ويمكن تلمّس آثار الإيمان والكفر على المجتمع بالنقاط الآتية :
أولاً : الإخاء والاحترام والنصيحة :
يمثل الإيمان نقطة انطلاق كبرى في العلاقات البشرية ، فهو ينقل الناس من حالة العداء والبغضاء إلى حالة الود والإخاء ، قال تعالى : ( إنَّما المُؤمِنُونَ إخوةٌ فأصلِحُوا بين أخَويكُم .. ) (34) .
وقد ذكّر تعالى المؤمنين بنعمة الإخاء التي قلبت حياتهم الاجتماعية رأساً على عقب ، ونقلتهم من حالة الكفر والعداء إلى حالة الإيمان والإخاء ، قال عزَّ من قائل : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا .. ) (35) .
أضف إلى ذلك أنّ الإسلام يحثُّ المؤمن على إبداء مظاهر الاحترام والمحبة لإخوانه ويُبشِّره عن ذلك بالثواب الجزيل . عن أبي عبيدة قال : سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول : ( إذا التقى المؤمنان فتصافحا ، أقبل الله بوجهه عليهما وتتحاتُّ الذنوب عن وجوههما حتى يتفرّقا ) (36) .
ولا يقتصر الأمر على مظاهر الاحترام والإكرام ، بل يتعداهما إلى إبداء النصيحة ، قال الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( المؤمن أخو المؤمن ، لا يدع نصيحته على كلِّ حال ) (37) .
وتتّسع مظاهر الإخاء إلى مجالات معنوية ومادية يمكن تبويبها وفق النقاط التالية :
1 ـ إدخال السرور على قلب المؤمن : وهو من أحب الإعمال إلى الله تعالى ؛ بدليل قول الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( إنَّ أحب الأعمال إلى الله تعالى إدخال السرور على المؤمنين ) (38) .
وهذا العمل لا شك أنّه يوجب الثواب الكبير ، قال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( من سرَّ امرءاً مؤمناً سرَّه الله يوم القيامة ، وقيل له : تمنَّ على ربّك ما أحببت ، فقد كنت تحب أن تسرَّ أولياءه في دار الدّنيا ، فيُعطى ما تمنّى ويزيده الله من عنده ما لم يخطر على قلبه من نِعم الجنّة ) (39) .
2 ـ عدم إذاعة سرّه : ممّا يُعكر صفو العلاقات الأخوية وقد يعرّضها للقطيعة ، إذاعة المؤمن أسرار أخيه ، ممّا يترك أعمق الأثر في نفسه ، ويُؤدِّي ذلك إلى انعدام الثقة به . ومدرسة الإيمان ، من خلال توصياتها القيمة ، تُدين بشدة مثل هذا التصرُّف المنحرف . ويكفي مثلاً على ذلك : ما ورد عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) : قال : قال له : عورة المؤمن على المؤمن حرام ، قال (عليه السلام) : ( نعم) ، قلت : يعني سفليه ؟ قال : ( ليس هو حيث تذهب ، إنّما هو إذاعة سرّه ) (40) .
3 ـ إعانته ونصرته : الإيمان يدفع أفراد المجتمع أشواطاً بعيدة إلى التعاون والتناصر ممّا له أعمق الأثر في القضاء على مظاهر التشتّت والفُرقة بين البشر . وليس أدل على ذلك من قول الإمام الصادق (عليه السلام) : ( ما من مؤمن يُعين مؤمناً مظلوماً إلاّ كان أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام ، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته إلاّ ونصره الله في الدّنيا والآخرة ، وما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلاّ خذله الله في الدنيا والآخرة ) (41) .
4 ـ الإحسان إليه : المؤمن حقاً مَن ينظر بعين العطف لإخوانه المحتاجين ، والله تعالى يُشجِّع مثل هذا التوجَّه الاِجتماعي ويثيب عليه ، خصوصاً وأنّه يوفِّر للفئات المحرومة ما لا بدَّ لهم منه كالطعام والشراب والثياب . عن أبي حمزة الثمالي ، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال : ( مَن أطعم مؤمناً من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ، ومَن سقى مؤمناً من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ، ومن كسا مؤمناً كساه الله من الثياب الخضر ) (42) .
ومن الشواهد ذات الدلالة على تنمية أهل البيت (عليهم السلام) للشعور الاجتماعي تجاه المؤمنين ، خصوصاً وأنّهم المنهل الثَّر للاِحسان إلى الغير ، ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام) : ( لأن أُطعم مؤمناً محتاجاً أحبّ إليَّ من أن أزوره ، ولأن أزوره أحبّ إليَّ من أن أعتق عشر رقاب ) (43) .
إذن هنالك أولوية وتقدم رُتَبي لبعض أعمال الإحسان على بعض ، وأنّ لكلِّ عمل خيري ثوابه الخاص به حسب أهمِّيته وما يدخله من نفع أو خدمة على المؤمنين .
والمثير في الأمر هنا أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) ينظر لقضية الإحسان من منظار أعمق وأرحب ، فهو يرى أنّ فضل المحتاجين عند الإحسان إليهم يكون أعظم من فضل المحسنين أنفسهم ! . تمعّن جيداً في المحاورة التالية : عن حسين بن نعيم الصحّاف قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( أتحبُّ إخوانك يا حسين ؟ ) ، قلت : نعم ، قال : ( تنفع فقراءهم ؟ ) ، قلتُ : نعم ، قال : ( أما إنّه يحق عليك أن تحبَّ مَن يحبّ الله . أما والله لا تنفع منهم أحداً حتى تحبّه . أتدعوهم إلى منزلك ؟ ) ، قلتُ : نعم ، ما آكل إلاّ ومعي منهم الرجلان والثلاثة والأقل والأكثر ، فقال : أبو عبد الله : ( أما إنَّ فضلهم عليك أعظم من فضلك عليهم ) ، فقلتُ : جعلت فداك أطعمهم طعامي وأوطئهم رحلي ويكون فضلهم عليَّ أعظم ؟! قال : ( نعم ، إنَّهم إذا دخلوا منزلك دخلوا بمغفرتك ومغفرة عيالك ، وإذا خرجوا من منزلك خرجوا بذنوبك وذنوب عيالك ) (44) .
وهذا يعني أنّ الله تعالى جعل استضافة المؤمن سبباً لمغفرة الذنوب ، ثم إنّ دائرة الإحسان إلى الإخوان تتّسع في أكثر من اتجاه ، وتتشعب على أكثر من صعيد كالإقراض والصدقة وما إلى ذلك .
فالمؤمن بركة على المؤمن ولا تنحصر بركته في مجال واحد ، يقول الإمام الجواد (عليه السلام) : ( المؤمن بركة على المؤمن ، وحُجَّة على الكافر ) (45) ، وحول إقراض المؤمن وثوابه العظيم ، ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) : قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( مَن أقرض مؤمناً قرضاً ينتظر به ميسوره ، كان حاله في زكاة ، وكان هو في صلاة من الملائكة حتى يؤدِّيه إليه ) (46) .
وقد أشار الإمام الصادق (عليه السلام) إلى البُعد الفردي للاحسان بقوله : ( إذا أحسن العبد المؤمن ضاعف الله له عمله بكل حسنة سبعمئة ضعف ، وذلك قول الله عزَّ وجلَّ : ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ) ) (47) .
كما أشار إلى البعد الاجتماعي مُضْفياً عليه صبغة حقوقية ، عن أبي المأمون الحارثي قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ما حق المؤمن على المؤمن ؟ قال (عليه السلام) : ( إنَّ من حقّ المؤمن على المؤمن المودَّة له في صدره ، والمواساة له في ماله ، والخلف له في أهله ، والنصرة له على مَن ظلمه ، وإن كان نافلة في المسلمين وكان غائباً أخذ له بنصيبه ، وإذ مات الزيارة إلى قبره ، وأن لا يظلمه وأن لا يغشّه وأن لا يخونه وأن لا يخذله وأن لا يكذّبه ، وأن لا يقول له : أفّ ، وإذا قال له : أفّ فليس بينهما ولاية ، وإذا قال له : أنت عدوّي فقد كفر أحدهما ، وإذا اتهمه انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء ) (48) .
وقد عدّ أهل البيت (عليهم السلام) أداء حق المؤمن من أفضل العبادات قال الإمام الصادق (عليه السلام) : ( ما عُبد الله بشيء أفضل من أداء حق المؤمن ) (49) .
5 ـ قضاء حوائجه : الإيمان يدفع الفرد إلى خدمة إخوانه بما يعود عليهم بالنفع والفائدة ، قال الإمام الصادق (عليه السلام) : ( المؤمنون خدم بعضهم لبعض ) . ولمَّا قيل له : وكيف يكونون خدماً بعضهم لبعض ؟ قال (عليه السلام) : ( يفيد بعضهم بعضاً ... ) (50) .
فالأخوة تُؤتي ثمارها الطيبة من خلال دفع الفرد لقضاء حوائج إخوانه المؤمنين ، ومن الملفت للانتباه في هذا السياق أنّ ثواب العمل الاجتماعي المتأتِّي عن هذا السبيل ، يفوق أضعافاً مضاعفة العمل العبادي المتأتّي عن العتق أو الجهاد وما إلى ذلك . فقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) : ( قضاء حاجة المؤمن خيرٌ من عتق ألف رقبة وخير من حملان ألف فرس في سبيل الله ) (51) .
كما أنّ قضاء الحوائج أحب إليه (عليه السلام) من الحج ، عن صفوان الجمّال قال: كنت جالساً مع أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من أهل مكة يقال له : ميمون ، فشكا إليه تعذّر الكراء عليه . فقال لي قم فأعن أخاك ، فقمت معه فيسّر الله كراه ، فرجعت إلى مجلسي فقال : أبو عبد الله (عليه السلام) : ( ما صنعت في حاجة أخيك ؟ ) ، فقلت : قضاها الله بأبي وأمي ، فقال : ( أما إنَّك أن تعين أخاك المسلم أحبّ إليَّ من طواف أسبوع بالبيت .. ) (52) .
وقد ورد في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ما هو صريح بمضاعفة ثواب مَن يمشي في قضاء حاجة أخيه المؤمن ، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : ( ما من مؤمن يمشي لأخيه المؤمن في حاجة ، إلاّ كتب الله عزَّ وجلَّ له بكل خطوة حسنة ، وحطّ عنه بها سيئة ، ورفع له بها درجة ، وزِيدَ بعد ذلك عشر حسنات وشُفّع في عشر حاجات ) (53) ، كما جاء عنه أيضاً : ( مَن قضى لأخيه المؤمن حاجة ، قضى الله له يوم القيامة مئة ألف حاجة ) (54) .
وعنه (عليه السلام) : ( .. الله في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه ) (55) .
وكان أهل البيت (عليهم السلام) يعيبون على الذين لا يتحسّسون حوائج إخوانهم ولا يشعرون بمعاناتهم ، عن الحسن بن كثير قال : شكوت إلى أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) الحاجة وجفاء الإخوان ، فقال : ( بئس الأخُ أخٌ يرعاك غنياً ويقطعك فقيراً ) ، ثم أمر غلامه فأخرج كيساً فيه سبعمئة درهم ، وقال : ( استنفق هذه فإذا نفدت فاعلمني ) (56) .
وهكذا نجد أنّ مسألة الأخوة وما تتطلَّبه من تعاون وتضامن ، تتصدَّر سلّم الأولوية في اهتمامات الأئمة (عليهم السلام) وتوجهاتهم الاجتماعية ؛ لكونها الضمان الوحيد والطريق الأمثل لإقامة بناء اجتماعي متماسك ، لذلك حثّوا شيعتهم على تحقيق أعلى درجة من التعاون والتضامن ، وفي ذلك يقول الإمام الباقر (عليه السلام) لأحد أصحابه : ( يا إسماعيل ، أرأيت فيما قبلكم إذا كان الرجل ليس له رداء وعند بعض إخوانه فضل رداء يطرحه عليه حتى يصيب رداء ) ، فقلت : لا ، قال : ( فإذا كان له إزار يرسل إلى بعض إخوانه بإزاره حتى يصيب إزاراً ) ، فقلت : لا ، فضرب بيده على فخذه ، ثم قال : ( ما هؤلاء بإخوة ) (57) .
