إنّ حالة الجمود الفكريّ والركود العلميّ التي أصابت الاُمّة الإسلامية بسبب سيطرة بني أميّة على الحكم كانت تستدعي حركة فكرية اجتهادية تفتح الآفاق الذهنية للمسلمين كي يستطيعوا أن يحملوا مشعل الكتاب والسنّة بروح المجتهد البصير، وهذا ما قام به الإمام زين العابدين (عليه السلام) فانبرى إلى تأسيس مدرسة علمية وإيجاد حركة فكرية بما بدأه من حلقات البحث والدرس في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) وبما كان يثيره في خطبه في صلوات الجُمَع اُسبوعيّاً. أخذ الإمام (عليه السلام) يحدّث بصنوف المعرفة الإسلامية من تفسير وحديث وفقه وعقائد وأخلاق، ويفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين ويمرّن النابهين منهم على التفقّه والاستنباط. وقد تخرّج من هذه الحلقة عدد مهمّ من فقهاء المسلمين، وكانت هذه الحلقة هي المنطلق لما نشأ بعد ذلك من مدارس فقهية وشخصيات علمية(1). ونلمس من خلال ما ورد عن الإمام (عليه السلام) من أحاديث ترتبط بالعلم والعلماء أنّه قد خطّط لهذه الحركة العلمية تخطيطاً بارعاً ، فهو بالإضافة إلى تفرّغه للتعليم ـ بالرغم من جميع الهموم والآلام التي تركتها له واقعة الطفّ الأليمة وما تلاها من حوادث مؤلمة في العالم الإسلامي ـ نجده يشيد بفضل العلم ويحثّ المستعدّين للتعلّم حثّاً أكيداً قولاً وعملاً، وتكريماً من جهة، كما نجده يرسم للمتعلّمين آداب التعلّم، ويبيّن حقوق المعلّم والمتعلّم، ويرغّبهما في تحمّل هذا العبء ببيان ثواب التعلّم والتعليم، بحيث استطاع أن يجمع عدداً كبيراً من طلاّب المعرفة الذين عُرفوا بالقرّاء باعتبار أنّ قراءة القرآن وحفظه وتعليم تفسيره كانت هي المحور في التعلّم والتعليم حينذاك، ولم يكن للحديث أو السيرة أو الفقه تدوين وتأليف باعتبار الحظر الذي أوجدته السلطة بعد غياب الرسول (صلى الله عليه وآله) ، فلم يكن الخط العام في صالح هذه الحركة الفكرية . ومع كلّ هذا نلاحظ احتفاء القرّاء والفقهاء والعلماء بالإمام بنحو لا نجد له نظيراً في غيره من العصور ، فإنّ القرّاء كانوا لا يفارقونه في حضر أو سفر حتى قال سعيد بن المسيّب : إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلى مكّة حتّى يخرج عليّ بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب(2). قال (عليه السلام) مشيداً بفضل العلم وثوابه وأهمّيته: « لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال : إنّ أمقت عبيدي إليّ الجاهل المستخفّ بحقّ أهل العلم، التارك للإقتداء بهم ، وإنّ أحبّ عبيدي إليّ التقيّ الطالب للثواب الجزيل اللازم للعلماء التابع للحلماء القابل عن الحكماء »(3). « طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجلاً على رطب ولا يابس من الأرض إلاّ سبّحت له الأرضون السبع »(4). وكان (عليه السلام) يكرم طلاّب العلوم ويرفع منزلتهم ويرحّب بهم قائلاً : «مرحباً بوصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)». وكان إذا نظر إلى الشباب وهم يطلبون العلم أدناهم إليه وقال : «مرحباً بكم أنتم ودايع العلم، ويوشك إذ أنتم صغار قوم أن تكونوا كبار آخرين »(5). وقد لاحظنا ما جاء في رسالة الحقوق من الإشادة بفضل العالم وحقوقه على المتعلّمين من التعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الإستماع إليه والإقبال عليه وعدم رفع الصوت عليه والدفاع عنه وستر عيوبه وإظهار مناقبه وعدم مجالسة أعدائه وعدم معاداة أوليائه. كما نلاحظ تأكيده على عدم كتمان العلم وعدم التجبّر بالنسبة للمتعلّمين