من فضائل الإمام علي (عليه السلام )
في القرآن الكريم *
- القسم الثاني -
حكمت الرحمة
القسم الثاني :
الآية الثالثة : آية المودّة
الآية الرابعة : آية الولاية
* * * *
* الآية الثالثة : آية المودّة :
( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْرَاً إِلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) (1) .
يقع الكلام في هذه الآية على أمرين : الأوّل : في دلالتها . الثاني : في المراد من القربى .
الأمر الأوّل :
دلّت الآية المباركة على وجوب مودّة ومحبّة قرابة النبي وعترته ، وعلى ذلك إجماع الشيعة الإمامية ؛ استناداً إلى الروايات المتظافرة عن أهل بيت العصمة والطهارة , ووافقهم على ذلك جملة من علماء وأعلام أهل السنّة (2) .
ـ قال الثعلبي في تفسيره : ( وقال بعضهم : معناه إلاّ أنْ تودّوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم ، وهو قول سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب ) (3) ، إلى أنْ قال في آخر بحثه عن الآية : ( والدليل على صحّة مذهبنا فيه ما أخبرنا ... ) ، وأخرج حديثاً بسنده إلى جرير بن عبد الله البجلي ، قال :
( قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ( مَن مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً ، أَلاَ ومَن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له ، أَلاَ ومَن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً ، أَلاَ ومَن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، أَلاَ ومَن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر ونكير ، أَلاَ ومَن مات على حبّ آل محمّد جعل الله زوّار قبره ملائكة الرحمان ، أَلاَ ومَن مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان من الجنّة ، أَلاَ ومَن مات على بغض آلِ محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله ، أَلاَ ومَن مات على بغض آل محمّد مات كافراً ، أَلاَ ومَن مات على بغض آل محمّد لـــم يشم رائحة الجنّة ) ) (4) .
وهذا الحديث أورده الثعلبي كدليل على صحّة رأيه في الآية ، ممّا يدل على أنّه معتمد عليه عنده .
كما أنّ الزمخشري قد أرسل هذه الرواية إرسال المسلّمات في تفسيره ونقل الرواية بقوله : (قال رسول الله ... ) ، ممّا يدلّ على اعتقاده وجزمه بصحّة ما نقله عن الرسول الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) (5) .
ـ وقال الفخر الرازي في المسألة الثالثة من مسائله حول هذه الآية : ( آل محمّد هم الذين يؤول أمرهم إليه ، فكلّ مَن كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل ، ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله أشدّ التعلّقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أنْ يكونوا هم الآل ، وأيضاً اختلف الناس في الآل فقيل هم الأقارب وقيل هم أمّته , فإنْ حملناه على الأمّة الذين قبلوا دعوته فهم أيضاً آل , فثبت أنّ على جميع التقديرات هم الآل ، وأمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل ؟ فمختلف فيـه (6) .
ـ وروى صاحب الكشّاف : ( أنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبتْ علينا مودّتهم ؟
فقال : ( علي وفاطمة وابناهما ) ، فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وإذا ثبت هذا وجب أنْ يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم
... وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل ، فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمّد واجب .
وقال الشافعي رضي الله عنه :
يا راكِباً قِف بِالمُحَصَّبِ مِن مِنىً = وَاِهتِف بِساكِنِ خَيفِها وَالناهِضِ
سَحَراً إِذا فاضَ الحَجيجُ إِلى مِنىً = فَيضاً كَما نظم الفُراتِ الفائِضِ
إِنْ كانَ رَفضاً حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ = فَليَشهَدِ الثَقَلانِ أَنّي رافِضي ) (7) .
ـ وقال الشيخ حسن بن علي السقاف في ( صحيح شرح العقيدة الطحاوية ) : ( محبّة آل بيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فريضة عقائديّة من الله تعالى على كلّ مسلم ومؤمن ، والدليل عليها من القرآن قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْرَاً إِلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) . وأشار في هامشة على هذه الآية إلى قضيّة حسّاسة جدّاً وهي إدخاله عدداً كبيراً من علماء أهل السنّة في دائرة النصب والبغض لآل البيت (عليهم السلام ) فقال : (و قد زعم النواصب أعداء النبي وآل بيته الأطهار أنّ المراد بلفظ ( القربى ) هو الطاعة التي هي بمعنى ( القربة ) ليحرْفوا الناس عن فَهْم القرآن باللغة التي أنزله الله تعالى به ، بقصد صرف الناس عن محبّة آل البيت !! فلا تغفل عن هذا ! ) (8) .
