إعادة قراءة فلسفة الانتظار
الملخص
إن القرآن الكريم يؤكد على شخصية التاريخ وواقعيته، كما يؤكد على الاتجاه الارتقائي والتكاملي للمجتمع. والمعارك البشرية تتجه على مر التاريخ بالتدريج نحو اتخاذ صفة أيديولوجية، ويتجه الإنسان بالتدريج نحو التكامل في قيمة الإنسانية، أي يقترب من الإنسان المتعالي ومن المجتمع المثالي. وستكون نهاية المسيرة الإنسانية إقامة حكومة العدل وحكومة سيادة القيم الإنسانية، أو بالتعبير الإسلامي: "حكومة المهدي".
يهدف هذا البحث إلی إزالة النظرة التشاؤمية إلى فترة الغيبة ويفيد أنها حلقة من مراحل الاستكمال التدريجي للإمام والبلوغ التدريجي للبشر. ويری الباحث أن فترة الغيبة الكبرى هي جزء من ولاية المهدي التي تتراوح بين الغياب والظهور، ونستمد من توحد الظهور بالبطون في الأسماء الإلهية الشريفة, لنقول إن غياب المهدي(عج) قد يكون بحد ذاته حضوراً لحقيقته من خلال تحريك العقل والاجتهاد في تعاطي الأمة التي غاب عنها وليها, وناب عنه علماء وفقهاء وضعت على عاتقهم إدارة شؤون الناس وشجونهم بتوظيف العقل في استنباط المتغيرات من ثوابت العقل والشرع.
المقدمة
تنطلق هذه المقالة من "إن الولاية سر النبوة وباطنها".
أصبحت النبوة ساحة لظهور الأشياء، لا في النبوة التشريعية التي من شأنها إظهار ما في الغيب بسرد الوحي والألفاظ فحسب, بل وأيضاً في النبوة التكوينية التي من شأنها إظهار ما في باطن هذا العالم من الحقائق والأسرار. وهكذا أصبحت الولاية ساحة لبطون الأشياء. إذ إن لكل شيء ظهراً ولظهره بطناً,
وإذا كان محمد(ص) خاتم الأنبياء, وبه اكتمل الدين في التنظير للشريعة الأسمى وبروز مظاهره, وتمت النعمة الإلهية على صعيد النظر والفكر والأيديولوجيا, فسميّه والملقب بلقبه: الحجة بن الحسن(عج) خاتم الأولياء, وبه يكتمل الدين في تطبيق الشريعة الحقة وبروز أسرارها وكنوزها عبر العدالة الإلهية العالمية.
في هذه القراءة يمكننا تقسيم الأدوار التاريخية إلى دورتين رئيسيتين:
الدورة الأولى
فترة النبوة وإرسال الرسل وإنزال الكتب, وتبدأ بآدم(ع) وتنتهي بخاتم الأنبياء(ص).
في هذه المرحلة تأتي الشرايع الإلهية واحدة بعد أخرى, وكل شريعة تنسخ ما سبقها. وتلغي مفعولها وتقدم نموذجاً جديداً يواكب مع مستجدات الحضارة البشرية مع الاحتفاظ بجوهر الدين الواحد.
الدورة الثانية
هي دورة الولاية التي اعتبرنا باطن النبوة, وهي تبدأ بولاية الإمام علي بن أبي طالب(ع), وتستمر إلى آخر نشأة الدنيا. وبانتهائها تنطوي السموات والأرض, ويستعد الإنسان للبدء بحياة الخلد.
الدورة الثانية أيضاً تنقسم إلى فترة قصيرة جداً تتوزع بين ولاية الأئمة الأحد عشر، وتليها مرحلة ولاية خاتم الأنبياء، التي تنقسم بين الغيبة الصغرى والكبرى والثورة العالمية.
في قراءة سريعة عن ركائز هاتين الدورتين, أرى أن دورة النبوة تمتاز بصفتين أساسيتين:
الأولى: حضور الإنسان الكامل أي النبي بين حين وآخر بين الناس, ليقدم لهم أسوة حسنة تتجسد فيها القيم الإلهية, وتتبلور هذه القيم في شخصيته وأنماط علاقته بالناس وحياتهم الفردية والاجتماعية .
والثانية: الإعجاز المقرون بالتحدي كآية بينة لإثبات مصداقية نبوءة النبي و علاقته بمنبع القدرة المطلقة. هذه المعجزات عادة أمور تخرق النظام الإعدادي الحاكم على مسار المادة في الطبيعة, كناقة تظهر من تفجر جبل, وإلقاء عصاً تصبح ثعباناً مرعباً, والتحدث مع النمل والطير, وتسخير الرياح, وتسبيح الحصا في كف النبي, وشفاء الأكمه والأبرص, وإحياء الموتى. وهي عادة تنسجم مع معطيات العقلية البشرية الآخذة بالتطور والارتقاء من نبي إلى نبي آخر.
هذا الغياب التدريجي لأئمتنا الأطهار(ع), يأتي حسب رأيي في سياق التمهيد للغيبة الصغرى والغيبة الكبرى للحجة الثاني عشر
إلاّ أن هناك أكثر من برهان عقلي ونص شرعي يزيل النظرة التشاؤمية إلى فترة الغيبة ويفيد أنها حلقة من مراحل الاستكمال التدريجي للإمام والبلوغ التدريجي للبشر. إن اعتبار فترة الغيبة فراغاً سياسياً وخروجاً على الأصل يساوي اعتبار نهضة المنجي على حد تعبير الشهيد المطهري:
ذات طابع انفجاري محض، ناتجة عن انتشار الظلم والفساد والطغيان، أي أن مسألة الظهور نوع من الإصلاح الناتج عن تصاعد الفساد.[1]
وهذا باطل عقلاً, لاستحالة الطفرة أولاً, ولاستحالة التراجع من الكمال إلى النقص في أية حركة لالإنسان الذي هو العالم الصغير وللعالم الذي هو الإنسان الكبير ثانياً.
إن غياب المهدي بجسده, الذي يفتح المجال لحضوره بحقيقته ونوره الذي هو العقل, يهيء الأرضية في نضج المجتمع البشري الذي يجب أن يتأهل لأن يقوم هو بالقسط,:(لِيقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). وسيف المهدي لا يشهر على الناس بل على الطغاة الذين يأسرون عقول الناس وقلوبهم وأرواحهم وأبدانهم.