ونذكر بهذا الصدد عمدة ما قيل او يقال من المقاييس.
المِقياس الاوَّل - العرف او بناء العقلاء:
فكلّ ما تطابق العرف او العقلاء على حسنه اصبح حسنا، وكلّ ما تطابقوا على قبحه اصبح قبيحا.
ومقياسيَّة ذلك تكون باحد وجوه اربعة:
الاوَّل - دعوى حكم العقل بوجوب اتِّباع العقلاء فيما تطابقوا عليه من حسن او قبح، بمعنى ولاية العقلاء علينا. فما هو الحَسَن ذاتا هو اتَّباع العقلاء، وما هو القبيح ذاتا هو مخالفتهم. فهذا مرجعه الى مقياسيَّة العقل مع تطبيق مصداق حكم العقل في اتِّباع العقلاء.
ولكنَّ الواقع انَّنا لا نجد في عقولنا ووجداننا دلالة على ولاية العقلاء علينا.
والثاني - دعوى انَّ العرف او العقلاء هم المؤَسِّسون للحسن والقبح. وهذا ما يُفهَمُ من روح كلام المرحوم الشيخ محمّد رضا مظفَّر قدس سره . وقد صرَّح رحمه الله بانَّ قضايا الحسن والقبح داخلة في المشهورات الصرفة التي لا واقعية لها الا الشهرة.
وامَّا المرحوم اية اللَّه الشيخ الاصفهاني قدس سره فقد صرَّح - ايضا في بحث التجرِّي - بانَّ هذه القضايا داخلة في القضايا المشهورة المسطورة في علم الميزان في باب الصناعات الخمس. وبَرْهَن على عدم كونها قضايا برهانيَّة او مضمونة الصحَّة.
ولكنْ لم اجد له تصريحا بانَّ هذه القضايا او مطلق ما يُسمّى بالقضايا المشهورة لا واقع لها الا شهرتها.
والواقع : انَّ ارجاع الحسن والقبح الى جعل العرف او العقلاء يساوق -في الحقيقة - انكار واقع الحسن والقبح؛ لأنَّ ما يكون قابلاً للجعل والاعتبار، ويكون امره بيدِ الجاعل والمُعتبِر، انّما هو عنوان الحسن والقبح لا واقعهما، فَمَنْ يدرك بضميره وجود حسن وقبح حقيقيّين، او فضيلة ورذيلة واقعيّتين، لا يصحُّ له انْ يذهب الى هذا المقياس.
والثالث - دعوى انّ ما تطابق عليه العرف او العقلاء قد اعطى كلَّ انسان عرفيِّ او كلَّ عاقل التزاما بالوفاء به، وباتِّباع ما عليه العرف او العقلاء، ويجب عقلاً الوفاء بهذا الالتزام. فالمِقياس الاصليّ - في الحقيقة - هو الوفاء بالالتزام، او قلْ: هو حكم العقل المنطبق مصداقا على هذا الوفاء.
ولكن لو صحَّ هذا لأمكن لكلِّ فرد ان يتحرَّر من جميع الاخلاقيَّات بعدم اعطاء التزام من هذا القبيل، فيصحُّ له مثلاً ضرب اليتيم، او الاخذ في فصل المرافعات بجانب الظالم لا المظلوم، وما الى ذلك ممَّا هو خلاف ما يحكم به الوجدان والضمير، سواءٌ التزمنا باتِّباع العرف او العقلاء او لم نلتزم.
وخلاصة الامر : انَّ ادراك الضمير للقضايا الخُلُقيّة لا يدور مدار هذا الالتزام نفيا واثباتا.
والرابع - دعوى انَّ تطابق اراء العرف او العقلاء على الاراء المحمودة والاداب العامَّة نشات ممَّا تحفظه هذه الاداب والاخلاق من المصالح واتِّقاء المفاسد، فترجع مقياسيّة هذا المقياس الى مقياسيّة المصلحة والمفسدة. وهذا ما سنبحثه فيما بعد انْ شاء اللَّه.
الا انّ الذي نشير اليه هنا هو: انَّ الشخص قد يعتقد انَّ الفضيلة المفروضة المتفق عليها مشهور الاراء ليست في مصلحته في الظرف المفروض.
وهذا علاجه ينحصر امَّا بدعوى انَّ المِقياس هي: المصلحة العامَّة لامصلحة الشخص، او بدعوى انَّ الفضيلة المفروضة لئن خالفت مصلحة هذا الشخص هذه المرَّة لصالح الاخرين، فهي تعوِّضه بحفظ مصلحته في مقابل الاخرين في مرّات اخرى. فهي على العموم في صالح الجميع.
وعلي ايِّ حال، فنحن لو امنَّا بمقياسيّة المصلحة والمفسدة - وهذا ما سياتي بحثه انْ شاء اللَّه - لا نؤمن بانَّ بناء العرف او العقلاء على الاخلاق والاداب ينشا دائما من حفظ المصالح واتِّقاء المفاسد الواقعيّتين؛ ولذا ترى التناقضات العجيبة بين المجتمعات في ذلك، فقد يعتقد مجتمع ما انَّ احتجاب النساء من الرجال وحفظ العِرض والحياء من افضل الصفات الحسنة والفضائل الراقية، ويعتقد مجتمع اخر انَّ هذا وهم وخرافة، وانَّ المصلحة تكون في سفور النساء وتحرُّرهن من القيود الجنسيّة والحياء.
وقد تحصَّل انَّ هذا المقياس غير صحيح بكلِّ معانيه الاربعة.
المِقياس الثاني - القانون:
وهو قد يكون نابعا من اعلى، كما لو كان من قبل شريعة سماويّة، او من قبل سلطان مستبدٍّ برايه، او حزب متسيطر على رقاب الناس او ما شابه ذلك. وقد يكون نابعا من الناس انفسهم، كما لو انتُخِب القانون بالتصويت ولو عن طريق البرلمان الذي انتُخِب اعضاؤه من قبل الناس.
امّا ما كان من قِبل شريعة سماويّة فلكي يختلف عن مِقياس الدين -الذي سياتي ذكره فيما بعد انْ شاء اللَّه - بالامكان تفسيره: بانَّ القانون هو الدستور الذي يكون بيد القوّة المجرية، في حين انَّ الدين ليس سوى الدستور الذي يُتديَّن به ولو لم يكن بيد قوّة مجرية، فكان الناس يعصونه جهارا.
وامَّا ما كان نابعا من الناس فلكي يختلف عن المِقياس الاوَّل - وهو العرف او العقلاء - بالامكان تقييده بنوع من التحدُّد والصرامة غير الموجودين في مجرد بناء العرف والعقلاء، او تفسيره - ايضا - بالدستور الذي يكون بيد القوّة المجرية، في حين انَّ بناء العرف والعقلاء ربَّما لا يكون على شكل دستور يجرى بيد القوّة المجرية رغما لمن يحاول التمرُّد والخلاف.
وامّا قيمة هذا المِقياس فالقانون النابع من سلطان مستبدٍّ برايه، او فئة متسيطرة بالقهر والغلبة على الناس، لا قيمة له، ولا ينبغي لعاقل ان يتصوَّر كونه مِقياسا للفضيلة والرذيلة.
وامَّا القانون النابع من الدين فقيمته قيمة ذلك الدين، ولا ينبغي - ايضا - لعاقل ان يتصوّر قيمة اخلاقيّة لقانون تجريه القوّة المجرية على اساس دين باطل غير ذي قيمة حقيقيّة.
اذن، فلا معنى لفرض القانون النابع من الدين مِقياسا للفضيلة والرذيلة وراء الدين الذي هو مِقياس اخر ياتي بحثه ان شاء اللَّه.
وامّا القانون النابع من الناس فهو وان اختلف موضوعا عن العرف وبناء العقلاء بما مضى من تفسيره بما يتَّسم بنوع من التحدُّد والصرامة غير الموجودين في مجرد بناء العرف والعقلاء، او بالدستور الذي يكون بيد القوّة المجرية، الا انَّه بلحاظ التقييم يرجع الى نفس روح المِقياس السابق اعني: مِقياس العرف او العقلاء، وتاتي هنا نفس الوجوه الاربعة: فامَّا ان يُدَّعى انَّ مقنِّن القانون - وهم الاكثريّة المشتركون في تقنينه - له حقُّ الولاية على مَنْ اراد مخالفة القانون، او يُدَّعى انَّ الحسن والقبح امران جعليان واعتباريان يُجعلان عن طريق جعل القانون، او يُدَّعى انَّ مَنْ ساهم في جعل هذا القانون ولو بمعنى مساهمته لإمضاء جعل حقِّ تشريع القانون بيد الاكثرية، لا ينبغي له ان يخالف وعده وشرطه، بل يجب عليه الوفاء بذلك، او يُدَّعى انَّ القانون حافظ للمصالح ودافع للمفاسد . ومناقشة هذه الوجوه - ايضا - هي عين المناقشات الماضية في المِقياس السابق.
