10- المهدي العباسي:
بل إن المنصور نفسه قد لقّب ولده بـ «المهدي» في محاولة لصرف الناس عن محمد هذا.. فقد أرسل مولى له إلى مجلس محمد بن عبد الله، وقال له:
«اجلس عند المنبر، فاسمع ما يقول محمد. قال: فسمعته يقول: إنكم لا تشكون أني أنا المهدي، وأنا هو. فأخبرت بذلك أبا جعفر؛ فقال:
«كذب عدوّ الله، بل هو ابني»(34)..
ثم.. ومن أجل إقناع الناس بهذا الأمر؛ وجد المنصور من يضع له الأحاديث، ويكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وطبّق واضعوها «مهديّ الأمة» على ولده الذي لقبه هو بـ «المهدي»(35).
يقول القاضي النعمان الإسماعيلي المتوفى سنة 363هـ في أرجوزته:
مـن انتظاره وقـد تسـمـى بهذه الأسمـاء نـاس لـمـا
تغلبوا لـيجعلوهـا حـجـة فعدلوا عن واضح المـحـجة
إذ مثلوا الجــوهر بالأشبـاه منهم محمـد بن عــبد الله
ابن علي مـن بني العبـاس ذوي التعدي الزمرة الأرجـاس
إذ وافق الاسم تسمى«مهدي» وهذه من الدواهي عندي(36).
وقال المقدسي: «وقد قال قوم: إن المهدي محمد بن أبي جعفر، لقبه المهدي، واسمه محمد، وهو من أهل البيت الخ... »(37).
ولكننا نشك في أن يكون ثمة «قوم» قد قبلوا مهديته؛ لأننا من خلال سبرنا للتاريخ نجد: أن المهدي العباسي لم يوفق إلى من يعترف بمهديته حقاً، إلا سلم الخاسر(38) الذي كان عنده قرآن فباعه، واشترى بثمنه طنبوراً. فهو يقول في مدح المهدي العباسي:
له شيم عند بذل العطاء لا يعرف الناس مقدارها
و«مهدي أمتنا» والذي حماها وأدرك أوتارها(39)
والسيد الحميري- أيضاً هو بدوره قد كان ممن ظن أنه المهدي حقاً، لكن سيرته وأفعاله قد بينت للناس: أنه ليس هو(40).. يقول السيد رحمه الله تعالى:
ظننا أن المهدي حقاً ولا تقع الأمور كما ظننا
ولا والله ما المهدي إلا إماماً فضله أعلى وأسنى(41)
بل إن المنصور نفسه قد أنكر: أن يكون كل من ابنه ومنافسه الآخر (أعني محمد بن عبد الله بن الحسن) هو المهدي..
يقول سلم بن قتيبة:
«أرسل إليّ أبو جعفر، فدخلت عليه، فقال: قد خرج محمد بن عبد الله وتسمّى بـ «المهدي». ووالله، ما هو به. وأخرى أقولها لك، لم أقلها لأحد قبلك، ولا أقولها لأحد بعدك: وابني والله، ما هو بالمهدي، الذي جاءت به الرواية، ولكنني تيمنت به، وتفاءلت به»(42).
والخليفة المهدي نفسه يقر: بأن أباه فقط يروي: أنه المهدي الذي بعده في الناس(43)..
هذا.. وقد ادعت فرقة المهدية لـ:
11- الإمام الصادق(ع):
بعد موته(44)، وقد مات عليه السلام سنة 148 هـ. وفرقة ادعتها لـ:
12- الإمام الكاظم(ع):
بعد موته (45)، وفرقة ادعت: أن:
13- محمد بن إسماعيل بن جعفر(ع):
المتوفى سنة 198هـ. هو المهدي(46). وكان:
14- محمد بن جعفر:
يرجو أن يكون هو المهدي لعلامات رآها حاصلة فيه(47).
ويأتي بعد القرن الثاني:
15- محمد بن القاسم:
الخارج على المعتصم بالطالقان، فقد ادعي أنه هو المهدي(48) وفرقة قالت: إن :
16- يحيي بن عمر:
الخارج على المستعين، هو المهدي(49). وفرقة قالت: إن:
17- الحسن بن القاسم:
المقتول سنة 404هـ. هو المهدي(50).
كلمة جامعة:
وأخيراً.. فيكفي أن نذكر: أن أحمد أمين المصري، المنكر للمهدية يقول: «ففي كل عصر يخرج داعٍ أو دعاة كلهم يزعم: أنه المهدي المنتظر»، ويلتف حوله طائفة من الناس، كالذي كان من المهدي رأس الدولة الفاطمية، وتقرأ تاريخ المغرب، فلا يكاد يمر عصر من غير خروج مهدي..»(51).
ويقول:
«ولو أحصينا عدد من خرجوا في تاريخ الإسلام، وادعوا المهدية، وشرحنا ما قاموا به من ثورات، وما سببوا من تشتيت للدولة الإسلامية، وانقسامها، وضياع قوتها، لطال بنا القول، ولم يكفنا كتاب مستقل»(52).
ولقد كان المدّعون للمهدية في أهل السنة كثيرون، بل وأكثر من المدّعين لها من الشيعة على اختلاف فرقهم. ولقد تنبأ أهل بيت العصمة عليهم الصلاة والسلام بهؤلاء الكذابين، وأشاروا إلى كثرتهم هذه في كلماتهم المختلفة..
مع ما تقدم:
وهكذا.. فإننا إذا راجعنا التاريخ الإسلامي بإمعان، فإننا نرى: أن علماء الأمة ومفكريها، على اختلاف اتجاهاتهم، وثقافاتهم، ونحلهم، ومنهم: الفقهاء، والمحدثون، والمتكلمون، والمؤرخون.. وغيرهم وغيرهم.. قد بخعوا لهذا الأمر، وقبلوا به، وإن ناقش منهم مناقش فإنما يناقش في انطباق «المهدي الموعود» على هذا الشخص أو ذاك، لا في أصل المهدية..
وذلك يدل على أن هذا الأمر لم يكن عفوياً، ولا يمكن أن يتصور: أن يتفق الجميع ابتداء من عصر الصحابة والتابعين على الاعتقاد بأمر غريب عن الإسلام، ودخيل عليه.. ولا سيما ونحن نرى: أن في طليعة المتحمسين لهذا الأمر، والباذلين دماءهم في سبيله هم المعتزلة التقدّميّون، أصحاب المذهب العقلي، والذين يقيسون النصوص الدينية على عقولهم، ويخضعونها لحكمه.. الأمر الذي لا يبقي مجالاً للشك في كون هذه القضية قضية إسلامية، لا مجال للنقاش، ولا للتشكيك فيها على الإطلاق..
المعتزلة.. والمهدية:
قال أحمد أمين المصري:
«.. وكنت أنتظر من المعتزلة كشف النقاب عن هذا الضلال، إلا أني مع الأسف لم أعثر على شيء كثير في هذا الباب.. ولكنني أعرف: أن الزيدية (وهم فرع من فروع الشيعة، الذين تأثروا تأثراً كبيراً بتعاليم المعتزلة، لأن زيداً رئيسهم تتلمذ لواصل بن عطاء زعيم المعتزلة) كانوا ينكرون المهدي والرجعة إنكاراً شديداً. وقد ردّوا في كتبهم الأحاديث والأخبار المتعلقة بذلك»(53).
ونحن بالنسبة لما ذكره أحمد أمين نشير إلى نقطتين:
الأولى: إن ما ذكره عن الزيدية لا ريب في بطلانه؛ فإن محمد بن عبد الله ابن الحسن، المدعي للمهدية وقد قُبل ذلك منه على أوسع نطاق في الأمة كان زعيم الزيدية، ومقدمهم..
كما أن المذهب الكلامي الشائع في الزيدية هو «الجارودية»، وهي أعظم فرقهم، ويقول نشوان الحميري:
«ليس باليمن من فرق الزيدية غير الجارودية، وهم بصنعاء، وصعدة وما يليهما»(54).
والجارودية يعتقدون بالمهدية، كما هو معلوم لمن راجع كتب الفرق ومنهم من ينتظر محمد بن عبد الله بن الحسن، ومنهم من ينتظر محمد بن القاسم، ومنهم من ينتظر يحيى بن عمر(55).
وأما غير الجارودية فلم نجد تصريحاً لهم بنفي المهدية، ومجرد سكوتهم عن التعرض لها لا يدل على إنكارهم لها.. وعلى كل حال فإن كلام أحمد أمين هذا لا يمكن أن يصح. ولا يصلح للاعتماد عليه في شيء..
الثانية: إننا نعلم قبول المعتزلة، وتسليمهم بالمهدية، حتى إن أحمد أمين لم يستطع أن يجد منهم أية بادرة، أو أي تساؤل حول هذا الموضوع.. بل لقد وجدنا أن شيوخهم، ورؤساءهم كعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وغيرهما كانوا دعاة لمحمد بن عبد الله، وهو لا يزال شاباً،وقد جاؤا ليحاجوا الإمام الصادق(ع) في أمره حسبما أشرنا إليه. وكان ادّعاء «المهدية» له هو الذي يزيد دعوته قوة واتساعاً، ولم ينسوا بعد ادّعاء المهدية لابن الحنفية، وموسى بن طلحة، وعمر بن العزيز، وغيرهم نعم لقد كانوا من أعوان محمد وأنصاره، وعرضوا أنفسهم للأخطار الجسام في سبيل دعوته.
قال القاضي عبد الجبار: فأما إبراهيم بن عبد الله، فقد كان في العلم والفضل إلى حدّ، فخرج على أبي جعفر المنصور، والذي معه هم وجوه المعتزلة، فلو لم يكن فيهم وهم خلق إلا بشير الرحال مع زهده وعبادته لكفى(56) ومعلوم أن ثورة إبراهيم كانت امتداداً لثورة أخيه محمد، وبأمر منه، ونصراً له. وكان المنصور يقول: «ما خرجت عليّ المعتزلة حتى مات عمرو بن عبيد»(57).
نعم.. وإن قبول المعتزلة لهذا الأمر، بل وتحمسهم له، ليدل دلالة قاطعة على أن هذا الأمر هو من صميم الإسلام، وأنه كان شائعاً ومشهوراً منذ القرن الأول، الذي عاش فيه الصحابة والتابعون.. وقد بلغ ذلك من القطعية والوضوح بين العلماء والمفكرين حداً لم يمكن معه حتى لهؤلاء الذين كانوا كما يعتبرهم أحمد أمين وغيره عمالقة الفكر والعقل، والذين ناقشوا أدق المسائل، وأعطوا رأيهم فيها بكل حرية وقوة لم يمكن لهم أن يسجلوا ولو تساؤلاً واحداً حتى ولو نادراً حولها، رغم نزعتهم العقلية القوية، وإخضاعهم النصوص الدينية للمقاييس العقلية كما ألمحنا إليه.
بل لقد تجاوزوا ذلك إلى تأييد مدّعي المهدية، وكانوا من الدعاة إليه على أعلى مستوى فيهم. كما تقدم.
السياسيون.. والمهدية:
هذا.. ولا بد من الإشارة أخيراً: إلى أنه لم يكن يسعد الحكام والسياسيين:أن يلتزم الناس بعقيدة كهذه، ولو كان بوسعهم إنكارها لبادروا إليه، لأنهم إنما يحكمون الأمة باسم الدين، ولأن إيمان الأمة بهذه القضية:
1- يعطى الحق في الحكم والسلطة لغيرهم.. و
2- يشير بأصابع الاتهام إليهم، على أنهم غاصبون ظالمون.
وقد رأينا: أن معاوية قد حاول إنكار ذلك؛ فاصطدم بجواب ابن عباس، الذي أفهمه: أن محاولته هذه لن يكون حصادها إلا الفضيحة له، وتعريته أمام الناس، لأن الكل يشهد: أن لأهل البيت ملكاً لو لم يبق إلا يوم واحد ملكه الله فيه، بحيث يكون الإقدام على المساس بها مجازفة مجنونة، لا مبرر لها، ولا منطق يساعدها على الإطلاق..
كما أن المنصور لم يستطع مقاومة هذا الأمر فاحتال لذلك بادعائه المهدية لابنه.وحسبنا ما ذكرناه هنا.. والحمد لله وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــ