الجزع على الإمام الحسين (عليه السّلام)
الجزع في المصاب محرّم ما عدى مصاب الإمام الحسين (عليه السّلام) ، فعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السّلام) فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ قَالَ لِشَيْخٍ : (( أَيْنَ أَنْتَ عَنْ قَبْرِ جَدِّيَ الْمَظْلُومِ الْحُسَيْنِ ؟ )) قَالَ : إِنِّي لَقَرِيبٌ مِنْهُ . قَالَ (ع) : (( كَيْفَ إِتْيَانُكَ لَهُ ؟ )) قَالَ : إِنِّي لآَتِيهِ وَ أُكْثِرُ . قَالَ (ع) : (( ذَاكَ دَمٌ يَطْلُبُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، ثُمَّ قَالَ : كُلُّ الْجَزَعِ وَ الْبُكَاءِ مَكْرُوهٌ ، مَا خَلَا الْجَزَعَ وَ الْبُكَاءَ لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ (عليه السّلام) ))(50) .
عَنْ مِسْمَعِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ : قَالَ لِي أَبُوعَبْدِ اللَّهِ (عليه السّلام) فِي حَدِيثٍ : (( أَمَا تَذْكُرُ مَا صُنِعَ بِهِ ( يَعْنِي بِالْحُسَيْنِ ) ؟ )) قُلْتُ : بَلَى . قَالَ : (( أَتَجْزَعُ ؟ )) قُلْتُ : إِي وَاللَّهِ ، وَأَسْتَعْبِرُ بِذَلِكَ حَتَّى يَرَى أَهْلِي أَثَرَ ذَلِكَ عَلَيَّ فَأَمْتَنِعُ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى يَسْتَبِينَ ذَلِكَ فِي وَجْهِي . فَقَالَ : (( رَحِمَ اللَّهُ دَمْعَتَكَ ، أَمَا إِنَّكَ مِنَ الَّذِينَ يُعَدُّونَ مِنْ أَهْلِ الْجَزَعِ لَنَا وَالَّذِينَ يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا ، أَمَا إِنَّكَ سَتَرَى عِنْدَ مَوْتِكَ حُضُورَ آبَائِي لَكَ وَ وَصِيَّتَهُمْ مَلَكَ الْمَوْتِ بِكَ وَمَا يَلْقَوْنَكَ بِهِ مِنَ الْبِشَارَةِ أَفْضَلُ ، وَلَمَلَكُ الْمَوْتِ أَرَقُّ عَلَيْكَ وَأَشَدُّ رَحْمَةً لَكَ مِنَ الأُمِّ الشَّفِيقَةِ عَلَى وَلَدِهَا ـ إِلَى أَنْ قَالَ ـ مَا بَكَى أَحَدٌ رَحْمَةً لَنَا وَلِمَا لَقِينَا إِلَّا رَحِمَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ الدَّمْعَةُ مِنْ عَيْنِهِ ، فَإِذَا سَالَ دُمُوعُهُ عَلَى خَدِّهِ فَلَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ دُمُوعِهِ سَقَطَتْ فِي جَهَنَّمَ لَأَطْفَأَتْ حَرَّهَا حَتَّى لَا يُوجَدَ لَهَا حَرٌّ ـ وَذَكَرَ حَدِيثاً طَوِيلًا يَتَضَمَّنُ ثَوَاباً جَزِيلًا يَقُولُ فِيهِ : وَمَا مِنْ عَيْنٍ بَكَتْ لَنَا إِلَّا نُعِّمَتْ بِالنَّظَرِ إِلَى الْكَوْثَرِ وَ سُقِيَتْ مِنْهُ مَعَ مَنْ أَحَبَّنَا ))(51) .
وروى ابن قَولَويه بسنده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) قال سمعته يقول : (( إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع ، ما خلا البكاء على الحسين بن علي (عليهما السّلام) فإنّه فيه مأجور ))(52) .
