ربيع الآخِر.. ذكرى ثورة المُختار *
تعريف بهذا الرجل :
هو المُختار بن أبي عُبَيد بن مسعود الثقفيّ .. كُنيتُه أبو إسحاق . وكان والده أبو عبيد يتنوَّق في طلب النساء ، فذكر له قومه نساءً فأبى أنْ يتزوَّج منهنَّ ، فأتاه آتٍ في منامه فقال له : تزوَّج دومةَ الحسناء الحومة ، فما تسمع فيها للائمٍ لومة . فأخبر أهله ، فقالوا له : قد أُمِرتَ فتزوَّج دومةَ بنت وهب بن عمرو .. فلمَّا حملت بالمُختار قالت : رأيتُ في النوم قائلاً يقول:
أبْـشِري بـالولَدْ أشبه شيءٍ iiبالأسدْ
إذا الرجالُ في كَبِدْ تـقاتلوا على iiبَلَدْ
كان له الحَظُّ الأشدّْ
وكان مولدُه في عام الهجرة .. فإذا ترعرع حضر مع أبيه وقعة قُسّ الناطف وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وكان يتفلَّت للقتال ، فيمنعه سعد بن مسعود عمُّه . فنشأ مقداماً شجاعاً ، يتعاطى معالي الأُمور، وكان ذا عقلٍ وافر ، وجوابٍ حاضر ، وخِلالٍ مأثورة ، ونفسٍ بالسخاء موفورة ، وفطرةٍ تُدرِك الأشياء بفراستها ، وهِمَّةٍ تعلو على الفراقد بنفاستها ، وحَدَسٍ مُصيب ، وكفٍّ في الحروب مُجيب .. مارسَ التجاربَ فحنَّكَتْه ، ولابَسَ الخُطوبَ فهذَّبَتْه ( 1 ) .
وينهض الشباب بالمُختار ، فتُعرَف فيه شمائل النخوة والإباء ورفض الظلم ، ويُسمَع منه ويُرى فيه مواقف الشجاعة والتحدِّي أحياناً ، وهذا أشدُّ ما تخشاه السلطات الأُمويَّة ، فتُلقي القبضَ عليه وتُودعه في سجن عبيد الله بن زياد في الكوفة ؛ تمهيداً لتصفية القوى والشخصيَّات المُعارضة ، والتفرُّغ لإبادة أهل البيت النبويّ بعد ذلك حيث لا أنصار لهم ولا أتباع .
وتقتضي المشيئة الإلهيَّة أنْ يلتقي المُختار في السجن بمِيثم التمَّار ، فيُبشِّره هذا المؤمن الصالح الذي نهل مِن علوم إمامه عليٍّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فيقول للمُختار : إنَّك تُفلتُ وتخرج ثائراً بدم الحسين ( عليه السلام) ، فتقتل هذا الجبَّارَ الذي نحن في سجنه ( أيْ ابن زياد ) ، وتطأ بقدمك هذا على جبهته وخَدَّيه .
ولم تطل الأيَّام حتَّى دعا عبيد الله بن زياد بالمُختار مِن سجنه ليقتله ، وإذا بالبريد يَطلع بكتاب يزيد بن معاوية إلى ابن زياد ، يأمره بتخلية سبيل المُختار ؛ وذلك أنَّ أُخت المُختار كانت زوجة عبد الله بن عمر ، فسألت زوجها أنْ يشفع لأخيها إلى يزيد ، فشفَّع فأمضى يزيد شفاعته ، فكتب بتخلية سبيل المُختار على البريد .. فوافى البريد وقد أُخرج المُختار ليُضرَبَ عنقه ، فأُطلِق ! ( 2 ) .