أقول : والسقاف من علماء أهل السنّة ، فلا تغفل عن هذا !
* الأمر الثاني : في المراد من القربى :
عُلِم ممّا سبق أنّ دلالة الآية على وجوب محبّة آل محمّد عليها إجماع الشيعة الإماميّة , وبه قال سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وجملة من علماء
أهل السنّة ، بل إنّ السقاف يرى أنّ مَن يقول بغير ذلك فهو مبغض معادٍ لآل البيت ، ويرى أنّ اللغة التي نزلتْ بها الآية صريحة في المطلوب .
بقي الكلام في تشخيص المراد من آل البيت ( عليه السلام ) ، وما يهمّنا في المقام هو التشخيص الشرعي لهذه الكلمة ، سواء كان موافقاً للمعنى اللغوي أمْ أخصّ منه ، والمتابِع للروايات الشريفة يلحظ بجلاء أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) استعمل لفظ الآل والأهل والعترة في معنى واحد وهم محمّد وآله الكرام المخصوصون ، فنلاحظ ـ مثلاً ـ يوصي بالثقلين ويقول : ( إنّي تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لنْ تضلّوا بعدي ... كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ) ، فالعترة هنا هم أهل بيت النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وتقدّم فيما سبق أنّ المراد من أهل البيت هم : محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، وعرفنا أنّ هؤلاء اختصّت بهم آية التطهير ، وهم الذين خرجوا لمباهلة نصارى نجران ، وسيأتي من بعض علماء أهل السنّة التصريح بأنّ المراد من العترة في حديث الثقلين هم الخمسة أصحاب الكساء .
وكما دلّت الروايات على أنّ أهل البيت هم عترة النبي كذا دلّت على أنّهم آله الكرام :
ـ ما أخرجه أحمد بن حنبل بسنده إلى شهر بن حوشب عن أمّ سلمة : ( أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لفاطمة : ( ائتني بزوجك وابنَيك ، فجاءت بهم فألقى عليهم كساء فدكيّاً ، قال : ثمّ وضع يده عليهم ثمّ قال : اللّهم إنّ هؤلاء آل محمّد فاجعل صلواتك وبركاتك على محمّد وعلى آل محمّد إنّك حميد مجيد ، قالت أمّ سلمة : فرفعتُ الكساء لأدخل معهم فجذبه مِن يدي وقال : إنّك على خير ) ) (9) فالحديث دالّ بالصراحة على أنّ أصحاب الكساء هم آل محمّد ، وهم محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين .
ـ وقد صرّح الحاكم النيسابوري في المستدرك : بأنّ الآل وأهل البيت هم واحد ، فقد أخرج بسنده إلى عبد الرحمـان بن أبي ليلـى ، قـال : ( لقيني كعب بن عجرة فقال : أَلاَ أهدي لك هديّة سمعتها من النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .
قلتُ : بلى .
قال : فأهدها إليّ .
قال : سألْنا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت .
قال فقولوا : ( اللّهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، اللّهم بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ) ) (10) .
فالسؤال كان عن كيفيّة الصلاة عليكم أهل البيت ووقع الجواب : قولوا : اللّهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد ... ، فالسؤال عن الأهل والجواب بلفظ الآل ؛ ولذا فإنّ الحاكم تنبـّه لهذا المضمون ، فأخرج هذا الحديث في مستدركه مع أنّه موجود في صحيح البخاري ، فعلّق ليرفع اللبس عن القارئ ، قائلاً : وقد روى هذا الحديث بإسناده وألفاظه حرفاً بعد حرف الإمامُ محمّد بن إسماعيل البخاري عن موسى بن إسماعيل في الجامع الصحيح ، وإنّما أخرجتُه ليعلم المستفيد أنّ أهل البيت والآل جميعاً هم (11) .