نعم، يمتاز هذا المِقياس عن المقياس السابق بانَّ انطباق عنوان الوفاء بالشرط والالتزام هنا قد يكون اوضح واوسع من انطباقه على المِقياس الاوَّل، اعني: العرف وبناء العقلاء؛ وذلك على اساس الفكرة المعروفة في بناء اساس الدولة عن جان جاك روسو.
وهناك رايٌ يقول: بانَّ مَنْ راى عدم صحة قانون ومخالفته للمصلحة فما دام القانون قائما يجب على هذا الشخص كسائر الناس اتِّباعه، الا انَّه يجدُّ ويجتهد في تغيير القانون بمثل: تقديم اقتراح على مجلس النوَّاب يوضِّح فيه ضرر هذا القانون، وكالكتابة في الجرائد وما الى ذلك، وفي اثناء جهاده في تغيير القانون يجب ان يحترمه ويخضع له، كما جاء في كتاب الاخلاق لأحمد امين، قال: (ومن خير الامثلة على ما يجب ان يعمل في مثل هذا الموقف ما حُكي عن جُون همْبدِنْ (Hampden) احد اعضاء البرلمان الانجليزي في حكم شارل الاوّل، ذلك انّ الملِك سنة 1636م كان في حاجة الى المال، ففرض على الاهالي ضريبة من غير ان يستشير البرلمان في فرضها، واحتجّ اعوان الملِك بانَّ له الحقَّ قديما ان يفرض الضرائب من غير برلمان، واحتجَّ معارضوه بانَّ سلطة الملِك قد تقيَّدت بالبرلمان، فلم يعد من سلطانه فرض الضرائب. فلمّا ذهب المحصّلون الى همبدن قالوا له: (يجب ان تدفع الضريبة بحكم القانون) فاجاب: (انَّ القانون لم يُوجِبْ عليَّ شيئا، وانَّ طلبكم غير قانوني) (ويجب ان يلاحظ هنا: انَّه لم يُجِبْ بانَّ القانون سيِّئ، وانَّما اجاب بانّه لم يكن قانونا مستوفيا لشروط التشريع) ثُمَّ قُدِّم للمحاكمة، وعيِّن لمقاضاته اثنا عشر قاضيا، انحاز ثمانية منهم الى راي الملِك، فكانت الاغلبيّة على همبدن، فحُكِم عليه، فاحترم الحكم، وخضع له، ودفع الضريبة؛ لأنَّه بحكم المحكمة صار الدفع قانونيّا، ولكنُّه راى انَّه قانون ظالم، فجدَّ في تغييره. ولما راى همبدن انّ ملِك انجلترا واعوانه يخرجون على القانون، ويضعون القوانين الظالمة، اجتهد في تاليف جماعة كبيرة على رايه، وجاهد في سبيل ما يعتقده الحقَّ، وفي تغيير ما يراه ظالما حتى قتل سنة1643م).
اقول : وامّا مناقشة فكرة جان جاك روسو فهي مشروحة مفصَّلاً في كتاباتنا الاخرى من قبيل كتابنا المُسمَّى بـ (اساس الحكومة الاسلامية) ولانعيدها هنا.
وقد تحصَّل انّ هذا المِقياس معطوف على المِقياس السابق في عدم صحته.
المِقياس الثالث - الدين او الوحي:
وطبعا مِقياسيّة الدين تتوقَّف على كونه دينا حقّا. وقد ثبت في محلِّه انّه ليس لأحد حقُّ العبادة والتدين بدينه على اخر الا اللَّه سبحانه وتعالى، ولا دين يجب اتِّباعه عدا الدين النازل حقا من السماء.
والدين الحقُّ يكون مِقياسا للحسن والقبح باحد معنيين:
امَّا بمعنى كشفه عن الحسن والقبح؛ لأنَّ اللَّه يامر بالحسن وينهى عن القبيح، كما قد يكشف الدين - ايضا - عن المصالح والمفاسد.
وامَّا بمعنى انَّ امر اللَّه ونهيه موضوع لحسن الطاعة وقبح المعصية على اساس ولاية اللَّه - سبحانه وتعالى - القائمة امَّا على مبدا وجوب شكر المنعم، او على مبدا المالكيّة الحقيقيّة نتيجة الخالقيّة والمخلوقيّة.
فالدين في الحقيقة: امَّا كاشف عن الحسن والقبح الثابتين بمِقياس اخر او محقق لمصداق حسن وقبح ثابتين بمِقياس اخر. وان شئت فاجعل هذا الكلام تصديقا لمِقياسيّة الدين في الحسن والقبح بمعنى صغروي لا كبروي.
المِقياس الرابع - المصلحة والمفسدة، او اللَّذة والالم، او الكمال والنقص، او السعادة والشقاء، او النفع والضرر:
والواقع انَّ هنا عنوانين قد يُفترض احدهما او كلاهما مِقياسا للفضيلة والرذيلة: احدهما عنوان اللَّذة والالم، والاخر عنوان الكمال والنقص. وهذان العنوانان احدهما غير الاخر: فالعلم والقدرة والشجاعة مثلاً كمال ولو لم يلتذّ صاحبها بها، والجهل والعجز والجبن نقص ولو لم يتالَّم صاحبها بها، فقد يُفترض انَّ الاوّل هو المِقياس للفضيلة والرذيلة، وقد يُفترض انَّ الثاني هو المِقياس لهما، الا انَّنا لم نشا ان نفرد لكلِّ واحد منهما بحثا مستقلاً؛ لأنَّ الفوارق البحثيّة بينهما ليست بنحو تقتضي الافراد.
وقد يُفترض انَّ المِقياس هو الجامع بينهما الذي ان شئت فعبِّر عنه بالسعادة والشقاء، او بالنفع والضرر، او بالمصلحة والمفسدة.
وعلى ايّة حال فتعليقنا على كون المِقياس للفضيلة والرذيلة هي اللَّذة والالم، او الكمال والنقص هو: انَّه يكفي لتنبيه الوجدان الى بطلان ذلك الفات النظر الى بعض الامثلة ولو الافتراضيّة التي لا واقع خارجي لها: فلو كان كشفك سرّ اخيك موجبا لالتذاذك الكبير بذلك من دون ان يتالَّم اخوك به؛ وذلك على اساس انَّ اخاك لا يطَّلع على هذا الكشف كي يتالَّم به، او كان كشفك سرّ اخيك مُقدَّمة لتحصيلك درجة كبيرة من العلم، فكان مقدار تاثير ذلك في كمالك النفسي بالعلم اكثر بكثير من مقدار تاثير ذلك في نقص ملكة كتمان السرِّ التي هي - ايضا - كمال نفسي، او ضمن لك قادر تثق بقدرته انَّك لو كشفت لنا سرَّ فلان فسوف نعيد لنفسك ملكة كتمان السر باقوى ممّا كانت قبل الكشف بكثير، فالوجدان والضمير المدركان للقضايا الخُلُقيّة - والتي هي امور واقعيّة في راينا وامور وهميّة في راي بعض - يقضيان بانَّ كلَّ هذا لا يكون مسوِّغا لكشف السرِّ الموجب للاحساس بالخيانة والخجل ووخز الضمير واقعا او وهما.
وهذا يعني: انَّ عنوان الفضيلة والرذيلة على ماهما عليه من واقعيّة او وهميّة عنوان ثالث غير عنواني اللَّذة والالم، والكمال والنقص، وان امكن التعبير عن الجامع بين اثنين منها او الثلاثة بالمصلحة والمفسدة، او الضرر والنفع، او السعادة والشقاء.
فهذا المِقياس حاله حال المِقياسين الاوَّلين في عدم الصحَّة.
وايضا يمكن ان نمثِّل في خصوص اللَّذة والالم بانَّ المريض الذي تضعف نفسه عن الحِمْية من الغذاء الذي يضرُّه، فياكل ذلك الغذاء، ويضرِّر به نفسه، لايحسُّ بتانيب الضمير والوجدان في ترك الحِمْية ولا بالخيانة والخسَّة، في حين انّه حينما يكشف سرَّ اخيه مثلاً يحسُّ بكلِّ ذلك. فهذه وامثالها من الامثلة الوجدانيّة خير دليل على بطلان هذا المِقياس على تحقيق وتفصيل موجودين في تقريرنا لبحث الاصول لأُستاذنا الشهيد الصدر رحمه الله في الجزء الاوّل من القسم الثاني من مباحث الاصول.
