عربي
Saturday 27th of July 2024
0
نفر 0

مقدّمات الأدلّة الخطابية بين ما يقوله المناطقة , وما يتطلَّبه الواقع

   بقلم : عبد الهادي الطهمازي    

                                 

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد :

من الواضح أن الهدف الأساس من الخطابة وارتقاء المنابر هو إقناع الجمهور السامعين بما يدعو إليه الخطيب من أفكار أو عقائد أو اتجاهات أو آراء ؛ فالخطابة هي فن إقناع الجمهور . وقد نصَّ على هذا القيد كلُّ من عرَّف الخطابة من المناطقة وغيرهم (1) .

وواضح أيضاً إن الإقناع لا يأتي من عدم , بل من المحتم أن له أساساً ومبدأً , وهذا الأساس هو أن يكون كلام الخطيب مشفوعاً بدليل أو أكثر على مدَّعاه ؛ ليحظى كلامه بقبول السامعين .

والمحصّل : إن الخطيب يسعى في خطابته إلى إقناع جمهوره بما يتناول من موضوعات , وما يطرح من أفكار وآراء , والإقناع لا يحصل عبثاً بل لا بدّ من وجود دليل .

ونظراً لأهمية الدليل والاستدلال جعل أرسطو التدليل جزءاً أساسياً من الخطبة ؛ حيث قسَّم الخطبة إلى أربعة أجزاء : المقدمة , والعرض , والتدليل ـ أي إقامة الدليل على المدَّعى ـ , وأخيراً الخاتمة (2) .  

والدليل عبارة عمّا يتألف من قضايا يتّجه بها إلى مطلوب يستحصل به (3) . أو هو : ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب(4). فعندما يدَّعي الخطيب دعوى ما , ولتكن استحباب زيارة القبور مثلا ً, أو حرمة تناول لحم الأرنب , فعليه أن يأتي بدليل أو مجموعة أدلة لإثبات استحباب زيارة القبور أو حرمة أكل لحم الأرنب , وإلاّ تكون دعواه دعوى بلا دليل , غير قابلة للتصديق والاقتناع بها .

والأدلة تنقسم إلى قسمين :

1 ـ أدلة علمية أو منطقية : وهي الأدلة التي تكون مقدماتها من القضايا اليقينية التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً .

2 ـ أدلة خطابية : وهي الأدلة التي تكون مقدماتها من القضايا الظنّية أو القضايا الاُخرى المشابهة لها .

 

مقدّمات الأدلة الخطابية

أشار أغلب المناطقة إلى أن مقدمات الدليل (مادة القياس) في الخطابة يجب أن تكون إمّا من المشهورات أو المقبولات أو المظنونات . قال الشيخ نصير الدين الطوسي في تجريد المنطق : إن مبادئ الحجج الخطابية (مقدمات الأدلة) أصناف ثلاثة :

أولها : المشهورات الظاهرة التي تحمد في بادئ الرأي , كقول القائل : انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً , وربما خالفت الحقيقة .

وثانيها : المقبولات , كقول من يوثق بصدقه كنبي أو إمام , أو يُظن صادقاً كحكيم أو شاعر .

وثالثها : المظنونات , كما يقال : زيد متكلم مع الأعداء جهاراً , فهو متهم (5) . ومثل : فلان وجهه أصفر , فهو خائف , ورأيت فلاناً في الأزقة ليلاً , فهو لص .

وقد اتفقت كلمة علماء المنطق على هذا , وعللوا ذلك بأن الجمهور لا يخضع للبرهان (الدليل العلمي) ولا يقنع به . . . ؛ لأن الجمهور تتحكم به العاطفة أكثر من التعقُّل والتبصُّر , بل ليس له الصبر على التأمُّل والتفكير ومحاكمة الأدلة والبراهين , وإنما هو سطحي التفكير , فاقد للتمييز الدقيق , تؤثر فيه المغريات , وتبهره العبارات البراقة , وتقنعه المظاهر الخلابة (6).

وبالتالي مادة القياس في الخطابة يجب أن تكون من المقبولات أو المشهورات أو المظنونات لتنتج دليلاً خطابياً لا دليلاً علمياً ؛ لأن الجمهور ليس له الصبر والقدرة على فهم الأدلة العلمية أو المنطقية .