ومن الشواهد الأخرى على هذا المسلك المثالي ، عن سعيد بن الحسن قال : قال أبو جعفر (عليه السلام) : ( أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه ؟! ) ، فقلت : ما أعرف ذلك فينا ، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : ( فلا شيء إذاً ) ، قلتُ : فالهلاك إذاً ، فقال : ( إنَّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد ) (58) .
وصفوة القول أنّ الإيمان يدفع أبناء المجتمع نحو الإحسان إلى إخوانهم وخدمتهم ومدّ يد العون لهم وذلك من معطياته الاِجتماعية الهامة .
أمّا الذين كفروا ، فلعدم إيمانهم بالمنهج الديني في الحياة فإنَّهم يبخلون ، وفوق ذلك يأمرون الناس بالبخل ! وقد نقل لنا القرآن الكريم محاورة قيمة بين المؤمنين والكافرين ، أوجزتها آية واحدة ببلاغة فريدة : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (59) .
ومن روائع القرآن تصويره البديع للسان حال الكافرين ، إذ يقولون في اليوم الآخر بعد أن يسألهم المؤمنون : ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) (60) .
هكذا يدفع الكفر الفرد نحو البخل ، قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( يقال للكافر يوم القيامة : لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم ، فيقال له : كذبت ؛ قد سُئلت ما هو أهون عليك من هذا فأبيت ) (61) .
ثانياً : تغيير الروابط الاجتماعية .
بينما يدفع الكفر بأبناء المجتمع نحو هاوية العصبية المقيتة ، ويركِّز على روابط الدم والرَّحم ومظاهر اللون والمكان ، وما إلى ذلك من روابط جاهلية ، كما قال تعالى : ( إذ جَعَلَ الَّذينَ كفرُوا في قُلُوبِهِم الحَميّةَ حَمِيّةَ الجَاهليةِ ) (62) ، نجد أنّ الإيمان يفتح آفاقاً جديدة من العلائق بين البشر ترتكز على الإخاء والمساواة ، وغداً معيار التفاضل الوحيد بين البشر يقوم أساساً على الإيمان والتقوى والفضيلة ، قال تعالى : ( يا أيُّها النَّاسُ إنّا خلقنَاكُم من ذَكَر وأُنثى وجعلنَاكُم شُعوباً وقَبائلَ لِتَعارفُوا إنَّ أكرَمَكُم عندَ اللهِ أتقاكُم .. ) (63) .
وهكذا نجد أنّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد ركّز في عمله التبليغي على إزالة غيوم العصبية السوداء ، وعمل جاهداً على إزالة الرواسب الجاهلية من نفوس أصحابه والمحيطين به . ومن الشواهد الدالة على هذه الحالة ، أنّ الصحابي الجليل سلمان الفارسي (رضي الله عنه) الذي رفعه الإيمان من أسفل القاع الاجتماعي إلى القمة ، فبعد أن كان عبداً فارسياً أصبح حراً ومن أهل البيت (عليهم السلام) ، ينظر له المسلمون بعين الاحترام ، ويقابلوه بالتعظيم والإكرام ، الأمر الذي أثار حفيظة بعض الأصحاب كعمر بن الخطاب الذي لم تغادر العصبية ـ يومئذٍ ـ قاع وعيه ، ولم تنفك رواسبها تتحكّم في مشاعره . فقد دخل سلمان الفارسي ذات يوم مسجد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، فعظّموه وقدّموه وصدّروه إجلالاً لحقه وإعظاماً لشيبه واختصاصه بالمصطفى وآله (صلوات الله عليهم) . فدخل عمر فنظر إليه فقال : من هذا العجمي المتصدِّر فيما بين العرب ؟! فصعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) المنبر فخطب ، فقال : ( إنَّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط ، لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلاّ بالتقوى ) (64) .
كما وجّه الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) اللَّوم والعتاب للصحابي الجليل أبي ذر ـ إنْ صحّ الحديث ـ ، فعن المعرور بن سويد قال : (مررنا بأبي ذر بالرَّبذة وعليه بُرد وعلى غلامه مثله ، فقلنا : يا أبا ذر ، لو جمعت بينهما كانت حُلّة ؟! فقال: إنَّهُ كان بيني وبين رجل من إخواني كلامٌ ، وكانت أُمَّهُ أعجميَّة ، فعيَّرتهُ بأُمَّه ، فشكاني إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، فلقيت النبي فقال : ( يا أبا ذرٍّ إنَّك امرؤٌ فيك جاهلية ! ) .
قلتُ : يا رسول الله ، مَن سبَّ الرجال سبَّوا أباهُ وأُمَّهُ .
قال : يا أبا ذرّ ، إنَّك امرؤٌ فيك جاهلية ، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم ممّا تأكلون ، وألبسوهم ممّا تلبسون ) (65) .
وقد زوّد الإسلام المؤمن بنظرة واعية عميقة تحصّنه من الانزلاق في حضيض العنصرية وتفاخرها بالأحساب والأنساب ، ويكفي مثلاً على ذلك أنّه لمّا : (تفاخرت قريش عند سلمان الفارسي (رضي الله عنه) ، قال : لكن خلقت من نطفة قذرة ، وأعود جيفة منتنة ، ثم إلى الميزان : فإن ثقل فأنا كريم ، وإن خفّ فأنا لئيم) (66) .
ولعل من أجلى مظاهر التغيير الاِجتماعي الذي أحدثه الإيمان ، أنّ أفراداً كانوا في أسفل السلّم الاجتماعي قبل الإسلام ، أصبحوا ـ على حين غرة ـ بعد الإسلام في مواقع اجتماعية عالية ، يتزوَّجون من بيوتات مرموقة ، يقول الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( إنَّما زوّجت مولاي زيد بن حارثة زينب بنت جحش ، وزوّجت المقداد ضباعة بنت الزبير لتعلموا أنّ أكرمكم عند الله أحسنكم إسلاماً ) (67) .
كما تبوَّأ البعض مناصب رفيعة كبلال الحبشي الذي أصبح مؤذناً للرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) . وكان أُسامة بن زيد شاباً يافعاً فأصبح قائداً عسكرياً أناط به الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قيادة الجيش الإسلامي المتَّجه إلى (مؤتة) لمواجهة دولة عظمى هي دولة الروم ، وأدخل تحت إمرته أبا بكر وعمر وكبار المهاجرين والأنصار .
زدْ على ذلك دفع الإيمان على إقامة عادات وتقاليد جديدة بدلاً من التقاليد البالية التي تمجّد الثراء والرفعة ، فقد ترك الدين بصماته وآثاره حتى على مراسم الزواج وعاداته ، فبينما كان معيار الاختيار يتم على أساس المال والثروة والجاه ، غدا يتمحور على التقوى والفضيلة ، قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( مَن زوّج كريمته من فاسق فقد قطع رحمه ) (68) .
وجاء رجل إلى الحسن (عليه السلام) يستشيره في تزويج ابنته ؟ فقال (عليه السلام) : (زوّجها من رجل تقي ، فإنّه إنّ أحبّها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها ) (69) .
ثم إنّ الإسلام حارب التقاليد البالية التي تمجِّد المراسم الفارغة التي لا تنسجم مع بساطة الإسلام ، والتي لا تنفع بقدر ما تولد العنت والمشقة وتضع الحواجز النفسية والاجتماعية خاصة بين الحاكم والمحكوم . وكان الإمام علي (عليه السلام) نموذجاً للحاكم الإسلامي الذي يحب البساطة والتواضع ، ويكره التكلّف والتعظّم ؛ بدليل أنّه : (لمَّا لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الأنبار ، فترجّلوا له واشتدوا بين يديه ، فقال (عليه السلام) : ( ما هذا الذي صنعتموه ؟ ) ، فقالوا : خُلق منّا نعظِّم به أُمراءَنا ، فقال (عليه السلام) : ( والله ما ينتفعُ بهذا أمراؤكم ! وإنَّكم لتشقُّون على أنفسكم في دُنياكم ، وتشقون به في آخرتكم .. ) (70) .
ثالثاً : الإيمان يمنح البركة والقوّة .
الإيمان يدفع الأفراد نحو التقدُّم المطِّرد ، والسير إلى الأمام وعدم الانكفاء إلى الوراء ، قال النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( مَن اعتدل يوماه فهو مغبون ، ومَن كان غده شراً من يومه فهو ملعون ، ومَن لم يتفقّد النقصان من نفسه فهو في نقصان ، ومَن كان في نقصان فالموت خيرٌ له ) (71) .
وعن علي بن الحسين (عليه السلام) قال : ( بينما أمير المؤمنين ذات يوم جالس مع أصحابه يعبِّيهم للحرب ، إذ أتاه شيخ عليه شحبة السفر .. فقال : إنّي أتيتك من ناحية الشام وأنا شيخ كبير وقد سمعتُ فيك من الفضل ما لا أحصيه وإنّي أظنّك ستُغتال ! فعلِّمني ما علمّك الله ،قال : نعم يا شيخ : مَن اعتدل يوماه فهو مغبون .. ومَن كان في نقص فالموت خير له ) (72) .
إذن فالإيمان يُحفِّز أفراد المجتمع على التقدُّم نحو الأفضل ، والاستفادة من طاقاتهم وقدراتهم على النحو الأكمل .
وعلى هذا الصعيد لا بدَّ من التنويه على أنّ التوجُّه المخلص لله تعالى تنعكس آثاره النافعة على الطبيعة التي يعيش فيها الإنسان ، فتجود ـ بإذن الله تعالى ـ بالخير والبركة ، الأمر الذي يساعد على زيادة القوة سواءً كانت قوة اقتصادية أم اجتماعية وما إلى ذلك .
ومن الشواهد القرآنية على ذلك ما قاله النبي هود (عليه السلام) لأبناء مجتمعه الذين أصابهم القحط والجدب بسبب كفرهم وإعراضهم عن الله تعالى : ( ويا قَومِ استغفِرُوا ربَّكُم ثمَّ تُوبُوا إليهِ يُرسِلِ السَّماءَ عَليكُم مِدراراً ويَزدكُم قُوّةً إلى قُوَّتِكُم ولا تَتولوا مُجرِمِينَ )(73) .
لقد بدا واضحاً أنّ هود (عليه السلام) قد أعلم قومه الكافرين بأنّ طريق الإيمان والهداية يُؤدِّي إلى حصول الخير والبركة للمجتمع ، حيثُ ترسل السماء مطرها الغزير وتجود الأرض بالخصب فتتضاعف القوة . أمّا الإعراض على طريق الإيمان ، فسوف يُنذر بعواقب خطيرة تبرز مؤشِّراتها المأساوية بارتفاع البركات المؤدِّي إلى تدمير المجتمعات ، قال تعالى : ( وَضَرَبَ اللهُ مَثلاً قَريةً كانت آمِنَةً مُطمئنةً يأتِيها رِزقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مكانٍ فَكَفَرتْ بأنعُمِ اللهِ فأذاقَها اللهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوفِ بِما كانُوا يَصنَعُونَ * وَلَقَد جاءهُم رَسُولٌ مِنهُم فكذَّبُوهُ فأخذهُم العَذابُ وهُم ظَالِمُونَ ) (74) .
وهكذا نجد أنّ الكفر عامل أساسي في تدمير المجتمع وفناءه .
وقد دمّر الله تعالى الأُمم الكافرة بمختلف ألوان وأشكال العذاب ، وكانت الطبيعة أداةً هامة في تنفيذ العقوبة الإلهية . وقد خاطب تعالى الكافرين محذِّراً من الاغترار بدوام حالة الأمن التي يعيشونها ، فإنّ من سُنته الإمهال قبل حلول النكال ، قال لهم بصيغة الاستفهام الإنكاري : ( أفأمنتُم أن يَخسِفَ بكُم جَانبَ البر أو يُرسِلَ عَليكُم حاصِبَاً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُم وكيلاً * أم أمنتُم أن يُعيدَكُم فِيه تارةً أُخرى فَيُرسِلَ عَليكُم قاصِفاً مِنَ الرِيحِ فَيُغرِقَكُم بِما كَفرتُم ثُمَّ لا تَجِدوا لكُم عَلينا بِهِ تَبِيعاً ) (75) .