فتلخّص أنّ الآل والأهل والعترة عناوين لمصداق واحد ، وهم : علي وفاطمة والحسن والحسين ، وعرفنا أنّ الآية دلّت على وجوب محبّة آل البيت ، فيتعيّن حينئذ أنّ القربى في الآية هم الأربعة الذين ضمّهم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) معه في الكساء .
ولعمري ! لو أنصف كلُّ باحث في بحثه ، لعرف بلا أدنى شكّ أنّ هؤلاء الأربعة لهم عناية ربّانية خاصّة ، ومقام إلهي منقطع النظير ، ولا يشكّ المتأمّل ـ خصوصاً عند ضمّ الآيات والروايات إلى بعضها البعض ـ بأنّ هؤلاء هم المحور الذي أراد الرسول مـن المسلمين أنْ يلتفوا حـوله ، ويستلهموا من نهجه ، وأنّ النجاة وطريق السعادة الإلهيّة لا تحصل إلاّ بمحبّتهم ، والتمسّك بمنهجهم ، والسير وِفق طريقتهم ، فماذا يعني نزول آية التطهير المساوقة للعصمة في حقّهم ؟ وماذا يعني الخروج بهم لمباهلة الكفّار ، مع وجود الصحابة والأزواج ؟ وماذا يعني وجـوب محبّتهم ؟ وماذا يعني وجوب الصلاة عليهم ؟ بل وماذا يعني وجوب التمسّك بهم الوارد في حديث الثقلين ، وغيرها الكثير الكثير من الآيات والروايات التي تفضي إلى نتيجة قطعيّة بوجوب اتّباعهم ( عليهم السلام ) .
إذن ، تلخّص أنّ الآية دلّت على وجوب مودّة ومحبّة قربى النبي ، وهم آل بيته الأربعة أصحاب الكساء ، وعلى هذا المعنى دلّت روايات خاصّة أيضاً :
ـ فقد أخرج أحمد والطبراني وغيرهما ، بسندهم إلى ابن عبّاس ، قال : ( لمّا نزلت ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْرَاً إِلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) قالوا : يا رسول الله ، مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟
قال : ( علي وفاطمة وابناهما رضي الله عنهم ) (12) .
كما أورد الرواية محمّد بن طلحة الشافعي (13) وصحّحها في كتابه ( مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ) (14) .
وأوردها أحمد بن عبد الله الطبري في كتابه ( ذخائر العقبى ) وجعلها دليلاً على أنّ المراد من الآية هم : علي وفاطمة وولداهما (15) .
وأوردها ابن حجر الهيتمي في ( صواعقه ) وعقّب عليها في معرض مناقشته للسند قائلاً : ( وفي سنده شيعي غالٍ لكنّه صدوق ) (16) ، فهو يعترف باعتبار الرواية من جهته ؛ لأنّه صدوق .
إذن ، فالرواية معتبرة عند بعض علماء أهل السنّة ولا غبار عليها .
ـ ومن جملة الروايات الخاصّة أيضاً ما ورد صحيحاً عن رابع أصحاب الكساء السبط الشهيد الحسن بن علي ( عليه السلام ) ، فقد أخرج الطبراني بسنده إلى أبي الطفيل خطبة الإمام الحسن بعد شهادة أبيه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، من جملتها :
( ثمّ أخذ في كتاب الله فقال : أنا ابن البشير ، وأنا ابن النذير ، وأنا ابن النبي ، وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه ، وأنا ابن السراج المنير ، وأنا ابن الذي أُرسل رحمةً للعالمين ، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وأنا من أهل البيت الذين افترض الله عزّ وجل مودّتهم وولايتهم ، فقال فيما أنزل الله على محمّد صلّى الله عليه وسلّم : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْرَاً إِلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) ) (17) .
وأورد الحديث الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) وعلّق عليه قائلاً : ( رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار ... وأبو يعلى باختصار ، والبزّار بنحوه ... ورواه أحمد باختصار كثير وإسناد أحمد وبعض طرق البزار والطبراني في الكبير حِسان ) (18) .
وأورده ابن حجر الهيتمي في صواعقه ، وقال : ( وأخرج البزّار والطبراني عن الحسن رضي الله عنه من طرق بعضها حسن ) (19) .