مُقدِّمات النهضة :
ويُحبَس المُختار مرَّةً أُخرى .. فيكتب كتاباً إلى أصحاب سليمان بن صُرَد الخُزاعيّ مِن الحبس : أمَّا بعد ، فإنَّ الله أعظَمَ لكمُ الأجر ، وحطَّ عنكم الوِزْر ، بمُفارقة القاسطين ، وجهاد المُحلِّين . إنَّكم لن تُنفقوا نفقةً ولم تقطعوا عقبة ، ولم تخطوا خُطوةً .. إلاَّ رفعَ الله لكم بها درجة ، وكتب لكم حسنة . فأبشِروا ؛ فإنِّي لو خرجتُ إليكم جرَّدت فيما بين المشرق والمغرب مِن عدوِّكم بالسيف بإذن الله ، فجعلتُهم رُكاماً ، وقتلتُهم فَذَّاً وتوأماً ، فرحَّب اللهُ لمَن قارب واهتدى ، ولا يُبعِد اللهُ إلاَّ مَن عصى وأبى ، والسلام عليكم يا أهل الهُدى .
فلمَّا جاء كتابه وقف عليه جماعة مِن رؤساء القبائل ، وأعادوا الجواب : قرأنا كتابك .. ونحن حيث يَسرُّك ، فإنْ شئت أنْ نأتيَك حتَّى نُخرجك مِن الحبس فَعَلْنا . فأخبره الرسول فسُرَّ المُختار باجتماع الشيعة له ، وقال : لا تفعلوا هذا ؛ فإنِّي أخرج في أيَّامي هذه .
وكان المُختار قد بعث إلى عبد الله بن عمر : أمَّا بعد ، فإنِّي حُبِستُ مظلوماً ، وظَنَّ بيَ الولاةُ ظنوناً كاذبة ، فاكتبْ فِيَّ ـ رحمك الله ـ إلى هذين الظالمَين ، وهما : عبد الله بن يزيد ، وإبراهيم بن محمّد .. كتاباً ؛ عسى الله أنْ يُخلِّصني مِن أيديهما بلُطفك ومَنَّك ، والسلام عليك .
فكتب إليهما عبد الله بن عمر .. فلمَّا قرءا الكتاب طلبا مِن المُختار كُفلاء ، فأتاه جماعة مِن أشراف الكوفة ، فاختارا منهم عشرةً ضَمِنوه ، وحلَّفاه ألاَّ يخرجَ عليهما .. فخرج وجاء داره ... ولمَّا استقرَّ في داره ، اختلف الشيعة إليه واجتمعت عليه ، واتَّفقوا على الرضى به ، وكان قد بُويع له وهو في السجن ، ولم يزل يكثرون وأمرُهم يقوى ويشتدُّ ، حتَّى عَزَل عبدُ الله بن الزبير الواليَين مِن قِبَله ، وهما : عبد الله بن يزيد ، وإبراهيم بن محمّد بن طلحة المذكورَين .
وبعث المُختار إلى أصحابه فجمعهم في الدُّور حوله ، وأراد أنْ يثب على أهل الكوفة ؛ ثأراً منهم على قتلهم الإمامَ الحسين ( عليه السلام ) . وهنا اجتمع جماعة فقالوا : إنَّ المُختار يُريد الخروج بنا للأخذ بالثأر ، وقد بايعناه ، ولا نعلمُ .. أرسله إلينا محمَّد بن الحنفيَّة أم لا ؟! فانهضوا بنا إليه نخبره بما قَدِم به علينا ، فإنْ رخَّص لنا اتَّبعناه ، وإنْ نهانا تركناه .
فخرجوا .. وجاءوا إلى ابن الحنفيَّة ، فسألهم عن الناس فخبَّروه ، وقالوا له : لنا إليك حاجة ، قال : سرٌّ أمْ علانية ؟ قالوا : بلْ سِرٌّ ، قال : رويداً ـ إذاً ـ . ثمَّ مكث قليلاً وتنحَّى ودعاهم ، فبدأ عبد الرحمان بن شريح بحمد الله والثناء عليه ، حتَّى قال : أمَّا بعد ، فإنَّكم أهلُ بيتٍ خصَّكم الله بالفضيلة ، وشرَّفكم بالنبوَّة ، وعظَّم حقَّكم على هذه الأُمَّة ، وقد أُصِبتُم بحُسينٍ مُصيبةً عمَّت المسلمين . وقد قَدِم المُختار يزعم أنَّه جاء مِن قِبلِكم ، وقد دعانا إلى كتاب الله وسُنَّة نبيِّه ، والطلبِ بدماء أهل البيت ، فبايعناه على ذلك ، فإنْ أمرتَنا باتِّباعه اتَّبعناه ، وإنْ نهيتَنا اجتنبناه .
