تعقيب حول الموضوع :
س: هذه رسالة وجيزة في معنى العبد حسب النصوص الشريفة بقدر فهم الكاتب لها ، أُعدّت بهدف كشف اللبس عن فهم الشواهد المتشابهة لهذه اللفظة ، والاستدلال على مدى جواز استعمالها في التعبير الشرعيّ .
وممّا دعا إلى إعداد هذه الرسالة : اعتراض أحد المتخصّصين في اللغة العربية في كربلاء على تعبير : ( عبدك وابن عبدك وابن أمتك ) الوارد في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ، ودعوته السدنة في الروضة المباركة إلى رفع هذا التعبير من الزيارة ، بحجّة عدم جواز استعمال هذا اللفظ إلاّ مع الله جلّ شأنه ، منطلقاً من رأي شخصيّ لا تستند إلى حجّة شرعيّة .
أعلم أنّ لفظة عبد هي من المشترك اللفظي في المعنى المتدرج والمتشابه ، كلفظة ولي أو مولى ، حيث يراد بها مرّة الربّ ، ومرّة الرسول ، ومرّة الإمام ، وحسب السياق التأويلي لها بلا تضاد ، ولا تنافي في المعاني ، كونها ترد وترجع كلّها إلى المعنى الأصلي والأوّلي ، وهو ولاية الله جلّ شأنه ، ذلك بأنّ ولايتهم (عليهم السلام) هي من ولاية الله تعالى ، لأنّها تمّت بأمره ورضاه ، بهذا فرض الله الجمع في هذه الولاية .
وعدم قبول الإيمان ببعض والكفر ببعض ، فلا تتمّ كلمة الإخلاص ( لا إله
|
الصفحة 160 |
|
إلاّ الله ) وهي التوحيد إلاّ بشرطها وشروطها ، وقد ورد عن الرضا (عليه السلام) قوله : ( أنا من شرطها وشروطها ) ، وورد أيضاً في الزيارة الجامعة الكبيرة لدى مخاطبة الأئمّة (عليهم السلام) بأنّهم ( أركان توحيده ) .
وتندرج في هذا النحو لفظة سيّد ، فالربّ هو سيّد السادات ، والنبيّ (صلى الله عليه وآله) سيّد الأنبياء والمرسلين والخلق أجمعين ، والإمام (عليه السلام) سيّد الوصيين ، وبهذا يكون سيّد ما دون ذلك من الجنّ والإنس .
أمّا لفظة ربّ العالمين أو الربّ إذا وردت هكذا بالألف واللام مطلقة من غير إضافة تقيدها ، فلا يراد بها إلاّ الله تعالى من حيث الاسم الجامع للربوبية ، ولا تشترك .
اجتمعت لدينا ثلاث لفظات ، اثنتان مشتركة وواحدة متفرّدة ، ومقابل هذه الثلاثة لا نجد إلاّ لفظة عبد التي تكون بهذا من المشترك أيضاً .
وفي هذا الشأن أرى أنّ أفضل طريقة لمعرفة دلالة لفظة ما هي ، من خلال النظر في أضدادها الواردة في نفس السياقات النصّية .
فلا نجد في مقابل مولى أو السيّد إلاّ لفظة عبد نفسها ، على أن تجمع على عبيد وليس عباد .
فورد في المناجات : ( فنعم المولى أنت يا سيّدي ، وبئس العبد أنا ) (1) .
وفي دعاء ختم القرآن : ( فقد يعفو المولى عن عبده ، وهو غير راض عنه ) (2) .
وفي مناجات أُخرى : ( مولاي يا مولاي أنت المولى وأنا العبد ، وهل يرحم العبد إلاّ المولى ، مولاي يا مولاي أنت المالك وأنا المملوك ، وهل
____________
1- الكافي 2 / 594 .
2- إقبال الأعمال 1 / 454 .
|
الصفحة 161 |
|
يرحم المملوك إلاّ المالك ) (1) .
وبذلك المعنى ـ أي عبد مقابل سيّد أو مولى ـ ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( جاء حبر من الأحبار إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فقال : يا أمير المؤمنين متى كان ربّك ؟
فقال له : ثكلتك أُمّك ، ومتى لم يكن ؟ حتّى يقال : متى كان ؟ كان ربّي قبل القبل بلا قبل ، وبعد البعد بلا بعد ، ولا غاية ولا منتهى لغايته ، انقطعت الغايات عنده ، فهو منتهى كلّ غاية .
فقال : يا أمير المؤمنين أفنبيّ أنت ؟
فقال : ويلك ، إنّما أنا عبد من عبيد محمّد (صلى الله عليه وآله) ) (2) .
لاحظ هنا كيف يصف الإمام (عليه السلام) نفسه ، وقد جمع لفظة عبد على عبيد ، وليس عباد ، ممّا يدلّ على تعبّد الإمام (عليه السلام) للنبيّ (صلى الله عليه وآله) بالموالاة والسيادة .