فالرواية إذن ، معتبرة . ولو لم تكن آية المودّة مختصّة بالأربعة من أصحاب الكساء ، وكانت شاملة للكثير من غيرهم ، لَمَا كان هناك أيّ مبرّر لأنْ يفتخر بها الإمام الحسن ( عليهم السلام ) .
ـ ومن الشواهد على اختصاص الآية بالأربعة ما أخرجه الحاكم وحسّنه بسنده إلى أبي هريرة قال : ( نظر النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى علي وفاطمة و الحسن والحسين فقال : ( أنا حربٌ لِمَنْ حاربكم ، وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَكُم ) ) .
قال الحاكم : ( هذا حديث حسن ) ، وأقرّه الذهبي في التلخيص (20) .
كما يؤيّد ما ذهبنا إليه كلُّ الروايات الواردة في محبّة علي وفاطمة والحسن والحسين ، وهي كثيرة شهيرة .
* * * *
* الآية الرابعة : آية الولاية :
( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) .
تُعدّ هذه الآية أحد أدلّة الشيعة الإماميّة على أنّ الخلافة بعد النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) تكون لعلي بن أبي طالب ، ورواياتهم متواترة بأنّ الآية الشريفة نزلتْ حينما تصدّق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بخاتمه على السائل ، وهو في أثناء الصلاة وفي حال الركوع ، لكن وطبقاً لمنهجنا في هذا الكتاب ، وهو الالتزام في الاستدلال بما ورد في كتب أهل السنّة وصحّ عندهم ؛ لذا لابدّ من النظر إلى سبب نزول هذه الآية عندهم ، ثمّ بعد ذلك نبيـّن دلالتها على خلافة علي ( عليه السلام ) ، فالكلام يقع في أمرين :
الأول : في سبب نزول هذه الآية .
الثاني : في دلالتها على الخلافة .
* أمّا الأوّل :
فقد دلّت أقوال بعض الصحابة ، والتابعين والعلماء ، من أهل التفسير والحديث ، على أنّ الآية نزلت في علي ( عليه السلام ) في تلك القضيّة الخاصّة وعلى ذلك الروايات المستفيضة أيضاً .
ـ قال الثعلبي في تفسير ( الكشف والبيان ) : ( قال ابن عبّاس ، وقال السدي ، وعتبة بن حكيم ، وثابت بـن عبد الله : إنّما يعنـي بقولـه : ( وَالذِينَ آمَنُوا الذِينَ يُقِـيمُونَ الصَّـلاةَ ) الآية ، علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ، مرّ به سائل ، وهو راكع في المسجد وأعطاه خاتمه ) (21) .
ـ و قال ابن الجوزي في ( زاد المسير ) بعد أنْ ذكر القول الأوّل في المسألة وهو أنّ الآية نزلت في علي بن أبي طالب ، وذكر إحدى الروايات الدالّة على ذلك ، قال : ( و به قال مقاتل ، وقال مجاهد : نزلت في علي بن أبي طالب تصدّق وهو راكع ) (22) .
فاتّضح من قول الثعلبي وابن الجوزي أنّ ابن عبّاس ، والسدّي ، وعتبة بن حكيم ، وثابت بن عبد الله ، ومقاتل ، ومجاهد ، كلّهم يقولون بأنّ الآية نزلت في علي ( عليه السلام ) ، وإلى هذا القول ذهب بعض العلماء أيضاً :
ـ قال أبو جعفر الإسكافي (23) ( ت : 240 هـ ) في ( المعيار والموازنة ) : ( و فيه نزلت : ( إنّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالذِينَ آمَنُوا الذِينَ يُقِـيمُونَ الصَّـلاةَ ويُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، تصديقاً لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ( مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ) ، إذ قرن الله ولايته بولاية رسوله ) (24) .