فلمَّا سمع ابن الحنفيَّة كلامَ عبد الرحمان بن شريح وكلام غيره ، حمِد الله وأثنى عليه ، وصلَّى على النبيّ ، وقال : أمَّا ما ذكرتم مِمَّا خصَّنا الله ، فإنَّ الفضل لله يُؤتيه مَن يشاء والله ذو الفضل العظيم . وأمَّا مُصيبتنا بالحسين ، فذلك في الذكر الحكيم ، وأمَّا الطلب بدمائنا .. فقوموا بنا إلى إمامي وإمامكم عليِّ بن الحسين . فلمَّا دخل ودخلوا عليه أخبر خبرهم الذي جاءوا لأجله ، فقال ( عليه السلام ) لمحمّد بن الحنفيَّة ( بن أمير المؤمنين عليه السلام ) : ( يا عمُّ ، لو أنَّ عبداً زنجيَّاً تعصَّب لنا أهلَ البيت ، لَوجَبَ على الناس موازرتُه ، وقد ولَّيتُك هذا الأمر ، فاصنعْ ما شئت ) .
فخرجوا وقد سمعوا كلامه وهم يقولون : أذِنَ لنا زِينُ العابدين ( عليه السلام ) ومحمّدُ بن الحنفيَّة . وكان المُختار علم بخروجهم إلى محمّد بن الحنفيَّة ، وكان يُريد النهوض بجماعة الشيعة قبل قدومهم ، فلمَّا تهيَّأ ذلك له .. وكان يقول : إنَّ نُفْيراً منكم تحيَّروا وارتابوا ، فإنْ همْ أصابوا أقبلوا وأنابوا ، وإنْ هم كُبُّوا وهابوا واعتُرضوا وانجابوا ، فقد خسروا وخابوا . فدخل القادمون مِن محمّد بن الحنفيَّة فقال لهم : ما وراءكم ، فقد فُتنتُم وارتبتُم ؟!
فقالوا : قد أُمِرنا بنُصرتك ، فقال المُختار : أنا أبو إسحاق ، أجمِعُوا إليَّ الشيعة . فجُمع مَن كان قريباً ، فقال : يا معشرَ الشيعة ، إنَّ نفراً أحبُّوا أنْ يعلموا مصداق ما جئتُ به ، فخرجوا إلى إمام الهُدى والنجيب المُرتضى وابن المُصطفى المُجتبى ( يعني زينَ العابدين ( عليه السلام ) فعرَّفهم أنِّي ظهيره ورسوله ، وأمَرَكم باتِّباعي وطاعتي . وقال كلاماً يُرغِّبهم في الطاعة والاستنفار معه ، وأنْ يُعلِمَ الحاضرُ الغائب ( 3 ) .
وقائع وأحداث كبرى :
ينقضُّ المُختار على الكوفة وقد خبَّأت رؤوس الفتنة والضلالة والجريمة ، آلافاً مِن قتلة سيِّد الشهداء الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، فيحصدها المُختار انتقاماً لدم وليِّ الله ، وثأراً مِمَّن قتل الأطفال والصالحين وسبى النساء والأرامل والثَّكالى .. الذين جعلوا بيت النبيّ ( صلَّى الله عليه وآله ) في عزاء ونحيب وعويل ليلاً ونهاراً .
