في خضمّ الصراع الأبدي بين النور الإلهي المتمثّل بنور العقل والأنبياء والعلماء ، وبين خداع الشيطان ، ومحاولة الطغاة ؛ لتغييب الأنبياء ودورهم ، وقتل الأولياء ، في هذا الخضمّ جاءت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) .
فقد تفجّرت هذه الثورة الربّانيّة في الواقع كحركة تصحيحيّة كبرى ، وحركة مكمّلة ومتمّمة لحركة الأنبياء جميعاً ؛ لتكون ميزاناً بين الحقّ والباطل ، وبين علماء الله ووعّاظ السلاطين .
وهي نهضة وقيام ، ومسيرة وملحمة ، ومهما تمادينا بالوصف ما بلغنا عشر معشار حقيقتها .
ولكن الإمام الصادق (عليه السلام) يعلمنا كيف نخاطب عملاق هذه الثورة ، فنقف ونقول : (( السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله ، السلام عليك يا ورارث نوح نبي الله ...)) .
فالذي يعرف تاريخ آدم وقصّته ، يعرف مدى آفاق هذه الكلمة , إذ هو وارث مَنْ أسجد الله له الملائكة أجمعين ، وهو وارث النبي نوح شيخ المرسلين (عليه السلام) ، الذي أنجاه الله تعالى من الطوفان ، وجعله أبا للبشريّة الجديدة ، وهو وارث النبي إبراهيم (عليه السلام) محطّم الأصنام ، وصاحب الملّة المسلمة ، وهو وارث النبي موسى (عليه السلام) الذي دمّر عرش فرعون ، وهو وارث النبي عيسى روح الله (عليه السلام) وكلمته ، وهو وارث جميع الأنبياء والرسل بما يمثّلون من رسالة إلهية عظمى ، وآخرهم النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) .
ولذلك فإنّ الواحد منّا بحاجة إلى أسفار وأسفار نكتب فيها عن السرّ الأعظم الذي استطاع به الإمام الحسين (عليه السلام) تلخيص تاريخ كلّ النبوّات في لحظات ، وحقيقة تاريخ الصراع الأزلي بين الحقّ والباطل .
إنّ الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) قد ختم الصراع بين الحقّ والباطل لمصلحة الحقّ ، بخاتم النصر ، والفتح المبين ، وكانت شهادته ميعاداً للأنبياء ـ وموعداً لهم مع النصر الأبدي المؤزّر .
الصفحة (2)
إنّ النصر الحسيني أنضمّ إليه كلّ المجاهدين عبر التاريخ ، فحاربوا الطغاة وقمعوهم ، وأسكتوهم وأنزلوهم عن عروشهم ، فأصبح الإمام الحسين ثار الله والحبل المتصل بكلّ السنن الإلهية ، وبملكوت السماوات والأرض .
وهو الذي خصّه نصّ الزيارة الواردة عن الأئمّة المعصومين ، والذي ينعت الحسين بأنّ السماوات والأرض بكتا مقتله الشريف ؛ أي إنّ السماوات والأرض قد تجاوبتا مع حركة الإمام الحسين (سلام الله عليه) ، فساعدتا ونصرتا مَنْ نصر الحسين ، وهذا معنى بكاء السماوات والأرض .
ثمّ السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره ، والوتر الموتور ، أي إنّ هذه القتلة ، وهذه الشهادة ، وهذا الدم الذي أُريق لا يمكن أن ينتهي إلاّ بانتصار الحقّ كلّه على الباطل كلّه ، فهذه الكرة الأرضية يجب أن تُطهّر من كلّ فاسق وفاجر ، ومنافق وجائر .
إنّ العلماء الربانيّين الذين أتقنوا الدرس جيداً فأصبحوا مصابيح للأمّة الإسلامية ، لم يحملوا ولن يحملوا سوى راية الثورة الحسينيّة ؛ لأنّها مصدر طاقتهم ووقودهم ، فكان الواحد منهم يتمنّى أن يُقتل في سبيل الله ؛ فيحذو حذو سيّد الشهداء (عليه السلام) ؛ ليكون فداءاً لدين الله .
ولولا تضحيات هؤلاء العلماء لما قام للمسلمين قائمة ، ولكان طواغيت الزمان يحرمون الناس من الهواء الذي يتنفسونه ، فكان علمهم وتضحيتهم وشهادتهم هي التي فضحت الطواغيت والشياطين .
وكم رأينا من العلماء الشهداء الذين حملوا أرواحهم على أكفّهم يتوقعون الشهادة في كلّ حين ، فكانت شجاعتهم وبطولاتهم ، وهممهم وعلوّ طموحهم ، قد حوّلهم إلى صروح شامخة بوجه كلّ سلطان طاغوت وشيطان مارد . فهم حافظوا على اتقّاد المصباح المنير للأمّة .
ومن مقابل ذلك ، فضحت حركة الإمام الحسين (عليه السلام) علماء السوء الذين تتعدد أنواعهم :
فمنهم مَنْ كان يتخفّى وراء الصلاة في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ويدّعي أرجحيتها على الالتحاق بركب الحسين (عليه السلام) ، غافلاً أو متغافلاً
الصفحة (3)
عن قوله سبحانه وتعالى : ( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ )(1) .
وهناك صنف آخر من علماء السوء يتذرّع بأسلوب الإصلاح الداخلي ، فيقول : نذهب مع السلاطين ؛ لكي نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، ونقضي بالحقّ ، ولكنّه يعرف قبل كلّ فرد بأنّه سينخرط شيئاً فشيئاً في مسيرة يزيد وابن زياد ؛ ليكون كشريح القاضي الذي أفتى بقتل ابن رسول الله وأصحابه .
فالإمام الحسين (عليه السلام) ترجم عملياً قول النبي (صلّى الله عليه وآله) : (( إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فبئس العلماء وبئس الملوك )) ، كما ترجم قول أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح حينما ولاّه القضاء : (( يا شريح ؛ جلست مجلساً لا يجلسه إلاّ نبي ، أو وصي نبي ، أو شقي )) ، ولكن شريح لم يع الدرس ، أو تغافل عنه عن سابق إصرار ، فكان الأمر بحاجة إلى وضوح وتجسّد ومثال ظاهر للعيان .
وبحركة الإمام الحسين وثورته وضعت النقاط على الحروف ، واكتشف الناس واقعهم وحقيقتهم ، فكانت لله الحجّة البالغة عليهم .
كما فضح سيّد الشهداء نوعاً آخر من العلماء الذين ارتأوا بالاعتزال السلبي عامل خلاص من الفتنة ، والمحنة والابتلاء الإلهي ، فأقنعوا كثيراً من الناس بمقولة : ما لنا والدخول بين السلاطين ، التي يختلط في طيّاتهم الحقّ بالباطل ، وتتأتى فيها الفرصة الذهبية لأهل الباطل فيقضون فيها على أهل الحقّ ، تماماً كما خان الناس مسلم بن عقيل ، وسلّموه إلى ابن زياد وحيداً فريداً ، وذلك حينما علموا منه أنّه لا يعدهم بالمال ، وتوفير المصالح الشخصية والدنيوية .
لقد علّمت حركة الإمام الحسين (عليه السلام) الناس بأن لا يتركوا قادتهم وعلماءهم في ساعة العسرة ؛ لأنّ الأمر سينتهي بهم كما انتهى بأهل الكوفة ، الذين قتل ابن زياد قادتهم ، ثمّ تفرّغ لهم ، فراح يكيل لهم الضربة بعد الضربة ، والظلم تلو الظلم .
ـــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة / 19 .
الصفحة (4)
ورغم ذلك نرى إنّ سيّد الشهداء خاطبهم في خضمّ واقعة كربلاء بندائه : (( يا شيعة آل أبي سفيان ؛ إن لم يكن لكم دين ، فكونوا أحراراً في دنياكم )) ، فالذي لا يدافع عن القيادة الحقّة ليس من شيعتها ، وإنّما من شيعة القيادة الباطلة المتجسّدة بالسلوك الأموي والمخطّط له ، وهو أبو سفيان (لعنه الله) .
ولذلك يحدّثنا القرآن عن ضرورة التفريق بين خطّ النفاق وخطّ الإيمان ، كما يحدّثنا عن الكفر والإيمان ؛ لأنّ النفاق يتماوج ويتظاهر بالإيمان ، كما إنّ القرآن الكريم يحرّضنا على ضرورة التعرّف على القيادة المؤمنة فنتبعها ، ثمّ نتعرّف على أهل النفاق والكفر فنجابههم ؛ لأنّهم لا يبطنون للمؤمنين وخطّ الإيمان سوى الكراهة والحقد ، والحسد والعزم على الظلم .
وثورة الإمام الحسين (عليه السلام) قد كشفت للتاريخ والأجيال حقيقة الخطوط ورجالاتها ، وأناطت كلّ خطّ بأشخاصه ، فكان حرياً بالمؤمنين عبر العصور أن يستضيئوا بمصباح الحسين الذي هو مصباح الهدى ، وأن يركبوا سفينة الحسين التي هي سفينة النجاة من أمواج الظلم والطغيان ، والظلام المنتشر بفعل إصرار الشياطين والطواغيت .