دولة الموعود ومآزق الفكر السياسي الباراديغم المهدوي باعتباره نهاية لتاريخ الاجتماع السياسي
مدخل:
تقدم دولة المهدي الموعود من خلال ما توصلنا به من نبوءات ومظاهر دولته المنتظرة شريطا يكاد يكون متكاملا عن أحوال دولته وسياسته ومشاريعه، تزخر بدلالات التزامية كبرى ، وتتمحور حول حقيقة طالما تشوق إليها البشر وشكلت حلمهم الدفين، بل والمعلن أحيانا. إنها دولة تلخص حلم البشر في القضاء على كل ألوان الظلم والجور وتؤسس لدولة العدالة بمعناها الفريد. ذلك لأن مسيرة البشرية الممتدة عبر آلاف السنين أكدت بأن خياراتها السياسية العادلة لم تعد تقوى على مواجهة أشكال المقاومات السلبية التي تعيق سير البشرية لتحقيق العدالة. حتى أن الأمر أصبح يتجه اليوم إلى نوع من ارتضاء النماذج القاصرة التي لا تبلغ بالاجتماع إلى حاق العدالة ، بقدر ما تسعى إلى الإقناع والاقتناع بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وبأن العدالة الاجتماعية والإنسانية غاية لا تدرك ، وبأن المطلوب هو الرضى بالقدر المتيسر والإغضاء عن كل الحلول الحالمة والمشاريع الطوباوية التي يتعذر تحقيقها في دنيا البشر. فالظلم والجور غدا معضلة بنيوية ، ودورته باتت مأزقا نسقيا. وإن أي حل لا يكون ثوريا سوف لن يحل معضلة الإنسان، وليس أي ثورة تقصد هاهنا في المقام ، بل المقصود قيام ثورة كونية. بهذا المعنى تحديدا نفهم لماذا عبر الخبير الأمريكي ذات مرة عن الخيار الليبرالي بأنه نهاية التاريخ وعن الرجل الليبرالي بأنه خاتمة النوع . وبينما ساد الانطباع كذلك بأن دنيا البشر هي ساحة لتزاحم المصالح والصراع بحيث بتنا نسلم منذ ابن خلدون حتى اليوم بأن الأمر حتى لو تعلق بأرقى مستويات الديمقراطية لا يعدو مجرد نمط من التغلب السياسي أكثر نعومة من ذي قبل . وبأن العصبية والتغلب هما أساس التسلط في الدولة الحديثة أيضا. إلا أن البعض لا يكاد يدرك من نموذج دولة الموعود سوى أنها ارتقاء بفكرة المستبد العادل إلى منتهاها.
وعليه تعين وضع ما به امتياز دولة الموعود وتحريرها من سلطة الإسقاطات المنهجية والأيديولوجية التي تتيحها النماذج السياسية الراهنة والتاريخية، باعتبار أن دولة المهدي هي في نهاية الأمر ليست نموذجا تاريخيا مستعادا ، بل هي نموذج مستقبلي لم يطبق ولم يكن في مكنة الشروط التاريخية ما يسند هذا الحلم الذي يعبر عن رشد البشرية وقوة إمكاناتها. إنها بهذا المعنى تلخص كل آمال الأنبياء والرسل والمصلحين عبر التاريخ، إنها لحظة التطبيق الأولى لكبرى القيم الإلهية والإنسانية على الأرض، لذلك كانت وعدا ، ليس للمسلمين فقط ، بل هي وعد للبشرية جمعاء منذ آدم حتى يومنا هذا.
ما سنبحثه في هذه الورقة يتعلق بما هو محل تميز دولة الموعود وخصائصها لا سيما إزاء ذلك الشكل الذي توحي به عند النظرة الأولى، نعني المستبد العادل. وأيضا إبراز ملامح الجدة والمستقبلية والتاريخانية في هذا النموذج الرسالي المشرق. وأيضا توضيح جانب الخاتمية كأساس تغدو فيه دولة المهدي ضرورة أكثر من كونها ضرورة سياسية، بل ضرورة حضارية كونية؛ ضرورة يفرضها الاجتماع الإنساني. ليس من حيث أنها خاتمية الرسالة بل من حيث هي تمامها الذي لا يتقوم إلا بوجود إمام مخلص يحقق ما لم ينجز بعد. لذا كانت تمام النعمة.