• قال المنهال : دخلتُ على عليّ بن الحسين مُنصرَفي مِن مكَّة ، فقال لي : ( يا منهال ، ما صنع حرملةُ بن كاهل الأسديِّ ؟ ) . فقلت : تركته حيَّاً بالكوفة . فرفع يديه جميعاً ثمَّ قال ( عليه السلام ) : ( اللَّهمَّ ، أَذِقْه حرَّ الحديد ، اللَّهمَّ أذِقْه حرَّ الحديد ، اللَّهمَّ أذِقْه حرَّ النار ) .
قال المنهال : فقدمتُ الكوفة وقد ظهر المُختار بن أبي عبيد الثقفيّ ، وكان صديقاً .. فركبتُ إليه ولقيتُه خارجاً مِن داره ، فقال : يا منهال ، لم تأتِنا في ولايتنا هذه ( أيْ حكومتنا ) ، ولم تُهنِّئنا بها ، ولم تُشركنا فيها ؟!
فأعلمتُه أنَّي كنت بمَكَّة ، وأنِّي قد جئتك الآن . وسايرتُه ونحن نتحدَّث حتَّى أتى ( الكُناسة ) فوقف وقوفاً كأنَّه ينظر شيئاً ، وقد كان أُخبر بمكان حرملة فوجَّه في طلبه ، فلم يلبث أنْ جاء قوم يركضون وقوم يشتدُّون ، حتَّى قالوا : أيُّها الأميرُ ، البشارة ! قد أُخذ حرملة بن كاهل ! فما لبثنا أنْ جيء به ، فلمَّا نظر إليه المُختار قال لحرملة : الحمد لله الذي مكَّنني منك ... ثمَّ قال : النارَ النار . فأُتيَ بنارٍ وقصب ، فأُلقي عليه فاشتعل فيه النار .
قال المنهال : فقلت : سبحانَ الله ! فقال لي : يا منهال ، إنَّ التسبيح لَحَسَنٌ ، ففيم سبَّحت ؟! قلت : أيُّها الأمير ، دخلتُ في سفرتي هذه مُنصرفي مِن مَكَّة على عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) فقال لي : ( يا منهال ، ما فعل حرملة بن كاهل الأسديّ ؟ ) . فقلت : تركتُه حيَّاً بالكوفة . فرفع يديه جميعاً فقال : ( اللَّهمَّ أذِقْه حرَّ الحديد ، اللَّهمَّ أذِقْه حرَّ الحديد ، اللَّهمّ أذقْه حرَّ النار ) .
فقال لي المُختار : أسمعتَ عليَّ بن الحسين يقول هذا ؟! فقلت : واللهِ لقد سمعتُه يقول هذا . فنزل عن دابَّته وصلَّى ركعتين فأطال السجود .. ثمَّ ركب وقد احترق حرملة ، وركبتُ معه ، وسرنا فحاذيتُ داري فقلت : أيُّها الأمير ، إنْ رأيتَ أنْ تُشرِّفني وتُكرمني وتَنزل عندي وتُحرِّم طعامي ( أيْ تكون بيننا حُرمة وذمَّة بتناول الطعام ) ، فقال : يا منهال ، تُعلِمُني أنَّ عليَّ بن الحسين دعا بثلاث دعوات ، فأجابه الله على يدي ، ثمَّ تأمرني أنْ آكل ؟! هذا يوم صومٍ شكراً لله ( عزَّ وجلَّ ) على ما فعلتُه بتوفيقه ( 4 ) .
وشيَّع المُختار إبراهيمَ بن مالك الأشتر ماشياً ، يبعثه إلى قتال عبيد الله بن زياد ، فقال له إبراهيم : اركبْ رَحِمَك الله ، فقال المُختار : إنِّي لأحتسب الأجر في خُطايَ معك ، وأُحبُّ أنْ تَغْبَرَّ قدمايَ في نصر آل محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) . ثمَّ ودَّعه وانصرف .. فسار ابن الأشتر إلى المدائن يُريد ابنَ زياد ، ثمَّ نزل نهرَ الخازر بالموصل شمال العراق ، وكان المُلتقى هناك ، فحضَّ ابن الأشتر أصحابه خاطباً فيهم : يا أهلَ الحقِّ ، وأنصار الدين ، هذا ابنُ زيادٍ قاتلُ حسين بن عليٍّ وأهلِ بيته ، قد أتاكم اللهُ به وبحزبه حزب الشيطان ، فقاتلوهم بنيَّةٍ وصبر ؛ لعلَّ الله يقتله بأيديكم ويُشفي صدوركم .