لماذا الحزن على الحسين (عليه السّلام) دون غيره ؟
سؤال طرح قديماً على أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) الذين جاءوا بعد شهادة الإمام الحسين (ع) وكانوا يمارسون البكاء والحزن عليه في مختلف الأوقات وبالأخص في يوم عاشوراء لماذا هذا الاهتمام به دون غيره ممّن تقدّم عليه مثل جدّه وأبيه واُمّه وأخيه خصوصاً أنّ فيهم من هو أفضل منه ؟
فجاء الجواب بما يتناسب مع المقام فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السّلام) : يَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ كَيْفَ صَارَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مُصِيبَةٍ وَغَمٍّ وَحُزْنٍ وَبُكَاءٍ دُونَ الْيَوْمِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ (ص) وَالْيَوْمِ الَّذِي مَاتَتْ فِيهِ فَاطِمَةُ (عليها السّلام) وَالْيَوْمِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَالْيَوْمِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحَسَنُ (ع) بِالسَّمِّ ؟ فَقَالَ : (( إِنَّ يَوْمَ الْحُسَيْنِ (ع) أَعْظَمُ مُصِيبَةً مِنْ جَمِيعِ سَائِرِ الْأَيَّامِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكِسَاءِ الَّذِينَ كَانُوا أَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ (عَزَّ وَجَلَّ) كَانُوا خَمْسَةً ، فَلَمَّا مَضَى عَنْهُمُ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله) بَقِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَ فَاطِمَةُ وَ الْحَسَنُ وَ الْحُسَيْنُ (عليهم السّلام) فَكَانَ فِيهِمْ لِلنَّاسِ عَزَاءٌ وَسَلْوَةٌ ، فَلَمَّا مَضَتْ فَاطِمَةُ (عليها السّلام) كَانَ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ (عليهم السّلام) لِلنَّاسِ عَزَاءٌ وَ سَلْوَةٌ ، فَلَمَّا مَضَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) كَانَ لِلنَّاسِ فِي الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ (عليهما السّلام) عَزَاءٌ وَ سَلْوَةٌ ، فَلَمَّا مَضَى الْحَسَنُ (ع) كَانَ لِلنَّاسِ فِي الْحُسَيْنِ (ع) عَزَاءٌ وَ سَلْوَةٌ ، فَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ (ع) لَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ الْكِسَاءِ أَحَدٌ لِلنَّاسِ فِيهِ بَعْدَهُ عَزَاءٌ وَ سَلْوَةٌ ، فَكَانَ ذَهَابُهُ كَذَهَابِ جَمِيعِهِمْ كَمَا كَانَ بَقَاؤُهُ كَبَقَاءِ جَمِيعِهِمْ ؛ فَلِذَلِكَ صَارَ يَوْمُهُ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ مُصِيبَةً )) الْحَدِيثَ(53) .
بكاء الخلقّ على الإمام الحسين (عليه السّلام)
استفاضت الأخبار عن أنّ الخلق كلّه بكى على سبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) وقرّة عين البتول الحسين بن علي (عليهم السّلام) فقد جاء عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ ثُوَيْرٍ عَنِ الصَّادِقِ (ع) قَالَ فِي حَدِيثٍ : (( إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنَ (ع) لَمَّا قَضَى ، بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَ الْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَ مَا فِيهِنَّ وَ مَا بَيْنَهُنَّ وَ مَنْ يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ وَ النَّارِ مِنْ خَلْقِ رَبِّنَا وَ مَا يُرَى وَ مَا لَا يُرَى ))(54)
وروى ابن قولويه بسنده قالوا : سمعنا أبا عبد الله (عليه السّلام) ) يقول : (( إنّ أبا عبد الله الحسين بن علي ( عليهما السّلام ) لمّا مضى بكت عليه السّماوات السّبع والأرضون السّبع وما فيهن وما بينهن ومَن ينقلب عليهن ، والجنّة والنّار ، وما خلق ربّنا ، وما يري وما لا يري ))(55) .
وقد بكى جميع ما خلق الله على الحسين بن علي ( عليهما السّلام ) وعن أبي بصير ، عن أبي جعفر (عليه السّلام) ، قال : (( بكت الإنس والجنّ والطير والوحش على الحسين بن علي (عليهما السّلام) حتّى ذرفت دموعها ))(56) . أي سالت دموعها .