وللمحقِّق الخراسانيّ رحمه الله بيان لربط الحسن والقبح بالمصلحة والمفسدة وبالملائمة والمنافرة للقوّة العاقلة.
وحاصله : الاستفادة ممَّا ذهب اليه الفلاسفة: من انَّ الوجود خير محض، وانَّ العدم شرٌّ محض، فكلُّ شي ء كان اوسع وجودا كان اوسع خيريّة، وكلُّ ما كان اضال وجودا وجانب العدم اغلب عليه كان اكثر شرِّيّة، واتِّصافُ بعض الوجودات بالشرِّ يكون باعتبار ما يلازمها او يترتَّب عليها من الاعدام، كما انَّ اتِّصاف بعض الاعدام بالخير يكون باعتبار ما يلازمها او يترتَّب عليها من الوجودات، فالانسان مثلاً اكثر خيرا واثارا من الحيوان؛ لكونه اوسع وارقى وجودا منه. وكذلك الحيوان اكثر بركة واثارا من النبات، والنبات من الجماد، وكذلك الكلام في تطبيق القاعدة على الافعال، فكلُّ فعل يكون جانب الوجود فيه اوسع فهو اكثر خيريّةً، وكلُّ ما كان من الافعال ضئيلاً وحقيرا، وكان جانب العدم هو الغالب عليه، كان اشدُّ شرِّيّة.
وكما انَّ كلَّ قوّة من القوى في الانسان كقوّة البصر والذوق والشمِّ وغير ذلك تنبسط وتنشرح بادراك ما يلائمها، وتتضجَّر وتنكمش بادراك ما ينافرها، فالباصرة - مثلاً - تنبسط لرؤية الحديقة والازهار، وتتضجَّر لرؤية ما تستقبحه من صور الاشياء الكريهة، وكذلك الشامّة بالنسبة للروائح وغيرها من القوى، كذلك الحال في رئيس تلك القوى، وهي: القوة العاقلة، فتنبسِط لإدراك ما يلائمها، وتنكمش من ادراك ما ينافرها. ومِقياس الملائمة والمنافرة لها هي: درجة التسانخ وعدمه. وبما انَّ القوّة العاقلة موجود بسيط ومجرَّد ومن اوسع الوجودات وارقاها، فكلُّ فعل كان اوسع وجودا كان اشبه وانسب بالقوّة العاقلة واكثر سنخيّة لها، فتنبسط القوّة العاقلة بادراكه لها تصوِّرا وتصديقا، وكلُّ فعل كان اضيق وجودا وجانب العدم اكثر غلبةً عليه كان اكثر مباينة لتلك القوّة، فتنكمش منه، وهذا معنى ادراك العقل للحسن والقبح. وهذا يُوجِب لا محالة صحَّة مدح الفاعل وذمّه على الفعل الحسن او القبيح.
اقول: انَّ هذا المدح والذمِّ الوليدين لمجرد ملائمة القوّة العاقلة او منافرتها انَّما هو من سنخ مدح ذي الصورة الحسنة او ذي الصورة القبيحة الملائمة للقوة الباصرة او المنافرة لها، ومن سنخ مدح ذي الطعم الشهيّ او ذمِّ ذي الطعم الكريه، او الرائحة الشهيّة والكريهة الملائمين او المنافرين للذائقة والشامَّة. وهذا غير المدح والذمِّ الخُلُقيين.
ولاُستاذنا الشهيد الصدر رحمه الله حديث مفصَّل في مناقشة كلام المحقِّق الخراساني قدس سره اقتصر هنا على نقل قطعة منه مع تلخيصها، وهي: انَّ المقصود بملائمة العقل ومنافرته لما يدركه من الفعل بسبب السنخيّة وعدم السنخيّة ان كان هو التسانخ وعدمه مع المُدرَك بالعرض -وهو واقع الفعل - فقد حُقِّق في محله انَّ المُدرَك الحقيقيّ ليس هو ذاك، وانّ الادراك وكذلك الحبّ والبغض ونحو ذلك كلِّها تُصَبُّ على الصور لا على ذوات الصور الخارجيّة.
وان كان هو التسانخ وعدمه مع المُدرَك بالذات - وهي الصورة - فالمُدرَك بالذات دائما على حدٍّ سواءٍ من حيث التجرد وسعة الوجود، بلا فرق بين ان يكون المُدرَك بالعرض وسيعا او ضيقا، فانَّ من اوليّات علم النفس في الفلسفة انَّ ادراكات قوّة واحدة تناسب تلك القوّة في التجرّد وسعة الوجود على نهج واحد، فليس - مثلاً - ادراك الامر المادِّي مادِّيا والمجرد مجردا، بل ادراك ماهو من ارقى الوجودات يساوي من حيث التجرُّد والمسانخة للعقل ادراك ماهو من اخسِّ الوجودات ، كالبياض -مثلاً - الذي هو وجود عرضيٌّ حالٌّ في وجود مادِّيٍّ وما للمُدرَك بالعرض من السعة والضيق او الخيريّة والشرِّيّة لا يسري الى المُدرَك بالذات، وانَّما يحكم على المُدرَك بالذات باحكام وخصائص المُدرَك بالعرض بمنطق الفناء، ولا يُوجب الفناء سريان الخصائص والاثار من الخارج الى الصورة حقيقة، فصورةُ النار - مثلاً - لن تحرق بفنائها في ذي الصورة، وادراك الوسيع او الضيِّق لن يكون وسيعا او ضيقا بلحاظ المدرك بالعرض، كي يترتَّب على ذلك انبساط القوّة العاقلة وانقباضها؛ ولذا ترى وجدانا انَّ القوة العاقلة ليس الاولى بها ان تدرك العدل فقط دون الظلم، كما كان الاولى بالقوّة الباصرة ان تدرك الصورة الحسنة دون القبيحة، والاولى بالقوّة الشامّة ان تشمَّ الروائح العطرة دون الكريهة. هذا ما اردنا الاقتصار عليه من نقل كلام استاذنا الشهيدرحمه الله .
وفي نهاية البحث عن مقياسيّة المصلحة والمفسدة بودِّي ان اشير الى انَّ انكارنا لهذا المِقياس انَّما يعني مغايرة عنوانيْ الحسن والقبح او الفضيلة والرذيلة لعناوين اللَّذة والالم او الكمال والنقص، وعدم الملازمة فيما بينها، فلو كنتَ تلتذُّ بايذاء الاخرين او تحصل على كمال علميِّ من وراء اغتصاب شخص لتعليمه ايّاك من دون رضاه مثلاً، فهذه رذيلة لك وليست فضيلة، وهذا لا ينافي كون حفظ مصالح الناس او درء المفاسد عنهم امرا حسنا في ذاته بحكم العقل، وتوريطهم في المفاسد امرا قبيحا بحكم العقل، ولكنْ لا يجوز لك - ايضا - توفير المصلحة لشخص بادخال المفسدة على شخص اخر وان صغرت المفسدة وكبرت المصلحة؛ لأنَّ توفير المصلحة للناس مستحب في منطق العقل العملي، وادخال المفسدة على الناس حرام في منطق العقل العملي.
وقد اتضح بما ذكرناه: انَّ مِقياسيّة المصلحة والمفسدة او اللَّذة والالم ان كانت بمعنى مِقياسيّة المصلحة او اللَّذة الشخصيتين، فهذا مِقياس باطل؛ لما اشرنا اليه من بعض النقوض.
وان كانت بمعنى مِقياسيّة المصلحة او اللَّذة النوعيتين، فتوفير مصلحة الناس يمكن ان يجعل مصداقا من مصاديق الفضيلة الثابت حسنها بمِقياس اخر، وليس هذا العنوان هو المِقياس الاوّلي للحسن والقبح والا لورد عليه النقض ايضا، وان شئت فاجعل هذا تصديقا في الجملة بمِقياسيّة المصلحة والمفسدة بالمعنى الصغرويّ دون الكبرويِّ.
المِقياس الخامس - العواطف:
ومعنى مِقياسيّة العواطف: انَّ ما نحسُّ به من حسن بعض الامور وقبح بعضها ليس مرجعه عدا العواطف الموجودة فينا، فنحن انَّما نقول: انَّ ضرب اليتيم قبيح، وانَّ الترفيه عنه حسن؛ لما نملكه في انفسنا من صفة الرقَّة والحنان والشفقة عليهم، في حين انَّنا لا نقول بقبح قتل الحشرات المزاحمة لراحة الانسان؛ لأنَّنا لا نملك رافة وشفقة عليها.