وتزاحفوا .. ونادى أهل العراق : يا آلَ ثارات الحسين . فجال أصحاب ابن الأشتر جولةً .. ، وحمل ابن الأشتر يميناً فخالط القلب وكسرهم أهل العراق فركبوهم يقتلونهم ، فانجلت الغُمَّة وقد قُتِل عبيدُ الله بن زياد ، وحصين بن نمير ، وشرحبيل بن ذي الكلاع ، وأعيان أصحابهم .
وأمر إبراهيم بن الأشتر أنْ يطلب أصحابه ابنَ زياد ، فجاء رجل فنزع خُفَّيه وتأمَّله .. فإذا هو ابن زياد على ما وصف ابن الأشتر ، فاجتزَّ رأسه ، واستوقدوا عامَّة الليل بجسده ( 5 ) .
قيل : وبعث إبراهيم بن الأشتر برأس ابن زياد ورؤوس أعيان مَن كان معه إلى المُختار ، فقُدِم بالرؤوس والمُختار يتغدَّى ، فأُلقيت بين يَدَيه .. فقال : الحمد لله ربِّ العالمين ! وُضع رأسُ الحسين بن عليّ ( عليه السلام ) بين يدَي ابن زياد لعنه الله وهو يتغدَّى ، وأُتيتُ برأس ابن زياد وأنا أتغدَّى ! فلمَّا فرغ المُختار مِن الغداء قام فوطئ وجه ابن زياد بنعله ، ثمَّ رمى بالنعل إلى مولىً له وقال له : اغسلْها ؛ فإنِّي وضعتُها على وجهِ نجسٍ كافر .
ثمَّ بعث المُختار برأس ابن زياد إلى محمّد بن الحنفيَّة ، وإلى عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) ، فأُدخل عليه وهو يتغدَّى .. فقال ( عليه السلام ) : ( أُدخِلتُ على ابن زياد ـ أي حينما أُسر وجيء به إلى الكوفة ـ وهو يتغدّى ورأسُ أبي بين يدَيه ، فقلت : اللَّهمّ لا تُمتْني حتَّى تُريَني رأسَ ابنِ زياد وأنا أتغدَّى .. فالحمد لله الذي أجاب دعوتي ) ( 6 ) .
وفي رواية ابن نما الحلِّيّ : فسجد عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) ؛ شكراً لله ، وقال : ( الحمد لله الذي أدرك لي ثأري مِن عدوِّي ، وجزى اللهُ المُختار خيراً ) ( 7 ) .
قال قوم مِن أصحاب الحديث : إنَّ قتل ابن زياد كان يوم عاشوراء سنة سبعٍ وستِّين ( 8 ) .
