بقلم : عبد الهادي الطهمازي
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
من الواضح أن الهدف الأساس من الخطابة وارتقاء المنابر هو إقناع الجمهور السامعين بما يدعو إليه الخطيب من أفكار أو عقائد أو اتجاهات أو آراء ؛ فالخطابة هي فن إقناع الجمهور . وقد نصَّ على هذا القيد كلُّ من عرَّف الخطابة من المناطقة وغيرهم (1) .
وواضح أيضاً إن الإقناع لا يأتي من عدم , بل من المحتم أن له أساساً ومبدأً , وهذا الأساس هو أن يكون كلام الخطيب مشفوعاً بدليل أو أكثر على مدَّعاه ؛ ليحظى كلامه بقبول السامعين .
والمحصّل : إن الخطيب يسعى في خطابته إلى إقناع جمهوره بما يتناول من موضوعات , وما يطرح من أفكار وآراء , والإقناع لا يحصل عبثاً بل لا بدّ من وجود دليل .
ونظراً لأهمية الدليل والاستدلال جعل أرسطو التدليل جزءاً أساسياً من الخطبة ؛ حيث قسَّم الخطبة إلى أربعة أجزاء : المقدمة , والعرض , والتدليل ـ أي إقامة الدليل على المدَّعى ـ , وأخيراً الخاتمة (2) .
والدليل عبارة عمّا يتألف من قضايا يتّجه بها إلى مطلوب يستحصل به (3) . أو هو : ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب(4). فعندما يدَّعي الخطيب دعوى ما , ولتكن استحباب زيارة القبور مثلا ً, أو حرمة تناول لحم الأرنب , فعليه أن يأتي بدليل أو مجموعة أدلة لإثبات استحباب زيارة القبور أو حرمة أكل لحم الأرنب , وإلاّ تكون دعواه دعوى بلا دليل , غير قابلة للتصديق والاقتناع بها .
والأدلة تنقسم إلى قسمين :
1 ـ أدلة علمية أو منطقية : وهي الأدلة التي تكون مقدماتها من القضايا اليقينية التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً .
2 ـ أدلة خطابية : وهي الأدلة التي تكون مقدماتها من القضايا الظنّية أو القضايا الاُخرى المشابهة لها .
مقدّمات الأدلة الخطابية
أشار أغلب المناطقة إلى أن مقدمات الدليل (مادة القياس) في الخطابة يجب أن تكون إمّا من المشهورات أو المقبولات أو المظنونات . قال الشيخ نصير الدين الطوسي في تجريد المنطق : إن مبادئ الحجج الخطابية (مقدمات الأدلة) أصناف ثلاثة :
أولها : المشهورات الظاهرة التي تحمد في بادئ الرأي , كقول القائل : انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً , وربما خالفت الحقيقة .
وثانيها : المقبولات , كقول من يوثق بصدقه كنبي أو إمام , أو يُظن صادقاً كحكيم أو شاعر .
وثالثها : المظنونات , كما يقال : زيد متكلم مع الأعداء جهاراً , فهو متهم (5) . ومثل : فلان وجهه أصفر , فهو خائف , ورأيت فلاناً في الأزقة ليلاً , فهو لص .
وقد اتفقت كلمة علماء المنطق على هذا , وعللوا ذلك بأن الجمهور لا يخضع للبرهان (الدليل العلمي) ولا يقنع به . . . ؛ لأن الجمهور تتحكم به العاطفة أكثر من التعقُّل والتبصُّر , بل ليس له الصبر على التأمُّل والتفكير ومحاكمة الأدلة والبراهين , وإنما هو سطحي التفكير , فاقد للتمييز الدقيق , تؤثر فيه المغريات , وتبهره العبارات البراقة , وتقنعه المظاهر الخلابة (6).
وبالتالي مادة القياس في الخطابة يجب أن تكون من المقبولات أو المشهورات أو المظنونات لتنتج دليلاً خطابياً لا دليلاً علمياً ؛ لأن الجمهور ليس له الصبر والقدرة على فهم الأدلة العلمية أو المنطقية .
