قال تعالى:(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) النور : 22.
اعداد دار السيدة رقية علهيا السلام للقرآن الكريم _ القسم الثقافي
قال المفسرون: إنّ العفو قد يكون بعد عتاب وتعفيف وتقريع، أي: قد يعفو الإنسان عن إساءة تستحقّ الضرب، فلا يضرب المسيء ويكتفي بتوبيخه، وهذا غير الصفح الذي يخلو من العتاب وغيره. فالصفح هو العفو بأعلی صوره؛ ذلك لأنّ العتاب عقوبة.
وعلی كل حال فإنّ العفو ضدّ الانتقام وهو إسقاط ما يستحقّه وترك عقوبة الذنب، ولا يكون العفو عند المقدرة علی العقوبة والانتقام، أما إذا أصفح عنه لأنّه لم يقدر عليه فلا يُسمّی تركه له عفواً كما لا يصلح العفو علی كلّ حال، فإنّه مقيَّد بالشرع وليس تابعاً للمزاج، فيجوز فيما إذا كان الأمر خارجاً عن إطار القصاص والحدّ الشرعي، مثل أن يساء إلينا بكلمة نابية، أمّا حين يكون سرقة مال أو قتلاً متعمَّداً أو غير ذلك مما يهتمّ به الإسلام والمذاهب، فلا.
وكذلك لا بدّ من كون الأمر بالعفو متعلّقاً بنا لا بالآخرين، فلا يصحّ العفو عن ظلم الآخرين والتجاوز عليهم، فيختصّ فيما كانت الإساءة مع النفس لا مع الغير، ويشترط في العفو- أيضاً-كونه لا يؤدي إلی مفسدة أو إسراف المذنب علی ارتكاب الأفضع، ويفسح المجال للتجاوز أكثر فأكثر، ويزيد في الاعتداء ويغتّر بقدرته، فإنّ العفو يحمل حِكماً ومصالح ويعود علينا بالخيرات والمنافع، وممّا يوجب سعادة الدنيا والآخرة، ويختصّ بخصائص كريمة، ويمتاز بممّيزات شريفة جليلة، منها: أنّه من أخلاق الله سبحانه وتعالی؛ فهو العفوّ الغفور، الرؤوف العطوف الودود، ومن سنن الأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين، وهو ممّا أمرنا به القرآن الكريم مضافاً إلی أنّه سجية وخُلُق شريف، فإنّ المرءَ العفوَّ عزيزٌ ذو شخصية عالية يحّبه الناس؛ لأنّه يستر على المسيئين ويصلحهم، ويزرع الأمل والرجاء فيهم و هو ممّا يخلف صلاحاً أو إصلاحاً، وهي فرصة جديدة لتعديل الأخطاء والتراجع عن الخطايا.
فلا ينبغي التسرّع في العقوبة إذا كان هناك مجال للعفو وفسحة للمعذرة، فربما تركت العقوبة أثراً سّيئاً، وربّما كان العفو مرّبياً وعطاءً وصلة وخُلُقاً ورفقاً ومعروفاً وخيراً وعطفاً، فهو خير أخلاق الدنيا؛ لأنّه يبعد الضغائن والأحقاد ويقبر الفتن والمعضلات، ويخلق أجواء المحبة والصفاء، ويزرع بذور الأخوّة والألفة والمودّة، ويصلح النفوس المريضة ويربّي القلوب السقيمة علی الخير، مضافاً إلی الأجر والثواب.
أمّا في الآخرة فهو يرفع الدرجات ويمهَّد للدخول إلی رحمة الله، وقد ذكرت الآيات والروايات للعفو ثماراً كثيرة دنيوية وأخروية لا مجال لسردها هنا،و كما أشارت الآية: (أَلاتُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) النور:22، فهي تشجَّع وترغَّب في العفو والصفح عن الآخرين، وتقول: فإنّكم مثلما تأملون من الله العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم يجب عليكم العفو والصفح عن الآخرين.
فهي تحمل درساً كبيراً لحاضر المسلمين ومستقبلهم وتذكرهم بأن لا يتجاوزوا الحدّ المقرَّر في معاقبة المذنبين، ولا ينبغي طردهم من المجتمع الإسلامي أو إغلاق باب المساعدة في وجوههم، ذلك من أجل المحافظة عليهم كي لا يزدادوا انحرافاً فيقعوا في أحضان العدو أو ينحازوا إلی جانبه، فإنّ العفو عن الآخرين سبب لعفو الله سبحانه عن ذنوب العافي نفسه، وأيّ عاقل لا يحبّ أن يغفر الله له، وفي الحديث الشريف: (ثلاث من مكارم الدنيا والآخرة: تعفو عمَّن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلم إذا جهل عليك). ومن الكلمات الموجزة للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (عفو المَلِك أبقی للمُلك)، وقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (إذا قدرت علی عدوّك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه)، وغيرها الكثير.