وحسن الإتقان في فنّ التعليم وعدم ابتغاء الأجر المادّي على التعاليم. كلّ هذا يشير إلى تخطيط واضح في سلوك الإمام (عليه السلام) لايجاد حركة ثقافية واسعة وتأسيس تيّار ثقافي يتسنّى له أن يقف أمام التيّارات المنحرفة والتخطيط الاُموي الذي لم يرق له تفتّح الوعي الإسلامي عند أبناء المسلمين. وقد خرّجت مدرسة الإمام زين العابدين (عليه السلام) كوكبةً من العلماء الفقهاء والمفسّرين الذين سطعت أسماؤهم في العالم الإسلامي، وإليهم يعود الفضل في دفع عجلة الإحياء العلميّ في ذلك العصر الرهيب وما تلاه من عصور. ونشير فيما يلي إلى الأسماء اللاّمعة في هذا الصدد: 1- وفي مقدمتهم الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) وأخواه: زيد والحسين ابنا عليّ بن الحسين بن عليّ (عليهم السلام). 2- أبان بن تغلب بن رباح ، أبو سعيد البكري الجريري: كوفيّ المولد والنشأة، وكان نابهاً ومقدّماً في كلّ فن، من قرآن وحديث وأدب ولغة ونحو، وتتلمذ عند الأئمّة الثلاثة: السجاد والباقر والصادق (عليهم السلام)، وكان يقول له الإمام الباقر (عليه السلام): « اجلس في مسجد المدينة وافتِ الناس فإنّي اُحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك » وألّف أبان في تفسير غريب القرآن وفي فضائل أهل البيت كما روى ما يناهز ثلاثين ألف حديث عن أئمّته (عليهم السلام)(6). 3- إسماعيل بن عبد الخالق: وجه من وجوه أصحاب الأئمّة وفقيه من فقهائهم، وأدرك الإمام الصادق (عليه السلام) وروى عنه وعن الإمام الباقر والسجّاد أيضاً(7). 4- ثابت بن أبي صفيّة : وهو أبو حمزة الثمالي، عالم جليل ورع تقيّ، تربّى بآداب أهل البيت وحمل علومهم ومعارفهم ، وأجمع المترجمون على وثاقته وأنّه كسلمان الفارسي في زمانه، وكانت الشيعة ترجع إليه في الكوفة لإحاطته بفقه أهل البيت (عليهم السلام). 5- رشيد الهجري : من أبطال الإسلام وأعلام الجهاد، وقد صلبه الاُمويّون من أجل عقيدته وولائه لأهل البيت (عليهم السلام). 6- زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، كان يتولّى صدقات رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكان جليل القدر كريم الطبع زكيّ النفس كثير البرّ. 7- سعيد بن جبير ، أبو محمد مولى بني والبة: كوفي تابعي نزل مكّة وهو من أعلام المجاهدين، وكان من أبرز علماء عصره في التفسير والفقه وأنواع العلوم، واستشهد بأمر الحجّاج في شعبان ( 95 هـ ). 8 ـ سعيد بن المسيّب المخزومي: من كبار التابعين، وقال فيه الإمام زين العابدين (عليه السلام): إنّه أعلم الناس بما تقدّمه من الآثار وأفصحهم في زمانه، وكان يبجّل الإمام كثيراً(8). إنّ هؤلاء بعض تلامذته والرواة عنه، على أنّ الإمام (عليه السلام) كان يربّي الموالي بشكل ليس له نظير، وكلّ من أعتقه الإمام يمكن أن يعدّ ممّن تربّى على يد الإمام ، فلا ينحصر تراث الإمام فيما كتب وما روي عنه فقط ، بل يمكن أن يتّسع لكلّ عمل تربوي صدر عن الإمام وبقيت آثاره في المجتمع الإسلامي ولو كان متجسّداً في سلوك هؤلاء الموالي وأفكارهم واتجاهاتهم . الهوامش: 1- راجع مقدمة السيد الشهيد محمد باقر الصدر للصحيفة السجّادية . 2- من مقدمة السيد الشهيد محمد باقر الصدر للصحيفة السجّادية. 3- اُصول الكافي : 1 / 35 . 4- حياة الإمام زين العابدين : 23 . 5- الدرّ النظيم : 173 . 6- راجع ترجمته بالتفصيل في حياة الإمام زين العابدين : 522 ـ 527 . 7- المصدر السابق : 529 . 8- راجع تفصيل البحث عن رواة حديث الإمام وتلامذته ( حياة الإمام زين العابدين : 517 ـ 587 ).