ولو فرضنا مجتمعا قسيَّ القلب لا يعطف على يتيم او ضعيف، ولا يتالَّم باذاهم، ولا يرتاح براحتهم لما قالوا بقبح ضرب اليتيم وحسن مساعدة الضعيف.
ويمكن تنبيه الوجدان الى خطا فكرة من هذا القبيل بالفاته الى بعض الامثلة الوجدانيّة: من قبيل احساس وجداننا بحقَّانيّة القِصاص حتى لو كان القِصاص يجرح عواطفنا؛ لأنَّه كان يرد على ابننا مثلاً، فيؤدِّي الى قتله او جرحه او نحو ذلك، فتنجرح عاطفتنا الرحميّة باصابة ابننا الاذى، ولكننا مع ذلك نحسُّ بحقَّانيّة هذا القِصاص.
وايضا نرى انَّ الضمير والوجدان يحكمان بحسن العفو وبحقانيّة القِصاص في مورد واحد وفي وقت واحد، في حين انَّه لو ارجع ذلك الى العواطف لكان هذا تناقضا؛ لأنَّ الشخص امّا ان تنحاز عاطفته بعد الكسر والانكسار نحو العفو او نحو القِصاص، فما معنى حسن العفو وحقَّانيّة القِصاص في وقت واحد؟!
وبالامكان افتراض انَّ المِقياس في الحسن والقبح هو العادة، فالذين تعوَّدوا على ترك اكل لحم الحيوانات يحكمون بقبح ذلك، والذين تعوَّدوا على احتجاب النساء من الرجال يحكمون بحسن ذلك وبقبح سفورهن، والذين تعوَّدوا على سفورهن يحكمون بحسن السفور وبقبح الحجاب للنساء.
الا انَّنا لم نرَ حاجة الى افراز العادة بالبحث المستقل، فمِقياس العادة امّا هو شبيه بمِقياس العواطف، ويمكن تنبيه الوجدان على خطا ذلك بمثل الطريقة التي سلكناها لتنبيه الوجدان على خطا مِقياسيّة العواطف، فحتى الشخص او المجتمع الذي تعوَّد على ايذاء الضعيف لو لم يبلغ امره الى حدِّ موت الوجدان والضمير يحكم وجدانه وضميره بقبح ذلك، الا انَّه يستهين بارتكاب القبيح.
وامّا هو شبيه بمِقياس العرف والعقلاء، وبامكانك ان تسمِّيه باسم مِقياس العرف والعقلاء، الا انَّه كان المقصود فيما مضى رايهم، والمقصودُ هنا عادتهم، وقد مضى الجواب عن مِقياسيّة العرف والعقلاء.
المِقياس السادس - العقل:
وهذا يعني: انَّ العقل يدرك الحسن والقبح كما يدرك الوجوب والاستحالة وما الى ذلك. وقد يُسمَّى الثاني بالعقل النظريِّ، والاوّل بالعقل العمليِّ. وقد يُسمّى ما يدرك بالعقل النظريِّ بما ينبغي ان يعلم، وما يدرك بالعقل العمليِّ بما ينبغي ان يُعمل.
وخلاصة المدَّعى لأصحاب هذا المِقياس: انَّ الحسن والقبح ليسا مجرد امر مشهوريٍّ واقعه نفس تطابق العرف او العقلاء او المجتمع عليه، بل لهما ثبوت في افق الواقع يدركهما العقل، وما يصحُّ من المقاييس الاخرى يُشكِّل - بقدر ما يصح - مصداقا لهذا المِقياس. فمثلاً: مِقياس المصلحة والمفسدة وان لم نقبله بشكل العموم، وقلنا: ان الحسن والقبح غير اللَّذة والالم وغير الكمال والنقص، الا انَّه لااشكال في حسن مراعاة مصالح الناس او مصالح المجتمع في حد ذاتها، ولا في قبح الاضرار والافساد فيما بين الناس او في المجتمع في ذاته.
ونقول : انَّ هذا الحسن والقبح - ايضا - ليسا مجرد امر اعتباري تطابق عليه المجتمع، او حكم به العقلاء او القانون مثلاً، بل هما امران واقعيَّان ادركهما العقل. وكذلك مِقياس الدين بمعنى وجوب اتِّباع الدين الحقّ يعني حسن اتِّباعه عقلاً وقبح مخالفته على اساس مولويّة المولى -سبحانه وتعالى - المدركة بالعقل العملي.
والواقع : انَّ العقل العمليَّ والعقل النظريَّ امر واحد، وهي: القوّة المُدركة المُودَعة من قبل اللَّه - سبحانه وتعالى - في الانسان، وان كان قد يُصطَلح عليهما باسمين مختلفين؛ نتيجة اختلاف المدرَكات من حيث كونها علميّة بحتة او عمليّة، او كونها ممّا هو كائن او ممّا ينبغي ان يكون.
وللمحقِّق الاصفهاني رحمه الله برهان على عدم ضمان حقَّانيّة مُدرَكات العقل العملي، وانَّها ليست باعلى مستوى ممّا يُسمَّى في علم الميزان بالقضايا المشهورة. وحاصل كلامه مع تغيير يسير في تعبيره ما يلي: يقول رحمه الله : وهذا الحكم العقليُّ من الاحكام العقليّة الداخلة في القضايا المشهورة المسطورة في علم الميزان في باب الصناعات الخمس، وامثال هذه القضايا ممّا تطابقت عليه اراء العقلاء؛ لعموم مصالحها، وحفظ النظام، وبقاء النوع بها.
وامَّا عدم كون قضيّة حسن العدل وقبح الظلم - بمعنى كونه بحيث يستحق عليه المدح او الذم - من القضايا البرهانيّة.
فالوجه فيه : انَّ مواد البرهان منحصرة في الضروريّات الستِّ: فانَّها امَّا اوليَّات، ككون الكل اعظم من الجزء، وكون النفي والاثبات لا يجتمعان. او حسِّيات سواءٌ كانت بالحواس الظاهرة المسمَّاة بالمشاهدات، ككون هذا الجسم ابيض او هذا الشي ء حلوا او مرّا، او بالحواس الباطنة المسمَّاة بالوجدانيِّات، وهي: الامور الحاضرة بنفسها للنفس. كحكمنا بانَّ لنا علما وشوقا وشجاعة. او فطريات، وهي: القضايا التي قياساتها معها، ككون الاربعة زوجا؛ لأنَّها منقسمة بالمتساويين، وكلُّ منقسم بالمتساويين زوج. او تجربيَّات بتكرّر المشاهدة، كحكمنا بانَّ مادَّة الاسبرين تقطع الحمّى مثلاً. او متواترات ، كحكمنا بوجود البلاد النائية التي هي غائبة عنَّا، ولكن ثبت لنا وجودها باخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكَذِب عادة. او حدسيَّات موجبة لليقين، كحكمنا بانَّ نور القمر مستفاد من الشمس؛ للتشكلات البدرية والهلالية واشباه ذلك.
ومن الواضح : انَّ استحقاق المدح والذم بالاضافة الى العَدل والظُّلم ليس من الاوَّليَّات بحيث يكفي تصور الطرفين في الحكم بثبوت النسبة، كيف وقد وقع النزاع فيه من العقلاء . وكذا ليس من الحسِّيات بمعنييها كما هو واضح؛ لعدم كون الاستحقاق مشاهدا، ولا بنفسه من الكيفيات النفسانيّة الحاضرة بنفسها للنفس. وكذا ليس من الفطريّات؛ اذ ليس معها قياس يدلُّ على ثبوت النسبة. وامّا عدم كونه من التجربيَّات والمتواترات والحدسيَّات ففي غاية الوضوح، فثبت انَّ امثال هذه القضايا غير داخلة في القضايا البرهانيّة، بل من القضايا المشهورة.
اقول : من الصحيح ما ذكره من انَّ اصل الحسن والقبح بوصفهما امرين واقعيين قد وقع الخلاف فيه؛ لأنَّ بعض الفلاسفة والمفكرين انكروا ادراك ذلك، وجعلوه من سنخ المشهورات، او العادات او المسلَّمات الماخوذة من اعلى، الا انَّ مجرّد وقوع الخلاف ليس دليلاً على نفي بداهة القضيّة واوَّليتها؛ اذ قد يكون الخلاف على اساس شبهة حصلت للمخالف غطَّت ادراكه النابع من حاقِّ نفسه، وقد يكون - بغض النظر عن فرض عروض شبهة - غير قادر على ادراك ما ادركه غيره بالبداهة؛ لأنَّ البشر المتمتع بشي ء من التكامل في الادراك وفق الحركة الجوهريّة ليسوا سواءً في ذلك، بل هم مختلفون في الاستعداد والادراك، فلو ادرك احد شيئا ولم يدرك الاخر لم يكن ذلك مساوقا؛ لفرض انَّ ادراك المُدرِك ناشئ من تدخل امور خارجيّة: كالعادة والشهرة وغير نابع من حاقِّ نفسه.
