تفسير آخر للاِرادة بالتكوينية :
ما ذكرناه في كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد، جواب عام سار في
[ 92 ]
جميع الموارد ورافع للاِشكال في مجال الجبر، وانّ من أعضل الموارد في الجبر والاختيار ، هي تحليل كيفية تعلّق إرادته بأفعال العباد وانّه : هل يوجب الجبر ويسلب الاختيار، باعتبار انّ إرادته لا تنفك عن المراد، أم لا ؟ لاَنّ إرادته تعلّقت بصدور أفعالهم عن أنفسهم عن مبادئها المكونة فيهم وهي إرادتهم واختيارهم، فلو صدرت عنهم بلا هذه الخصوصية لزم انفكاك إرادته عن مراده.
ولمّا استشكل هذا المطلب على بعضهم انصرفوا إلى إخراج أفعال العباد عن إطار إرادته سبحانه ، وانّما تتعلّق بالكائنات دون أفعالهم، وهو كما ترى ، لاَنّه يستلزم تحقّق شيء في صحيفة الوجود بغير إذنه وإرادته، مع أنّ مقتضى التوحيد في الخالقية انتهاء كل ما في عالم الاِمكان إلى وجوده وخالقيته، وبالتالي إلى إرادته، فإخراج أفعال العباد عن مجال إرادة اللّه، يخالف الاَُسس التوحيدية التي جاء بها القرآن ودعمها العقل.
إلاّ أنّ في مسألة العصمة وكيفية تعلّق إرادته تعالى بعصمة المعصوم تحليلاً آخر يختص بهذا المقام ولا يتعدّاه.
وحاصل هذا التحليل يتوقف على معرفة كيفية العصمة وحقيقتها، فنقول:
إنّ حقيقة العصمة ترجع إلى الدرجة العليا من التقوى، بمعنى انّ التقوى إذا بلغت قمتها تعصم الاِنسان عن اقتراف الذنب وجميع القبائح.
وإن شئت قلت: العصمة نتيجة العلم القطعي الثابت والعرفان بعواقب المعصية علماً يصد الاِنسان عن اجتراح المعاصي واقتراف المآثم، كالاِنسان الواقف أمام الاَسلاك التي يجري فيها التيار الكهربائي، فانّه لا يقدم بنفسه على إمساكها.
[ 93 ]
وبعبارة ثالثة: العصمة: الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجلاله استشعاراً منقطع النظير حيث يحدث في المستشعر التفاني في الحق، والعشق لجماله، وكماله، بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً.
فإذا كانت حقيقة العصمة نفس هذه الحقائق أو قريباً منها، فليس اتصاف الاِنسان بهذه الحقائق موجباً للجبر وسالباً للاختيار ، بل المعصوم مع هذه المواهب الاِلهية قادر على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا غير انّه لاَجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى، والعلم القطعي بآثار المعاصي والاستشعار المنقطع النظير بعظمة الخالق، يختار الطاعة وترك المعصية مع القدرة على خلاف ذلك، فحاله كالوالد العطوف لا يقدم على قتل ولده ولو أُعطيت له الكنوز الكثيرة .
إنّ هذه الحقائق الموهوبة للمعصوم أشبه بحبل يلقى إلى الغارق في البحر والساقط في البئر حتى يتمسك به وينجي نفسه، فلا شك انّ العاقل يتمسّك به دائماً وينجي نفسه، ولكن هذا العمل لا يخالف قدرته على ترك التمسك به وإلقاء نفسه في مهاوي الهلكة.
فهذه الحقائق النفسانية الموهوبة ليست إلاّ أسباباً لترك العصيان ومقتضيات للطاعات، ومعدّات لقرب العبد من ربّه، ومع ذلك تتوسط بينها وبين فعل العبد من طاعة أو عصيان، إرادته واختياره، فليست هذه المواهب عللاً تامة لتوجه العبد إلى جانب واحد وانحيازه عن جانب آخر، بل هي أسباب مقربة ومعدات للاِرادة، ومع ذلك كله فاختيار المعصوم وإرادته باقيان على حالهما.
فمعنى تعلّق إرادته سبحانه بعصمتهم ليس تعلّقها بالطاعة وترك العصيان، بل معناه تعلّق إرادته التكوينية بإفاضة هذه المواهب عليهم وجعلها في مكامن
[ 94 ]
نفوسهم وتحليتهم بهذه الحلية الاِلهية، ولكن هذا الجعل والتحلية لا يهدف إلى كونهم مكتوفي الاَيدي أمام التكاليف ومسوقين إلى جانب واحد، فالاشتباه في المقام حصل في تعيين ما هو المفاض من اللّه سبحانه على هذه الشخصيات فتخيل: «انّ المفاض هو العصمة المفسرة بترك المعصية ونفس الطاعة» غفلة عن أنّ المفاض هو هذه الكيفيات والصفات العليا النفسانية عليهم، وهي توجد استعداداً في النفس بترك العصيان واختيار الطاعة مع القدرة على الخلاف.
نعم: لو كان هناك جبر، فالجبر في تحليتهم بهذه المواهب والعطايا الاِلهية، ولكنّهم معها مختارون في التوجه، لاَي طرف أرادوا، وإن كانوا لا يشاءون إلاّ الطاعة وترك المعصية.