|
||
المهمة التعليمية للإمام السجاد (عليه السلام) |
|
|
فيقول أنس بن مالك عن ذلك ـ على ما رواه البخاري والترمذي ـ (ما أعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ قيل الصلاة قال: أليس صنعتم ما صنعتم فيها). وبعد عصر أنس بقليل نجد الحسن البصري يقول: (لو خرج عليكم أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما عرفوا منكم إلا قبلتكم). وعن عبد الله بن عمر بن العاص أنه قال: لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة خطو بمصحفيهما في بعض الأدوية لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئاً مما كانا عليه). وبعد هذا... فإن من الطبيعي أن يعتبر من حفظ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعض الأحاديث أو بعض الأحكام، إن من الطبيعي أن يعتبر أنه أعلم الناس وأعظمهم في وقته وعصره. هذا عرض موجز عن واقع سياسة التجهيل التي كانت تتعرض لها الأمة بأسرها في ذلك الوقت. وقد رأى الإمام زين العابدين (عليه السلام) محنة الأمة، وما هي فيه من أخطار مدمرة لوجودها وكيانها، فرفع (عليه السلام) مناراً للعلم، ودعا شباب الأمة إلى التحرر من قيود الجهل، حيث قام بتأسيس مدرسته الفكرية الإسلامية من أجل هذا الهدف. فقد كان المسجد النبوي الشريف، ودار الإمام (عليه السلام) يشهدان نشاطاً فكرياً من الطراز الأول، حيث استقطب الإمام (عليه السلام) خلال تلك الفترة طلاب المعرفة الإسلامية في جميع حقولها وأغراضها لا في المدينة المنورة ومكة المكرمة وحدهما وإنما في الساحة الإسلامية بأكملها. لقد فتح الإمام (عليه السلام) آفاقاً مشرقة من العلم لم يعرفها الناس من ذي قبل حيث عرض لعلوم الشريعة الإسلامية من رواية الأحاديث الشريفة الصحيحة عن جده رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، عبر سلسلة نقية لا يرقى إلى رواتها أدنى شك، تبدأ بسيدي شباب أهل الجنة، وتمر بأمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) وتنتهي برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فالوحي المقدس... وإلى جانب عرضه للحديث فقد قام الإمام (عليه السلام) بعرض الفقه والتفسير، وعلم الكلام، والفلسفة، ومن خلال تلك العملية البناءة وعبر خمس وثلاثين سنة وهي مدة إمامته (عليه السلام) حيث استطاع أن يخرج من مدرسته الإسلامية رواة حفاظاً، وفقهاء، وقادة فكر يعدون من الرعيل الأول، وكان فيهم الصحابي، والتابعي، وسواهم... ويقول بعض المترجمين له عن ذلك: (إن العلماء رووا عنه من العلوم ما لا يحصى)، ونوردها هنا ثبتاً بأسماء بعضهم: فمن روى عنه: الزهري، وسفيان بن عيينه، ونافع، والأوزاعي، ومقاتل والواقدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم. وروى عمن روى عنه: الطبري، وابن البيع، وأحمد بن حنبل، وابن بطة، وأبو داوود، وصاحب الأغاني، وصاحب قوت القلوب، وصاحب أسباب النزول، وصاحب الفائق، وصاحب الترغيب والترهيب، وغيرهم... ومن التابعين: سعيد بن جبير، ومحمد بن جبير بن مطعم، والقاسم بن عوف، وإسماعيل بن عبد الله بن جعفر، وإبراهيم والحسن ابنا محمد بن الحنفية، وجبير بن أبي ثابت، وأبو أيمن الأسدي، ومسلمة بن دينار المدني، وسواهم... ومن أصحابه: أبو حمزة الثمالي ثابت بن دينار، وجابر بن محمد بن أبي بكر، وأبو أيوب بن الحسن، وعلي بن رافع، وأبو محمد القرشي السري الكوفي، والضحاك بن مزاحم الخراساني، وسعيد بن المسيب المخزومي، وأبو خالد الكابلي وحميد بن موسى الكوفي، وسواهم... وهكذا فلقد أصبح تلامذة الإمام زين العابدين (عليه السلام) الذين تخرجوا من مدرسته الرائدة فيما بعد بناة للحضارة الإسلامية الشامخة ورجال فكرها وتشريعها وأدبها الإسلامي. |