عربي
Tuesday 26th of November 2024
0
نفر 0

الآية الثانية : حول تقية مؤمن آل فرعون

الآية الثانية : حول تقية مؤمن آل فرعون .
قال تعالى : ( وقالَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُم بالبَيِّناتِ مِن رَبِّكُم وإنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإنْ يَكُ صَادِقاً يُصبكُمْ بَعْضُ الّذي يَعِدُكُمْ إنَّ اللهَ لا يَهدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) (2).
هذه الآية المباركة هي الاُخرى تحكي مشروعية التقية قبل بزوغ شمس الاِسلام بقرون .
____________
1) اُصول الكافي 2 : 174 ـ 175 | 14 و 19 كتاب الاِيمان والكفر باب التقية ، المكتبة الاِسلامية ، طهران | 1388 هـ .
2) سورة غافر : 40 | 28 .


( 36 )

وعلى الرغم من وضوح دلالة الآية على التقية سوف نذكر طائفة من أقوال المفسرين بشأنها ؛ ليُعلم اتفاقهم على مشروعية التقية قبل الاِسلام ، وسيأتي تصريحهم ببقائها إلى يوم القيامة . وفي هذا الصدد ، نقل الماوردي في تفسيره عن الحسن البصري ، أنّ هذا الرجل كان مؤمناً قبل مجيء موسى عليه السلام ، وكذلك امرأة فرعون ، فكتم إيمانه .
وأورد عن الضحاك ، بأنّه كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ، ثم أظهره فقال ذلك في حال كتمه (1).
ولا شكّ أنَّ ما يعنيه كتمان الاِيمان هو التقية لا غير ؛ لاَنه إخفاء أمر ماخشية من ضرر إفشائه ، والتقية كذلك .
وأورد ابن الجوزي عن مقاتل بشأن مؤمن آل فرعون : (إنّه كتم إيمانه من فرعون مائة سنة) (2).
لقد بيّن لنا القرآن الكريم ـ قبل الآية المذكورة ـ السبب الذي دفع مؤمن آل فرعون إلى قوله المذكور ، وهو رغبة فرعون بقتل موسى عليه السلام ، قال تعالى : ( وقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُوني أقتُل موسى وَليَدَعُ رَبَّهُ إنِّي أخَافُ أنْ يُبدِّلَ دِينَكُمْ أوْ أن يُظهِرَ في الاَرضِ الفَسَادَ ) (3).
وهنا قد يقال ـ كما في تفسير الرازي ـ : (إنّه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنّه كان يكتم إيمانه ، والذي يكتم إيمانه كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون ؟) .
____________
1) النكت والعيون | الماوردي 5 : 153 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
2) زاد المسير | ابن الجوزي 7 : 312 .
3) سورة غافر : 40 | 26 .


( 37 )

وقد بيّن الرازي أن في المسألة قولين :
الاَول : إنّ هذا المؤمن لما سمع قول فرعون : ( ذَرُوني أقْتُلْ مُوسى ) لم يصرح بأنه على دين موسى عليه السلام بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه ، مبيّناً ان المصلحة تقتضي ترك قتله ، لاَنه لم يرتكب ذنباً وإنما كان يدعو إلى الله عزَّ وجلَّ ، وهذا لا يوجب القتل .
الثاني : إنّه كان يكتم إيمانه ، ولما علم بقول فرعون المذكور أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق (1).
على أن تقيته واضحة جداً حتى على القول الثاني ؛ لاَنّه رضي الله عنه كان قد أظهر إيمانه وشافه فرعون بالحق بعد أن كتمه بتصريح القرآن الكريم ، وكتمان الحق وإظهار خلافه هو التقية بعينها .
وهذا الرجل العظيم لم يصفه القرآن الكريم بالنفاق ، ولا بالمحتال المخادع ، بل وصفه بأشرف الصفات وأعظمها عند الله عزَّ وجل ، صفة الاِيمان .
وكيف كان ، فقد أخرج المتقي الهندي في كنز العمال ، عن ابن النجار ، عن ابن عباس ؛ وعن أبي نعيم في الحلية ، وابن عساكر ، عن ابن أبي ليلى مرفوعاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل ياسين ، ومؤمن آل فرعون الذي قال : ( أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ ) ، والثالث : علي بن أبي طالب ، وهو أفضلهم» (2).
____________
1) التفسير الكبير | الرازي 27 : 60 .
2) كنز العمال | المتقي الهندي 11 : 601 | 32897 و 32898 ، ط5 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت . وفي

=


( 38 )