بكاء السّماء والأرض
عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عليه السّلام) ، قال : (( إنّ الحسين (عليه السّلام) بكى لقتله السّماء والأرض واحمرّتا ، ولم تبكيا على أحد قط إلاّ على يحيى بن زكريا والحسين بن علي(عليهما السّلام) )) (57) .
وعن عبد الله بن هلال ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول : (( إنّ السّماء بكت على الحسين بن علي ويحيى بن زكريا ، ولم تبكِ على أحد غيرهما )) . قلت : وما بكاؤهما ؟ قال : (( مكثوا أربعين يوماً تطلع الشمس بحمرة وتغرب بحمرة )) . قلت : فذاك بكاؤهما ؟ قال : (( نعم ))(58) وذكر ابن قَولَويه 25 حديثاً غير هاتين الروايتين في الباب 28 من كامل الزيارات .
بكاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
عن عبد الله بن محمّد الصنعاني ، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال : (( كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا دخل الحسين (عليه السّلام) جذبه إليه ثمّ يقول لأمير المؤمنين (عليه السّلام) : امسكه ، ثمّ يقع عليه فيقبله ويبكي يقول : يا أبه لم تبكي ؟ فيقول : يا بني اُقبّل موضع السيوف منك وأبكي ))(59) .
بكاء الملائكة على الحسين بن علي (عليهما السّلام)
جاء في الصحيح عن الفضيل بن يسار ، عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : (( مالكم لا تأتونه ، يعني قبر الحسين (عليه السّلام) ، فإنّ أربعة آلاف ملك يبكون عند قبره إلى يوم القيامة ))(60) .
وهناك 19رواية مؤيدة لهذا الخبر ، ذكرها ابن قَولَويه في الباب 27 من كامل الزيارات وبعضها صحيحة السند .
بكاء السجّاد (ع) على أبيه
عن أبي داود المسترق عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : (( بكى علي بن الحسين على أبيه حسين بن علي (صلّى الله عليه وآله) عشرين سنة ، أو أربعين سنة ، وما وضع بين يدَيه طعاماً إلاّ بكى على الحسين حتّى قال له مولى له : جعلتُ فداك يابن رسول الله إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين . قال : إنّما أشكوبثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة لذلك ))(61) .
البكّاؤون
وقال الصادق (عليه السّلام) : (( البكّاءون خمسة ؛ آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة وعلي بن الحسين (عليه السّلام) : فأمّا آدم إنّه بكى على الجنّة حتّى صار على خدَّيه أمثال الأودية . وبكى يعقوب على يوسف حتّى ذهب بصره . وبكى يوسف على يعقوب حتّى تأذّى منه أهل السّجن فقالوا : إمّا تبكي بالليل وتسكت بالنّهار أو تسكت بالليل وتبكي بالنهار . وبكت فاطمة (عليها السّلام) على فراق رسول الله (ص) حتّى تأذّى أهل المدينة ، فكانت تخرج إلى البقيع فتبكي فيه . وبكى علي بن الحسين (عليه السّلام) عشرين سنة ، وما رأوه على أكل ولا على شرب إلاّ وهو يبكي ، فلاموه في ذلك ، فقال : إنّي لم أذكر مصارع أبي وأهل بيتي إلاّ وخنقتني العبرة ))(62) .
عَبرة كلّ مؤمن
عن أبي يحيى الحذّاء عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : (( نظر أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى الحسين فقال : يا عَبرة كلّ مؤمن . فقال : أنا يا أبتاه ؟ قال : نعم يا بني ))(63) .
عن أبي عمارة المنشد قال : ما ذُكر الحسين (ع) عند أبي عبد الله (عليه السّلام) في يوم قط فرأى أبوعبد الله (عليه السّلام) متبسماً في ذلك اليوم إلى الليل وكان (عليه السّلام) يقول : (( الحسين (عليه السّلام) عبرة كلّ مؤمن ))(64) .
عن أبي بصير قال : قال أبو عبد الله (ع) : (( قال : الحسين بن علي (ع) أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلاّ استعبر ))(65) .
سيّد الشهداء
جاء بسند صحيح : عن ربعي بن عبد الله قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) بالمدينة : أين قبور الشهداء ؟ فقال : (( أليس أفضل الشهداء عندكم ؟! والذي نفسي بيده ، أنّ حوله أربعة آلاف ملك شعثا غبرا يبكونه إلى يوم القيامة ))(66) .