وقبل أن نُبدي تعليقاً على ما ذكروه لنتعرَّف أولاً على مواد القضايا .

 

مواد القضايا(*)

مواد القضايا : عبارة عن القضايا التي تقع مقدمات للدليل (7) , وهي ثمانية أنواع نذكرها هنا بشيء من الإيجاز .

أولاً : اليقينيّات

 وهي قضايا تطابق الواقع ولا تحتمل النقيض (8) , وأقسامها ستة , وهي :

1 ـ الأوليات : وهي القضايا التي يصدِّق بها العقل لذاتها , أي بمجرد تصور الموضوع والمحمول دون حاجة إلى تصوّر النسبة , ولا تحتاج إلى أن يتعلمها الإنسان من أحد ؛ مثل : أنّ الكل أعظم من الجزء , وأن الاثنين أكثر من الواحد , وأن الشيء لا يكون قديماً وجديداً في آن واحد , ولا يكون الشيء طويلاً وقصيراً في ذات الوقت . . . إلخ .

2 ـ المشاهدات : وهي القضايا المحسوسة بالحواس الظاهرة والباطنة (9), فهي على قسمين : مشاهدات ووجدانيات , ويمكن للخطيب استخدام هذين النوعين في خطابته بكثرة ؛ لفرض أنها مشاهدة ومحسوسة للسامع فتحصل لديه القناعة بنتائجها بسهولة ، فإذا أراد ـ مثلاً ـ أن يثبت أخذ الله تعالى للقرى وهي ظالمة , يكفيه فقط تذكير الجمهور بحوادث الزلازل والهزات الأرضية وما تحصده من الأرواح في لحظات .

أما الوجدانيات : فهي القضايا التي يستشعرها الإنسان عند وجود ما يحفزها ؛ كالشعور بالألم من الجراح , والحزن بمصاب الأحبة ونحو ذلك , وهذه القضايا يمكن توظيفها في إثبات المواقف العاطفية والوجدانية التي حصلت في كربلاء , مثل حزن الأم على ولدها , والبكاء عند فراق الأحبة . . . إلخ .

3 ـ التجربيات : وهي القضايا التي يصدّق بها العقل بسبب تكرار المشاهدة لها أو الإحساس بها ؛ مثل : إنّ كل نار حارة , وإن قراءة الآية الأخيرة من سورة الكهف المباركة توقظ الإنسان من نومه في الساعة التي يريد . ويمكن للخطيب الاستعانة بالمجرّبات بكثرة أيضاً لتثبيت الفكرة في نفس السامع .

4 ـ المتواترات : وهي قضايا روتها جماعة كثيرة يمتنع تواطئهم على الكذب عادة . والخطابة الدينية تعتمد على هذه القضايا بكثرة , وهي نافعة جداً في إقناع السامع . ومن أمثلتها بيعة الغدير , وقصص شجاعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) , واستشهاد طفل الحسين (عليه السّلام) عبد الله الرضيع , وغير ذلك من القضايا والحوادث التاريخية التي نقلها جمع كبير من الرواة والمؤرّخين , ومن غير المعقول أن يكونوا كلهم كاذبين .

5 ـ الحدسيات : وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس قوي من النفس جداً يزول معه الشك (10). ويمكن اكتساب هذا النوع من القضايا عن طريق الخبرة وكثرة المطالعة والممارسة للعلوم ؛ حيث روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السّلام) أنه قال : (( كثرة النظر في العلم تفتح العقل ))(11) .

فعلى سبيل المثال : يمكن رد ما قيل : إن الحسين (عليه السّلام) أبى وامتنع على السيف أن يحز نحره الشريف , حتى جاء مَلك فقال : أين الوعد يا حسين ؟ فإذا كان الخطيب مطّلعاً على كتب العرفان مثلاً فإنه يعرف زيف هذه الرواية ؛ لأنها تتعارض مع التسليم لأمر الله تعالى .