وفي مقابل هذا البرهان الذي افاده المحقِّق الاصفهاني رحمه الله لنفي ادراك واقعيّة الحسن والقبح وحقَّانيتهما على مستوى الواقع، لا على مستوى مجرد تطابق العقلاء، يوجد برهان معاكس قد يُبرهَن به على واقعيّة الحسن والقبح وحقَّانيتهما.
وهذا البرهان ياتلف من مُقدّمتين :
الاولى - انَّ المعارف الناشئة من حاقِّ النفس تُصيب الواقع ولا تخطا، ومن هنا كانت الضروريّات - على حدِّ تعبير علم الميزان - مضمونة الحقَّانيّة؛ اذ نشا فهمها من حاقِّ النفس البشريّة، لا بتاثُّر من امر خارجيٍّ: كعرف، او عادة وقانون، او بناء المجتمع، او العقلاء، او ما الى ذلك.
امَّا المعارف الناشئة بمعونة هذه المؤثِّرات الخارجيّة ونحوها، فليست مضمونة الواقعيّة والحقَّانيّة؛ لأنَّ هذه المؤثِّرات الخارجيّة ربَّما لا تصيب الواقع.
والثانية - انَّ كثيرا من قضايا الحسن والقبح والاحكام الخُلُقيّة ناشئة من حاقِّ النفس؛ والذي يشهد لنشوئها من حاقِّ النفس البشريّة تطابق الناس عليها عادةً وغالبا، برغم اختلافهم في البيئات والظروف والعادات وما الى ذلك. فلو كانت ناشئة من البيئات والملابسات الخارجيّة لاختلفت باختلاف الناس.
نعم، نحن نحسُّ بوقوع الخلاف في القضايا الخُلُقيَّة في ثلاثة موارد، وكلُّها لاتضرُّ بما شرحناه: من انَّ اطباق النفوس على درك قضايا خُلُقيّة دليل على نشوئها من حاقِّ النفس :
الاوّل - الاختلاف الصغرويُّ الذي قد يقع في التطبيق لا في اصل الفكرة، فلا يضرُّ ببداهة الفكرة وضروريّتها، مثال ذلك: انَّ مجتمعا ما وفي زمان ما يطبق حسن احسان فرد على فرد بالتصدُّق عليه، ويعتبر هذا فضيلة وعملاً ممدوحا، في حين انّ مجتمعا اخر او نفس المجتمع في زمن اخر يعتقد انّ هذا الاسلوب من العطاء والاحسان لا يُميَّز فيه بين المستحق وغيره ويُميت الهمم، ويميت ما في النفوس من شرف واباء واستعداد للعمل، فالصحيح هو: انشاء جمعيّات للإحسان تجتمع عندها عطاءات الناس، وهي التي تتولَّى الانفاق على المعوزين بعد ان تدرس احوالهم، وتحاول ايجاد عمل لمن لا عمل له.
وهذا كما ترى ليس خلافا في كبرى حسن اعانة العاجز وفضيلة الاحسان الى الناس، وانّما الكلام في تشخيص الطريقة التي تكون اوصل الى المطلوب.
والثاني - انكار واقعيّة الحسن والقبح او التشكيك فيها؛ لشبهة حصلت للمنكر او المشكِّك، من قبيل البرهان الذي مضى ذكره عن المحقّق الاصفهاني رحمه الله ؛ لنفي كون ادراك ذلك من سنخ ادراك الضروريّات. وقد مضى الجواب عن ذلك، فترى انَّ الانكار او التشكيك - على اساس تخيُّل ذلك البرهان - انكارٌ او تشكيك عن شبهة غطَّت الفهم الناشئ من حاقِّ النفس، وحالت دون الوصول الى ادراك الحسن والقبح، ولا يكون ذلك شاهدا لعدم ضروريّة هذا الادراك او عدم نشوئها من حاقِّ النفس.
والثالث - بعض القضايا الخُلُقيّة الناشئة من المؤثِّرات الخارجيّة، فانَّنا حينما نقول بواقعيّة الحسن والقبح وضروريتهما ونشوء ادراكهما من حاقِّ النفس لا ندَّعي انَّ جميع الاخلاقيَّات من هذا القبيل، فربَّما يكون الايمان بحسن الحجاب او السفور او قبحه للنساء ناشئا من المؤثِّر الخارجيِّ: من دين، او عادة، او ملاحظة المصالح والمفاسد المختلف فيها؛ ولذا ترى اختلاف مجتمع عن مجتمع في كون الحجاب والعفَّة فضيلة، والسفور وترك الحياء رذيلة، او العكس. وهذا لا يضرُّ بالاعتراف بواقعيّة الحسن والقبح في قضايا اخرى يؤمن بها الجميع او الغالبية الساحقة من غير منْ حصلت له الشبهة، من قبيل: حسن الصدق والوفاء والايثار، وقبح الكذب والغدر والايذاء، وما شابه ذلك.
فقد اتَّضح بهذا العرض: انَّ كثيرا من القضايا الخُلُقيّة قد نتج ادراكها من حاقِّ النفس؛ لتطابق غالبيّة الناس عليها البعيدين عن شبهة تغطِّي الفهم الاوَّليَّ، ولا قاسم مشترك فيما بينهم ممَّا يمكن ان يكون منشا للفهم والادراك عدا النفس البشريّة، فنستكشف انَّ علَّة هذا الفهم المشترك بينهم هي: حاقُّ النفس التي هي القاسمة المشتركة بينهم.
الا انَّ هذا الدليل لواقعيّة الحسن والقبح قابل للمناقشة؛ وذلك بالمناقشة في المُقدّمة الثانية، وهي: انحصار العامل المشترك بين غالبيّة الناس في النفس البشريّة، فانَّهم مشتركون - ايضا - في غريزة جلب المصالح ودفع المفاسد، فلعلَّ ذلك جرَّهم بشكل واخر الى ان يجنحوا الى القول بحسن جملة من الاشياء وقبح جملة منها، ممَّا يشتمل على مصالح نوعيَّة او مفاسد نوعيّة، وايضا نقول: انَّ النماذج التي عاشرناها من المجتمعات البشريّة مشتركون في اصل خضوعهم لقوانين وحكومات وانتظامات، فلعلَّ هذا اوحى اليهم بالحسن والقبح.
وكانَّه لعلاج هذا الاشكال قد يُطوَّر من صياغة الاستدلال وتُغيَّر الى الصيغة التالية، وهي ما يلي :
لو انَّ احدا خُلِقَ منفردا في مكان، وعاش وحده من دون ان يشاهد ايَّ مجتمع، او يُؤثِّر فيه ايُّ تعليم ونحوه، ثُمَّ قال له احد مثلاً: انا اعطيك طعاما شهيَّا في كلِّ يوم على ان تتكلَّم بخبر سواءٌ كان صدقا او كذبا، فذلك الشخص سوف يختار الصدق ان لم توجد له ادنى فائدة في الكذب. وهذا شاهد على انَّه يُدرِك حسن الصدق وقبح الكذب، فهذا ادراك ناشئ من حاقِّ النفس؛ لعدم وجود مؤثِّرات خارجيّة حسب الفرض.
وبكلمة اخرى : انَّ الانسان الذي ينمو ويترعرع بعيدا عن كلِّ المؤثِّرات الخارجيّة - حسب الفرض - لو سالناه عن شي ء وقرَّر ان يجيب عن سؤالنا فهو بطبعه الاوَّلي يجنح الى الصدق لا الكذب. فهذا ليس على اساس المؤثِّرات الخارجيّة، ولا على اساس حبِّ الذات؛ اذ هو لا يعلم انَّ الصدق نافع والكذب ضار حتى يدفعه حبُّ الذات الى ذلك.
والجواب :
اوَّلاً - انَّ هذا الميل الى الصدق قد يكون بنفسه طبعا وغريزة، او انَّ اوَّل واشدَّ ما يجلب ذهن المخبر الى نفسه هو الواقع الذي علمه، لا خلافه، ولايكون هذا راجعا الى باب الادراك اصلاً؛ ولذا نرى انَّ حالة الصدق موجودة لدى الاطفال الصغار الذين لم يبلغوا بعدُ مبلغا يُدرِكون قبح الكذب او حسن الصدق.