دولة المهدي باعتبارها نهاية التاريخ والمهدي باعتباره الرجل الأخير
ليس جزافا أن سمى فوكوياما محاولته الكلاسيكية : نهاية التاريخ والرجل الأخير قبل أن يخفف من غلوائها ويتراجع عن مضمونها الجزافي نحو من التراجع. إنها صياغة تحمل شحنة تحيل على أكثر أشكال الإيمان رسوخا في وجدان الإنسان الحديث. لقد قدمت اللبرالية نفسها تعبيرا عن التجسيد المقدس عن حلم البشر بالعدالة والحرية. واستمرت كذلك مع نجيبتها النيوليبرالية بوصفها نهاية تجسد هذا الحلم. هكذا استندت الليبرالية على تقديم نموذجها باعتبارها وعد الله على الأرض ، ومظاهر عدن متحققة بقوة العمران وجاذبية هذا النمط الأبيقوري الذي جعلها تستقوي بمظاهر الاستهلاك والرفاهية والعيش الكرنفالي، مما يحجب كل أشكال العذابات والتدمير الممنهج للإجتماع والبيئة وسلطة التهميش لأغلبية البشر من أن يكونوا شركاء في الحد الأدنى من الثروة والموارد والخيرات. وهي بالتأكيد ضريبة هذه الكرنفالية الدائمة لعدد محصور من النوع يبني رفاهيته فوق عذابات أغلبية المعمورة. العنوان الأخير هو نوع من الشماتة والسخرية المقنعة بهذه الملايين المعذبة والمهمشة في المراكز والأطراف، حيث راهنوا طيلة الحرب الباردة على نموذج أكثر عدالة لينقلهم إلى بعض من تلك الرفاهية التي يحتكرها الأقلون في عالم النيوليبرالية المشحون بكل قيم التغلب والسيطرة والقمع والتحرش بالسياسات الاجتماعية الضامنة لحرية وكرامة هذه الشريحة الأغلبية من المجتمعات. إن سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار سور برلين كانا نقطة الانطلاقة لهذا النوع من الطرحات التي تسعى إلى انتزاع الاعتقاد من وجدان البشر بإمكان انبعاث دولة العدالة الاجتماعية من نموذج ما هو بالتأكيد خارج تحكم الفكر السياسي النيوليبرالي. كذلك سعى فوكوياما للقول بأن النموذج اليوم هو هاهنا ، وبأن الغلبة للمعسكر الشرقي هي الحجة البالغة على انتصار الليبرالية . بل هي نفسها ذلك الحلم الذي تنتظرونه. لذا كانت برسم تاريخانيته المغالطة نهاية تاريخ النماذج وكان الرجل الليبرالي والأمريكي هو الرجل الأخير.
لعله من المفارقة أن تسعى اللبرالية عبر الخطاب الفوكويامي إلى فرض نموذجها الحالم بغلب الأيديولوجيا وتداعيات الهيمنة الآحادية عشية نهاية الحرب الباردة. وقد كان هذا منتهى الشطط في إرادة الهيمنة على الوجدان والعقول والضمائر ، مع أن لحظة هذا الاستئثار الأيديولوجي كانت هي أسوء لحظة وآلمها على المجتمع الدولي. هذا دون أن نتحدث عن تداعياتها المدمرة التي اتجهت بالعالم نحو مزيد من التفقير والتدمير حتى لتلك المكتسبات التي حققتها البشرية عبر نضالاتها الحقوقية والتحررية. لم يصاغ هذا النموذج الخلاصي الفوكويامي في وجدان البشرية، بل لقد أريد له أن يصاغ في دوائر الهيمنة والشطط في الاستكبار.