أسباب البكاء
إنّ البكاء على المصاب له أسباب عديدة قد تكون ظاهرة وقد لا تكون ظاهرة .
فأمّا الأسباب الظاهرة :
1- علاقة الأبوّة بين الطرفين :
فإذا كان صاحب المصاب أب ، فمن حقّه على ابنه أن يحزن عليه ويبكي وإلاّ عدّ مقصّراً قال تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا )(23) .
ومن الإحسان إليه هو الحزن والبكاء عليه . ولا شكّ أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) هو أبو هذه الاُمّة بعد جدّه وأبيه وأخيه (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) فمن واجبه عليهم الحزن والبكاء على مصابه .
2- علاقة الالتحام والجزئيّة : ويوجد التحام ووئام بين الإمام الحسين (عليه السّلام) وبين جميع المؤمنين وبالأخصّ شيعته ، وقد تعدّدت الروايات في هذا الجانب ؛ فعن الإمام الصادق (عليه السّلام) أنّه قال : (( شيعتنا منّا ، خُلقوا من فاضل طينتنا ))(67) .
وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) : (( يا علي أنت منّي وأنا منك ، روحك من روحي ، وطينتك من طينتي ، وشيعتك خلقوا من فضل طينتنا ، ومَن أحبّهم فقد أحبّنا ، ومَن أبغضهم فقد أبغضنا ، ومَن عاداهم فقد عادانا ، ومَن ودَّهم فقد ودَّنا ))(68) .
قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( إنّ الله تبارك وتعالى اطّلع إلى الأرض فاختارنا ، واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا ، أولئك منّا وإلينا ))(69) .
3- إذا كان صاحب المصاب صاحب حقّ :
كحقّ الإسلام وهو ثابت لكلّ مسلم على مسلم ، فكيف بمَن أحيا الدِّين بدمه الشريف ؟! ولولا الحسين لانطمست معالم الإسلام ؛ فإنّه (عليه السّلام) لمّا رأى الدِّين في خطر ، عندما قام بنو اُميّة في نشر الفساد ، وأحلّوا الحرام وحرّموا الحلال باسم الدِّين ، فجعلوا سبَّ علي بن أبي طالب (عليه السّلام) وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جزءاً من الصلاة ، وأظهروا للنّاس أنّهم أئمّة الإسلام ، فمن حقّ مَن كان سبباً لهداية الاُمّة أن يُبكى ويُحزن عليه .
4- إذا كان صاحب المصاب كبيراً في قومه وفي عشيرته :
حتّى ولَو كان أجنبيّاً وكافراً وعدوّاً وأصابته مصيبة ، فإنّ القلب ينكسر عليه ، ويرقّ له . وقد أثبت التاريخ لقادة الإسلام العظماء كيف أنّهم عاملوا أعدائهم ، وكيف عفَوا وصفحوا ورقّت قلوبهم على غير المسلمين ، وحتّى على أعدائهم الذين قاتلوهم .
وها هو النّبي (صلّى الله عليه وآله) يرمي بردائه إلى عديّ بن حاتم ، كما في الكافي وغيره : فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السّلام) : (( لَمَّا قَدِمَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ إِلَى النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله) ، أَدْخَلَهُ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله) بَيْتَهُ ، وَ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْتِ غَيْرُ خَصَفَةٍ وَ وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ فَطَرَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ))(70) .
ولمّا قَتل الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) عمرو بنَ عبد ودٍّ ، تكرّم عليه ، ولَم يسلبه لامَة حربه ، كما روى الشيخ المفيد في الإرشاد قال : وروى يونس بن بكير عن محمّد بن إسحاق قال : لمّا قَتل علي بن أبي طالب (ع) عمراً ، أقبل نحو رسول الله (ص) ووجهه يتهلّل ، فقال له عمر بن الخطاب : هلاّ سلبته يا علي درعه ، فإنّه ليس تكون للعرب درع مثلها . فقال أمير المؤمنين (ع) : (( إنّي استحييت أن أكشف عَن سوءة ابن عمّي ))(71) .