6 ـ الفطريات : وهي القضايا التي يصدّق بها العقل بمجرد تصوّر الموضوع وتصوّر المحمول وتصوُّر النسبة (12)؛ وبهذا افترقت عن الأوليات . ومن أمثلة هذه القضايا : الحكم بجواز لعن يزيد وعبيد الله وأمثالهم ؛ فإنه بمجرد تصوّر جريمة القتل , وتصوّر نسبة القتل إليهم , وتصوّر حرمة القتل شرعاً أو قبحها عقلاً , يحكم العقل بجواز لعنهم .

ثانياً : المظنونات

وهي قضايا يُصدَّق بها اتباعاً لغالب الظن(13) مثل : كلّ مَن خرج على الحاكم فهو يطلب الملك , وكلّ مَن يقتل نفساً فهو ظالم , فهذه قضايا ظنّية تصدق أحياناً وتكذب اُخرى , إلاّ إن البعض يستعملها كدليل على مدّعاه , وستأتي تتمة للكلام فيها .

ثالثاً : المشهورات

وهي القضايا التي يقبل بمضامينها الناس ؛ سواء أكانت مطابقة للواقع أم لا(14) . وهي على قسمين :

1 ـ المشهورات الحقيقية : وهي القضايا التي لها واقع وراء شهرتها , فهي معروفة مشهورة عند كلِّ العقلاء من جهة , ولها واقع من جهة اُخرى , أي لا تكون كاذبة أو متوهمة , مثل كل أنواع القضايا اليقينية التي ذكرناها قبل قليل , ويُصطلح عليها هنا بواجبات القبول .

وهناك قضايا اُخرى تدخل في هذا القسم , منها التأديبات الصلاحية : وهي قضايا تطابقت آراء العقلاء على قبولها ؛ لاقتضاء المصلحة العامة بذلك , كالقيم الأخلاقية والاجتماعية , والعادات والتقاليد المتوارثة في المجتمع .

ومنها الخلقيات : وهي القضايا التي يكون منشؤها الغرائز الطبيعية , كالمروءة والشجاعة وغير ذلك ؛ فإن الشجاعة مثلاً تقتضي الدفاع عن العرض , وتقتضي عدم الخوف , وكحكم العقلاء بقبح البخل , وقبح الجبن والنهم . . . إلخ .

ومنها الانفعاليات أو العاطفيات : وهي القضايا التي تقتضيها العاطفة الإنسانية , كالغيرة والحمية والرقة والرحمة والشفقة , فهذه العاطفيات هي الاُخرى لها قوانين ثابتة ومتعارف عليها بين الناس ؛ فالضرب المبرح عندهم مثلاً خلاف الرقة , والتغاضي عن إهانة المقدّسات خلاف الغيرة . . . إلخ .

ومنها العاديات : وهي القضايا التي تقتضيها العادات والتقاليد , كاحترام الكبير وتوقيره , وأداء واجب الضيافة للضيف , فهذه القضايا يمدح المحافظ عليها ويذم المخالف لها . نعم قد تكون ثمة عادات أو تقاليد اجتماعية خاطئة أو غير صالحة في هذا العصر , فمثل هذه القضايا يجب أن يتجنب الخطيب تأييدها أو تأكيدها , بل عليه محاولة تصحيحها .

2 ـ المشهورات الظاهرية : وهي القضايا التي باتت مشهورة ومعروفة عند الناس , ويستندون إليها في حججهم وأدلتهم , ولكن ليس لها واقع صحيح , أو أنها لا تصدق دائماً ؛ مثل : وجوب نصرة أفراد العشيرة وإن كانوا مخطئين أو ظالمين , ومثل : الأكبر منك بيوم أفهم منك بسنة .

وهناك مشهورات من هذا النوع حتى على مستوى الاُمور الشرعية وإن كانت مخالفة للواقع أو لفتاوى الفقهاء , لكن الناس يستندون إليها من حججهم ومجادلاتهم , من قبيل : وجوب دفن عظام العقيقة , وترك المرأة النفساء للصلاة أربعين يوماً , وبطلان الصوم عند قلع السن . فهذه قضايا ربما كانت مشهورة عند بعض الفئات الاجتماعية , ويعوّلون عليها ويرون صحتها وإن كانت واقعاً غير صحيحة .

رابعاً : المقبولات

وهي القضايا التي تُؤخذ ممّن يوثق بصدقه تقليداً ؛ إمّا لأمر سماوي كالسنن والشرائع المأخوذة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) والإمام المعصوم (عليه السّلام) , وإمّا لمزيد عقله وخبرته كالمأخوذات من الحكماء والعلماء وذوي الاختصاص , وعلى رأس ذلك كله آيات الذكر الحكيم .

وهناك أنواع اُخرى من القضايا أعرضنا عن ذكرها ؛ لقلّة جدواها في الخطابة , أو لدخولها ضمن بعض الأقسام السابقة , مثل : المشبهات , والمخيلات , والمسلمات , والوهميات (15).

 

أهمية معرفة الخطيب لمواد القضايا

قد يقال : هل من الضرورة أن يعرف الخطيب مواد القضايا وأنواعها ؟

والجواب واضح , فمعرفة هذه القضايا والتمييز بين أنواعها مهم جداً للخطيب ؛ لأنه سيعرف بواسطتها نوع الدليل الذي يأتي به على دعواه , فإن كانت مقدماته من اليقينيات كان دليله علمياً , وإن كانت مقدماته من المظنونات أو المشهورات الظاهرية كان دليله خطابياً , ويترتب على ذلك فوائد بعضها يتعلق :

1 ـ بالجمهور : فالمجتمعات والتجمعات تختلف من الناحية الثقافية والتحصيل العلمي ؛ فالمجتمع الذي لا حظَّ له من العلم والثقافة لا تنفعه الأدلة العلمية , وعلى الخطيب أن يأتي بأدلة خطابية مقدماتها من المشهورات ذات الطابع الإعلامي التهويلي ؛ لأنها أنجح في إقناعهم والتأثير فيهم .

 أمّا المجتمعات التي يكون أغلب أفرادها من المتعلمين , فالواجب أن تكون الأدلة التي يسوقها الخطيب لإقناعهم أدلة علمية مستندة إلى مقدمات يقينية , ولو عكس فسيفشل في كلا المجتمعين . والجمع بين النوعين من الأدلة أكمل ؛ لتباين ثقافة الجمهور في كل زمان ومكان .

والملاحظة الهامة في هذا السياق أنه تقع على عاتق الخطيب مسؤولية تنمية وعي الجمهور البسيط , فلا يتخذنَّ قلة حظهم من العلم ذريعة له على الاستمرار في إقناعهم بالقضايا ذات الطابع الإعلامي .

2 ـ بالموضوع : فبعض الموضوعات لا يمكن استخدام بعض أنواع القضايا فيه , ويمكن استخدام أنواع اُخرى ؛ فالمسائل الفقهية مثلاً يمكن إثباتها بالمقبولات كأن يسوق حديثاً شريفاً يدل عليها , ولا يمكن إثباتها بالمشهورات الظاهرية .

3 ـ بتنظيم الموضوع : فإن للتنظيم في الخطابة أهميته ؛ فتقديم بعض الأدلة على بعض , وتأخير هذا النوع من القضايا وتقديم تلك , يسهم كل ذلك في نجاح الخطيب وتحقيق غايته .

وعلى الإجمال ، معرفة مواد القضايا والتمييز بينها من الاُمور التي لا يمكن التساهل فيه (16).

ومما يجدر ذكره : يجب أن تكون المقدمات صادقة في نفسها ؛ لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات , فإذا كانت المقدمات كاذبة أو مغلوطة , كان الدليل كذلك .

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أم البنين سلام الله عليها دوحة الايمان والكرامات
كيــف لا افتخـربالحسيـن(ع)؟
الرومان والماسونية
الثوابت‌ الاربعة‌ في‌ ثورة‌ الإمام‌ الحسيـن‌ ...
اجعلوا انفسكم ميزاناً بينكم وبين غيركم‏
بكاء الأئمة على الحسين (عليه السلام)
في زيارة ائمّة سرّ من رأى (عليهم السلام) وأعمال ...
مولود الكعبة
الإمام الحسين في ظلال السنة(الطائفة الثانية)
ما هو اسم الحسين عليه السلام

 
user comment