ومَن يقرأ سورة هود يلاحظ أنّها تستعرض سريعاً أوجه الدمار الذي حلَّ بالمجتمعات الكافرة ، ابتداءً من قوم عاد إلى قوم فرعون . وتستخلص السورة من كلِّ ذلك عبرة قيّمة مفادها أنّ الظلم كان السبب وراء تدمير المجتمعات : ( . . وَكَذلِكَ أخذُ رَبِكَ إذا أخَذَ القُرى وهِيَ ظَالِمةٌ إنَّ أخذَهُ أليمٌ شَدِيدٌ ) (76) .
وهذا بخلاف الإيمان الذي تمتد بركاته وثماره لا إلى حياة المؤمن فحسب ، وإنّما إلى أبنائه وأحفاده ، قال النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في وصيته لأبي ذر : (يا أبا ذرّ ، إنَّ الله يصلح بصلاح العبد ولْدَه وولْدَ ولْدِه ، ويحفظه في دويرته والدُّور حوله ما دام فيهم ) (77) .
وصفوة القول إنّ الإيمان بمثابة السور الوقائي الذي يقي المجتمع من الدمار ويحقِّق له البركة والرفاهية ويمنحه القوة . أمّا الكفر وما يرافقه من الظلم ، فإنّه ينطوي على نتائج مأساوية كالدمار والبوار .
والحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين .
ــــــــــــــــــــ
(34) سورة الحجرات 49 : 10 .
(35) سورة آل عمران 3 : 103 .
(36) أصول الكافي 2 : 182 | 17 .
(37) كنز العمال 1 : 142 | خ 687 .
(38) أصول الكافي 2 : 189 .
(39) ثواب الأعمال ، للصدوق : 181 .
(40) معاني الأخبار : 255 .
(41) ثواب الأعمال ، للصدوق : 179 .
(42) ثواب الأعمال : 166 .
(43) أصول الكافي 2 : 203 | 18 كتاب الإيمان والكفر .
(44) أصول الكافي 2 : 201 ـ 202 | 8 كتاب الإيمان والكفر .
(45) تحف العقول : 489 .
(46) ثواب الأعمال : 168 .
(47) المصدر السابق : 202 . والآية من سورة البقرة 2 : 261 .
(48) أصول الكافي 2 : 171 | 7 كتاب الإيمان والكفر .
(49) أصول الكافي 2 : 170 | 4 كتاب الإيمان والكفر .
(50) المصدر السابق : 167 | 9 .
(51) المصدر السابق 2 : 193 | 2 كتاب الإيمان والكفر .
(52) أصول الكافي 2 : 198 | كتاب الإيمان والكفر .
(53) المصدر السابق : 197 | 5 .
(54) المصدر السابق : 192 ـ 193 | 1 .
(55) المصدر السابق : 200 | 5 .
(56) الإرشاد ، للشيخ المفيد : 266 .
(57) تنبيه الخواطر 2 : 85 .
(58) أصول الكافي 2 : 173 ـ 174 | 13 كتاب الإيمان والكفر .
(59) سورة يس 36 : 47 .
(60) سورة المدثر 74 : 42 ـ 44 .
(61) تنبيه الخواطر 2 : 226 .
(62) سورة الفتح 48 : 26 .
(63) سورة الحجرات 49 : 13 .
(64) الاختصاص ، للشيخ المفيد : 341 .
(65) صحيح مسلم ، للنيشابوري 3 : 1282 ، دار إحياء التراث العربي ، ط1 .
(66) تنبيه الخواطر 1 : 203 .
(67) كنز العمال 1 : 78 | 313 .
(68) مكارم الأخلاق ، للطبرسي : 204 .
(69) مكارم الأخلاق ، للطبرسي : 204 .
(70) نهج البلاغة ، ضبط صبحي الصالح : 475 | حكم 37 .
(71) تنبيه الخواطر 2 : 29 .
(72) تنبيه الخواطر 2 : 173 .
(73) سورة هود 11 : 52 .
(74) سورة النحل 16 : 112 ـ 113 .
(75) سورة الإسراء 17 : 68 ـ 69 .
(76) سورة هود 11 : 102 .
(77) مكارم الأخلاق ، للطبرسي : 465 منشورات الأعلمي ـ بيروت 1403 هـ ، ط 5 .
الكفر وعلامات الكافر*
ـ القسم الثاني ـ
إعداد :
قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين ( عليها السلام )
* أثر الإيمان والكفر على الفرد والمجتمع :
إنَّ الإيمان بالله تعالى هو منبع الفضائل ، كما أنّ الكفر به هو مصدر الرذائل كلّها . فبينما كان الفرد مدَّنساً بالشرك ، وعبداً لأهوائه ولأصنامه الموهومة وللقوى الاِجتماعية المتنفّذة ، أصبح ببركة الإيمان مطهّراً من الشرك وسيداً على نفسه ، ووجد طريقاً للخلاص من جاهليته في الاعتقاد والسلوك . وبينما كان المجتمع الجاهلي ممزّقاً وفاقداً للعدالة غَدَا بفضل عقيدة التوحيد ، قوياً موحّداً يرتكز على قواعد الحق والعدل .
ومن الشواهد التي تعكس لنا النُّقلة الحضارية الكبرى التي أحدثها الإيمان على صعيد الفرد والمجتمع ، ما قاله جعفر بن أبي طالب (قدّس سرّه) للنجاشي ، ملك الحبشة ، لمّا سأله الأخير عن سبب هجرتهم ومفارقتهم دين قومهم ، فأجابه قائلاً :
(أيُّها الملك ، كنّا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونُسيء الجوار ، ويأكل القويُّ منّا الضعيف . فكنّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده ، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرّحم ، وحسن الجوار ، والكفّ عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً ..) (1) .
وبذلك كشف له عن التحوّل الحضاري الذي أحدثه الإسلام في فترة وجيزة ، لِمَا له من تأثير كبير على حياة الفرد والمجتمع كما سيتضح في المبحث الآتي .
* أثر الإيمان والكفر على الفرد .
كان الإسلام نقطة البدء في ميلاد إنسان جديد ، يعشق القيم والحكمة ، ويتطلّع إلى آفاق العلم والمعرفة ، ويمتاز بسكينة النفس والسلوك المثالي وعمق الحس الإنسان لديه .
إنَّ هذا التحوّل لم ينطلق من فراغ ، ولم يحدث على سبيل الصدفة ؛ وإنّما حصل نتيجة مباشرة لمعطيات الإيمان الحضارية ، التي يمكن الإشارة إلى أبرزها عبر آثاره المتعدّدة بالنقاط الآتية :
أولاً : أثره العلمي .
فتح الإسلام بنوره النوافذ المغلقة أمام عقل الإنسان الجاهلي ، الذي لم يكن له سابق عهد بأبسط العلوم والمعارف التي جاء بها الإسلام العظيم ، ووجّه تفكير ذلك الإنسان الوجهة الصحيحة ، إذ دفعه إلى تعقّل ما في هذا الكون الفسيح من قوى وأسرار ، وطلب منه التأمّل في أقطار السموات والأرض لغايات كثيرة ، أهمُّها معرفة الحق تعالى ، والبرهان على وجوده الشريف من خلال ما يشعره الإنسان وما يراه ، وكذلك ليكتشف من خلال هذا التأمّل القوانين الرائعة التي تحكم هذا العالم بمنتهى الدقة ، ممّا ساعد هذا على ميلاد حركة علمية ومعرفية استفاد منها العلماء الإلهيون وعلماء الطبيعة ، منذ فجر الإسلام وإلى يومنا هذا . ولم تقتصر آثار الإيمان بدين الإسلام على تلك المعطيات العلمية ، بل هناك الكثير منها ، والتي لازالت منبعاً ثرّاً لعلماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتاريخ والفلسفة والكلام ، زيادة على ما في دستور الإسلام "القرآن العظيم" من نُظم ودساتير وسياسات هي في منتهى الدقة والإحكام .
وبالجملة فإنّ الحضارة الإسلامية التي دانت لها أوربا قروناً عديدة ، إنّما نشأت بفعل الإيمان بهذا الدين وما أوجبه من السعي المتواصل نحو المعرفة ، والتي ترجمها في أحداثه التاريخية الأُولى بضرورة القضاء على الأُمِّية ـ كما في فداء أسرى بدر ـ بصفتها وباء الأُمم ومِعْوَل هدمها . ومن هنا جاء الحث على أهل العلم أن يعلّموا الناس ما يجهلون ، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلّموا ) (2) .
كما حثَّ الإسلام مريديه على الاستزادة من العلم النافع الذي يقرّب الإنسان من الله تعالى ، يقول الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( إذا أُتي عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً يقرّبني إلى الله تعالى ، فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم ) (3) .
وقد حدَّد وصيه الإمام علي (عليه السلام) المعطيات الاِيجابية للعلم ودوره المهم في تقدّم الإنسان وسعادته ، عندما قال : ( اكتسبوا العلم يُكسبكم الحياة ) (4) .
لقد أولى الدين للعلم أهمية بالغة ، وجعل له تقدّماً رُتَبيَّاً حتى على العبادة ، يقول الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم .. ) (5) … وروى أبو حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال : ( عالم يُنتفع بعلمه أفضل من سبعين ألفَ عابدٍ ) (6) .
وهذه النصوص تعطينا صورة صادقة على توجيه الإسلام للفرد نحو ميادين العلم والمعرفة ؛ وذلك لأنَّ المعرفة بصيرة ، والبصيرة قوة .
ثانياً : أثره العملي .
ويظهر هذا الأثر واضحاً على أخلاق المؤمن وسلوكه ، فبينما يتّبع الكافر سلوكاً انتهازياً لا يُؤمن بنظافة الوسيلة ولا شرف الغاية ، ويضع مصالحه الآنية في سلّم الأولوية ، غاضاً النظر عن القيم والأخلاق ، نجد بالمقابل الإنسان المتسلّح بالإيمان يسلك سلوكاً مثالياً يرتكز على الثوابت الأخلاقية وقواعد السلوك السوّي ، والملاحظ أنّه كلَّما كمل إيمان الفرد كلّما حسنت أخلاقه وتكاملت فضيلته ، وفي الحديث الشريف : ( . . وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً . . ) (7) .
ونظراً لوجود هذه العلاقة بين الإيمان والأخلاق ، نجد التوجهات الأخلاقية تحتل حيزاً كبيراً من التعاليم الدينية .
لذلك نجد أنّ الأفراد الذين يعيشون في مجتمعات بعيدة عن نور الإيمان تغلب عليهم سمة الانحطاط الخُلقي ؛ ذلك لأنَّ الحياء فرع الإيمان ، بل في التعبير النبوي : ( الحياء والإيمان في قرن واحد ، فإذا سلب أحدهما تبعه الآخر ) (8) .
أضف إلى ذلك أنّ الإيمان يوجّه الفرد نحو العمل والكسب الحلال ، ويحذّره من التكاسل والاتّكال على الآخرين ، فمن وصايا الإمام الصادق (عليه السلام) لشيعته خاصة ، وللمسلمين عامّة : ( لا تكسلوا في طلب معايشكم ، فإنَّ آباءنا قد كانوا يركضون فيها ويطلبونها ) (9) .
وقد ترجم هذا الإمام العظيم وصيته الذّهبية هذه إلى سلوك مثالي ، فعن الفضيل بن أبي قرّة قال : دخلنا على أبي عبد الله (عليه السلام) وهو يعمل في حائط له ، فقلنا : جعلنا الله فداك ، دعنا نعمل لك ، أو تعمله الغلمان ؟! قال : ( لا ، دعوني فإنّي أشتهي أن يراني الله عزَّ وجلّ أعمل بيدي وأطلب الحلال في أذى نفسي ) (10) .
