يكمن تمييز المعنى الكوني للرحمة، كي لا تختلط بالعاطفة أو الحب الأعمى، أو أي شكل من أشكال المؤالفة أو الرأفة. فالرحمة الكونية تتميز بأنها؛ قوة يأتي الفعل لإبرازها في معاني معرّفة تتحقق في العقيدة المهدوية التي تنطوي عليها نفس الإنسان، ما إذا كان الفعل ـ أي فعل ـ غير مستوعب هذه الحقيقة، فهو باطل وخواء.
فكيف نضمن أن يكون الفعل المختار من قبل الإنسان، متطابقا مع معناه؟
الضمان؛ يتحقق من خلال انطواء النفس على عقيدة صحيحة يقوّم بمراعاة معتقداتها عند صدور الفعل منه.. وهذا لا يحصل إلا من خلال نفاذ السنن ألثمان الكونية الحسنة في الفعل.. وهذا لا يتحقق إلا من خلال الإمام الحاضر في ذات الإنسان، الفاضل والكامل والرقيب والمنتظر، صاحب الهدف الكبير والرسالة العظيمة والغاية السامية..التي تجند معتقديها لذلك القائد العظيم.. والذي يمكن أن يظهر في أي لحظة، وهذا لا يتحقق إلا من خلال رابطة قوية حقيقية تربط بين المأموم المنتظر والإمام المنتظر.
نعم قد يكون في الغالب العام؛ لا يتحقق هذا الضمان، وبهذه الصورة، إلا أنها الصورة الواقعية والمعدة، لبناء الإنسان الكامل. فالمهدوية هي أطروحة الكمال.
وتفسير هذا القول يكمن في:
إن الإسلام بدون المهدوية؛ بعدان فقط، وتكتمل في تأثيرها بخيارات فعل الإنسان من خلال استيعاب المهدوية، ليكون الإنسان بالإسلام؛ آملا، فاعلا، ممهدا، منتظرا، مستعدا لمهامه في الوجود.. وفي غير المهدوية لا يمكن أن يكون الإنسان هكذا.
وهكذا فان حديث فوكوياما وهنتنغتون، وكل ابائهم واحفادهم عن فضائل السياسة الأوربية والرجل النوردي، والإنسان الأخير، ونهاية التاريخ، رومانسية سياسية، او بالاحرى هراء سكارى بنشوة العرق المتفوق او الاختيار الرباني المميز...
فان الكمال، جوهر وجودي، ندركه فقط، حين تتوفر مكوناته و مركباته، فهو كمحصلة مركبات القوى، بالضبط كآي مقدار اتجاهي في الطبيعة والحياة والعقل.
ففي الإسلام تبلغ الهداية التكوينية غاية كمالها في الإمام الغائب (عج)، وتمتد إلى كل فرد ممن يؤمن به عبر جسر الانتظار والتهيؤ لمقدمه البهي، وباعتباره المعصوم الإمام المكلف بالإجهاز على مواقع الضلال وقواه، فهو الثائر العظيم، والمنقذ الأكبر، والمصلح الكوني الذي يؤيده رب العزة لتمام الهداية وشيوع العدل.
ان الكمال الإنساني هو فقط من معاني امتدادات الهداية التكوينية للإمام المنتظر (عج) في ثلة المنتظرين، في ضوء معاني الانتظار، ومعاني التمهيد للظهور البهي للمعصوم.
ويمكن تلخيص ذلك؛ في تصور إنسان ينتظر قدوم ضيف، كيف تكون استعداداته، إذا كان ممن يعرف معاني إقراء الضيف وآثاره كلها؟
وكيف يكون التصور في التهيؤ لانتظار ثائر عالمي ومصلح كوني، اذا كان يعرف متطلبات التغيير ومعاني الثورة؟
ولكي يكون الإنسان أحد أتباعه(عج) فعليه أن يكون بمستوى الموقع الذي يطمح من خلال لكمال الهداية، لينال رضاه (عج) فرضا خالقهY.
نعم قد يكون هناك تقصيرا في فهم معنى وجود الإمام(عج)، ومعاني التهيؤ لمقدمة، مثل تقصيرنا في وعي المعاني الهادية الأخرى لوجود الإمام المعصوم، لكن هذا ليس ذنب العقيدة، إنما هو ذنب المعتقدين، أو هو طبيعة الناس في التفاوت بالوعي، أو قصورهم عن بلوغ تمام معانيه، لذا يبقى في معاني الهداية التكوينية حيزاً للتفاوت بين الناس في الوعي.
وأيضاً أن الإمام (عج) غائب، لكنه موجود في ساحة العقيدة، حيث هناك ثقافة خاصة بمعنى الغيبة، وعلامات الظهور، وزمن الظهور، وشعارات ثورته، وموجباتها، وكيفيات فعله، وهناك خطط بينتها الأحاديث الكثيرة لحركته الثورية وبشكل مفصل.
فهو كالشمس حين يحجبها السحاب، تبقى تمد الحياة بالوجود والاستمرارية.
هذه الثقافة ومناقشتها بالفعل والمنطق وردها إلى القرآن شريك العصمة مع الإمام، تمثل تفعيلا لمعاني السياسة بالهداية التكوينية لوجود الإمام(عج).. ومع الانتظار يزداد تفعيل هذه المعاني.
فالمنتظِر إذا شد نفسه بالمنتظَر الثائر الكوني، إنما ينتظر ثورة واضحة المعالم والخطط والأهداف ـ وتلك هي منافضل السياسات لمجسدات الهداية التكوينية للإمام مع غيبته؛حيث تجعل المنتظر في منحى هداية الإمام دوماً لأنه متزودٌ بما يريده الإمام ومتجنبٌ لما يمكن أن يغضبه.. وتلك من معاني الكمال في إنسانية الإنسان.
فلا ينجو من عدله إلا من بايعه على الهدى، أو أذعن للحق الذي جاء به وهيأ نفسه ومجتمعه بسياسة الانتظار.