وقبل أن نُبدي تعليقاً على ما ذكروه لنتعرَّف أولاً على مواد القضايا .
مواد القضايا(*)
مواد القضايا : عبارة عن القضايا التي تقع مقدمات للدليل (7) , وهي ثمانية أنواع نذكرها هنا بشيء من الإيجاز .
أولاً : اليقينيّات
وهي قضايا تطابق الواقع ولا تحتمل النقيض (8) , وأقسامها ستة , وهي :
1 ـ الأوليات : وهي القضايا التي يصدِّق بها العقل لذاتها , أي بمجرد تصور الموضوع والمحمول دون حاجة إلى تصوّر النسبة , ولا تحتاج إلى أن يتعلمها الإنسان من أحد ؛ مثل : أنّ الكل أعظم من الجزء , وأن الاثنين أكثر من الواحد , وأن الشيء لا يكون قديماً وجديداً في آن واحد , ولا يكون الشيء طويلاً وقصيراً في ذات الوقت . . . إلخ .
2 ـ المشاهدات : وهي القضايا المحسوسة بالحواس الظاهرة والباطنة (9), فهي على قسمين : مشاهدات ووجدانيات , ويمكن للخطيب استخدام هذين النوعين في خطابته بكثرة ؛ لفرض أنها مشاهدة ومحسوسة للسامع فتحصل لديه القناعة بنتائجها بسهولة ، فإذا أراد ـ مثلاً ـ أن يثبت أخذ الله تعالى للقرى وهي ظالمة , يكفيه فقط تذكير الجمهور بحوادث الزلازل والهزات الأرضية وما تحصده من الأرواح في لحظات .
أما الوجدانيات : فهي القضايا التي يستشعرها الإنسان عند وجود ما يحفزها ؛ كالشعور بالألم من الجراح , والحزن بمصاب الأحبة ونحو ذلك , وهذه القضايا يمكن توظيفها في إثبات المواقف العاطفية والوجدانية التي حصلت في كربلاء , مثل حزن الأم على ولدها , والبكاء عند فراق الأحبة . . . إلخ .
3 ـ التجربيات : وهي القضايا التي يصدّق بها العقل بسبب تكرار المشاهدة لها أو الإحساس بها ؛ مثل : إنّ كل نار حارة , وإن قراءة الآية الأخيرة من سورة الكهف المباركة توقظ الإنسان من نومه في الساعة التي يريد . ويمكن للخطيب الاستعانة بالمجرّبات بكثرة أيضاً لتثبيت الفكرة في نفس السامع .
4 ـ المتواترات : وهي قضايا روتها جماعة كثيرة يمتنع تواطئهم على الكذب عادة . والخطابة الدينية تعتمد على هذه القضايا بكثرة , وهي نافعة جداً في إقناع السامع . ومن أمثلتها بيعة الغدير , وقصص شجاعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) , واستشهاد طفل الحسين (عليه السّلام) عبد الله الرضيع , وغير ذلك من القضايا والحوادث التاريخية التي نقلها جمع كبير من الرواة والمؤرّخين , ومن غير المعقول أن يكونوا كلهم كاذبين .
5 ـ الحدسيات : وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس قوي من النفس جداً يزول معه الشك (10). ويمكن اكتساب هذا النوع من القضايا عن طريق الخبرة وكثرة المطالعة والممارسة للعلوم ؛ حيث روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) أنه قال : (( كثرة النظر في العلم تفتح العقل ))(11) .
فعلى سبيل المثال : يمكن رد ما قيل : إن الحسين (عليه السّلام) أبى وامتنع على السيف أن يحز نحره الشريف , حتى جاء مَلك فقال : أين الوعد يا حسين ؟ فإذا كان الخطيب مطّلعاً على كتب العرفان مثلاً فإنه يعرف زيف هذه الرواية ؛ لأنها تتعارض مع التسليم لأمر الله تعالى .