لم يعد اليوم وبعد مرور سنوات على إطلاق هذا الخطاب الحالم ما من شأنه أن يدعم كل المسوغات المحشدة التي ساقها فوكوياما للدفاع عن صواب أطروحته. فلقد لجأ ككل ناسج أيديولوجي على أفكار منتزعة من سياقاتها ومقاصدها لدعم خيار لا يزال وراء كل أشكال التفقير والتدمير الممنهج للاجتماع الانساني. فحتى قبل بزوغ الرأسمالية ، لم يكن الفقر يوما عاملا لتخريب الاجتماع الانساني وقيمه. لقد جاء التخريب مع شكل مزيف من أيديولوجيا الوفرة. تلك التي تعني بالملموس تقسيم العالم إلى فسطاطين: أحدهما ينعم بأقصى فرص الوفرة والآخر و هو القسم الأكبر يتأرجح بين الفقر وما تحت الفقر. لقد أظهرت الأحداث بؤس هذا الوعد الكاذب لايديولوجيا بقدر ما تنحت أيقونتها الايديولوجية بعناية، ترسم كاريكاتورا لنهاية دراماتيكية لكل أشكال الايديولوجيات. حقا إنها أيديولوجيا محتالة: أيديولوجيا نهاية الايديولوجيات!
لقد سعى هذا الأخير عبر صياغة تلفيقية من فلسفات تتناقض في مبدئها ومنتهاها مع هذه النهاية السيئة التي اكتمل نشيدها عشية انهيار المعسكر الشرقي، إلى أن يصور النيوليبرالية كحركة طبيعية قدر لها أن تواجه كل هذه المضادات لتراتبية التطور التاريخي، ما جعلها انتصارا لطبيعة الاشياء. ففي محاولة تحريفية قصوى استعار هذا الأخير المنظور الهيغلي ليغطي على أزمتين بنيويتين في المشروع النيوليبرالي: الأولى تتعلق بفلسفة التاريخ الهيغلي التي ترى تاريخ البشر هو صيرورة غير منقطعة بحثا عن الاعتبار والكرامة. وهذا المنظور حتما لم يعد مؤسسا حقيقيا للنيوليبرالية بنكهتها الفيكتورية التي حولت مفهوم الاعتراف والكرامة لينحصر في أولئك السادة الذين امتلكوا على حين غفلة وبأي شكل اتفق قدرة التحكم بثرواة الأمم وأيضا مكنهم ذلك من الاستغلال الأقصى لعموم الخلق. فالرأسمالية في أطوارها النيوليبرالية اليوم هي لحظة عارمة تقوم على مولنة الكرامة واختزال الرقي في المراكمة التي عادة ما تقوم على المضاربات المالية الوهمية المدمرة للسياسة الاجتماعية والاقتصادية. وهذا ما يقودنا إلى الأزمة الثانية حيث لم يصدقنا فوكوياما حينما جعل من الفلسفة الهيغلية رجز أيديولوجيته النيوليبرالية. إن غاية الانسان ليست اقتصادية. وهنا تصلح الهيغلية مستندا ضد النزعة الماركسية. فليس بالإمكان أن نبرر أهمية الديمقراطية لو سقطنا في هذه النزعة المادية لتاريخ التقدم البشري. صحيح قد تكون الهيغلية برسم المادية الماركسية جدلا مقلوبا يمشي على الرأس. لكن تاريخ النيوليبريالية مع كل هذا الادعاء لم يكن يوما استجابة لهذه النزعة الهيغلية بقدر ما هو معانقة لهذه النزعة المادية ؛ المادية التي جعلت من الديمقراطية اليوم وسيلة للاجهاز على آخر ما تبقى من آثار للقيم والكرامة. لم تكن النيوليبرالية هي حصيلة نضال طويل من أجل الكرامة ، بل هي نفسها ذلك الخطر المهدد للكرامة ، وبالتالي هو ما يجب الانتصار عليه.
يقول فوكوياما مدافعا عن فكرته ومنزها إياها عن زيف الأيديولوجيا:
" وبالرجوع إلى سؤالكم وعن ما أشرتم إليه من أن نظرية نهاية التاريخ هي أيديولوجيا، فإني أقول: ليست أيديولوجيا بالمعنى الذي حملته تسمية أيديولوجيا منذ زمان، إن نهاية التاريخ هي أكثر من ذلك، إنها وصف وتحليل للأسلوب وللطريقة التي يتغير بها العالم ويطور بشكل أمبريقي نظامه السياسي في الزمان "[1].