ولذلك جعل الإسلام كرامة لبنات الملوك المأسورات بعد استرقاقهن الخيار لهن في اختيار الشخص الذي تريده ، ولا يعرضن في الأسواق ، كما روى ذلك ابن شهر آشوب قال : لمّا ورد بسبي الفرس إلى المدينة أراد عمر أن يبيع النّساء ، وأن يجعل الرجال عبيد العرب ، وعزم على أن يحمل العليل والضعيف والشيخ الكبير في الطواف وحول البيت على ظهورهم ، فقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( إنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) قال : أكرموا كريم قوم وإن خالفوكم . وهؤلاء الفرس حكماء كرماء ، فقد ألقَوا إلينا السّلام ورغبوا في الإسلام وقد أعتقت منهم لوجه الله حقّي وحقّ بني هاشم . فقالت المهاجرون والأنصار : قد وهبنا حقّنا لك يا أخا رسول الله . فقال : اللهمّ فاشهد أنّهم قد وهبوا وقبلت وأعتقت )) . فقال عمر : سبق إليها علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ونقض عزمتي في الأعاجم .
ورغب جماعة في بنات الملوك أن يستنكحوهن ، فقال أمير المؤمنين : (( تخيّرهنّ ، ولا تكرههن )) . فأشار أكبرهم إلى تخيير شهربانويه بنت يزدجرد ، فحجبت وأبت . فقيل لها : أيا كريمة قومها ، مَن تختارين من خطّابك ؟ وهل أنت راضية بالبعل ؟ فسكتت . فقال أمير المؤمنين (ع) : (( قد رضيتْ . وبقي الاختيار بعد سكوتها إقرارها )) . فأعادوا القول في التخيير ، فقالت : لستُ ممَّن يعدل عن النّور السّاطع والشهاب اللاّمع الحسين ، إن كنتُ مخيّرة . فقال أمير المؤمنين (ع) : (( لمَن تختارين أن يكون وليّك ؟ )) فقالت : أنت . فأمر أمير المؤمنين (ع) حذيفة بن اليمان أن يخطب . فخطب وزوِّجت من الحسين (عليه السّلام)(72) .
5- البكاء على صاحب الصفات الحميدة :
فإنّ من أسباب البكاء على صاحب المصاب إذا كان عنده صفات حميدة ، فإنّ النّاس يأسفون لفقده ، سواء كان شجاعاً وكريماً وخدوماً للمجتمع ولملازمته لذكر الله ولجماله وكماله ، والصفات الحميدة كثيرة وكثيرة جدّاً ، وكلّها قد اجتمعت في الحسين بن علي (عليه السّلام) ؛ فهو أشجع أهل زمانه وأكرمهم وأعطفهم على الفقراء والمساكين وأذكرهم لله . والحاصل ، أنّ النّاس تعلّموا منه معالم دينهم ومكارم الأخلاق والتضحية والفداء .
فهل من سقى ألف فارس من أعدائه مع خيولهم حتّى رشفوها ترشيفاً ؟ وكان يقوم هو بنفسه يباشر السقي (عليه السّلام) . ولو أراد أن يقتلهم بأكملهم لمنعهم الماء فقط . ولكن أبت نفسه الطاهرة إلاّ أن يكون كريماً عطوفاً في وقت الشدّة ، نعم هل يستحق من هؤلاء الأجلاف أن يقتلوه شرّ قتلة ؟ ألا يستحقّ أن يبكي عليه .
6- البكاء للتبعيّة :
من المألوف أنّ الإنسان إذا رأى شخصاً يُبكى عليه تأثّر هو تبعاً لهم وبكى . وقد تضافرت الروايات بل تواترت في البكاء على الحسين بن علي (عليه السّلام) فقد بكى عليه جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبوه أمير المؤمنين (عليه السّلام) واُمّه الزهراء البتول (عليها السّلام) ومَن جاء بعده من الأئمّة والصالحين والمؤمنين ، بل كما تقدّم بكى جميع الخلق حتىّ الحجر . فهل يكون الحجر أقلّ قسوةً من قلب الإنسان . ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )(24) .
هذا في بعض أسباب البكاء الظاهري ، وأما بعض أسباب البكاء غير الظاهري فنؤجله إلى حديث آخر .
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين .