نفتتح هذه المقالة باستعراض تجربة أحد كبار العلماء الربّانيين فيما يرتبط بموضوعها ؛ وهو التأسي بسيّد الشهداء (سلام الله عليه) وآثاره في التقرّب من الله (عزّ وجلّ) .
العالم المقصود هو آية الله الشيخ ( جعفر التستري ) ، فهو من نوادر مراجع التقليد الذين دخلوا سلك الخطابة الحسينيّة ، فلم تصدّه مهام الزعامة الدينيّة عن الجلوس على المنبر الحسيني وقراءة المصيبة الحسينيّة ، وبيان دقائقها ومكامن المواساة فيها .
وقد جُمعت بعض تقريرات مجالسه هذه ؛ إذ لم يكن في عصره أجهزة تسجيل صوتي ، وطُبعت مترجمة إلى العربية في كتابين ، هما : ( الأيام الحسينيّة ، وفوائد المشاهد ) ، إضافة إلى كتابه القيّم ( الخصائص الحسينيّة ) الذي ألّفه أساساً بالعربية ، وتحدّث في مقدّمته عن تجربته في هذا المجال ، وسننقل لكم شذرات ممّا كتبه .
قال (رضوان الله عليه) في خطاب وجداني مؤثّر : ( إنّي أمعنت النظر في الوسائل المتعلّقة بالأئمّة (عليهم السلام) ، فرأيت أجلها فائدة ، وأعظمها مثوبة ، وأعمّها نفعاً ، وأرفعها درجة ، وأسهلها حصولاً ، وأكثرها طرقاً ، وأيسرها شرائط ، وأخفّها وأعمّها معونة ، (هي) ما يتعلّق بسيّد شباب أهل الجنّة ، ووالد الأئمّة السيّد المظلوم أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ، فرأيت له خصوصية في التوسّل إلى الله قد تفرّد بها ، وامتاز في ذلك حتى عمّن هو أفضل منه ؛ فإنّ للتفاوت في الفضيلة مقاماً ، ولوحدتهم مقاماً ، نورهم وطينتهم مقام ، والخصوصيات مقام آخر .
فرأيت في الحسين (عليه السلام) خصوصية في الوسيلة إلى الله ، اتّصف بأنّه بالخصوص باب من أبواب الجنّة ، وسفينة للنجاة ، ومصباح الهدى .
فالنبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) كلّهم أبواب الجنّة ، لكن
الصفحة (2)
باب الحسين أوسع ، وكلّهم سفن النجاة ، لكن سفينة الحسين مجراها في اللجج الغامرة أسرع ، ومرساها على السواحل المنجية أيسر ، وكلّهم مصابيح للهدى ، لكن الاستضاءة بنور الحسين أكثر وأوسع ، وكلّهم كهوف حصينة ، لكن منهاج كهف الحسين أسمح وأسهل ) .
لقد كتب آية الله التستري (رضوان الله عليه) كثمرة للحالات المختلفة التي عاشها قبل لجوئه إلى الوسيلة الحسينيّة وبعدها ؛ ولذلك جاءت عباراته مؤثرة ؛ لأنّها خارجة من قلب متّعظ عامل .
يقول (رضوان الله عليه) بعد الفقرة المتقدّمة عن خصوصية التأسي بسيّد الشهداء (عليه السلام) : ( فعند ذلك خاطبت النفس وشركاءها ، فقلت : هلمّوا إلى هذه الأبواب الحسينيّة فادخلوها بسلام آمنين ، (وهلمّوا) إلى مرساة هذه السفينة الحسينيّة فاركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إنّ ربّي لغفور رحيم ، ولتكتحل أعينكم بنور الحسين (عليه السلام) الناظر إليكم ، ثمّ ازدادوا شوقاً ، وصمموا العزم على ذلك ؛ لأنّي استشعرت من نفسي علائم الإيمان التي يئست منها سابقاً ، وعثرت بهذه الخصائص على الأعمال الصالحة .