يحاول فوكوياما أن يقنعنا كما فعل في كتابه المذكور بأن ثمة رؤية أمبريقية للتاريخ يستند إليها هذا النوع من الوعد الكاذب بنهاية التاريخ عند أعتاب النيوليبرالية. والحق أن الأحداث التي رافقت هذا الاعلان لم تكن لتعزز من صدق هذه الاطروحة. إن حديثه الانشائي عن النماذج الواعدة في أسيا هي دليل على انتصار الليبرالية. وقد سعى لتبرير عظمة النموذج الاسيوي الذي قادته ثورة النمور الاسيوية، حتى لو اقتضى الحال ان يجازف هذه المرة ويقلل من نزعته الهيغلية ويتمسك بنزعة اكثر ايديولوجية وبراغماتية وهو يعزو الأبوية المنازعة لديمقراطية هذه البلدان إلى آفاق انتربولوجية خارج منطق التراتبية التاريخية التي أصر عليها منذ البداية أيما إصرار. إن فوكوياما لم يتأمل فارق النموذج لما يبرر سياسة القمع والاستبداد في المجال السياسي للنمور بكونها فرعا لأصول الأبوية ، ذلك الارث الطبيعي للسوسيوـ ثقافة السياسية لبلدان لا يهم حقا أن تكون مثالا يعزز انتصار عقيدة الانسان الأخير، طالما أن هذه الأبوية المناقضة لأصول الديمقراطية نفسها تتماشى مع الارتفاع المضطرد لمعدل النمو. وذلك حينما يستشهد هذا الأخير بكلام لكوان يوفان، رئيس الوزراء السانغافوري الأسبق" إن شكلا من الاستبداد الأبوي يتناسب أكثر مع التراثات والتقاليد الكونفوشيوسية في آسيا. والأهم أنه يمشي بشكل أفضل مع معدل النمو المرتفع، بالمقارنة مع الديمقراطية الليبرالية الغربية. فالديمقراطية في نظر لي كوان هي عقبة في طريق النمو"[2] .
إن التاريخ هنا سيكف ان يكون بحثا عن الكرامة والاعتراف ، بل هو تاريخ نشاط مادي ذي طبيعة استعراضية قابلة للانهيار الكارثي كما حدث قبل سنوات، وكما سيحدثنا أحد أبرز الفاعلين في اقتصاد المضاربات ، والمتهم الرئيسي في كارثة الانهيار الذي شهدته اقتصادات النمور قبل سنوات، حينما يقول، ليس فقط عن هذه الاقتصادات التي أظهرت أن مضاربا واحدا في حجم سوروس يمكن أن يدفع بها إلى هاوية الإفلاس، بل عن عموم النموذج الرأسمالي لما قال:" إن انهيار السوق العالمية، سيكون حدثا مؤلما يسفر عن نتائج يتعذر تصورها ، ومع ذلك أجد أن تصور الانهيار أيسر من تصور استمرار النظام الراهن"[3].
هنا الديمقراطية تصبح برسم هذه الرأسمالية الجامحة مجرد عارض غريب، وبأن الغرض متى تم ولو بدونها، فذلك هو المطلوب. ثمة مغالطة بخصوص هذه اللعبة القذرة التي تجعل من جموح غريزة التغلب والسيطرة ، طبيعة للاجتماع أيضا. وليس غريبا ما قاله تشومسكي عن هذه اللعبة القذرة لمنطق السوق:
"إن مثلا من قبيل الديمقراطية والسوق مثل جيدة، طالما أن "ميل الملعب" يضمن فوز الناس الذين يجب أن يفوزوا. أما إن حاولت جموع الرعاع رفع رؤوسها، فيجب أن يضربوا إلى أن يخضعوا بشكل أو بآخر. في العالم الثالث غالبا ما يفي العنف المباشر بالغرض. أما إذا أثرت قوى السوق على امتيازاتنا المحلية ، فسرعان ما نقذف بالتجارة الحرة في النار"[4].
الاقناع بأن النيوليبرالية ستنتصر لأنها التعبير عن طبيعة الاشياء ، سيعيدنا إلى البداية الفيكتورية التي تراجعت فترة طويلة بفعل نضالات شهدتها اوربا. إنها اهتبال وحشي لفرص تاريخية تملك النيوليبرالية قدرة خارقة على استغلالها. لكنها لم تكن هي النهاية نتيجة صمودها الطويل ، وليس بروزها لحظة الفراغ يعني أنها هي نهاية الاعتقاد. ان النيوليبرالية والرأسمالية لم تكن التعبير عن رفع القيود المكبلة للانماء، ولا هي معانقة سمحة لطبيعة السوق. بل كانت دائما نتيجة تدخل الدولة. بل يكون تدخلها في الغالب أشرس تدخل. يحدثنا جون غراي عن هذه الحقيقة بوضوح تام:
" إن السوق الحرة التي وجدت في بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر لم توجد مصادفة كما أنها على نقيض التاريخ الاسطوري الذي يروج له اليمين الجديد لم تنشأ من تطور طويل غير مخطط ، وإنما كانت صناعة يدوية للسلطة وفن الحكم"[5].
لم يكن فوكوياما في حاجة إلى أن يعلم البشرية ماهية الليبرالية التي عرفوا كل مظاهرها السلبية واصطفافها ضد العدالة الاجتماعية وكوارثها الاجتماعية و الثقافية والبيئية. فإذا كان واقع الليبرالية قد صنع عوالم الفقر وما تحت الفقر سواء في المركز أو المحيط في عز حربه الباردة ضد خصيمه السوفياتي، فماذا لو خلا له المجال واستفرد بالاستكبار ولم يوجد له من رادع أو أن يوجد في هذا الصراع المدمر للبشرية من يخلق شكلا من التوازن يعيق استفراده بالنوع ويؤجل أجندته النهائية. وبالفعل إن سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة كان له الفضل في انهيار كل أشكال السياسة الاجتماعية ليس في الاتحاد السوفياتي فحسب ، بل في أوربا التي أدخلت مجتمعاتها في دورة نيوليبرالية غير مقدور عليها بالنسبة للعقل السياسي الأوربي ، مما جعل حركة الاحتجاج والثورة تنطلق هذه المرة من هوامش أوربا ضد ذلك النموذج النيوليبرالي الأمريكي الذي بات يتهدد الهوية الثقافية والمقومات الاجتماعية لأوربا نفسها، تلك التي صدرت يوما نموذجها الاقتصادي والاجتماعي ليس على أساس عظمتها الليبرالية ، بل على أساس سياستها الاجتماعية التي ظلت حتى حين مدينة فيها للنموذج النقيض ، حيث كان للصواريخ الباليستية السوفياتية الفضل في حفظ هذه السياسة حتى لا يصبح للنموذج السوفياتي الاجتماعي جاذبيته تلفت انتباه مجتمعات أوربا الغربية.
يبدو أن النهاياتية تتحدد بآخر حلم بشري. فطالما ثمة ما لم يستنفذ من هذه الأحلام، ومادام أن ثمة مجموعة بشرية تنتظر ما هو أفضل ، فذلك خير دليل على أن النهاية لا تكون كونية إلا إذا تحقق معها مخرج كوني لعذابات الشعوب وانحطاط الأمم. ومع ذلك يكون خطاب النهايات نظير ما رأينا من فرنسيس فوكوياما ، على علاته وإسرافه واستعجاله أكبر دليل على أن ثمة نموذجا ما تنتظره البشرية دون أن تجد له طريقا ولا مثالا في هذا المعروض البشري المحكوم بنيويا بمظاهر الظلم والجور. أو لنعتبرها حكاية قرصان انتصب في وسط الطريق ليسرق من الموكب البشري ما تبقى لديه من حلم. ليس غريبا أن الرأسمالية سرقت الشعوب واحتلتها ونهبت مواردها. فاليوم تسعى لاحتلال وعيها وسرقة رأسمالها الرمزي المحتمل، سرقة مستقبلها بعد أن فعلت ذلك في ماضيها وحاضرها.