أمَّا عمر بن سعد .. فكان المُختار قد سُئل في أمانه ، فآمَنَه على شرط ألاَّ يخرج مِن الكوفة ، فإنْ خرج منها فدمُه هدر . فأتى عمرَ بن سعد رجلٌ فقال له : إنِّي سمعت المُختار يحلف ليقتلنَّ رجلاً ، واللهِ ما أحسَبُه غيرَك ! قال الراوي : فخرج عمر حتَّى أتى الحمَّام ( الذي سُمِّي فيما بعد بحمَّام عمر ) فقيل له : أترى هذا يخفى على المُختار ! فرجع ليلاً .. ثمَّ أرسل ولدَه حفصاً إلى المُختار الذي دعا أبا عَمرة ، وبعث معه رجلين فجاءوا برأس عمر بن سعد فتأسَّف حفص وتمنَّى أنْ يكون مكان أبيه ، فصاح المُختار يا أبا عَمرة ، ألْحِقْه به .. فقتله ، فقال المُختار بعد ذلك : عُمَر بالحسين ، وحفص بعليّ بن الحسين ( أي الأكبر ) ، ولا سَواء ! واشتدَّ أمر المُختار بعد قتل ابن زياد ، وأخافَ الوجوه ، وكان يقول : لا يسوغ لي طعامٌ ولا شراب حتَّى أقتلَ قَتَلَةَ الحسينِ بن عليّ ( عليه السلام ) وأهلِ بيته ، وما مِن دِيني أترك أحداً منهم حيَّاً . وقال : أعْلِموني مَن شرك في دمِ الحسين وأهل بيته .. فلم يكن يأتونه برجل فيشهدون أنَّه مِن قَتَلَةِ الحسين أو ممَّن أعان عليه ، إلاَّ قتله ( 9 ) .
وذكر الطبريّ في تاريخه أنَّ المُختار تجرَّد لقَتَلَة الحسين وأهل بيته ، وقال : اطلبوهم ؛ فإنَّه لا يسوغ ليَ الطعامُ والشراب حتَّى أُطهِّر الأرضَ منهم . وذكر بعض المؤرِّخين أنَّه عذَّب قتلةَ الحسين ( عليه السلام ) تعذيباً يُشابه فعلتَهم الإجراميَّة في كربلاء ، حتَّى أباد ـ كما قيل ـ ثمانية عشر ألفاً منهم خلال ثمانية عشر شهراً مِن حكومته ، وهرب الكثير .. فلاحقهم ونكَّل بهم ( 10 ) .
هذا مِن جهة ، ومِن جهة أُخرى كان المُختار يُعيد شيئاً مِن الحقوق المُهتضَمة المُستلبة ، مِن أهل البيت ( عليهم السلام ) .. مِن ذلك أنَّه بعث عشرين ألفَ دينارٍ إلى الإمام عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) ، فقَبِلَها منه وبنى بها دار عقيل بن أبي طالب ودارَهم التي هُدِمت ! ( 11 ) .
ومِن مواقف المُختار أيضاً .. بَعْثُه جاريةً هديَّةً منه إلى الإمام عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) ، والتي أولدتْ له زيداً الشهيد ( رضوان الله عليه ) ( 12 ) .فأعرب المُختار الثقفيّ عن إيمانه وغيرته ، وعن ولائه وإخلاصه وهِمَّته .. وفوق هذا حُسن نيَّته ، وذِكرُه الحسَن الذي جرى على لسان أئمَّته .
كلمات أهل البيت ( عليهم السلام ) في المُختار :
• روى الأصبغ بن نُباتة ، قال : رأيت المُختار ( وهو طفل ) على فَخِذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يمسح رأسَه ويقول : ( يا كيِّس ، يا كيِّس ) ( 13 ) .
• وحين بعث المُختار برأس عبيد الله بن زياد ، ورأس عمر بن سعد إلى الإمام عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) ، خرَّ ساجداً وقال ( عليه السلام ) : ( الحمد لله الذي أدرك لي ثأري مِن أعدائي ، وجزى اللهُ المُختار خيراً ) ( 14 ). أو في رواية ابن نما: ( الحمد لله الذي أدرك لي ثأري مِن عدوِّي ، وجزى اللهُ المُختار خيراً ) ( 15 ).
• وحين بعث المُختار برأس عمر بن سعد... دعا محمّد بن الحنفيَّة قائلاً: اللَّهمَّ ، لا تنسَ هذا اليومَ للمُختار ، واجْزِه عن أهل بيت نبيِّك محمّدٍ خيرَ الجزاء .. فو اللهِ ، ما على المُختار بعد هذا مِن عتب ! ( 16 ) .
