 267 / مطبعة الآداب / النجف الأشرف / ط1 / سنة 1975 .
(1) تفسير المنار : 1 / 367 ، و 12 / 183 و 185.
(2) الثائر الأول في الإسلام : 79 .
(3) سبط الرسول : 133 .
(4) نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية : 334 .
(5) الإمام الحسين : 94 .
(6) تاريخ ا