وإذا كان مظهر قومة الموعود هو القطيعة مع كل أشكال الجور والظلم وانطلاقا سمحا في آماد العدل والخيرات، فلا بد أن يكون آلة تحقيق ذلك هو قيام دولة عظمى ، تتميز ليس فقط في استقوائها الإيجابي الذي لا قبل لدول العالم به، بل تتميز أيضا بحسن الإدارة وقوة الإنماء والتقدم بحيث تحمل استحقاقها في مظاهر نموذجها الذي سينسخ تلقائيا كل النظم السياسية التي سوف تبدو حتما في صورة بشعة يكاد المرء يعجب كيف صمد الجهل كله والظلم كله في هذه النماذج السياسية وكيف ظلت البشرية أسيرة لهذا الانسداد السياسي الأعظم. لكن قبل الحديث عن ميزات دولة المهدي وخصائص سياسته للمدينة الموعودة لا بد أن نقف عند نقطتين أساسيتين:
إحداهما تهدف تمييز دولة الموعود عن دولة الطوبا
والأخرى ، أن انتصار دولة الموعود لن يكون بالضرورة انتصارا حربيا.
دولة الموعود ودولة الطوبا..أية علاقة
ثمة ما هو مهم في دولة الطوبا ، وهي ذلك الحلم الكبير الذي لم يبرح خيال الفلاسفة والحكماء، وهم يعبرون بصورة مثالية وذوق رفيع عما يختلج في قلوب البشر. إنها قصة الحلم بمستقبل أفضل ونموذج أكمل. لكن تفاصيل ما جاد به خيال أولئك جعلها قصة حلم فقط وليست حتمية من حتميات التاريخ. إن دولة الموعود هي كبرى الحتميات التي يفرضها منطق التاريخ نفسه . وهي كذلك بما أنها تقع في حيز الإمكان لا تعاكس الضرورة المنطقية أيضا؛ تلك الضرورة التي يعززها أيضا منطق الإيمان. إن إطلالة سريعة على بعض أحوال المدن الخيالية تضعك أمام شكل من أشكال النقص والاعورار في تدبير المدينة يؤكد على أن منطلق النقص هو كامن في بنية الخيال نفسه وتصورنا للعدالة والحقوق. إن أي حالم بهذه الطوبا لم يفعل أكثر من تجسيد مظاهر ثقافته وخبرته ودرجة خصوبة خياله . لكنه لم يتمكن من ذكر إلا نموذج يستحق أن يوصف بأنه ليس له من الجدارة إلا أن يظل خيالا مستحيل التحقق. ودولة الموعود تحمل مظاهر استحقاقها في نموذجها ومن منطق التاريخ ، بحيث ندرك لو قارنا بين كل أشكال الطوبا ودولة الموعود سنجد أن أرقى نموذج يرقى ويهذب حتى مخيلة الحالمين هي دولة الموعود كما سنجدها وحدها من بين هذه الدول الحالمة ، تتوفر على ضمانات تاريخية وجغرافية ودينية. بل إنها لا تنتمي لجنس الأدب اليوتوبي ـ طالما هي متصلة بأزمة الراهن وطالما هي ليست مجهولة المكان والشروط بالجملة ـ ، لأنها ليست كما الطوبا: أي اللامكان، بل هي دولة موعودة بحتمية التاريخ وضمانة الوحي وتحقق الجغرافيا. إن دولة الموعود لها جذر تاريخ حققي وأيضا جغرافيا سياسيا للانطلاق وأيضا ضمانة دينية.
تضعنا الأخبار الاسلامية على محددات لتشخيص الموعود وتاريخانيته وجغرافيته. وقلت تاريخانيته احترازا من الالتباس الذي قد تضفيه عبارة تاريخه، لأن التاريخ بناء على النهي عن التعيين، أمر ثابت بالجملة ومتوقف على شرائط. عدم التعيين لا يخرج الحقيقة من سياق التاريخ وفلسفته. لكن التاريخ هنا ليس محض كرونولوجيا بل هو فعل تراكمي تشارطي. وتاريخانية الظهور يعني أنها حتمية تاريخية متوقفة على جملة من الشروط.