وثانيا - لو غضضنا النظر عن الميل الطبيعيِّ والغريزيِّ الى الصدق، او كون الواقع المعلوم اكثر جلبا للنظر من خلافه مثلاً، فمن اين لنا العلم بانَّ هذا الشخص الذي فرضنا انّه عاش منفردا وترعرع منفردا يجنح الى الصدق لاالكذب ؟ ! فانَّ هذه الفرضيّة لم نجرِّبها خارجا، ولو عَلِمنا بذلك عن طريق ايماننا بحسن الصدق وقبح الكذب، او عن طريق ايماننا بغريزيّة الصدق مثلاً فايُّ فائدة تترتَّب على افتراض هذه الفرضيَّة ؟!
والواقع : انَّ حقَّانيّة الادراك العمليِّ لا يمكن ان تثبت ببرهان، ولا ان تُرَدُّ ببرهان، وانَّما الامر الممكن هو تنبيه الوجدان بذكر بعض الامثلة الواضحة، من قبيل: قبح قتل الناس وايذائهم بلا سبب، وحسن اعانة العاجز ونحو ذلك، فالذي لا يدرك - حتى بعد الفاته الى مثل هذه الامثلة الواضحة - الحسن والقبح والفضيلة والرذيلة لا يمكن اثبات ذلك له بايِّ برهان من البراهين، والذي يدرك ذلك فبالامكان ان يُطرَح امامه احتمالان :
الاوَّل - احتمال ان يكون هذا الادراك حقَّانيّا ونابعا من حاقِّ النفس.
والثاني - احتمال ان يكون ذلك ناشئا من العادة او الشهرة او الدين او القانون او العاطفة او ما الى ذلك، فبعد طرح هذين الاحتمالين عليه ان احتمل صحة الثاني، زال عنه ذلك الادراك، ولا يمكن ارجاعه اليه ببرهان صحيح، وان لم يحتمل صحة الثاني لم يحتج الى برهان.
ونحن نؤمن بهذا المِقياس، ونعتقد رجوع المقاييس الاخرى الصحيحة ولو في الجملة بقدر مِقياسيَّتها الى هذا المِقياس، كمِقياس الدين، او مِقياس المصلحة والمفسدة.
ومن اراد التوسع اكثر من هذا فليراجع كتابنا مباحث الاصول الجزء الاوَّل من القسم الثاني بحث الاعتماد على الحكم العقليِّ لاستنباط الاحكام الشرعيّة في قبال الاخباريين المنكرين لذلك.
المِقياس السابع - نظريّة الاوساط او الوسط العادل:
انَّ لحكماء اليونان ومن تابعهم في الاسلوب كلمات كثيرة في بيان الفضيلة والرذيلة، ولم نعلم هل كانوا حقّا بصدد ذكر ضابط يُرجَع اليه في مقام تمييز الفضيلة عن الرذيلة، او لا ؟ ونحن نذكر منها هنا ثلاث كلمات :
الكلمة الاولى - ما نُقِل عن سقراط: من انَّه ليست هناك في الحقيقة الا فضيلة واحدة، وهي: المعرفة. وقد نُقِل عنه ما يرجع الى تحديد مِقياسيّة المعرفة. وتفسيرها بجانبين :
الاوَّل - الجانب السلبيُّ، وهو : انَّه لا خير الا بالعلم، فانَّ الانسان لو عمل عملاً لا يعلم بخيريَّته فليس خيرا ولا فضيلة.
والثاني - الجانب الايجابي، وهو : انَّ من عَلِم علما تاما بانَّ الشي ء خير، فعلمه يحمله حتما على عمله، ومعرفته بضرر شي ء تحمله حتما على تركه، وليس احد يعمل الشرَّ وهو عالم بنتائجه، فكلُّ الشرور ناتجة من الجهل.
وشي ء من الجانبين غير صحيح :
امَّا الجانب السلبيُّ فلأنَّ الخير لا يتقوّم بالعلم بكونه خيرا، فمَنْ يُكرِم الناس او المجتمع ويُعين المظلوم فقد فعل خيرا، وكان متَّصِفا بصفة حسنة، ولو لم يعلم هو بخيريّة هذا الفعل وهذه الصفة . وقد ثبت في علم الاصول انَّ الشي ء يستحيل ان يتقوَّم بالعلم بنفسه.
نعم، حسن السريرة وسوء السريرة يتقوَّمان بمدى انكشاف موضوع حسن الفعل وقبحه، ومدى قصد الفاعل لذلك الموضوع، كما انَّ سوء السريرة يتقوَّم بمدى انكشاف نفس قبح الفعل، وليس فقط بانكشاف موضوعه، فمن تربّى -مثلاً في بيئة تعتبر انَّ النهب والغارة والتهجّم شجاعة حسنة واعتقد بذلك، ففعله لذلك لا يدلُّ على سوء سريرته، ولكن فعله قبيح على ايِّ حال، والذم ينصبُّ على الفعل ولا ينصبُّ على سريرة الفاعل.
وامّا الجانب الايجابيُّ فلأَنَّه ليس كلُّ مَنْ يعلم بخيريّة الخير وشريَّة الشرِّ وكان ملتفتا الى الاثار والنتائج كان من المحتَّم انّه سوف يتَّجه نحو الخير ويترك الشر؛ لأنَّ الحاكم في النفس البشريّة ليس منحصرا في العقل حتى يتبع ما يراه حقّا وصحيحا، بل العواطف والشهوات والميولات النفسيّة كلُّها ممَّا يُصدِر الحكم في نفس الانسان، بمعنى تاثيره في تحديد ارادة الانسان وشوقه. وما اكثر مَنْ يعرف الحقَّ او الخير او الصلاح ويخالفه، ومن يعلم الشرَّ او المفسدة ويرتكبه.
على انَّه لو كان مقصود صاحب هذا الكلام جعل مِقياس وضابط يرجع اليه في مقام تمييز الفضيلة عن الرذيلة، قلنا: لا يمكن جعل الضابط عبارة عن العلم -حتى لو امنَّا بالجانبين السلبي والايجابي - بل الضابط بهذا المعنى يجب ان يكون شيئا اخر؛ لأنَّ الضابط المميِّز هو الذي يُورِث العلم بالخيريّة او الشرِّيّة، فلا يمكن ان يكون هو نفس العلم.
الكلمة الثانية - ما اشتهر بينهم: من انَّ اصول الفضائل اربعة: الحكمة، والعفَّة، والشَّجاعة، والعَدل، وبياناتهم في حصر اصول الفضائل مختلفة :
فمنها - ما نُقِلَ عن افلاطون تلميذ سقراط: من انَّ في الانسان قوى ثلاث:
العاقلة، وهذه اذا اعتدلت نشات عنها فضيلة الحكمة.
والقوة الغضبيّة، وهذه اذا اعتدلت نشات عنها الشَّجاعة.
والقوّة الشهويّة او البهيميّة، وهذه اذا اعتدلت نشات عنها العفَّة. وهذه الفضائل الثلاث باعتدالها ينشا عنها العَدل، فالعَدل تتَّصف به النفس عند اداء هذه القوى الثلاث وظائفها باعتدال وعندما تكون متساندة بحيث تتعاون كلُّ قوَّة مع الاخرى.
ومنها - انَّ النفس ذات قوى اربع: العاقلة، والعاملة، والشهويّة والغضبيَّة. وتنشا الفضيلة من اطاعة القوى الثلاث الاخيرة للأُولى، فباطاعة القوّة العاملة للعاقلة واعتدالها تحصل الحكمة، وباطاعة القوّة الشهويّة لها واعتدالها تحصل العفَّة، وباطاعة القوّة الغضبيّة لها واعتدالها تحصل الشَّجاعة. ثُمَّ تحصل من حصول هذه الفضائل الثلاث - المترتب على تسالم القوى الاربع وانقهار الثلاث تحت الاولى - حالة متشابهة هي كمال القوى الاربع وتمامها، وهي: العَدالة.
ولا يخفى انَّه على هذين الوجهين لا يمكن عدُّ العَدالة فضيلة مستقلَّة تجاه الفضائل الثلاث الاخرى الا بلقلقة اللسان، ولا تتحصَّل من وراء الحكمة والعفَّة والشَّجاعة من هذين البيانين فضيلة اخرى اسمها العدالة. وبعد فرض اعتدال القوى الثلاث ونشوء الحكمة والعفَّة والشَّجاعة ما معنى فرض اعتدال اخر فيما بينها؟!
(هذا . وهم يقصدون بالقوّة الغضبيّة مبدا دفع غير الملائم وبقوّة الشهوة مبدا جلب الملائم).