كما نلاحظ أنّ الزمخشري لم يُفصح عن سبب نزول الآية ، ممّا ينبئ عن حيرته في المسألة ؛ لذا نسب ذلك إلى ( القِيل ) ، فقال في تفسيـره ( الكشّاف ) : ( و قيل ... وأنّها نزلت في عليّ كرّم الله وجهه حين سأله سائل ، وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه كأنّه كان مرجاً (25) ، في خنصره ، فلم يتكلّف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته ) ، ثمّ أجاب عن إشكالٍ حاصله : كيف تكون الآية نازلة في علي وهو مفرد مع أنّ الآية جاءت بلفظ الجمع ؟
فقال : ( فإنْ قلتَ : كيف صحّ أنْ يكون لعلي رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة ؟ قلتُ : جيء به على لفظ الجمع وإنْ كان السبب فيه رجلاً واحداً ؛ ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أنْ تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقّد الفقراء ، حتّى إنْ لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة لم يؤخّروه إلى الفراغ منها (26) ) . وهذا يكشف عن أنّ القول عند الزمخشري له وجه وجيه وأنّ هكذا إشكال لا يَرِدُ عليه .
ـ وقال الجصّاص في ( أحكام القرآن ) : ( و قوله تعالى ( ويُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) يدلّ على أنّ صدقة التطوّع تسمّى زكاة ؛ لأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه تطوّعاً ... ) (27) .
ـ وقال الآلوسي في تفسيره : ( وغالب الإخباريّين على أنّها نزلت في عليّ كرّم الله وجهه ... ) (28) . وقال في موضع آخر : ( والآية عند معظم المحدّثين نزلت في عليّ كرّم الله وجهه ... ) (29) .
والروايات متظافرة مستفيضة ، نذكر للقارئ طرفاً منها :
ـ فقد أخرج الخطيب في المتّفق عن ابن عبّاس قال : ( تصدّق عليٌّ بخاتمه وهو راكع ، فقال النبي للسائل : ( مَن أعطاك هذا الخاتم ؟ )
قال : ذاك الراكع ، فأنزل الله ( إنّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ) ) (30) .
ـ وأخرج الحاكم بسنده إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قال : ( نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ( إنّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالذِينَ آمَنُوا الذِينَ يُقِـيمُونَ الصَّـلاةَ ويُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودخل المسجد والناس يصلّون بين راكع وقائم ، فصلّى فإذا سائل ، قال : يا سائل أعطاك أحدٌ شيئاً ؟ فقال : لا ، إلاّ هذا الراكع ( لعلي ) أعطاني خاتماً ) (31) .
ـ وأخرج ابن مردويه بسنده إلى ابن عبّاس قال : ( كان علي بن أبي طالب قائماً يصلّي ، فمرّ سائل وهو راكع فأعطاه خاتمه فنزلت ( إنّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ) الآية ) (32) .
والروايات مستفيضة كما قلنا ، والملاحظ أنّ ابن حجر العسقلاني في تخريجه لروايات تفسير ( الكشّاف للزمخشري ) أخرج رواية ابن أبي حاتم ، وابن مردويه والحاكم ، ولم يقدح في سندهما ، مع أنّه أخرج غيرهما وقدح في سنده ، ممّا يدلّ على قبوله بما ذكر (33) .
ومهما يكن من أمر ؛ فإنّ خبر تصدّق علي بالخاتم في أثناء الركوع له طرق متعدّدة يعضد بعضها بعضاً ؛ ولذا فإنّ السيوطي في ( لباب النقول ) بعد أنْ ذكر عدّة طرق للرواية ، قال : ( فهذه شواهد يقوّي بعضها بعض ) (34) .
فالحادثة ـ إذن ـ ثابتة والآية نازلة في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
وفي ذلك أنشأ حسّان بن ثابت قائلاً :
أبا حسنٍ تفديك نفسي ومُهجتي = وكلُّ بطيء في الهدى ومُسارِعِ
أَيَذْهَبٌ مَدحي والمحبر ضائعاً = وما المدح في جنب الإله بضائعِ
وأنتَ الذي أعطيتَ إذْ كنتَ راكِعاً = زكاة فدتك النفس يا خيرَ راكعِ
فأنــــزل فيكَ الله خيرَ ولايةٍ = فبيَّنها في نيّرات الشرائعِ (35)
* الأمر الثاني : في دلالتها على الخلافة :
دلّت الآية الكريمة على حصر الولاية في ثلاثة وهم : الله ، ورسوله ، والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ، وهو علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وتقدّم الجواب من قبل الزمخشري كيف أنّ المراد واحد واللفظ القرآني جاء بصيغة الجمع ، وهناك أجوبة أخرى تعرّض لها العلماء ، ليس غرضنا بحثها والتعرّض لها ، بل فقط أحببنا التنويه إلى أنّ هذا الإشكال غير وارد .