6 ـ الفطريات : وهي القضايا التي يصدّق بها العقل بمجرد تصوّر الموضوع وتصوّر المحمول وتصوُّر النسبة (12)؛ وبهذا افترقت عن الأوليات . ومن أمثلة هذه القضايا : الحكم بجواز لعن يزيد وعبيد الله وأمثالهم ؛ فإنه بمجرد تصوّر جريمة القتل , وتصوّر نسبة القتل إليهم , وتصوّر حرمة القتل شرعاً أو قبحها عقلاً , يحكم العقل بجواز لعنهم .
ثانياً : المظنونات
وهي قضايا يُصدَّق بها اتباعاً لغالب الظن(13) مثل : كلّ مَن خرج على الحاكم فهو يطلب الملك , وكلّ مَن يقتل نفساً فهو ظالم , فهذه قضايا ظنّية تصدق أحياناً وتكذب اُخرى , إلاّ إن البعض يستعملها كدليل على مدّعاه , وستأتي تتمة للكلام فيها .
ثالثاً : المشهورات
وهي القضايا التي يقبل بمضامينها الناس ؛ سواء أكانت مطابقة للواقع أم لا(14) . وهي على قسمين :
1 ـ المشهورات الحقيقية : وهي القضايا التي لها واقع وراء شهرتها , فهي معروفة مشهورة عند كلِّ العقلاء من جهة , ولها واقع من جهة اُخرى , أي لا تكون كاذبة أو متوهمة , مثل كل أنواع القضايا اليقينية التي ذكرناها قبل قليل , ويُصطلح عليها هنا بواجبات القبول .
وهناك قضايا اُخرى تدخل في هذا القسم , منها التأديبات الصلاحية : وهي قضايا تطابقت آراء العقلاء على قبولها ؛ لاقتضاء المصلحة العامة بذلك , كالقيم الأخلاقية والاجتماعية , والعادات والتقاليد المتوارثة في المجتمع .
ومنها الخلقيات : وهي القضايا التي يكون منشؤها الغرائز الطبيعية , كالمروءة والشجاعة وغير ذلك ؛ فإن الشجاعة مثلاً تقتضي الدفاع عن العرض , وتقتضي عدم الخوف , وكحكم العقلاء بقبح البخل , وقبح الجبن والنهم . . . إلخ .
ومنها الانفعاليات أو العاطفيات : وهي القضايا التي تقتضيها العاطفة الإنسانية , كالغيرة والحمية والرقة والرحمة والشفقة , فهذه العاطفيات هي الاُخرى لها قوانين ثابتة ومتعارف عليها بين الناس ؛ فالضرب المبرح عندهم مثلاً خلاف الرقة , والتغاضي عن إهانة المقدّسات خلاف الغيرة . . . إلخ .
ومنها العاديات : وهي القضايا التي تقتضيها العادات والتقاليد , كاحترام الكبير وتوقيره , وأداء واجب الضيافة للضيف , فهذه القضايا يمدح المحافظ عليها ويذم المخالف لها . نعم قد تكون ثمة عادات أو تقاليد اجتماعية خاطئة أو غير صالحة في هذا العصر , فمثل هذه القضايا يجب أن يتجنب الخطيب تأييدها أو تأكيدها , بل عليه محاولة تصحيحها .
2 ـ المشهورات الظاهرية : وهي القضايا التي باتت مشهورة ومعروفة عند الناس , ويستندون إليها في حججهم وأدلتهم , ولكن ليس لها واقع صحيح , أو أنها لا تصدق دائماً ؛ مثل : وجوب نصرة أفراد العشيرة وإن كانوا مخطئين أو ظالمين , ومثل : الأكبر منك بيوم أفهم منك بسنة .