إنّ التأسي بسيّد الشهداء (سلام الله عليه) يفتح للمؤمن التأسي الحقيقي بجميع أئمّة الهدى (عليهم السلام) ، وبالتالي بسيّدهم النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ؛ لأنّ في واقعة كربلاء المقدّسة تجلّت أخلاقياتهم جميعاً (عليهم السلام) ، ومثّلت أهدافهم السامية جميعاً ؛ ولذلك فإنّ مَنْ تترسّخت فيه روح النهضة الحسينيّة ، والمظلوميّة الحسينيّة ، وروح حمل همهما ، إنّما يكون حاملاً لجميع الأهداف الإلهية ، وساعياً لتحقيقها ؛ ولذلك كان أصحاب مولانا المهدي (عجّل الله فرجه) حسينيّين ، ويحملون شعار ( يالثارات الحسين ) ؛ لأنّهم أنصار خاتم الأوصياء (عجّل الله فرجه) ، وهو المكلّف بتحقيق أهداف جميع الرسالات الإلهية .
ولربّ قائل يقول : كيف تنظرون إلى حضور روح النهضة الحسينية في جهاد أصحاب المهدي (عجّل الله فرجه) ، وكذلك في أنصاره ؛ سواء في غيبته (عليه السلام) ، أو في ظهوره ؟
فنقول : إنّ ثورة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هي امتداد لثورة الإمام
الصفحة (3)
الحسين (عليه السلام) ، وقضية الإمام المهدي (عليه السلام) هي امتداد لقضية الإمام الحسين (عليه السلام) ، بل إنّ ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) سوف تتحقّق ثمرتها الحقيقية ونتاجها الحقيقي في زمن الإمام المهدي (عليه السلام) .
بمعنى آخر : إنّ قضية الإمام الحسين (عليه السلام) وثورته كانت لهما ثمرات وانعكاسات وآثار قصيرة المدى ، وبعيدة المدى .
أمّا الآثار التي هي قصيرة المدى ، فهي عبارة عمّا ظهر بعد انتهاء معركة عاشوراء ، واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه (رضوان الله علهيم) من تأجّج مشاعر الأمّة ، وإحياء ضميرها ، وتحرّر إرادتها بعد أن كانت خاضعة خانعة للطواغيت والظلمة والمستبدّين ؛ وذلك بكسر حاجز الخوف ، والقيام بسلسلة ثورات أدّت بالنهاية إلى الإطاحة بنظام الحكم الاُموي المستبد واندثاره .
فهذه الثورات كانت ملاصقة لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ، وإن كانت طويلة المدى من حيث الزمن .
أمّا الآثار والنتائج التي كانت بعيدة المدى ، فهي عبارة عن حضور وتفاعل دم الإمام الحسين (عليه السلام) بقوّة في واقع المسلمين ؛ حيث لازالوا يعيشون واقعة الطفّ الأليمة في الزمن الماضي والحاضر والمستقبل , وسوف تعيش الأجيال القادمة نفس الروح التي عاشها مَنْ سبقهم من المسلمين ، من حضور التفاعل الحسيني بواقعهم .
ولو نظرنا إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لوجدنا أنّ دم الحسين (عليه السلام) يمثّل لهم القيمة الكبرى ، والدافع الكبير الذي يحرّكهم ويدفعهم نحو قضاياهم المصيريّة المهمّة .
فلو لاحظنا مثلاً الثورات التي حدثت في التاريخ الشيعي ، ولا سيما في زماننا الحاضر , نجد أنّ الذي ألهمها والذي حرّكها والذي جعلها تؤتي أُكلها ما هو إلاّ دم الحسين (عليه السلام) وثورته .
حيث كان شعار تلك الثورات شعاراً حسينياً ، ومنطلقاتها منطلقات حسينيّة ، وأهدافها أيضاً أهدافاً حسينيّة ، فهذه بعض ثمار الثورة الحسينية على الأمد البعيد .