فلابدّ أنْ نصبّ الكلام على معنى كلمة ( وليـّكم ) الواردة في الآية ، وعند النظر في القرائن المحيطة بالآية يتّضح أنّ المراد من الولــي هنا هو : مَنْ له حقّ التصرّف في شؤون الأمّة الإسلاميّة ، من قبيل ما جاء في حقّ الرسول الأكــرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ... ) [ الأحزاب : 6 ] ، فهذه الأولويّة الثابتة لرسول الله ، ثابتة لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بموجب هذه الآية الكريمة ، ولا يمكن حمْلها على النصرة ، أي أنّ المراد : أنّ النصرة محصورة بموجب أداة الحصر ( إنَّمَا ) بالله والرسول وعلي ( عليه السلام ) ؛ لأنّ النصرة عامّة ومطلوبة من كلّ المؤمنين ، كما جاء في الذكر الحكيم : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... ) [ التوبة : 71 ] .
مضافاً إلى أنّ ذيل الآية لا ينسجم مع تفسير كلمة ( وَلِيُّكُم ) بـ ( ناصركم ) ؛ لأنّ النصرة مطلوبة على كلّ حال ولا يمكن أنْ تكون متّصفة بحال الركوع ، سواء فسّرناه بالركوع الحقيقي أو المجازي وهو الخشوع ؛ لأنّ المؤمن ناصر لأخيه المؤمن ، سواء في حال الركوع أَم غيره ، فتكون هذه الإضافة لغواً ، ولا قيمة لها وحاشا لله ذلك فلابدّ ـ إذن ـ أنْ نحمل الولاية على ولاية الأمر والتصرّف ، ويكون ذيل الآية مبيِّناً لصفات ذلك الولي ، وتلك الصفات ـ كما اتّضح ومرّ ـ لا تنطبق إلاّ على عليّ ( عليه السلام ) ، فيتعيّن أنّ المراد من الولاية هي ولاية الأمر وهي الإمامة والخلافة ، ويكون وليّ الأمر والإمام الشرعي بموجب ما تقدّم هو علي بن أبي طالب ، وأداة الحصر دالّة على نفي مَن يكون خليفة في عرضه .
وحتّى لا يطول بنا المقام فإنّا نقف عند هذا الحد من ذكْر الآيات القرآنيّة الشاملة لعلي أو المختصّة به ؛ إذْ ليس غرضنا استيفاء ذلك ؛ لذا نتوقّف عن ذكْر بقيّة الآيات ، كآية البلاغ والإكمال وغيرهما ، ونحيل مَن شاء المراجعة والتفصيل إلى الكتب المختصّة فـي ذلك ، مثل : ( دلائل الصدق ) للمظفّر ، و ( عبقات الأنوار ) للنقوي ، و ( الغدير ) للأميني ، وغيرها ، ومنه تعالى نستمدّ العون والتسديد .
ـــــــــــــــــــــــــ
* اقتباس : قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنَين ( عليهما السلام ) للتراث والفكر الإسلامي ، من كتاب : أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) في كتب أهل السنّة ، تأليف وتحقيق : حكمت الرحمة ، الناشر : مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة ، الطبعة : الأولى 1424 هـ / 2004 م . ( مع تصرّف يسير ) .
(1) الشورى : 23 .
(2) ينبغي الالتفات إلى أنّ وجوب مودّة آل البيت هي ضرورة إسلاميّة متّفق عليها بين المسلمين بكلّ طوائفهم , لكنّ الخلاف هل أنّ هذه الآية أحد الأدلّة على ذلك أم لا ؟ فأجمعت الشيعة على أنّها أحد أدلّة ذلك ، ووافقهم جملةٌ من علماء أهل السنّة عليه .
(3) تفسير الثعلبي : 8 ، 310 ، دار إحياء التراث .
(4) تفسير الثعلبي : 8 ، 314 ، دار إحياء التراث .
(5) انظر: ( تفسير الكشّاف ) للزمخشري: 4، 220، ونقله عنه القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن): 16 / 22، دار الكتاب العربي .
(6) وسيأتي منّا في الأمر الثاني حول هذه الآية بيان معنى الآل فانتظر .
(7) تفسير الفخر الرازي : مجلد14 ، ج27 ، ص167 ، دار الفكر .
(8) صحيح شرح العقيدة الطحاوية : 653 ، دار الإمام النووي ، الأردن .
(9) مسند أحمد : 18 / 314 ، حديث رقم : (26625) ، دار الحديث ، القاهرة .
(10) مستدرك الحاكم : 3 / 148 ، دار المعرفة ، وانظر : ( صحيح البخاري ) : 4 / 118 ، دار الفكر .
(11) مستدرك الحاكم : 3 / 148 ، دار المعرفة .
(12) فضائل الصحابة : 2 / 669 ، مؤسّسة الرسالة ، وجاءت الرواية بلفظ : ( مَن قرابتنا هؤلاء ... ) ، والمعجم الكبير : 11 / 351 ، دار إحياء التراث .
(13) قال عنه السبكي في ( طبقات الشافعيّة الكبرى ) : تفقّه وبَرَع في المذهب ... وكان من صدور الناس ، انظر : الطبقات : 8 ، 63 .
(14) مطالب السؤول : 1 / 38 .
(15) انظر : ( ذخائر العقبى ) : 25 ، عن نسخة دار الكتب المصريّة .
(16) الصواعق المحرِقة : 259 ، دار الكتب العلميّة .
(17) المعجم الأوسط : 2 / 337 ، دار الحَرَمَين ، القاهرة .
(18) مجمع الزوائد : 9 / 146 ، دار الكتب العلميّة ، بيروت .
(19) الصواعق المحرِقة : 259 ، دار الكتب العلميّة .
(20) المستدرك على الصحيحَين : 3 / 149 ، دار المعرفة ، وبهامشه تلخيص الذهبي ، وأخرج هذا الحديث أحمد في ( مسنده ) : 2 / 442 ، دار صادر ، وابن أبي شيبة في ( مصنّفه ) عن طريق زيد : 7 / 512 ، دار الفكر ، وابن حبّان كذلك في ( صحيحه) : 15 / 434 ، مؤسّسـة الرسالة ، والطبراني في (المعجم الكبير) بكلا الطريقَين : 3 / 40 ، دار إحياء التراث ، نشر مكتبة ابن تيمية ، وغيرهم .
(21) تفسير الثعلبي : 4 / 80 ، تفسير آية : 50 ، من سورة المائدة .
(22) زاد المسير : 2 / 292 ، دار الفكر ، بيروت .
(23) قال عنه الذهبي : ( وهو العلامة أبو جعفر محمّد بن عبد الله السمرقندي ، ثمّ الإسكافي المتكلّم ، وكان أعجوبة في الذكاء ، وسعة المعرفة مع الدين والتصوّن والنزاهة ) . انظر : ( سير أعلام النبلاء ) : 10 / 550 ، مؤسّسة الرسالة .
(24) المعيار والموازنة : 228 .
(25) كأنّه كان مرجاً : أي قلقاً غير ثابت .
(26) تفسير الكشّاف : 1 / 649 ، تفسير الآية : 55 ، من سورة المائدة .
(27) أحكام القرآن : 2 / 558 ، دار الكتب العلميّة .
(28) تفسير روح المعاني : 6 / 167 ، دار إحياء التراث العربي .
(29) المصدر نفسه : 6 / 186 .
(30) الدر المنثور للسيوطي : 3 /104 ، دار الفكر .
(31) معرفة علوم الحديث : 102 ، دار الآفاق الجديدة .
(32) تفسير ابن كثير : 2 / 74 ، دار المعرفة .
(33) تفسير الكشّاف : 1 / 649 ، الحاشية .
(34) لباب النقول : 81 ، دار الكتب العلمية .
(35) انظر : ( شواهد التنزيل ) للحاكم الحسكاني : 1 ، 236 ، و ( نظم درر السمطين ) : 88 .