وهو حقّاً أولى الناس بالتشرّف بهذه المنزلة ، التي تجعله أقرب الناس من الرسول بموالاته وطاعته ، حتّى رفعه الله ورسوله إلى درجة الأخوّة ، ومنزلة هارون من موسى ، وغير ذلك ، وقد قيل : ( من تواضع لله رفعه ) .
وعن محمّد بن زيد الطبري قال: كنت قائماً على رأس الرضا (عليه السلام) بخراسان، وعنده عدّة من بني هاشم ، وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي ، فقال (عليه السلام) : ( يا إسحاق ، بلغني أنّ الناس يقولون : إنّا نزعم أنّ الناس عبيد لنا ، لا وقرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قلته قط ، ولا سمعته من أحد آبائي قاله ، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله ، ولكنّي أقول : الناس عبيد لنا في الطاعة ، موال لنا في الدين ، فليبلّغ الشاهد الغائب ) (3) .
____________
1- المزار الكبير : 174 .
2- الكافي 1 / 89 .
3- المصدر السابق 1 / 187 .
|
الصفحة 162 |
|
لاحظ في هذا الحديث وغيره ، كيف أنّ الإمام (عليه السلام) ينفي عن نفسه مفهوم العبودية لدى الناس بالتمليك القهري والجبر ، ويثبت عبودية الطاعة والولاية ، وبذلك يصحّح الإمام مفهوم عبد المتداولة لدى الناس آنذاك ، حيث يظنّوا أنّ العبد مملوك لهم من جميع الجهات ، ومن حقّهم التصرّف في كافّة شؤونه وإكراهه ، بل وإجباره على طاعة أوامر سيّده ، وهو مفهوم قومي أو عرفي مختلف مع مفهوم الشرع ، الذي يقول : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } (1) ، بينما الشرع منزّل من الخالق المالك الحقيقيّ للعباد ، فكيف بالجبر إذاً ، وهو منافي للدين ، علماً بأنّ الإكراه هو الطاعة بغير رغبة ، والجبر بالقوّة .
ومن هذا تبيّن عدم قبول الأعمال من العبد ـ كالصلاة والزكاة مثلاً ـ بالإكراه ، أي بغير طيبة نفس ، من هذا يتّضح السبب من حثّ الشرع على عتق الرقاب ، ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : ( ونحن نعتقهم ) .
راجع كذلك الأحاديث في باب زيارة الأئمّة (عليهم السلام) : ( أنا عبدك ومولاك في طاعتك ، والوافد إليك ، ألتمس كمال المنزلة عند الله ) .
( يا موالي ، يا أبناء رسول الله ، عبدكم وابن أمتكم ، الذليل بين أيديكم ... ) (2) .
( وأشهد يا موالي ، وطوبى لي إن كنتم موالي أنّي عبدكم ، وطوبى لي إن قبلتموني عبداً ) (3) .
( وأشهدكم يا موالي ، بأبي أنتم وأُمّي ونفسي أنّي عبدكم ، وطوب لي إن قبلتموني عبداً ... ) (4) .
حيث تجد كيف فرض على الزائر أن يخاطبهم ، وهم بمنزلة السادة
____________
1- البقرة : 256 .
2- المزار الكبير : 88 .
3- المصدر السابق : 250 .
4- بحار الأنوار 99 / 153 .
|
الصفحة 163 |
|
والموالي ، بينما هو بمنزلة العبد ، بل أنّه ينبغي أن يقول : ( وطوبى لي إن قبلتموني عبداً ) ، وإن لم يعترف لهم بذلك ، أو ينطوي قلبه عليه ، فقد أساء الأدب مع الربّ الذي جعل التقرّب إليه بالتعبّد لهم بالولاية والطاعة ، والتسليم الكامل .
ولاحظ في الحديث : عن سهل بن زياد قال : كتبت إلى أبي محمّد (عليه السلام) سنة خمس وخمسين ومائتين : قد اختلف يا سيّدي أصحابنا في التوحيد : منهم من يقول : هو جسم ، ومنهم من يقول : هو صورة ، فإن رأيت يا سيّدي أن تعلّمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه ، فعلت متطوّلاً على عبدك .
فوقّع بخطّه (عليه السلام) : ( سألت عن التوحيد ، وهذا عنكم معزول ، الله تعالى واحد أحد صمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، خالق وليس بمخلوق ، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك ، ويصوّر ما يشاء، وليس بصورة ، جلّ ثناؤه ، وتقدّست أسماؤه ، وتعالى عن أن يكون له شبيه ، هو لا غيره ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ) (1) .
كيف أنّ الإمام (عليه السلام) لم يعترض على سهل ـ الذي هو أحد أصحابه ـ حين قال له تطوّل على عبدك ، علماً بأنّ سهل كان على بيّنة من جواز إطلاق هذا اللفظ على نفسه ، مقابل سيّده ومولاه الإمام العسكريّ (عليه السلام) .
وفي هذا السياق تجد أيضاً الأحاديث التي تجمع عبد الله على عبيد الله ، مقابل جهة السيادة والولاية لله على الناس جميعاً :
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : ( من عرف من عبد من عبيد الله كذباً إذا حدّث ، وخلفاً إذا وعد ، وخيانة إذا أؤتمن ، ثمّ ائتمنه على أمانة كان حقّاً على الله تعالى أن يبتليه فيها ، ثمّ لا يخلف عليه ولا يأجره ) (2) .
____________
1- التوحيد : 101 .
2- الكافي 5 / 299 .
|
الصفحة 164 |
|
وبهذا المفهوم كما في أعلاه ، يصحّ بل يستحبّ التسمية بعبد النبيّ ، وعبد الحسين ، وأمثالهما .
ومثله أيضاً : عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ : { مَّا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } ؟ قال : ( قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) : ليس عبد من عبيد الله ، ممّن امتحن الله قلبه للإيمان ، إلاّ وهو يجد مودّتنا على قلبه فهو يودّنا ، وما من عبد من عبيد الله ، ممّن سخط الله عليه ، إلاّ وهو يجد بغضنا على قلبه فهو يبغضنا ، فأصبحنا نفرح بحبّ المحبّ ، ونغتفر له ونبغض ) (1) .
وبما أنّ هذه المنزلة تكون مشتركة اشتراكاً إيجابياً ، كما تبيّن آنفا ـ بين الله السيّد والمولى ، وبين أوليائه الذين جعلهم سادة وأولياء ـ بدلالة الآية { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ } (2) ، والكثير من الأحاديث ، كحديث الغدير ، أو تشترك اشتراكاً قد يكون سلبيّاً ، كما في قوله تعالى : { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } (3) ، وقوله : { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } (4) ، من غير إضافتهم لله ، حيث توحي الآية أنّ العبيد هم الذين ظلموا أنفسهم باتخاذهم سادة وأولياء من الناس ، بغير أمر الله تعالى ورضاه { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ } (5) .
أمّا فيما يخصّ المعنى الثالث للفظة عبد ، فيأتي مقابل لفظة ربّ ، وروي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال بعد كلام طويل لمدع كاذب : ( يرجو الله في الكبير ، ويرجو العباد في الصغير ، فيعطي العبد ما لا
____________
1- تأويل الآيات 2 / 446 .
2- المائدة : 55 .
3- ق : 29 .
4- آل عمران : 182 .
5- البقرة : 257 .
|
الصفحة 165 |
|
يعطي الربّ ) (1) .
فيظهر الإمام (عليه السلام) المقابل للفظة عبد في هذا السياق ، وهو ربّ ، وكذلك يبيّن أنّ جمع عبد إذا وردت على هذا المعنى هو عباد ، وليس عبيد .
وأُنظر أيضاً ما علّمه الإمام (عليه السلام) : فإذا جلس من نومه ، فليقل قبل أن يقوم : ( حسبي الله ، حسبي الربّ من العباد ، حسبي الذي هو حسبي منذ كنت ، حسبي الله ونعم الوكيل ) (2) .
ثمّ لاحظ ، كيف أنّ الإمام يربط حالة الجمع ـ عباد ـ مع العمل في الحديث :
عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى : { وللهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } قال : ( نحن والله الأسماء الحسنى ، التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلاّ بمعرفتنا ) (3) .
فقد قرن (عليه السلام) الناس الذين هم بمنزلة عباد وليس عبيد مع العمل ، وقبوله بمعرفتهم كون هذا العمل يمثّل أداء عبادي يوصف به العباد ، أو أنّ الناس سمّوا عباداً بعبادة الربّ ، وسمّوا عبيداً بالمنزلة والتواضع ، والاتباع وفرض الإطاعة ، وهي صفة ينبغي أن تكون مقدّمة من مقدّمات العمل العبادي ، الذي يرقى بالعبد لأن يكون عبداً صالحاً لله ، بقبول جميع أعماله ومضاعفتها ، بذلك جعل الإمام المعرفة هي السبيل الموصل لتلك المنزلة ، كيف لا ، وقد ورد في الزيارة الجامعة أنّ : ( من أطاعكم فقد أطاع الله ، ومن عصاكم فقد عصى الله ) ، وكذلك : ( من والاكم فقد والى الله ) .
والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين .
____________
1- شرح نهج البلاغة 9 / 226 .
2- الخصال : 625 .
3- الكافي 1 / 143 .
|
الصفحة 166 |
|
( صاحب محمّد مهدي . العراق . 45 سنة . ماجستير هندسة )