وقد جسّد لنا بسلوكه المثالي مبدأ القدوة الحسنة ، الذي هو أحد الأساليب التربوية التي يتّبعها أهل البيت (عليهم السلام) ؛ ذلك لأنَّ (القدوة الحسنة والمثال الفعلي ـ أي التأثير دون إقناع منطقي ـ تقوم بدور كبير في تكوين الاتّجاهات . فالأفعال أعلى صوتاً من الأقوال ، وإيحاء السلوك أقوى من إيحاء الألفاظ) (11) .
ممّا تقدّم ظهر لنا أنّ الإيمان يدفع الفرد نحو السلوك المثالي الذي يتجسّد في الأخلاق الحسنة والعمل الصالح .
ثالثاً : أثره النفسي .
عندما يذكر المؤمن ربّه ويتّصل بالقوة العظمى الإلهية ، يتبدد خوفه ويتغلّب على ضعفه ويطمئن قلبه ، قال تعالى : ( الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (12) ، وقال أيضاً : ( الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) (13) .
فالإيمان يُضفي على النفس طمأنينة عند هبوب عواصف الأحداث ، ويرفع الإنسان فوق مستوى الخوف ، وفي تاريخ أهل البيت (عليهم السلام) شواهد جمّة على ذلك ، فهذا قنبر مولى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكان يحبُّ الإمام عليّاً (عليه السلام) حُبَّاً شديداً ، فإذا خرج الإمام علي (عليه السلام) خرج على أثره بالسيف ، فرآه ذات ليلة فقال : ( يا قنبر ! ما لك ؟ ) ، قال : جئتُ لأمشي خلفك ، فإنَّ النّاس كما تراهم ـ يا أمير المؤمنين ! ـ فخفتُ عليك ، قال (عليه السلام) : ( ويحك ! أمن أهل السماء تحرسني ، أم من أهل الأرض ؟! ) ، قال : لا ، بل من أهل الأرض ، قال (عليه السلام) : ( إنَّ أهل الأرض لا يستطيعون لي شيئاً إلاّ بإذن الله عزَّ وجلَّ من السّماء فارجع ) فرجع (14) .
وقال يعلى بن مرّة : (كان عليّ يخرج بالليل إلى المسجد يصلّي تطوّعاً ، فجئنا نحرسه ، فلمّا فرغ أتانا فقال : ( ما يجلسكم ؟ ) قلنا : نحرسك ، فقال : (أمن أهل السماء تحرسون ، أم من أهل الأرض ؟ ) قلنا : بل من أهل الأرض ، قال : ( إنَّه لا يكون في الأرض شيء حتى يُقضى في السماء ، وليس من أحد إلاّ وقد وكّل به مَلَكَان يدفعان عنه ويكلآنه حتى يجيء قدره ، فإذا جاء قدره خلّيا بينه وبين قدره . وإنَّ عليَّ من الله جُنّة حصينة ، فإذا جاء أجلي كُشف عنّي ... وأنّه لا يجد طعم الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ) (15) .
فالإيمان يبعث نحو التسليم بقضاء الله وقدره ، وبذلك يبعد عن النفس شبح الخوف وهاجس القلق ، وهو عنصر هام في معالجة أمراض النفس . وقد اعترف بذلك كثير من علماء النفس المتخصِّصين ، منهم : الدكتور إرنست أدولف ، أستاذ مساعد بجامعة سانت جونس الأمريكية ، عندما سُئل عن الأسباب الرئيسية للأمراض العصبية ؟ فأجاب : (إنَّ من الأسباب الرئيسية لهذه الأمراض ، الشعور بالإثم ـ أو الخطيئة ـ والحقد والخوف والقلق والكبت والتردد والشك والغيرة والأثرة والسأم . وممّا يُؤسف له أنّ كثيراً ممّن يشتغلون بالعلاج النفسي قد ينجحون في تقصي أسباب الاضطراب النفسي الذي يسبّبه المرض ، ولكنّهم يفشلون في معالجة هذه الاضطرابات ؛ لأنَّهم لا يلجأون في علاجها إلى بث الإيمان بالله في نفوس هؤلاء المرضى) (16) .
والملاحظ أنّ أهم ما يعتمد عليه العلاج النفسي هو مساعدة الفرد على الاعتراف بخطاياه ؛ وذلك أنّ الاعتراف يعيد إلى النفس المضطربة اتزانها وطمأنينتها . وقد أقرَّ القرآن من حيث المبدأ بفكرة الاعتراف هذه ، ولكن حوّل وجهته من اعتراف الإنسان المعروف أمام أبناء جنسه إلى الاعتراف أمام ربّه وخالقه ، فينفِّس الإنسان ـ بذلك ـ عن الاحتقان والشعور بالإثم الذي يحسّه في قرارة نفسه ، عندما يقف ـ مثلاً ـ بالصلاة بين يدي ربّه رافعاً يده في قنوته قائلاً : ( .. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (17) .
وقد نقل لنا القرآن الكريم اعترافات عديدة من هذا القبيل ، ومن ضمنها بعض أنبيائه ورسله كموسى (عليه السلام) عندما قتل رجلاً ولم يتعمّد ذلك ، قال : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )(18) .
ثم إنّ شعور الإنسان بأنّه ليس وحيداً وأنّ الله تعالى معه على الدوام ، يضفي عليه هذا الشعور نوعاً من الاطمئنان والثقة ويُبعد عنه أشباح الخوف والقلق والوحدة والشعور بالكآبة ؛ لذلك يُطمْئِن الله تعالى الناس : ( .. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (19) .
فالإيمان ـ إذن ـ أشبه بمانعة الصواعق تفرّغ كل ما في الإنسان من شحنات القلق والخوف والاضطراب ، فتمنحه الصحة النفسية والجسدية معاً . وقد أثبت علم النفس أنّ : (الإنسان حين يغشاه انفعال كالخوف أو الحزن أو الغضب ، فإنّ هذه التأثيرات الوجدانية والانفعالية تصحبها تغيّرات أو اضطرابات جسمية وفسيولوجية قد تكون بالغة الخطورة إن أزمن الانفعال . فقد اتّضح أنّ القلق المزمن الموصول ، قد يُؤدّي إلى ظهور قرحة في المعدة أو الاثني عشر ، وأنّ الكراهة المكظومة لمدة طويلة قد تُؤدّي إلى ارتفاع في ضغط الدم .. ) (20) .
أضف إلى ذلك أنّ الإيمان يُؤدّي إلى الأُنس والراحة النفسية ، فيبدّد بذلك الشعور بالعزلة . ومن خطبةٍ لأمير المؤمنين (عليه السلام) قال فيها : ( اللَّهمَّ إنَّك آنسُ الآنسين لأوليائك . . . إن أوحشتهم الغُربةُ آنسهُم ذكرُكَ ، وإن صُبَّت عليهم المصائب لجؤوا إلى الاستجارة بك ، علماً بأنَّ أزمّة الأمور بيدك .. ) (21) .
رابعاً : أثره في تكوين شخصية المؤمن .
الإيمان يُشكّل محطة انطلاق أمام الإنسان إلى ذُرى المجد والرفعة ؛ لكونه يزوّده بالقيم والمُثُل ، ويساعده على ضبط نفسه وجوارحه ، ويجعله يقبض بإحكام على الدَّفة الموجِّهة لمساره ، فيسير بخطى ثابتة حتى يبلغ قمة الرُّقي والرِّفعة : ( قيل للقمان (عليه السلام) : ألست عبد آل فلان ؟ قال : بلى ، قيل: فما بلغ بك ما نرى ؟ قال : صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعنيني ، وغض بصري ، وكف لساني ، وعفة طعمتي . فمَن نقص عن هذا فهو دوني ، ومَن زاد عليه فهو فوقي ، ومَن عمله فهو مثلي ) (22) .
ثم إنّ الإيمان يوفِّر للفرد العزّة والمكانة والكرامة ، قال تعالى : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (23) .
فالمؤمن عزيز مكرَّم ، لم يدعْ للذل إليه سبيلاً ، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) : ( إنَّ الله فوّض إلى المؤمن أمره كلّه ، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً ) (24) .
والإيمان يجعل للفرد مهابة ينظر الناس إليه بعين الإعظام والإكبار ، وقد قيل للإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) : فيك عظمة ! فقال (عليه السلام) : ( بل فيَّ عزَّة ؛ قال الله : ( وللهِ العزَّةُ ولِرسُولِهِ وللمُؤمِنينَ ) ... ) (25) .
فالإيمان يُحدث انعطافاً حاداً في مسير الإنسان يُخرجه من ذُلِّ المعصية إلى عزِّ الطاعة ، ومن خلال هذا التحوُّل الكبير يحصل على معطيات لا تقدّر بثمن ، قال الإمام الصادق (عليه السلام) : ( ما نقل الله عزَّ وجلَّ عبداً من ذلِّ المعاصي إلى عزِّ التقوى إلاّ أغناه من غير مال ، وأعزّه من غير عشيرة ، وآنسه من غير بشر ) (26) .
فالعبودية لله تعالى هي مبعث العزّة والكرامة ومصدر الفخر والرفعة .
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( لا شرف أعلى من الإسلام ، ولا عزّ أعزّ من التقوى ) (27) .
ومن مناجاته (عليه السلام) : ( إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً ، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً ) (28) .
وهكذا نجد الإيمان يزيد في مكانة الإنسان المؤمن ويرفع من رصيده المعنوي ، ممّا ينعكس ذلك على قوة شخصيته ورفعتها ، وهناك آثار كثيرة أُخرى للإيمان يمكن الإشارة إليها بنحو الإجمال وتحت عنوان :
خامساً : آثار أخرى للإيمان .
1 ـ ضبط النفس واللسان :
الإيمان يمد النفس بقوة ضبط ذاتية تتمكّن من خلالها من كتمان المصائب والهموم والأمراض وأعمال الخير خوفاً من الرياء ، وقد أمتدح تعالى أولئك الذين يسيطرون على أنفسهم فيكظمون غيظهم : ( .. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ .. ) (29) .
الإيمان يُؤثِّر تأثيراً بالغاً في ضبط لسان المؤمن ، فلا يقول شيئاً بسخط الله عزَّ وجلَّ ؛ لأنَّه يعيش حالة تدبّر الأقوال والأفعال بخلاف الكافر ، وفي الحديث الشريف : ( إنَّ لسان المؤمن وراء قلبه ، فإذا أراد أن يتكلّم بشيء تدبّره بقلبه ، ثم أمضاه بلسانه . وإنَّ لسان المنافق أمام قلبه ، فإذا همَّ بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبّره بقلبه ) (30) .
2 ـ الصمود والشجاعة :
الإيمان يمدّ المؤمن بشحنات عالية من الصمود والشجاعة في مواطن الجهاد في سبيل الله ، فيمكّنه من التغلّب على نفسه التي تميل إلى الدّعة والراحة وتحب العافية . ولقد انتصر المسلمون يوم بدر بفضل إيمانهم ، على الرغم من قلّة عددهم وعدَّتهم .
قال المستشرق المعاصر جاك ريزلر صاحب كتاب "يقظة الإسلام" ، وكتاب : "الحضارة العربية" ، الذي طبع في فرنسا سنة 1962 م : (بظهور الدين الإسلامي بدأت مراحل الحضارة العربية ، ويُعزى نجاح قيام هذه الحضارة وانتشارها إلى عدة أسباب ، أهمُّها : ارتفاع الروح المعنوية لدى المسلمين بفضل الدين الجديد ، الأمر الذي أكسبهم جرأة جعلتهم يستهينون بالموت في سبيل الله) (31) .
3 ـ النظرة الواعية :
ومن آثار الإيمان العجيبة أنّه يجعل المؤمن ذا نظرة واعية لجميع ما حوله ، ولا يغتر بمغريات الدنيا بأسرها ، فيقنع بالقليل منها ولا يبطره الغنى . قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( .. إنَّما ينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار ، ويقتات منها ببطن الاضطرار ، ويسمع فيها بإذن المقت والإبغاض ) (32) .