وهناك مشهورات من هذا النوع حتى على مستوى الاُمور الشرعية وإن كانت مخالفة للواقع أو لفتاوى الفقهاء , لكن الناس يستندون إليها من حججهم ومجادلاتهم , من قبيل : وجوب دفن عظام العقيقة , وترك المرأة النفساء للصلاة أربعين يوماً , وبطلان الصوم عند قلع السن . فهذه قضايا ربما كانت مشهورة عند بعض الفئات الاجتماعية , ويعوّلون عليها ويرون صحتها وإن كانت واقعاً غير صحيحة .
رابعاً : المقبولات
وهي القضايا التي تُؤخذ ممّن يوثق بصدقه تقليداً ؛ إمّا لأمر سماوي كالسنن والشرائع المأخوذة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) والإمام المعصوم (عليه السّلام) , وإمّا لمزيد عقله وخبرته كالمأخوذات من الحكماء والعلماء وذوي الاختصاص , وعلى رأس ذلك كله آيات الذكر الحكيم .
وهناك أنواع اُخرى من القضايا أعرضنا عن ذكرها ؛ لقلّة جدواها في الخطابة , أو لدخولها ضمن بعض الأقسام السابقة , مثل : المشبهات , والمخيلات , والمسلمات , والوهميات (15).
أهمية معرفة الخطيب لمواد القضايا
قد يقال : هل من الضرورة أن يعرف الخطيب مواد القضايا وأنواعها ؟
والجواب واضح , فمعرفة هذه القضايا والتمييز بين أنواعها مهم جداً للخطيب ؛ لأنه سيعرف بواسطتها نوع الدليل الذي يأتي به على دعواه , فإن كانت مقدماته من اليقينيات كان دليله علمياً , وإن كانت مقدماته من المظنونات أو المشهورات الظاهرية كان دليله خطابياً , ويترتب على ذلك فوائد بعضها يتعلق :
1 ـ بالجمهور : فالمجتمعات والتجمعات تختلف من الناحية الثقافية والتحصيل العلمي ؛ فالمجتمع الذي لا حظَّ له من العلم والثقافة لا تنفعه الأدلة العلمية , وعلى الخطيب أن يأتي بأدلة خطابية مقدماتها من المشهورات ذات الطابع الإعلامي التهويلي ؛ لأنها أنجح في إقناعهم والتأثير فيهم .
أمّا المجتمعات التي يكون أغلب أفرادها من المتعلمين , فالواجب أن تكون الأدلة التي يسوقها الخطيب لإقناعهم أدلة علمية مستندة إلى مقدمات يقينية , ولو عكس فسيفشل في كلا المجتمعين . والجمع بين النوعين من الأدلة أكمل ؛ لتباين ثقافة الجمهور في كل زمان ومكان .
والملاحظة الهامة في هذا السياق أنه تقع على عاتق الخطيب مسؤولية تنمية وعي الجمهور البسيط , فلا يتخذنَّ قلة حظهم من العلم ذريعة له على الاستمرار في إقناعهم بالقضايا ذات الطابع الإعلامي .
2 ـ بالموضوع : فبعض الموضوعات لا يمكن استخدام بعض أنواع القضايا فيه , ويمكن استخدام أنواع اُخرى ؛ فالمسائل الفقهية مثلاً يمكن إثباتها بالمقبولات كأن يسوق حديثاً شريفاً يدل عليها , ولا يمكن إثباتها بالمشهورات الظاهرية .
3 ـ بتنظيم الموضوع : فإن للتنظيم في الخطابة أهميته ؛ فتقديم بعض الأدلة على بعض , وتأخير هذا النوع من القضايا وتقديم تلك , يسهم كل ذلك في نجاح الخطيب وتحقيق غايته .
وعلى الإجمال ، معرفة مواد القضايا والتمييز بينها من الاُمور التي لا يمكن التساهل فيه (16).
ومما يجدر ذكره : يجب أن تكون المقدمات صادقة في نفسها ؛ لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات , فإذا كانت المقدمات كاذبة أو مغلوطة , كان الدليل كذلك .