وفي رواية أُخرى : ثمَّ حمل المُختار رأس ابن زياد ورؤوس القوَّاد إلى مكَّة .. ومعها ثلاثون ألف دينار إلى محمّد بن الحنفيَّة ، وكتب معهم : إنِّي بعثت أنصاركم وشيعتكم إلى عدوِّكم ، فخرجوا مُحتسبين أسِفين ، فقتلوهم ، فالحمد لله الذي أدرك لكم الثأر ، وأهلكهم في كلِّ فجٍّ عميق ، وغرَّقهم في كلِّ بحر ، وشفى اللهُ صدور قومٍ مؤمنين .
فقَدِموا بالكتاب والرؤوس على ابن الحنفيَّة .. فلمَّا رآها خرَّ ساجداً ودعا للمُختار ، وقال : جزاه اللهُ خيرَ الجزاء ، فقد أدرك لنا ثأرنا ، ووجب حقُّه على كلِّ مَن وَلَدَه عبد المُطَّلب بن هاشم . اللَّهمَّ واحفَظْ لإبراهيم الأشتر وانصره على الأعداء ، ووفِّقْه لِما تُحبُّ وترضى ، واغفرْ له في الآخرة والأُولى ( 17 ) .
• وجاء عن الإمام محمّد الباقر ( عليه السلام ) ـ وهو الذي كان حاضراً في واقعة طفِّ كربلاء وعمره ثلاث أو أربع سنوات فشاهد المأساة العُظمى بعينه ـ : ( لا تسبُّوا المُختار ؛ فإنَّه قد قتلَ قتلَتَنا ، وطلب بثأرنا ، وزوَّج أراملَنا ، وقسَّم فينا المالَ على العُسرة ) ( 18 ) .
وتمضي الأيَّام .. فيَقدم أبو محمَّد الحكَمُ بن المُختار الثقفيّ على الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، فيقول له الإمام : ( رَحِمَ اللهُ أباك ، ما ترك لنا حقَّاً عند أحدٍ إلاَّ طلَبَه ، قتلَ قتَلَتَنا ، وطلب بدمائنا ) ( 19 ) .
• وبَعْدَ الإمام الباقر ( سلام الله عليه ) .. يقول ولدهُ الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) في معرض ثناءٍ على المُختار : ( ما امتشطتْ فينا هاشميَّة ولا اختضبت .. حتَّى بَعث إلينا المُختار برؤوس الذين قتلوا الحسينَ ( صلوات الله عليه ) ) ( 20 ) .
بعد هذا ..
لا يُرتضى أنْ تُقبَل أخبارُ الذمِّ والقدح في المُختار إلاَّ أنْ تُوجَّه .. إنَّ بعضَها موضوع للانتقام مِن هذا الرجل ، الذي انتقم مِن بني أُميَّة وآل بني أُميَّة ، فقَتل رؤوس النفاق ، وسحق جيش العدوان ، الذي زحف إلى قتل الحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته وأصحابه ، وإلى سبي عياله ونسائه وأطفاله . فماذا يُنتظَر مِن الموتورين غير تشويه الحقائق وإخراج المُختار بصورة مُشوَّهة ممقوتة ؟! وربَّما كان البعض الآخَر مِن الأخبار محمولاً على التقيَّة ، إذ الانتصار للمُختار فيما بعد يُعرِّض إلى الأذى حتَّى يبلغ القتل أحياناً ، تشفِّياً مِن مُوالي أهل البيت ( عليهم السلام ) .
وهنا يحسُن أنْ نأتي بكلام ابن نما الحلِّيّ في هذا الموقع ، حيث يقول :
ودعاء السجَّاد ( عليه السلام ) للمختار : ( ... جزى اللهُ المُختار خيراً ) دليلٌ واضح ، وبرهان لائح .