وعن سويد بن غفلة ، قال : (دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدما بُويع بالخلافة وهو جالس على حصير وليس في البيت غيره ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، بيدك بيت المال ولست أرى في بيتك شيئاً ممّا يحتاج إليه البيت ؟ فقال : ( يا بن غفلة ، إنَّ اللبيب لا يتأثّث في دار النُّقلة ، ولنا دار أمن قد نقلنا إليها خير متاعنا ، وإنّا عن قليل إليها صائرون ) (33) .
* أثر الإيمان والكفر على المجتمع :
يعتبر الإيمان عنصراً أساسياً من عناصر التماسك الاجتماعي ، فهو يدفع أفراد المجتمع نحو التعاون والتفاهم ويبعدهم عن التنازع والتخاصم .
____________
* المصدر كتاب : " الإيمان وعلامات المؤمن"، مركز الرسالة ، ص77 ـ 103 .
(1) السيرة النبوية ، لابن هشام 1 : 349 ، دار الفكر ـ القاهرة .
(2) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 559 | حكم 478 .
(3) كنز العمال 10 : 136 | خ 28687 .
(4) غرر الحكم .
(5) كنز العمال 10 : 145 | خ 28740 .
(6) أصول الكافي 1 : 33 | 8 كتاب فضل العلم .
(7) كنز العمال 1 : 38 | ح 77 .
(8) كنز العمال 1 : 120 | ح 5766 .
(9) مَن لا يحضره الفقيه 3 : 95 ، دار صعب ـ بيروت ، 1981 م .
(10) مَن لا يحضره الفقيه 3 : 99 .
(11) أصول علم النفس ، دكتور أحمد عزت راجح : 120 ، المكتب المصري الحديث ـ الإسكندرية ، ط 8 ، 1970 م .
(12) سورة الرعد 13 : 28 .
(13) سورة الأنعام 6 : 82 .
(14) توحيد الصدوق : 338 .
(15) كنز العمال 1 : 347 | خ 1564 .
(16) الخطايا في الإسلام ، لعفيف عبد الفتاح طبارة : 22 ـ 23 ، دار العلم للملايين ـ بيروت ، ط1 .
(17) سورة الأعراف 7 : 23 .
(18) سورة القصص 28 : 16 .
(19) سورة الحديد 57 : 4 .
(20) أصول علم النفس ، للدكتور أحمد عزت راجح : 12 .
(21) نهج البلاغة ، ضبط صبحي الصالح : 349 | خطبة 227 .
(22) تنبيه الخواطر ، للأمير ورّام 2 : 230 .
(23) سورة المنافقون 63 : 8 .
(24) التهذيب ، للطوسي 6 : 179 . وبحار الأنوار 100 : 93 .
(25) تحف العقول : 234 .
(26) أصول الكافي 2 : 76 | 8 .
(27) نهج البلاغة ، ضبط صبحي الصالح : 540 | حكم 371 .
(28) الخصال ، للصدوق : 420 | باب التسعة .
(29) سورة آل عمران 3 : 134 .
(30) المحجة البيضاء 5 : 195 .
(31) التفسير الكاشف ، للشيخ مغنية 6 : 265 دار العلم للملايين ـ بيروت ، ط 2 ، 1981 م .
(32) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 539 | 367 حكم .
(33) تنبيه الخواطر : 275 . والبحار 70 : 321 ـ 322 .
2 ـ موالاة الطاغوت :
سواء أكان معنى الطاغوت الشيطان أو الدّنيا الدنية أو الحاكم الجبار حسب اختلاف المفسرين ، فإنّ الطاغوت ما تكون موالاته والاقتداء به والاعتماد عليه سبباً للخروج عن الحق .
قال تعالى : (.. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) (46) .
ولا يتوقّف الأمر عند حد الموالاة المجرّدة ، بل إنّ الكافر يذهب بعيداً في موالاته للطاغوت إلى حد القتال في سبيله والتضحية بالنفس والنفيس ، قال تعالى : (.. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِِ . . ) (47) .
3 ـ الإفراط في الشهوات والملذَّات .
ومن علامات الكافر التي تميِّزه عن المؤمن ، إفراطه في شهواته وملذَّاته ، لا همَّ له غيرها حتى كأنّه لم يخلق إلاّ لأجلها ، وقد وصفهم القرآن الكريم بهذا ، قال تعالى : (.. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) (48) ، بينما نجد المؤمن يعتبر تلك الأمور وسيلة إلى هدف أعلى ؛ لأنّها لم تكن غاية بحد ذاتها . ومن هنا قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (.. فما خُلقتُ ليشغلني أكلُ الطَّيباتِ كالبهيمة المربُوطة ، همُّها علفُها ، أو المُرسلةِ شُغلُها تقمُّمها ، تكترشُ من أعلافها ، وتلهو عمَّا يُرادُ بها .. ) (49) ، وقال (عليه السلام) : ( همّ الكافر لدنياه ، وسعيه لعاجله ، وغايته شهوته ) (50) .
4 ـ الخيانة والمكر والخداع والكذب .
ومن العلامات البارزة في حياة الكفّار : الخيانة والمكر والخداع والكذب ؛ إذ لا رادع لهم عن ذلك ، لأنّهم فقدوا لذة الإيمان ودوره في محاسبة النفس ، وقد شخّص الإمام علي (عليه السلام) بدقة علامات الكافر بقوله : ( الكافر خبٌّ لئيم ، خؤون مغرور بجهله .. ) (51) .
والخبّ هو : (الخدّاع ، ومعناه : الذي يفسد الناس بالخداع ويمكر ويحتال في الأمر . يقال : فلان (خبّ ضبّ) ، إذا كان فاسداً مفسداً مراوغاً) (52) .
وأمَّا الكذب ، فهو من أخصّ علامات الكافرين ، قال تعالى : ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ) (53) ، وقال أيضاً : ( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) (54) . فممَّا يميز المؤمن عن الكافر ، هو أنّ الأخير يكذب ويخون الأمانة ؛ وبذلك لا يمكن الثقة بأقواله ومعاملاته ، قال الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( إياكم والكذب ؛ فإنَّ الكذب مجانب للإيمان ) (55) .
وقال أيضاً : ( كلُّ خلَّةٍ يُطبع عليها المؤمن إلاّ الخيانة والكذب ) (56) .
وقد ورد عن الحسن بن محبوب قال : قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) : يكون المؤمن بخيلاً ؟ قال : ( نعم) ، قلتُ : فيكون كذّاباً ؟ قال : ( لا ، ولا خائناً ) ، ثم قال : (يُجبَل المؤمن على كلِّ طبيعة إلاّ الخيانة ) (57) .
ولا بدَّ من التنويه على أنّ المؤمن قد يكذب ، ولكن بداعي الصلاح . أمَّا الكافر ، فيكذب بداعي الفساد وشتَّان ما بين الداعيين ، وقد أحب الله تعالى الكذب في الصلاح ، جاء في وصية النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للإمام علي (عليه السلام) : (.. يا علي ، إنَّ الله عزَّ وجلَّ أحبَّ الكذب في الصلاح ، وأبغض الصدق في الفساد ) (58) .
وقال له أيضاً : ( يا علي ، ثلاث يحسن فيهنَّ الكذب : المكيدة في الحرب ، وعِدتك زوجتك ، والإصلاح بين الناس .. ) (59).
فالكافر إذن يتَّصف بالكذب ، وهو عندما يواجهه المؤمن بالبرهان الذي يكشف عن زيف دعواه ، تستبد به الحيرة ويتملكه الاضطراب فيتَّهم المؤمن بالكذب ! ومن الشواهد القرآنية على هذا المنحى المنحرف ، موقف أهل مدين من دعوة شعيب وما سبقه من الرسل ، فقد : ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ .. قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ) (60) .
ومن الشواهد القرآنية الأخرى الدالة على تكذيب الكاذب للمؤمن ، ما قصّه الله تعالى من كذب زليخا امرأة العزيز على يوسف (عليه السلام) عندما راودته عن نفسه وعرضت عليه مفاتنها . ولمَّا استعصم ، قذفته كذباً وزوراً ، ولكن يوسف دفع التهمة عن ساحته ، وقيّض الله تعالى له حَكَماً من أهلها ، فقطع النزاع كما حكاه القرآن الكريم : ( .. إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) (61) .
فقد استخدمت هذه المرأة ضد يوسف (عليه السلام) سلاح الكذب والافتراء ، ولكنَّ الله صرف عنه السوء والفحشاء .
ولا شكَّ أنّ الأنبياء (عليهم السلام) منزّهون عن القبائح كلّها ورأسها الكذب .
5 ـ السخرية والاستهزاء بالآخرين :
ولمّا كان الكافر جاهلاً ، يعجز ـ عادة ـ عن الرد على أهل الإيمان بالحجة والبرهان ، فهو يُعبِّر عن عجزه هذا بالاستهزاء بهم والسخرية منهم ، يقول تعالى : ( زُيّنَ للَّذينَ كَفرُوا الحَياةُ الدُّنيا ويَسخَرونَ مِنَ الَّذين آمنُوا ..) (62) .
وهذه أحد علامات الكفّار في كلِّ زمان ومكان ، يسخرون من المصلحين ويتّهمونهم بالجهل والتخلُّف وعدم المسايرة لروح العصر !
فعلى سبيل المثال ، لمّا أمر الله نوحاً أن يصنع السفينة ، كان تحوله من داعٍ إلى الله إلى نجّار ؛ سبباً في تعجُّب الكفّار ، فجعلوا من هذا الأمر مادةً للسخرية والتندّر عليه .. : ( .. وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) (63) .
وكان أهل مدين لا يؤمنون بالله ويعبدون سواه ، وكانوا من أسوأ الناس معاملة : ينقصون الكيل والميزان إذا باعوا ، فبعث الله فيهم رجلاً منهم ، وهو رسوله شعيب (عليه السلام) ، فدعاهم إلى عبادة الله وحده ، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفعال القبيحة وأمرهم بالعدل وحذَّرهم من عاقبة الظلم ، ولكن القوم أصروا على باطلهم وقابلوه بالاستهزاء والتهكّم : ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ .. ) (64) .
وهذه النفسية المعقّدة سبّبت لهم ضياع فرص الهداية إلى الأبد ؛ إذ كلّما سمعوا كلاماً فسّروه تفسيراً سلبياً واستهزؤا به .
ويصف لنا تعالى حالة التذبذب والنفاق التي يعيشها هؤلاء بقوله الكريم : ( وإذا لَقُوا الَّذينَ آمنُوا قَالُوا آمَنّا وإذا خَلَوا إلى شَياطِينِهِم قَالُوا إنّا مَعكُم إنَّما نَحنُ مُستهزِؤنَ ) (65) .
6 ـ الغرور والاستكبار :
إنَّ من عادة الكفّار الاغترار بقدرتهم وقوتهم مع المكابرة عن قبول الحق ، سادرين في غيّهم ، لاهين في غفلتهم ، متناسين أو ناسين سخط الله القوي عليهم حتى لكأنّهم يظنّون أنّ قوتهم لا تضمحل وسطوتهم لا تزول ، وقد سَخَر القرآن الكريم من ذلك التعجرف والغرور ، وسفّه أحلام هؤلاء الجهلاء ، قائلاً : ( أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ) (66) .
ولهذا ، نراهم عندما يحاول المؤمنون أن يبرهنوا لهم عن قصور هذه الرؤية ، وأنّ معادلات القوة ليست ثابتة ، تأخذهم العزّة بالإثم ، فيتّجهون للعناد والشقاق ، قال تعالى : ( بَلِ الَّذينَ كَفَرُوا في عِزَّةٍ وشِقاقٍ ) (67) .
ومن الأمثال الرائعة التي ضربها القرآن الكريم في هذا المجال قصة صاحب الجنَّتين ، الذي كان كافراً غنياً قد أبطرته النعمة ، فأخذ يحاور صاحبه المؤمن الفقير مفتخراً عليه بأمواله وكثرة أعوانه . وما سرده الله من تحاورهما يصوّر للإنسان بأجلى بيان كيف ينفخ الشيطان في أنوف أصحاب المال ويطغيهم حتى يلقيهم في مهاوي الهلكة . وكيف يعلو الإيمان بنفس صاحبه.. ويجعل له حسن العاقبة في الدارين (68) .
قال تعالى : ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لاجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ... وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً ... ) (69) .
* ما يخرج عن الإيمان :
المؤمن هو الذي يسير بخطى ثابتة على درب الإيمان الواضح المعالم ، ولكن قد يتعرّض لعواصف هوجاء من الأهواء والشبهات فتخرجه عن جادّة الصواب ، وتسقطه من قمة جبل الإيمان إلى وادي الكفر السحيق ، وعندئذٍ يصبح فقيراً من الناحية المعنوية بعد أن كان غنياً بإيمانه . سأل زيد بن صوحان العبدي أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً : .. فأيُّ فقر أشدّ ؟ قال (عليه السلام) : ( الكفر بعد الإيمان ) (70) .
وسقوط الإنسان في حضيض الكفر بعد الإيمان إنّما يتم على مراحل وخطوات ، لا سيّما وأنّ الشيطان يتّبع مع الإنسان سياسة الخطوة خطوة ! لذلك حذر تعالى المؤمنين من إتّباع خطواته قائلاً : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ .. ) (71) ، وقال أيضاً : ( يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا ادخُلُوا في السّلمِ كافةً ولا تتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيطانِ إنَّهُ لكُم عَدوٌّ مّبينٌ ) (72) .
فشغل الشيطان الشاغل هو إضلال الإنسان بشتى الحيل والسبل ، ولا يتمكّن من إيقاع الطلاق فجأة بين الإنسان والإيمان ؛ لذلك يسعى للوصول إلى هدفه التضليلي على مراحل .
والله تعالى يبغض ذلك الإنسان الذي يلقي بزمام أمره إلى عدوه الشيطان ؛ حيثُ السقوط التدريجي والهلاك ، ويُؤيِّده الأثر الوارد عن سلمان الفارسي (قدِّس سرُّه) أنَّه قال : إذا أراد الله عزَّ وجلَّ هلاك عبد نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلاّ خائناً مخوِّناً ، فإذا كان خائناً مخوِّناً نزعت منه الأمانة ، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلاّ فظّاً غليظاً ، فإذا كان فظاً غليظاً نزعت منه ربقة الإيمان ، فإذا نزعت منه ربقة الإيمان لم تلقه إلاّ شيطاناً ملعوناً) (73) .
* عوامل زوال الإيمان :
هناك مجموعة من العوامل تسهم في إخراج الإنسان عن طريق الإيمان السوّي ، يمكن الإشارة إلى أبرزها بالنقاط الآتية :
أولاً : عدم معرفة الأئمة .
لمّا كان الأئمة (عليهم السلام) هم السبيل إلى الله تعالى ، والمسلك إلى رضوانه ، وحججه على عباده ؛ لذا وجبت معرفتهم ومحبتهم . ويُؤيِّد ذلك ما في آية المودة والحديث المتواتر : ( مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية ) (74) .
ومن هنا قال الإمام الباقر أو الصادق (عليهما السلام) : (لا يكون العبد مؤمناً حتى يعرف الله ورسوله والأئمة كلّهم وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم له ) (75) ، وقال الإمام الباقر (عليه السلام) في بيان قوله تعالى : ( كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ) : ( الذي لا يعرف الإمام ) (76) .
فالمؤمن الكامل في إيمانه يجب أن يعرف إمام زمانه ، وبدون هذه المعرفة الواجبة عليه ، يصبح ضالاً كالحمل الضائع الذي يسير بلا راعٍ نحو المجهول . عن سليم بن قيس الهلالي ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، قال : قلتُ له ما أدنى ما يكون به الرجل ضالاً ؟ قال (عليه السلام) : ( أن لا يعرف مَن أمر الله بطاعته ، وفرض ولايته ، وجعله حُجَّته في أرضه ، وشاهده على خلقه) . قلتُ: فمَن هم يا أمير المؤمنين ؟ فقال (عليه السلام) : (الّذين قرنهم الله بنفسه وبنبيّه فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ..)) .
قال : فقبّلت رأسه وقلتُ : أوضحت لي وفرّجت عنّي وأذهبت كلَّ شيء كان في قلبي (77) .
فكلّ إنكار للاَئمة عليهم السلام ـ إذن ـ يجرّ إلى هاوية الكفر ، كما أنّ إدعاء الإمامة بغير وجه حق يعتبر من الموارد التي تورد صاحبها الكفر ، عن الفضيل ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( مَن ادّعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر ) (78) .
ثانياً : الغلو .
وهو من العوامل الأساسية التي تُسهم في خروج الإنسان عن حضيرة الإيمان ، عن سعيد بن جبير قال : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (ما غلا أحد من القدرية إلاّ خرج عن الإيمان ) (79) .
وعن بريد العجليّ ، قال : قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) ما أدنى ما يصير به العبد كافراً ؟ قال : فأخذ حصاة من الأرض ، فقال (عليه السلام) : ( أن يقول لهذه الحصاة إنّها نواة ويبرء ممّن خالفه على ذلك ويدين الله بالبراءة ممّن قال بغير قوله ، فهذا ناصب قد أشرك بالله وكفر من حيث لا يعلم ) (80) .
ثالثاً : العصبية .
الإيمان يعني التزام الحق ، ولا يجتمع مع العصبية التي ضمن ما تعنيه من إيثار مصالح القرابة والقوم على قواعد الحق والعدالة عند التعارض بينهما ، وعليه فمَن تعصّب فقد انقلب على عقبيه عن الإيمان ، وصُنّف مع أعراب الجاهلية . قال الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (مَن كان في قلبه حبّة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية) (81) ، كما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) : ( مَن تعصّب أو تُعصّب له ، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه ) (82) .
هذا ، وللعصبية معنىً آخر غير مذموم وغير مخرِج عن الإيمان كأنّ يُحب الإنسان قومه بحيث لا يُؤدّي ذلك إلى الظلم والعدوان ، وقد وضع الإمام زين العابدين (عليه السلام) المقياس الصحيح للتفريق ، فقال (عليه السلام) : ( العصبية التي يأثم عليها صاحبها : أن يرى الرّجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين . وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ، ولكن من العصبية أن يُعين قومه على الظلم ) (83) .
رابعاً : ضرب القرآن بعضه ببعض .
المعروف أنّ البعض يتلاعب بمعاني القرآن حسب أهواءه ومصالحه ، فيضرب بعضه ببعض ليُثبت حجته ويُسكت خصمه تجنِّياً على الحق والحقيقة ، وتشويهاً لمعاني ومفاهيم القرآن الصافية ، وهذا هو عين الجحود والكفر بالله تعالى ، عن القاسم بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) : ( ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلاّ كفر ) ، وسألت محمد بن الحسن (رحمه الله) عن معنى هذا الحديث فقال : هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية أخرى (84) ، بمعنى التمويه على الآخرين بلا دليل أو برهان .
خامساً : الطمع .
وهو أحد العوامل النفسية التي تسهم في إخراج الإنسان من بوتقة الإيمان ، قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) : (ما ثبات الإيمان ؟) قال (عليه السلام) : ( الورع) ، قيل : فما زواله ؟ قال : (الطمع ) (85) .
* مرتكب الكبيرة :
بعد أن استعرضنا أبرز العوامل التي تخرج الإنسان من سكّة الإيمان ، نجد من المناسب التطرُّق إلى مسألة مرتكب الكبيرة ، فقد اختلف أهل القبلة فيمَن أقرَّ بالشهادتين ، وأتى بالذنوب الكبيرة كالقتل وشرب الخمر وما إلى ذلك .
هل هو كافر مخلّد في النار ، أو أنّه مؤمن فاسق يعاقب على الذنب بما يستحق ، ثم يَدخل الجنة ؟ ذهب الخوارج إلى كفر مرتكب الكبيرة ، وقال الإمامية والأشاعرة وأكثر الأصحاب والتابعين إلى أنّه مؤمن اتّصف بالفسق ، وأحدث المعتزلة قولاً ثالثاً وأثبتوا المنزلة بين المنزلتين ، أي لا هو بالكافر ، ولا بالمؤمن .
وقد أورد الشيخ المفيد في هذا الصدد شاهداً قرآنياً على أنّ كبائر الذنوب لا تُخرج عن الإيمان ؛ وذلك أنّه لا خلاف أنّ ما صنعه أخوة يوسف (عليه السلام) بأخيهم : من إلقائه في غيابة الجب ، وبيعه بالثمن البخس ، وكذبهم على الذئب ، وما أوصلوه إلى قلب أبيهم نبي الله يعقوب من الحزن ـ كان كبيراً من الذنوب .
وقد قصّ الله قصتهم وأخبر عن سؤالهم أباهم الاستغفار عن توبتهم وندمهم ، فإن كان الحسد لا يخرج عن الإيمان ، فالكبير من الذنوب أيضاً لا يخرج عن الأديان (86) .
واستدل العلاّمة الحلي في شرح التجريد على صحة القول بأنّ مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق لا يخلد في النار ، استدل : (بأنّه لو خلد في النار للزم أن يكون من عبدَ الله مدة عمره ثم عصى آخر عمره معصية واحدة ، مع بقائه على إيمانه ، لزم أن يكون هذا مخلّداً في النار ، تماماً كمَن أشرك بالله مدة عمره !! وذلك محال ؛ لقبحه عند العقلاء) (87) .
وليس من شك أنّ سيئة واحدة لا تحبط جميع الحسنات ، بل العكس هو الصحيح ، لقوله تعالى : (... إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ.. ) (88) .
والباحث المتجرّد عن الهوى والغرض ، يلاحظ أنّ رأي أهل البيت (عليهم السلام) حول هذه المسألة الحساسة أكثر صوابية وينسجم مع روح الإسلام السمحة ، ويتلائم مع رحمة الله الواسعة .
فالإنسان ضعيف بطبعه ومعرَّض للخطأ ؛ لذلك فتح الله تعالى أمامه باب التوبة على مصراعيه . عن أبي عبد الله (عليه السلام) : ( إنَّ الله عزَّ وجلَّ يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب كما يفرح أحدكم بضالته إذا وجدها ) (89) .
وعليه فآل البيت (عليهم السلام) لا يؤيسون الناس من رحمة الله ويدخلونهم في دائرة الكفر بمجرّد ارتكاب الذنب وإن كان كبيراً ، فهناك ربّ رؤوف يتّصف بالرحمة والمغفرة أقسم أن لا يُبقي أحداً في النار من الموحّدين .
وتزداد هذه الرؤية وضوحاً وإشراقاً من الأمل ، بما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) : (ما من مؤمن يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة ، فيقول ـ وهو نادم ـ : " استغفر الله الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم ، بديع السماوات والأرض ذي الجلال والإكرام ، وأسئله أن يصلِّي على محمد وآل محمد وأن يتوب عليَّ " إلاّ غفرها الله (عزَّ وجلَّ) له ) (90) .
وعنه (عليه السلام) : ( .. قد يكون العبد مسلماً قبل أن يكون مؤمناً ، ولا يكون مؤمناً حتى يكون مسلماً ، فالإسلام قبل الإيمان ، وهو يشارك الإيمان . فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي ، أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عزَّ وجلَّ عنها ، كان خارجاً من الإيمان ، ساقطاً عنه اسم الإيمان وثابتاً عليه اسم الإسلام . فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الإيمان ، ولا يخرجه إلى الكفر إلاّ بالجحود والاستحلال أن يقول للحلال هذا حرام ، وللحرام هذا حلال ، ودان بذلك ، فعندها يكون خارجاً من الإسلام والإيمان داخلاً في الكفر ، وكان بمنزلة مَن دخل الحرم ثمَّ دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثاً فأُخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلى النار ) (91) .
نعم ، الذي يُحرَم من مغفرة الله هو الذي لم تعرف له توبة قط بعد كفره ، ومات على جحوده وإنكاره للحق تبارك وتعالى ، وكذلك مَن كفر بعد إيمانه وتاب ، ولكن توبته لم تكن توبة نصوحة إذ سرعان ما أعاد إلى حضيض الكفر وازداد كفراً ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (92) .
ــــــــــــــ
(46) سورة البقرة 2 : 257 .
(47) سورة النساء 4 : 76 .
(48) سورة محمد 47 : 12 .
(49) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 418 | كتاب 45 .
(50) غرر الحكم .
(51) غرر الحكم .
(52) مجمع البحرين ، للشيخ الطريحي 2 : 48 .
(53) سورة الانشقاق 84 : 22 .
(54) سورة النحل 16 : 105 .
(55) كنز العمال 3 : 620 | خ 8206 .
(56) المصدر السابق : خ 8211 .
(57) الاختصاص : 231 .
(58) مكارم الأخلاق ، للطبرسي : 433 .
(59) المصدر السابق : 437 .
(60) سورة الشعراء 26 : 176 ـ 186 .
(61) سورة يوسف 12 : 26 ـ 28 .
(62) سورة البقرة 2 : 212 .
(63) سورة هود 11 : 38 .
(64) سورة هود 11 : 87 .
(65) سورة البقرة 2 : 14 .
(66) سورة الملك 67 : 20 .
(67) سورة ص 38 : 2 .
(68) الأمثال في القرآن ، للدكتور محمود بن الشريف : 105 دار مكتبة الهلال ـ بيروت ط5 .
(69) سورة الكهف 18 : 32 ـ 43 .
(70) معاني الأخبار : 198 .
(71) سورة النور 24 : 21 .
(72) سورة البقرة 2 : 208 .
(73) أصول الكافي 2 : 291 | 10 كتاب الإيمان والكفر .
(74) صحيح البخاري 5 : 13 باب الفتن ، وصحيح مسلم 6 : 21 ـ 22 | 1849 .وأصول الكافي 1 : 303 | 5 ، وكمال الدين 2 : 412 ـ 413 | 10 و 11 و 12 و 15 ، باب الإمامة والتبصرة على اختلافٍ في اللفظ ، ولا بدَّ أن يكون المراد في جميع الألفاظ هو ما دلّ عليه اللفظ المذكور أعلاه .
(75) أصول الكافي 1 : 180 | 2 .
(76) المصدر السابق 1 : 185 | 13 .
(77) معاني الأخبار : 394 . والآية من سورة النساء 4 : 59 .
(78) ثواب الأعمال : 255 .
(79) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال ، للصدوق : 254 .
(80) معاني الأخبار : 393 .
(81) أصول الكافي 2 : 308 | 3 كتاب الإيمان والكفر .
(82) المصدر السابق : 307 | 1 .
(83) أصول الكافي 2 : 308 | 1 كتاب الإيمان والكفر .
(84) معاني الأخبار : 190 .
(85) الاختصاص : 31 .
(86) الفصول المختارة من العيون والمحاسن : 11 منشورات مكتبة الداوري 1396 هـ ط4 .
(87) اُنظر : التفسير الكاشف ، للشيخ محمد جواد مغنية 1 : 139 .
(88) سورة هود 11 : 114 .
(89) أصول الكافي 2 : 436 | 13 كتاب الإيمان والكفر .
(90) المصدر السابق : 438 | 7 .
الكفر وعلامات الكافر*
ـ القسم الأول ـ
إعداد :
قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين (عليها السلام)
* معنى الكفر :
حدَّد الإمام الصادق (عليه السلام) معنى الكفر أفضل تحديد ، بقوله : ( كلّ معصية عُصي الله بها بجهة الجَحد والإنكار والاستخفاف والتهاون ، في كلِّ ما دقّ وجلّ ، وفاعله كافر ، ومعناه معنى كُفر ، من أيّ ملّةٍ كان ، ومن أيّ فرقة كان ، بعد أن تكون منه معصية بهذه الصفات ، فهو كافر... ) (1).
ويرسم لنا الإمام الباقر (عليه السلام) قاعدة عامة في مسألة الإيمان والكفر ، هي : ( كلّ شيء يجرّه الإقرار والتسليم فهو الإيمان ، وكلّ شيء يجرّه الإنكار والجحود فهو الكفر ) (2) .
ومَن يستقرئ موجبات الكفر في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ، يجد أنّها تتمحور ـ أساساً ـ حول الفقرات التالية :
أولاً : الشك في الله تعالى ورسوله : يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : ( مَن شكَّ في الله وفي رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فهو كافر ) (3).
وعن منصور بن حازم قال : قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) مَن شك في رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، قال : ( كافر ) (4).
ثانياً : ترك العمل بالفرائض الواجبة أو جحدها : وحول هذه الفقرة يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : (.. إنَّ الله عزَّ وجلَّ فرض فرائض موجبات على العباد ، فمَن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها وجحدها كان كافراً) (5) . وعن جابر عن الرسول (صلَّى الله عليه وآله) : ( بين الإيمان والكفر ترك الصلاة ) (6) .
ثالثاً : الانحراف العقائدي : وقد يتمثّل في تشبيه الله بخلقه وإطلاق صفات المخلوقين عليه ، يقول الإمام الرضا (عليه السلام) : ( مَن وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر ) (7) .
ومن مظاهر الانحراف الأخرى الموجبة للكفر القول بالجبر والتفويض ، فقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنَّ : (.. القائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك ) (8) .
كما ورد عنه (عليه السلام) أنّ القول بالتناسخ موجب ـ أيضاً ـ للكفر ، قال : ( مَن قال بالتناسخ فهو كافر بالله العظيم ، مكذِّب بالجنة والنار ) (9) .
رابعاً : إدعاء الإمامة : فقد جاء عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال : ( مَن ادّعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر ) (10) .
خامساً : بغض أهل البيت (عليهم السلام) : وهو من الموارد التي تُؤدِّي إلى الكفر ، قال الإمام الباقر (عليه السلام) لزيد الشحام : ( يا زيد حُبُّنا إيمان وبغضنا كفر ) (11) .
وعن عبد الله بن مسعود قال : سمعتُ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يقول : ( مَن زعم أنّه آمن بي وبما جئت به وهو يبغض عليّاً (عليه السلام) ، فهو كاذب ليس بمؤمن ) (12) .
وقد تقدّم ما يدل عليه في حب أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً .
* وجوه الكفر وحدوده :
ما أكثر وجوه الكفر وألوانه وما أكثر الطُرق المؤدِّية إليه ، بعضها واضحٌ جلي ، وبعضها غامضٌ خفي ، يسير عليها الإنسان ولا يعلم أنّه صائر إلى الهاوية .
وقد كشف لنا الإمام الصادق (عليه السلام) بما امتاز به من نظرة قرآنية عميقة ، عن وجوه الكفر في القرآن .
عن أبي عمرو الزبيدي ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قلتُ له أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزَّ وجلَّ ، قال (عليه السلام) : (الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه فمنها : كفر الجحود ـ والجحود على وجهين ـ والكفر بترك ما أمر الله ، وكفر البراءة ، وكفر النعم .
فأمَّا كفر الجحود ، فهو الجحود بالربوبية ، وهو قول مَن يقول : لا ربّ ولا جنّة ولا نار ، وهو قول صنفين من الزّنادقة يقال لهم : الدّهرية ، وهم الذين يقولون : (... وما يُهلِكُنا إلاّ الدَّهرُ ) (13) ، وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان ، على غير تثبُّت منهم ولا تحقيق لشيء ممّا يقولون .. وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (14) ، يعني : بتوحيد الله تعالى . فهذا أحد وجوه الكفر .
وأمَّا الوجه الآخر من الجحود على معرفة ، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده ، وقد قال الله عزَّ وجلَّ : ( وجَحَدُوا بِها واستَيقَنتها أنفُسهم ظُلماً وعُلُّواً.. ) (15) ، وقال الله عزَّ وجلَّ : (.. وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (16) فهذا تفسير وجهَي الجحود .
والوجه الثالث من الكفر : كفر النعم ، وذلك قوله تعالى يحكي قول سلمان (عليه السلام) : (.. هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (17) ، وقال : ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (18) ، وقال : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ) (19) .
والوجه الرابع من الكفر : ترك ما أمر الله عزَّ وجلَّ به ، وهو قول الله عزَّ وجلَّ : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ ) فكفّرهم بترك ما أمر الله عزَّ وجلَّ به ، ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ، ولم ينفعهم عنده ، فقال : ( فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (20) .
والوجه الخامس من الكفر : كفر البراءة ، وذلك قوله عزَّ وجلَّ يحكي قول إبراهيم (عليه السلام) : (.. كَفرَنا بِكُم وبَدا بَيننَا وبَينَكُم العَداوَةُ والبَغضَآءُ أبَداً حتّى تُؤمِنُوا باللهِ وحدَهُ.. ) (21) يعني تبرَّأنا منكم . وقال يذكر إبليس وتبرئته من أوليائه من الإنس يوم القيامة : (..إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) (22) ، وقال : (.. إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً.. ) (23) يعني يتبرّء بعضكم من بعض ) (24) .
ومن الكفر العظيم ما يتصل بإنكار الأنبياء أو تكذيبهم فيما ينقلون عن الله تعالى ، ممَّا وصل إلينا بطريق التواتر ، أو التفريق بينهم ، أو الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعض ، قال تعالى : ( إنَّ الَّذينَ يكفُرُونَ باللهِ ورُسلِهِ ويُريدُونَ أن يُفرّقوا بَينَ اللهِ ورسُلِهِ ويقُولُونَ نؤمِنُ بِبعضٍ ونكفُر بِبعض .. أولئكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقاً ) (25) .
ويدخل في زمرة الكافرين أهل الأديان الأخرى الذين يُنكرون نبوة محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وعموم رسالته وأنّه خاتم النبيِّين ، فالقرآن يقول عن اليهود الذين عرفوا أنّ نبوة محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حق في عصره ثم أنكروها إستكباراً وعناداً : ( فَلمَّا جآءهُم ما عَرفُوا كَفَرُوا بِهِ فلعنَةُ اللهِ على الكَافِرينَ ) (26) .
ويدخل ـ أيضاً ـ في زمرة الكافرين الذين أنكروا كون القرآن الكريم من عند الله تعالى : ( قُل أرَيتُم إن كانَ مِن عِندِ اللهِ ثُمَّ كَفرتُم بِهِ .. ) (27) .
ولا بدَّ من التنويه على أنّ الكفر ليس ذاتياً في الإنسان ، بل هو عارض يضعف ويقوى ، فإذا قوى حجب الإيمان وستره ، ولكن لا ينفيه ولا يبطله ؛ بدليل أنّ مَن يكفر قد يعود بالتوبة أو بالهداية من الله إلى الإيمان بعد الكفر (28) قبل أن يموت ، فإذا مات فحكمه أنّه كافر .
ومن الشواهد الدالة على ازدياد الكفر ، ما ورد عن محمد بن مسلم ، قال : قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) : ( عُتُلٍّ بعدَ ذلكَ زنيمٍ ) (29) ، قال : ( العُتُلُّ : العظيم الكفر ، والزنيم : المستهتِر بكفره ) (30) .
من جانبٍ آخرٍ نجد نمطاً من الناس قد أسرُّوا الكفر ، ولكن أظهروا الإيمان نفاقاً ، فهم كالحرباء التي تتأقلم مع الظروف وتتمحور حول المصالح الذاتية ، وكنموذج من أولئك المنافقين في تاريخنا الإسلامي ، ممَّن انطلى نفاقهم وكفرهم على شريحة واسعة من المسلمين لتستُّرهم بظاهر الإسلام : معاوية بن أبي سفيان وحزبه .
ولا نقول ذلك اجتهاداً منّا ، بل لتواتر التصريح به ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فقد حلف بأغْلَظ الإيمان لأصحابه الذين صفَّهم في صِفِّين ، على نفاق وزيف إيمان أعدائهم ، بل وكفرهم ، قائلاً : ( .. فو الذي فلق الحبَّة ، وبرأ النسمة ، ما أسلموا ولكن استسلموا ، وأسرُّوا الكفر . فلمَّا وجدوا أعواناً عليه ، أظهروه ) (31) .
فهذا نموذج من الناس يعيش حالة الفصام بين الظاهر والباطن ، فيظهر الإيمان ويبطن الكفر ، وهو ـ بلا شك ولا شبهة ـ من أخطر حالات الكفر ضرراً على الإسلام .
إنَّ الإسلام ركّز على التلازم بين الظاهر والباطن ، ومِثْل هذه الرؤية تتوضّح خطوطها فيما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) : عن الهيثم التميمي ، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( يا هيثم التميمي ، إنَّ قوماً آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن فلم ينفعهم شيء ، وجاء قوم من بعدهم آمنوا بالباطن وكفروا بالظاهر فلم ينفعهم ذلك شيئاً ، ولا إيمان بظاهر إلاّ بباطن ، ولا بباطن إلاّ بظاهر ) (32) .
وبطبيعة الحال يُحمل قوله (عليه السلام) : (.. وجاء قوم من بعدهم آمنوا بالباطن وكفروا بالظاهر فلم ينفعهم ذلك شيئاً ) على عدم القيام بلوازم الإيمان من عبادات ومعاملات ، بتعبيرٍ آخر يراد منه : (كفر الطاعة) ، المتمثِّل بعدم أداء الواجبات وعدم الابتعاد عن المحرمات ، وإلاّ فهناك شواهد قرآنية قوية على إيمان مَن كفر ظاهراً تقيةً من الكفار ، يقول تعالى : ( مَن كَفرَ باللهِ مِنْ بَعدِ إيمانِهِ إلاّ مَن أُكرِهَ وقلبُهُ مُطمئنٌ بالإيمان.. ) (33) .
ولا خلاف أنّها نزلت في عمّار بن ياسر وجماعته إذ أكرههم مشركوا قريش على كلمة الكفر ، فاستجاب بعضهم وأبى بعض ، ونزل القرآن بعذر مَن استجاب وقلبه مطمئن بالإيمان .
وانسجاماً مع هذه النظرة القرآنية الأرحب ، دفع آل البيت (عليهم السلام) شبهة كفر أبي طالب (عليه السلام) ، تلك الشبهة التي أثارها معاوية وتمسّك بها فيما بعد خلفه وأنصاره ، وفي هذا الصدد قال الإمام الصادق (عليه السلام) : ( إنَّ مَثَل أبي طالب مثل أصحاب الكهف ، أسرّوا الإيمان ، وأظهروا الشرك فأتاهم الله أجرهم مرّتين) (34) .
هذا ، وقد أُلّفت في إيمان أبي طالب (عليه السلام) عشرات الكتب .
* منازل الكُفر :
للكفر منازل ودرجات ، فمن الكفّار مَن يسد منافذ العقل والبصيرة التي منحها الله تعالى له ، ويتمسّك بقوة بمتبَّنياته العقيدية الباطلة كما هو حال الإنسان الجاهلي الذي تمسّك بالأصنام التي صنعها بيده من الحجر أو التمر ! كما تمسّك بظنونه بقوى الجن والسحر ، وشبَّ على شهواته لاهياً عمّا يصير إليه ، قال تعالى : (.. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ) (35) .
ومن الكفّار مَن يُؤمن بالله تعالى ، ولكن يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ، ويلبسون الحق بالباطل ، ويبادرون الكفر بما جاء به خاتم الرسل (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كحال بني إسرائيل الذين بلغت قلوبهم درجة التحجُّر ؛ لذلك خاطبهم تعالى مستنكراً : ( .. أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ ) (36) .
وهناك فريق من المسلمين قد يتسافل فيصل إلى أقرب المنازل من الكفر وإن لم يسمَّ كافراً ، وذلك في الحالات التالية :
أولاً : التعصُّب للبدع : وذلك عندما يبتدع شيئاً مخالفاً لقواعد الشرع ومتبنَّياته ، فيتعصَّب لِمَا ابتدعه ويعتبره من المسلَّمات التي لا تقبل نقاشاً ولا جدلاً ، ومن الشواهد الدالة على هذا النمط ، ما ورد عن الحلبي قال : قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) ما أدنى ما يكون به العبد كافراً ؟ قال : ( أن يبتدع به شيئاً فيتولَّى عليه ويتبرَّأ ممَّن خالفه ) (37) .
ومن خطورة التعصُّب للبدع أنَّه يجرّ صاحبه إلى الكذب على الشرع الحنيف ؛ وذلك بأن يتخبّط تخبّطاً عشوائياً فيقلب الحقائق الشرعية الواضحة ، فيعتبر المنهي عنه مأموراً به ! ويتخذ موقفاً معادياً لمَن يخالفه . ويكشف لنا الإمام علي (عليه السلام) عن هذا النمط من الانحراف عن جادّة الصواب بقوله : ( ... أدنى ما يكون به العبد كافراً ، مَن زعم أنَّ شيئاً نهى الله عنه أنّ الله أمر به ونصبه ديناً يتولّى عليه ، ويزعم أنّه يعبد الذي أمره به ، وإنّما يعبد الشيطان ) (38) .
كما ورد عن الإمام الرّضا (عليه السلام) : ( مَن شبّه الله بخلقه فهو مشرك ، ومَن نسب إليه ما نهى عنه فهو كافر ) (39) .
ثانياً : الخروج عن قواعد الأخلاق : لا يمكن التفريق بين الإيمان والأخلاق ، وعليه فكل مَن فقد الخُلق الحسن ، لا بدَّ وأن يقترب من الكفر وإن نطق الشهادتين . فمَن يتَّصف بالكذب والخيانة وخلف الوعد ، ويقوم بهتك حرمات الناس ، وإحصاء عثراتهم ، فسوف يتسافل إلى أسفل السافلين ، وتكون منزلته أدنى منازل الكفر وإن لم يكن كافراً ، وفي هذا الإطار ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) : ( إنَّ أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يُؤاخي الرّجل الرّجل على الدّين فيحصي عليه زلاَّته ليُعيِّره بها يوماً ما ) (40) .
* أصول الكفر وعلامات الكافر :
أولاً : أصول الكفر .
إذا تتبّعنا أصول الكفر وأركانه في مصادرنا المعرفية ، فسنجد أنّه يتمثّل في ثلاثة خصال تشكّل ثالوث الكفر ، وهي : الاستكبار ، والحرص ، والحسد .
أمَّا الاستكبار ، فقد أدَّى إلى امتناع إبليس (لعنه الله) من السجود لآدم (عليه السلام) ، وعصى ـ بذلك ـ الأمر الإلهي ، بعد أن ( اعترته الحمية ، وغلبت عليه الشقوة ، وتعزَّز بخلقة النار ، واستهون خلق الصّلصال ، فأعطاه الله النّظرة استحقاقاً للسُّخطة ، واستتماماً للبليَّة ، وإنجازاً للعدة ... ) (41) .
أمَّا الحرص ، فهو السبب المباشر في تكالب الناس في كلِّ عصر وجيل على حطام الدنيا ومتاعها القليل ، وهو من أخس الرذائل المؤدِّية إلى كفران النعم ، والشك بعد اليقين ، والوهن بعد العزيمة ، والوجل بعد الجذل . وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم الحرص وضرورة الابتعاد عنه ؛ لِمَا فيه من نتائج وخيمة في دنيا الفرد وآخرته .
فعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال : ( قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : من علامات الشقاء : جمود العين ، وقسوة القلب ، وشدة الحرص في طلب الدنيا ، والإصرار على الذنب ) (42) .
كما أنّ هناك أحاديث كثيرة تبيّن دعائم الكفر التي تتكيء على أصوله أو تتظافر معها ، وكلّها ترجع إلى أمراض نفسية خطيرة تبعد الإنسان عن دائرة الإيمان .
ثانياً : علامات الكافر .
لقد رسم القرآن لنا بدِّقة علامات الكافر ، ويمكن التطرُّق إليها ضمن الفقرات التالية :
1 ـ الجهل :
وهو أصل كلّ شر ومنبع كل رذيلة ، والكافر جاهل لا تُرجى هدايته بالحجة والبرهان ، ولا بالموعظة والنصيحة .. ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (43) .
فالجهل هو السبب الرئيسي وراء الكفر ، قال : أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( لو أنَّ العباد حين جهلوا وقفوا ، لم يكفروا ولم يضلّوا ) (44) .
ولأنَّ الكفّار قد تبلّدت عقولهم ، فهم يعيشون حالة الخواء من الداخل كجذوع نخل خاوية ، لا روح فيها ولا ثمر . لذلك أمر نبينا الكريم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالإعراض عنهم بقوله تعالى : ( خُذِ العَفوَ وأمُر بالعُرفِ وأعرِض عن الجَاهِلينَ ) (45) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المصدر كتاب : " الإيمان وعلامات المؤمن" ،مركز الرسالة ، ص51 ــ 76 .
(1) تحف العقول : 330 . وأيضاً الوسائل 1 : 24 ـ 25 .
(2) أصول الكافي 2 : 387 | 15 كتاب الإيمان والكفر .
(3) أصول الكافي 2 : 386 | 10 كتاب الإيمان والكفر .
(4) المصدر السابق 2 : 387 | 11 كتاب الإيمان والكفر .
(5) المصدر السابق 2 : 383 | 1 كتاب الإيمان والكفر .
(6) كنز العمال 7 : 279 | 18869 .
(7) وسائل الشيعة 18 : 557 .
(8) وسائل الشيعة 18 : 557 باب : جملة ما يثبت به الكفر والارتداد .
(9) المصدر السابق .
(10) وسائل الشيعة 18 : 560 .
(11) المصدر السابق 18 : 561 .
(12) المناقب للخوارزمي : 35 .
(13) سورة الجاثية 45 : 24 .
(14) سورة البقرة 2 : 6 .
(15) سورة النمل 27 : 14 .
(16) سورة البقرة 2 : 89 .
(17) سورة النمل 27 : 40 .
(18) سورة إبراهيم 14 : 7 .
(19) سورة البقرة 2 : 152 .
(20) سورة البقرة 2 : 84 ـ 85 .
(21) سورة الممتحنة 60 : 4 .
(22) سورة إبراهيم 14 : 22 .
(23) سورة العنكبوت 29 : 25 .
(24) أصول الكافي 2 : 389 ، 391 | 1 كتاب الإيمان والكفر .
(25) سورة النساء 4 : 150 ـ 151 .
(26) سورة البقرة 2 : 89 .
(27) سورة فصلت 41 : 52 .
(28) ولا بدَّ أن نميّز هنا بين مَن كفر بعد الإيمان ومَن كان كافراً أصلاً ؛ للفرق بين الحالتين وحكمهما ، وتفصيل ذلك تجده في كتب الفقه بعنوان : " حكم المرتد " .
(29) سورة القلم 68 : 13 .
(30) معاني الأخبار : 149 .
(31) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 374 | كتاب 16 .
(32) بصائر الدرجات : 536 .
(33) سورة النحل 16 : 106 .
(34) معاني الأخبار : 285 ـ 286 .
(35) سورة محمد 47 : 12 .
(36) سورة البقرة 2 : 87 ـ 88 .
(37) معاني الأخبار : 393
(38) أصول الكافي 2 : 414 ـ 415 / 1 كتاب الإيمان والكفر.
(39) وسائل الشيعة 18 : 557 باب جملة ما يثبت به الكفر والارتداد.
(40) أصول الكافي 2 : 355 / 6 كتاب الكفر والإيمان.
(41) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 42 | خطبة 1 .
(42) أصول الكافي 2 : 290 | 6 باب أصول الكفر وأركانه من كتاب الإيمان والكفر .
(43) سورة البقرة 2 : 6 .
(44) غرر الحكم .
(45) سورة الأعراف 7 : 199 .