ومنها - انَّ النفس ذات قوى اربع، وهي ما مضت: من العاقلة، والعاملة، والشهويّة، والغضبيّة. ويحصل من تهذيب العاقلة العلم والحكمة، ومن تهذيب العاملة العَدالة، ومن تهذيب الغضبيّة الحلم والشَّجاعة، ومن تهذيب الشهويّة العفَّة والسخاء.
والنراقيُّ في جامع السعادات بالرغم من ذهابه الى هذا الوجه يرى انَّ العَدالة ليست فضيلة مستقلَّة في مقابل سائر الفضائل حيث يقول: انَّ العَدالة عبارة عن انقياد العاملة للعاقلة في استعمال نفس العاقلة وقوَّتي الغضب والشهوة . فليست وراء فضائل العاقلة والغضب والشهوة - التي تحصل باستعمال العاملة لها - فضيلةٌ اخرى.
وليس من الصحيح ما جاء في الوجهين الاخرين: من افتراض قوّة عاملة في النفس (وهي مبدا تحريك البدن) في مقابل قوَّتي الغضب والشهوة، وهما مبادئ دفع غير الملائم وجلب الملائم، فانَّهما بنفسهما عاملتان ومحرِّكتان بلا حاجة الى فرض قوَّة عاملة اخرى.
كما انَّ ما في هذه الوجوه الثلاثة من حصر قوى النفس المرتبطة بالاوصاف والافعال في هذه القوى الثلاث او الاربع لا مُبرِّر له، فمثلاً: قوّة العطف والرقَّة والترحُّم على الضعيف والمظلوم قوّة تحبِّذ للإنسان نصرة الضعيف والمظلوم، لا من باب انَّ هذا جلب لما يلائم النفس او دفع لما ينافرها، بل تكون نصرة الضعيف والمظلوم ملائمة للنفس، وتركها منافرا لها في طول هذه القوّة.
هذا بناءً على افتراض وجود قوّة - حقّا باسم قوّة جلب الملائم، وقوّة اخرى - حقّا باسم قوّة دفع المنافر وراء نفس القوى التي جعلت الملائم ملائما والمنافر منافرا.
وامَّا بناءً على ما لا تبعد صحته من انَّ قوّة جلب الملائم او دفع المنافر عبارة عن نفس القوى الملائمة لبعض الاشياء والقوى المخالفة لبعضها، فهي بمعونة القدرة وقوّة العضلات تحرك الانسان نحو الجلب والدفع. اذن ففرض كلٍّ من قوتي جلب الملائم ودفع المنافر او كلٍّ من قوتي الشهوة والغضب قوّة واحدة ليس الا لعبا بالالفاظ وتسميةً لعنوان انتزاعيٍّ انتزع من مجموعة قوى باسم قوّة واحدة.
وامّا كلمة الاعتدال التي جاءت في بعض هذه الوجوه فقد ترجع الى نظريَّة الاوساط التي سياتي الكلام عنها في الكلمة الثالثة.
الكلمة الثالثة - هي نظريّة الاوساط او الوسط العادل. فقد نُقِلَ عن ارسطو انّه كان يذهب الى انّ جِماع الفضائل (خضوع الشهوات لحكم العقل وتسليم زمام الشهوات للعقل يقودها) فللفضيلة عنصران: العقل والشهوة، فلا بدَّ من شهوة لتُضبَط . فالزهَّاد الذين يقتلعون الشهوات من جذورها في ضلال مبين، انَّهم ينسون او يجهلون انَّ الشهواتِ جزء اساس من الانسان، فاستئصالها ضارٌّ بطبيعته مُضيِّع لشطر منه، بل انَّ استئصال الشهوات مضيِّع للفضيلة؛ لأنَّ الفضيلة -كما بيَّنا - معناها شهوات موجودة يضبطها العقل، لا شهوات مستاصلة.
وبكلمة اخرى : الفضيلة شهوات معتدلة، ومن ثمَّ كان هناك طرفان ينبغي تجنُّبهما: الطرف الاوّل محاولة استئصال الشهوات. والطرف الثاني ارخاء العنان لها، انَّما الفضيلة الاعتدال بحيث لا تطغى الشهوات على العقل ولا يطغى العقل عليها فتستاصل. فهذا القول جرَّ ارسطو الى وضع نظريّة الاوساط، اي: انَّ كلَّ فضيلة وسط بين رذيلتين: رذيلة الافراط ورذيلة التفريط، فالشَّجاعة وسط بين التهوُّر والجبن، والكرم وسط بين السرف والبخل، والعفَّة وسط بين الفجور والخمود... وهناك فضائل لم تضع اللُّغة اسماء لطرفيها الرذيلين، ولكن هذا لا ينفي انَّ الفضيلة في هذه الحالة - ايضا - وسط بين رذيلتين.
وهل المقصود الوسط الحقيقيُّ او الوسط النسبيُّ والاضافيُّ ؟
يظهر من كتاب جامع السعادات انَّ الفضيلة الكاملة هي الوسط الحقيقيُّ، ولكن الوسط المعتبر هنا هو الاضافيّ؛ لتعذّر وجدان الحقيقيّ والثبات عليه؛ لكونه في حكم نقطة غير منقسمة؛ ولذا تختلف الفضيلة باختلاف الاشخاص والاحوال والازمان، فربَّما كانت مرتبة من الوسط الاضافيِّ فضيلة بالنظر الى شخص او حال او وقت، ورذيلة بالنسبة الى غيره، ومَنْ هو متصف بفضيلة من الفضائل لايمكن الحكم بكون تلك الفضيلة هي الوسط الحقيقيّ الا انّه لمَّا كانت تلك الفضيلة قريبة اليه ولا يمكن وجود الاقرب منها اليه له يحكم بكونها وسطا اضافيّا؛ لأقربيتها اليه بالنسبة الى سائر المراتب، فالاعتدال الاضافيُّ له عرض، وسطه الاعتدال الحقيقيُّ، وطرفاه طرفا الافراط والتفريط، الا انَّه ما لم يخرج عن هذين الطرفين يكون اعتدالا اضافيّا، وكُلَّما كان اقرب الى الحقيقيِّ كان اكمل واقوى، واذا خرج عنهما دخل في الرذيلة.
ولم نعرف من هذا الكلام ماهو الميزان في حدود الوسط الاضافيّ الا ان يكون المقصود: انَّ الميزان هو قدرة الشخص، اي: انّه اذا عجز عن الوصول الى الوسط الحقيقيِّ فالفضيلة بالنسبة لكلِّ شخص هي اقرب النقاط الى الوسط الحقيقي ممّا يمكنه الوصول اليه.
ثُمَّ لو كان مقصودهم - حقّا - جعل الوسط مِقياسا يرجع اليه لتشخيص الفضيلة والرذيلة، وتمييز احداهما عن الاخرى، فهذا امر غير ممكن؛ اذ لا يمكن تعيين الوسط بمثل الشبر والذراع قبل معرفة الفضيلة، بل يجب ان نعرف الفضيلة اوَّلاً، وعن طريق معرفتنا لها نعرف انَّ طرفيها افراط وتفريط، وانَّها هي الوسط، فهذا ليس مِقياسا بمعنى كونه مميِّزا للفضيلة والرذيلة.
على انّه لا برهان ولا وجدان يحكم على انَّ الفضيلة في كلِّ شي ء وبالقياس الى كلِّ صفة انَّما هي الوسط.
وقد قال احمد امين في كتاب الاخلاق: انَّ هناك كثيرا من الفضائل لايظهر فيها انَّها اوساط بين رذائل كالصدق والعَدل، فليس هناك الا كذب او صدق، وعدل او ظلم. وقول ابن مسكويه: انَّ العَدل وسط بين الظلم والانظلام لعب بالالفاظ دعاه اليه تصحيح كلام ارسطو، فليس الانظلام الا اثر الظلم.
اقول : انَّ الاعتراض عليهم بالنقض بمثل الصدق والكذب، او الارشاد والتضليل باعتبار انّه لا تُتصوَّر في طرفي الفضيلة رذيلتان تعتبر الفضيلة وسطا بينهما، لو عُرِضَ عليهم فمقتضى المشي على مشاربهم واساليب بحثهم ان يجيبوا عن ذلك بانَّ الصدق والكذب، او الارشاد والتضليل - مثلاً - ليسا من الفضائل والرذائل الاصيلة، بل يرجعان الى الفضائل الاربع واطرافها، كما قال في جامع السعادات: انَّ الكذب في القول اذا نشا من العداوة او الحسد او الغضب، كان من رذائل قوة الغضب، واذا نشا من حب المال والطمع او الاعتياد الحاصل من مخالطة اهل الكذب، كان من رذائل قوّة الشهوة.