لكن النتيجة الكبرى والثمرة الكبرى لثورة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)
الصفحة (4)
سوف تظهر عند قيام الإمام المهدي (عليه السلام) ، والذي يحقّق (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) فيها أهداف الثورة الحسينية التي لم تكتمل ، ألا وهي الإصلاح التام والشامل في اُمّة جدّه (صلّى الله عليه وآله) والعالم أجمع ، وأخذ الثأر بدم الإمام الحسين (عليه السلام) ممّن رضوا بقتله ، وهم أحفادهم ومناصروهم والسائرون على نهجهم .
ولهذا ليس من الغريب أو الصدفة أن يكون يوم خروج الإمام المنتظر (عجّل الله فرجه) يوم العاشر من المحرّم ، أعني به يوم السبت العاشر من محرّم الحرام حسب ما صرّحت به بعض الروايات ؛ فإنّ فيه من الإيحاءات والبيانات والدلالات التي تبيّن وتوَضّح أنّ ثورة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) هي ثمرة تلك الثورة المباركة ، والتي تحمل نفس الروح والأهداف الحسينية الفذّة .
فكما إنّ الإمام الحسين لم خرج إلاّ من أجل الإصلاح في الأمّة ، كذلك يكون خروج الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) لا يكون إلاّ من أجل تحقيق العدل والإصلاح في الأرض بعد ما تُملأ ظلماً وجوراً .
وقد وردت أحاديث كثيرة حول ظهور الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) , منها هذا الحديث النبوي الشريف ، حيث يقول (صلّى الله عليه وآله) مشيراً فيه إلى الإمام الحسين (عليه السلام) : (( ابني هذا إمام ابن إمام ، أخو إمام ، أبو أئمّة تسعة ، تاسعهم قائمهم ، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً ))(1) .
وبما أننا نتأسّى بهذه الروح الحماسية الحسينية من عدم الركون إلى الظلم والظالمين ، والوقوف في وجوههم ، لا بدّ لنا أن نتأسى بالأئمّة الباقين (عليهم السلام) لم ينهضوا كما نهض الإمام الحسين (عليه السلام) ، بل أمروا أتباعهم بالمداراة وحسن المعاشرة ؛ لما يرونه من عدم توفّر الظروف المناسبة للقيام بمثل ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ؛ ولأنّ روح الدين والعقيدة لا زالت قائمة بوجودهم ، كما هو الحال في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما اُغتصب حقّه ، حيث كان هو الحاكم الشرعي ؛ وذلك لرجعوهم إليه وأخذ الحكم الشرعي
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) الرسائل العشر للشيخ الطوسي / 98 مسألة 29 .
الصفحة (5)
منه ، وأمّا مَنْ تربّع على كرسي الحكم ظاهراً فما هو إلاّ حاكم سياسي لا غير .
كذلك الحال في بقيّة الأئمّة (عليهم السلام) والحكّام الذين عاصروهم ، فهو لا يختلف عمّا كان في زمن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بحال من الأحوال ، حيث كانت الأحكام المستعصية تصدر فتاواها من الأئمّة (عليهم السلام) لسائر الناس ، بل في بعض الأحيان يضطر الحاكم إلى مكاتبة الإمام الذي يعاصره في مسألة قد ألمّت به فلم يعرف جوابها ، فيجبه ذلك الإمام بما هو حقّ .
كما إنّ الشرع والدين لم يصل إلى درجة ما وصل إليه في زمن الإمام الحسين (عليه السلام) حيث كاد أن يمحى من الوجود .
وبما إنّنا نعتقد أنّ نورهم واحد ، وهدفهم واحد وهو إصلاح الأمة ؛ فلذا وجب علينا الاقتداء بهم والسير على هديهم والتأسي بهم ، كما هو الحال في تأسّينا بالإمام الحسين (عليه السلام) .
فمتى ما توفّرت الظروف المناسبة للنهضة والقيام بثورة ، وأمرونا بها قمنا بذلك ، ومتى ما لم تتوفّر تلك الظروف ، ولم يأمرونا (عليهم السلام) بذلك لم نحرّك ساكناً ، بل نساير القوم بالمداراة وحسن المعاشرة ؛ للحفاظ على الثلّة المؤمنة حتى يحين الوقت .