ففي سنن ابن ماجة» (ج 4 ص 151 ط السعادة بمصر) قال: ذكر الحافظ أبو داود السجستاني في «سننه» (ج 4 ص 151 ط السعادة بمصر) قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عبدالله بن جعفر الرقي، ثنا أبو المليح الحسن بن عمر، عن زياد بن بيان، عن عليّ بن نفيل، عن سعيد بن المسيّب، عن اُم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول: المهديّ من عترتي من ولد فاطمة".. في منتخب كنز العمال: المطبوع بهامش المسند ج 5 ص 96 ط الميمنية بمصر). روي من طريق ابن عساكر عن الحسين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لفاطمة: إبشري يا فاطمة فإنّ المهديّ منك. روى بسنده عن عليّ بن هلال، عن أبيه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وهو في الحالة التي قبض فيها فإذا فاطمة عند رأسه فبكت حتّى ارتفع صوتها فرفع رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم إليها وقال: حبيبتي فاطمة ما الّذي يبكيك فقالت: أخشى الضيعة من بعدك فقال: يا حبيبتي أما علمت «إلى أن قال»: ومنّا سبطا هذه الامّة وهما إبناك الحسن والحسين وهما سيّدا شباب أهل الجنة وأبوهما والذي بعثني بالحقِّ خير منهما، يا فاطمة والذي بعثني بالحقّ أنّ منهما مهديّ هذه الامّة إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً وتظاهرت الفتن وانقطعت السبل وأغار بعضهم على بعض فلا كبير يرحم صغيراً ولا صغير يوقر كبيراً فيبعث الله عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة وقلوباً غلفاً يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به في آخر الزمان ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً الحديث[1]. حديث ابن عباس كما ورد في المناقب: لعبدالله الشافعي: ص 215 ورى بسند يرفعه إلى ابن عبّاس رضي الله عنه عن الحسين بن عليّ (عليه السلام)قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول: إنّه منّي يعني المهديّ من ولد الحسين بن عليّ. عن عبدالله بن مسعود في صحيح الترمذي: ج 9 ص 74 الصاوي بمصر. حدّثها عبيد بن اسباط بن محمّد القرشي الكوفي، حدثني أبي، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم بن بهذلة، عن زرّ، عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: لا تذهب الدّنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطي إسمه إسمي. قال أبو عيسى: وفي الباب عن عليّ وأبي سعيد وامّ سلمة وأبي هريرة هذا حديث حسن صحيح. قال: وحدثنا عبد الجبّار بن العلاء، عن عبد الجبار العطار، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عاصم، عن زرّ، عن عبدالله، عن النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قال: يلي رجل من أهل بيتي يواطي اسمه اسمي قال عاصم: حدثنا صالح، عن أبي هريرة قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتّى يلي. هذا الحديث حسن صحيح.
عن عليّ (عليه السلام)
في كتاب الاعتقاد للبيهقي: (ص 105 ط كامل مصباح) قال:
حدّثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد (رحمه الله) أنبأنا حامد بن محمّد الهروي أنبانا عليّ بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا فطر
بن خليفة عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أنّه قال: لو لم يبق من الدّنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتّى يبعث رجلا من أهل بيتي يواطي اسمه اسمي. الخ.
عن تميم الدارمي في تذكرة الحفاظ: (ج 1 ص 765 ط حيدر آباد).
قال: أخبرنا عبد الخالق [القاضي] وابنة عمّه ستّ الأهل بقرائتي عليهما ببعلبك قالا: أنبأنا البهاء عبد الرحمّن بن إبراهيم منوجهر بن محمّد، أنبأنا هبة الله بن أحمد، أنبأنا الحسين بن عليّ بن بطحاء سنة 428، أنبأنا محمّد بن الحسين الحرّاني، أنبأنا محمّد بن الحسن بن قتيبة أنبأنا أحمد بن سلم الحلبي، أنبأنا عبدالله بن السرّي المدائني عن أبي عمر البزّار، عن مجالد عن الشّعبي، عن تميم الدّرامي قال: قلت: يا رسول الله ما رأيت للروم مدينة مثل مدينة يقال لها: انطاكية، وما رأيت أكثر مطراً منها; فقال النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: نعم وذلك أنّ فيها التوراة وعصى موسى ورضاض الألواح ومائدة سليمان في غار ـ إلى أنّ قال ـ: فلا تذهب الأيّام واللّيالي حتّى يسكنها رجل من عترتي، اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، خلقه خلقي، وخلقه خلقي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
في صحيح الترمذري: ج 9 ص 74 ط الصاوي بمصر. قال: قال عاصم: وأنبأنا ابو صالح، عن ابي هريرة قال: لو لم يبق من الدّنيا إلا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يلي (يعني حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطي اسمه اسمي) وانّما لم يذكره تعويلاً على ذكره في الحديث.