على أنَّ المُختار عنده لَمِن المُصطفَينَ الأخيار . ولو كان المُختار على غير الطريقة المشكورة ، ويُعلَم أنَّه مُخالف له في اعتقاده .. لَما كان يدعو له دعاءً لا يُستجاب ، ويقول فيه قولاً لا يُستطاب ، وكان دعاؤه ( عليه السلام ) له ـ إذاً ـ عبثاً ، والإمام مُنزَّه عن ذلك .
ثمَّ قال ابن نما: وقد أسلفنا مِن أقوال الأئمَّة في مطاوي هذا الكتاب ( أي: رسالة شرح الثار على جُلِّ أحوال المُختار ) تَكرارَ مدحِهم له ، ونهِيهم عن ذَمِّه ، ما فيه غُنْيةٌ لذوي الأبصار ، وبُغيةٌ لذوي الاعتبار. وإنَّما أعداؤه عملوا له مثالبَ؛ ليُباعدوه مِن قلوب الشيعة، كما عمل أعداءُ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) له مساوي ، وهلك بها كثيرٌ ممَّن حاد عن محبَّته ، وحال عن طاعته .
وقبل ذلك قال ابن نما ـ في عتابه على مَن ذمَّ المُختار ـ : اعلمْ أنَّ كثيراً مِن العلماء .. لا يحصل لهم التوفيق بفطنةٍ تُوقفُهم على معاني الألفاظ ، ولا رويَّةَ لهم تنقلهم مِن رقدة الغفلة إلى الاستيقاظ . ولو تدبَّروا أقوال الأئمَّة في مدح المُختار ، لعلموا أنَّه مِن السابقين المُجاهدين ، الذين مدحهم الله تعالى جلَّ جلالُه في كتابه المُبين ( 21 ) .
هذا .. ولو كان المُختار مذموماً خارجاً عن طريق الإسلام ، مُنحرفاً عن أهدافه السامية ، لَما وُفِّق ذلك التوفيق الفريد بحصد رؤوس قتلة سيِّد الشهداء ( عليه السلام ) وقَتَلةِ وأهل بيته والخِيرَة مِن أصحابه .
فرحمه الله وأجزل له العطاء ، ورُزِقشفاعةَ المُصطفى سيِّد الرُّسل والأنبياء ،وشفاعةَ الأئمَّة الهُداة الأُمناء .
ـــــــــــــــــــــ
* منقول عن شبكة الإمام الرضا ( عليه السلام ) .
1 ـ بحار الأنوار للشيخ المجلسيّ 350:45 ـ في ذِكْر نسبه وطُرفٍ مِن أخباره .
2 ـ بحار الأنوار 345:41 / ح 59 ـ عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 366:1.
3 ـ بحار الأنوار 363:45 ـ 365.
4 ـ كشف الغُمَّة في معرفة الأئمَّة للإربليّ 214:2.
5 ـ بحار الأنوار 334:45 ـ 335.
6 ـ أمالي الطوسيّ 247:1.
7 ـ بحار الأنوار 386:45.
8 ـ بحار الأنوار 383:45 ، 385.
9 ـ بحار الأنوار 334:45 ـ 337.
10 ـ يُراجع بحار الأنوار 374:45 ـ 390.
11 ـ بحار الأنوار 344:45 / ح 13 ـ عن رجال الكشّيّ.
12 ـ بحار الأنوار 352:45.
13 ـ رجال الكشِّي 127 / ح 201.
14 ـ رجال الكشِّي 127 / ح 203.
15 ـ رسالة شرح الثار لابن نما ـ عنه بحار الأنوار 386:45.
16 ـ بحار الأنوار 379:45.
17 ـ بحار الأنوار 385:45 ـ 386.
18 ـ رجال الكشّيّ 125 / ح 197.
19 ـ رجال الكشِّي 126 / ح 199.
20 ـ رجال الكشِّي 127 / ح 202 ـ عنه بحار الأنوار 344:45 / ح 12.
21 ـ بحار الأنوار 386:45 ـ 387، عن رسالة ( شرح الثار على جُلِّ أحوال المُختار ) للشيخ جعفر بن محمّد بن نما الحلّيّ.