ما هو الوجه لتفسير الاِرادة بالتشريعية؟ :
ثمّ إنّ الجمهور لمّا ذهبوا إلى كون الاِرادة تشريعية احتالوا في توجيهها يقول المفسر المعاصر سيد قطب في هذا الصدد: إنّه سبحانه يجعل تلك الاَوامر ـ الاَوامر الواقعة قبل الآية من قوله: (وقرن ... ولا تبرجن ) ـ وسيلة لاِذهاب الرجس وتطهير البيت، فالتطهير وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ويحقّقونها في واقع الحياة العملي ... ويختم هذه التوجيهات لنساء النبي بمثل ما بداها، بتذكيرهنّ بعلو مكانتهنّ وامتيازهنّ على النساء بمكانتهنّ من رسول اللّه وبما أنعم اللّه عليهنّ فجعل بيوتهنّ مهبط القرآن ومنزل الحكمة وتشرف النور والهدى والاِيمان، وانّه لحظ عظيم يكفي التذكّر به لتحس النفس جلالة قدره ولطيف صنع اللّه فيه وجزالة النعمة التي لا يعد لها نعيم. (1)
1 . في ظلال القرآن، في تفسير سورة الاَحزاب.
[ 95 ]
وحاصل ما ذكره مبني على نزول القرآن في مورد نساء النبي، وانّه سبحانه علّل خطاباته لهنّ بأنّه يريد من هذه التكاليف إذهاب الرجس عنهنّ، ويكون المعنى انّ التشديد في التكاليف وتضعيف الثواب والعقاب ليس لانتفاع اللّه سبحانه به، بل لاِذهاب الرجس عنكنّ وتطهيركنّ.
ولا يخفى انّ ما ورد في الآيات من الاَحكام ليست أحكاماً خاصة بنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فهذا قوله سبحانه قبل آية التطهير: (وَقَرْنَ فِي بُيْوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الاَُوْلَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) . (1)
وهذا قوله سبحانه بعد الآية: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات اللّه والحكمة ... ) كلّها أحكام عامة لنساء المسلمين، فاللّه سبحانه بهذه التكاليف يريد أن يطهر الكل وإذهاب الرجس عن عموم النساء، لا عن زوجات النبي خاصة، وعندئذ لا وجه لتخصيصهنّ بالخطاب بالعناية التي عرفت.
وإنّما ذهب بعض الجمهور إلى ما ذهب، لاَجل انّهم تصوّروا نزول الآية في حق نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فاحتالوا لتفسير الاِرادة بما ذكره سيد قطب ونظراوَه، وانّما ذهبوا إلى ذلك بزعمهم اتصال الآية بما قبلها من الآيات، مع أنّه سيوافيك انّ الآية آية التطهير آية مستقلة لا صلة لها بما قبلها ولا ما بعدها، وانّما وضعت في هذا الموضع لمصلحة خاصة سنشير إليها، والاَحاديث بكثرتها البالغة ناصة على نزول الآية وحدها، ولم يرد نزولها في ضمن آيات نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولا ذكره أحد حتى أنّ القائل باختصاص الآية بأزواج النبي ينسب القول إلى عكرمة وعروة لا إلى الرواية.
فالآية لم تكن بحسب النزول من آيات النساء، ولا متصلة بها، وستوافيك
1 . الاَحزاب: 33.
[ 96 ]
الروايات الكثيرة الواردة في هذا المضمار .
السوَال الثالث: هل العصمة الموهوبة مفخرة؟ :
وهذا سوَال ثالث يتردد في المقام وفي غيره، وقد طرحناه عند البحث عن العصمة على وجه الاِطلاق ونطرحه هنا بشكل آخر، وهو انّ عصمة أهل البيت لو كانت أمراً موهوباً من اللّه سبحانه كيف يمكن أن تعد مفخرة لاَهله ؟
والاِجابة عن هذا السوَال واضحة بعد الوقوف على معنى العصمة الموهوبة لهم، وقد عرفت أنّ المراد من هبتها لهم هو إعطاء المقتضيات والمعدات لهم التي لا تسلب الاختيار عنهم وهم بعد قادرون على الطاعة والعصيان والنقض والاِبرام، والسائل تخيل انّ العصمة الموهوبة هي نفس ترك العصيان والمخالفة، فزعم أنّ شيئاً مثلها لا يعد فخراً ولا يوجب ثناءً، وقد أوضحنا هذا في السوَال السابق، فراجع.
السوَال الرابع: هل الآية تدل على فعلية التطهير؟ :
وربّما يقال: إنّ أقصى ما تدل عليه الآية هو إخباره سبحانه عن أنّه يريد إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم، وليس في الآية ما يدل على تحقّق هذه الاِرادة بالفعل، وانّـها صدرت منه سبحانه ، مع أنّ القائلين بعصمة أهل البيت يذهبون بدلالتها على اتصافهم بالعصمة، وفي هذا الصدد ينقل الشيخ زين الدين البياضي العاملي إشكالاً عن المخالف ويقول: (يريد ) لفظ مستقبل، فلا دليل على وقوعه . (1)
1 . الصراط المستقيم: 1|184.
[ 97 ]
ولا يخفى أنّ هذا الاِشكال نشأ من اتخاذ موقف خاص بالنسبة إلى أهل البيت بشهادة انّ هذه اللفظة وردت في كثير من الآيات مع أنّه ما خطر ببال أحد مثل هذا الاِشكال قال سبحانه : (يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ ) (1)، وقال: وَاللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) (2)، وقال: يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ) (3)، وقال: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (4)، أضف إلى ذلك انّ هناك قرينة واضحة على تحقّق الاِرادة بشهادة انّ الآية في مقام المدح والثناء.
وأمّا الاِتيان بصيغة المستقبل والعدول عن الماضي، فهو لاَجل ظهور فعل المستقبل في الدوام، وهو سبحانه يريد إفادة دوام هذه الاِرادة واستمرارها مدى الاَيام والسنين.