فالنراقيُّ رحمه الله يعدِّد مناشئ الكذب في القول ويرجعها الى اصولها، فمثلاً اذا نشا الكذب من قوّة الغضب فهو واقع في احد طرفي الافراط او التفريط للغضب، والحدُّ الوسط له هو الشَّجاعة، وهكذا.
الا انَّ هذا الجواب - الذي في اكبر الظن سوف يجيبون به لو وجِّه اليهم الاشكال - لا يسمن ولا يغني من جوع؛ اذ هذا انَّما يتمُّ لو قلنا: انَّ الصدق والكذب، او الارشاد والتضليل ليسا بما هما حسنا وقبيحا، وانَّما يتصفان بالحسن والقبح لدخولهما - مثلاً - في التهوُّر او الجبن، وهما قبيحان، او في الشَّجاعة، وهي حسن، في حين انّه ليس الامر كذلك، فقبح الكذب او التضليل - مثلاً - ثابت حتى لو فرض عدم نشوئهما من التهوُّر او الجبن، او من ايِّ طرفين من طرفي الافراط والتفريط التي تذكر للفضائل الاربع.
وممَّا يشهد لذلك انَّهم قد فسَّروا التهوُّر الذي هو طرف الافراط للشَّجاعة بالاقدام على ما ينبغي الحذر منه، والجبن الذي هو طرف التفريط للشَّجاعة بالحذر ممّا ينبغي الاقدام عليه فاخذوا في موضوع التهوُّر والجبن عنوان ما ينبغي، وهذا معناه ثبوت انبغاء وعدم انبغاء (وهو حقيقة الاخلاق) قبل التهوُّر والجبن.
ولو تامّلت فيما ذكرناه لا نفتح عليك باب واسع لنسف الاسس التي اسِّس عليها علم الاخلاق في مثل كتاب جامع السعادات.
وامّا النقض بالعَدالة والظلم فانَّما يرد على مبنى عدِّ العَدالة فضيلة مستقلَّة في مقابل سائر الفضائل، ولا يرد على مثل النراقيّ في جامع السعادات.
وعلى ايِّ حال، فما قيل من انَّ العَدالة وسط بين الظلم والانظلام مَهْزلةٌ من الكلام، فانَّ الانظلام يُقصَد به هنا قبول الظلم وعدم دفعه، فان عُدَّ هذا مشاركة في الظلم مع الظالم؛ لأنَّه كما لا يجوز ظلم الاخرين كذلك لا يجوز ظلم النفس اذن، فالانظلام ظلم وليس طرفا اخر للعدالة غير الظلم، والا فليس الانظلام قبيحا.
ومن النقوض التي ترد عليهم مثال الحكمة لو بنينا على ما بنوا عليه من عدِّ الحكمة من الفضائل.
وقد جاء في كتاب جامع السعادات: انَّ حقيقة الحكمة هو العلم بحقائق الاشياء على ماهي عليه، وهو موقوف على اعتدال القوّة العاقلة، فاذا حصلت لها حِدَّة خارجة عن الاعتدال تخرج عن الحدِّ اللائق، وتستخرج امورا دقيقة غير مطابقة للواقع، والعلم بهذه الامور هو ضدُّ الحكمة من طرف الافراط، واذا حصلت لها بلادة لا ينتقل الى شي ء فلا يحصل لها العلم بالحقائق، وهذا هو الجهل، وهو ضدُّه من طرف التفريط، فالحكمة وسط بين طرفين: الجربزة والبله، او السفسطة (اي الحكمة المموّهة) والجهل (اي البسيط منه).
اقول: لا ادري كيف جعل استخراج امور دقيقة غير مطابقة للواقع افراطا في القوّة العاقلة وحِدَّة لها، افهل ترى لو استعملت القوّة العاقلة اكثر ممّا يُسمّى بالحدِّ الوسط اوجبت خطا ولماذا؟ اوليست قوّة العقل والادراك كلَّما اشتدَّت في الانسان وقوى الانسان على استعمالها كان ترقُب كشف الحقائق اكثر؟! وليس استعمال قوّة التفكير بمنهج غير صحيح وموجب للوقوع في الخطا الا نقصا في عرض نقص عدم استعمال تلك القوّة او البلادة الموجب للجهل البسيط، وجعل استعمال القوّة العاقلة بالنحو الصحيح وسطا بين عدم استعمالها راسا واستعمالها بشكل غير صحيح ليس - ايضا - الا تلاعبا بالالفاظ.
المِقياس الثامن - حسن العَدل وقبح الظلم:
بمعنى انَّ العناوين التي تحمل بذاتها الحسن والقبح انَّما هي العَدل والظلم، وما سواهما يكون حسنا اذا دخل في العَدل، وقبيحا اذا دخل في الظلم، فضرب اليتيم - مثلاً - ليس في ذاته حسنا او قبيحا، ولكنّه حينما يدخل في العَدل كما في ضرب وليِّه ايّاه لغرض التاديب يكون حسنا، وحينما يدخل في الظلم كما لو كان لغرض الايذاء لا التاديب يكون قبيحا. ومن هنا لا ترى مجتمعا او شخصا اعتياديّا يناقش في حسن العدل او قبح الظلم، ولكن يجري الاختلاف في حسن او قبح عناوين اخرى؛ نظرا لاختلافهم في دخولها في العَدل او الظلم.
ثُمَّ انَّنا لو فسَّرنا العَدالة بمعنىً يكون مترتِّبا على سائر الفضائل، من قبيل ما مضى عن بعضهم: من انَّ الفضائل الثلاث - وهي: الحكمة، والعفَّة، والشَّجاعة - اذا اعتدلت نشا عنها العَدل، فلا معنى لفرض العَدالة والظلم مِقياسا للفضيلة والرذيلة، بمعنى كونهما راس الخيط لذلك.
ولو فسَّرنا العَدالة - كما مضى عن بعض اخر - بانَّها عبارة عن انقياد العاملة للعاقلة في استعمال نفس العاقلة وقوتيْ الغضب والشهوة، كان هذا عبارة اخرى عن انَّ مِقياس الفضيلة والرذيلة هو العقل.
الا انَّ هذه التفاسير للعَدالة لا ترجع الى محصَّل، ولا نتصوَّر قوّة عاملة في البشر محرِّكة لسائر القوى كالقوة الغضبيّة التي فسَّروها بقوّة دفع المنافر، والشهويّة التي فسَّروها بقوّة جلب الملائم، افليست هاتان القوّتان هما العاملتين، فتحتاجان الى قوّة اخرى تحركهما تُسمّى بالقوّة العاملة؟! كما لا نتصوّر فرضيّة كون سائر الفضائل موجبة لانتزاع فضيلة جديدة اسمها العَدالة.
وخير ما يقال في تفسير العَدالة والظلم هو: انَّ العَدالة عبارة عن اعطاء ذي الحقِّ حقَّه، والظلم عبارة عن سلب ذي الحقِّ حقَّه.
وما قد يقال من : (انَّ العَدالة عبارة عن وضع الشي ء في موضعه، والظلم عبارة عن وضعه في غير موضعه) لا نفهم له مفهوما الا برجوعه الى ما قلناه: من اعطاء ذي الحقِّ حقَّه، وسلب ذي الحقِّ حقَّه. وانت ترى انّه لا معنى لثبوت الحقِّ الا الانبغاء والضرورة الخُلُقيّة، فمعنى انَّ فلانا له حقٌّ عليَّ ان لا اوذيه او حقٌّ ان احسن اليه هو: انّه من الضرورة الخُلُقيّة وممّا ينبغي ان لا اوذيه او احسن اليه، وليس هذا الا عبارة عن الحسن والقبح او الفضيلة والرذيلة ، اذن ، فقولنا : العدل حسن او الظلم قبيح قضيّة ضروريّة بشرط المحمول، وقد اخذ محمولها في موضوعها، ويرجع روحها الى انَّ الحسن حسن والقبيح قبيح. وهذا هو السرُّ في انّك لا ترى انسانا اعتياديّا يشكّك في هاتين القضيتين، فانَّ الانسان الاعتياديَّ لا يشكّك - طبعا - في الضروريّة بشرط المحمول.
ومن هنا يتضح انَّ جعل العَدل والظلم مِقياسا للفضيلة والرذيلة ليس -ايضا الا لَعِبا بالالفاظ.
وقد تحصَّل بكلِّ ما ذكرناه انَّ الحسن والقبح امران واقعيّان يدركهما العقل، وانَّ المِقياس الاوّلي لهما هو درك العقل بالضرورة، ولهما مقاييس اخرى مؤيَّدة من قبل العقل: كالدين الصحيح، وكالمصلحة والمفسدة في الجملة، كما اشرنا اليه فيما مضى.