وفي تفسير المحرر الوجيز : قال الجوهري : (وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسرّه ، فجعله الله تعالى في كتابه ، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر) (1).
وفي تفسير القرطبي في تفسيره الآية المذكورة قال : (إن المكلف إذا نوى الكفر بقلبه كان كافراً وإن لم يتلفظ بلسانه ، وأما إذا نوى الاِيمان بقلبه فلا يكون مؤمناً بحال حتى يتلفظ بلسانه ، ولا تمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين الله تعالى ، إنما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره، وليس من شرط الاِيمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف ، وإنّما يشترط سماع الغير له ؛ ليكف عن نفسه وماله) (2).
وبالجملة ، فإنّ جميع المفسرين الذين وقفت على تفسيرهم اعترفوا بتقية مؤمن آل فرعون ، ولولا خشية الاطالة لاَوردنا المزيد من أقوالهم ، ويكفي أن الخوارج الذين زعم بعضهم بأنهم ينكرون التقية قد صرّح أباضيتهم بالتقية في تفسيرهم لهذه الآية :
قال المفسر الاباضي محمد بن يوسف اطفيش عن الرجل المؤمن : (فمعنى كونه من آل فرعون أنه فيهم بالتقية مظهراً أنّه على دينهم ، وظاهر قوله ( ياقَوم ) أنّه منهم ـ إلى أن قال ـ واستعمل الرجل تقية على نفسه ، ما ذكر الله عزَّ وجلَّ عنه بقوله : ( وإنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيهِ كَذِبُهُ ) (3).
____________

=

حاشية كشف الاستار | محمد حسين الجلال : 98 مؤسسة الاَعلمي ، بيروت | 1405 هـ ، قال : (وحسّنه السيوطي) .
1) المحرر الوجيز | ابن عطية 14 : 132 ، تحقيق المجلس العلمي بفاس | 1407 هـ .
2) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 15 : 307 .
3) تيسير التفسير | محمد بن يوسف بن اطفيش الاَباضي 1 : 343 ـ 345 .


( 39 )

ثانياً : الاَدلة القرآنية الدالة على امضاء التقية في الاِسلام :
الآية الاُولى : حول جواز الكفر بالله تقيةً :
ويدل عليه قوله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ باللهِ مِنْ بَعْدِ إيمانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلبُهُ مُطْمَئنٌ بالاِيمانِ وَلكِن مَنْ شَرَحَ بالكُفرِ صَدْرَاً فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مَنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (1).
نزلت هذه الآية المباركة باتفاق جميع المفسرين في مكة المكرمة وفي البدايات الاُولى من عصر صدر الاِسلام ، يوم كان المسلمون يعدون بعدد الاَصابع ، ومن مراجعة ما ذكروه بشأن هذه الآية يُعلم أن التقية قد أُبيحت للمسلمين أيضاً في بدايات الاِسلام الاَولى ، وانها أُبقيت على ما كانت عليه في الاَديان السابقة ولم تنسخ في الاِسلام ، بل جاء الاِسلام ليزيدها توكيداً ورسوخاً لكي يتترس بها أصحاب الدين الفتي أمام طغيان أبي سفيان وجبروت أبي جهل كما تترس بها ـ من قبل ـ أهل التوحيد أمام ظلم المشركين فيما اقتص خبره القرآن الكريم ، وصرّح به سائر المفسرين .
فقد أخرج ابن ماجة بسنده عن ابن مسعود ما يؤكد نزول الآية بشأن عمار بن ياسر وأصحابه الذين أخذهم المشركون في مكة وأذاقوهم ألوان العذاب حتى اضطروا إلى موافقة المشركين على ما أرادوا منهم .
وقد علّق الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي على هامش حديث ابن ماجة المذكور ، بقوله (أي : وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية ، والتقية في مثل هذه الحال جائزة ، لقوله تعالى : ( إلاَّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُه مُطمئنٌ
____________
1) سورة النحل : 16 | 106 .


( 40 )

بالاِيمان) (1).
وقال الجصاص الحنفي : (هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الاكراه ، والاكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أُمِر به ، فأبيح له في هذه الحال أن يُظهِر كلمة الكفر) (2).
وفي تفسير الماوردي : (إنّ الآية نزلت في عمار بن ياسر وأبويه ياسر وسمية وصهيب وخباب ، أظهروا الكفر بالاكراه وقلوبهم مطمئنة بالاِيمان)(3).
وبالجملة ، فان جميع ما وقفت عليه من كتب التفسير وغيرها متفق على نزول الآية بشأن عمار بن ياسر وأصحابه الذين وافقوا المشركين على ما أرادوا وأعذرهم الله تعالى بكتابه الكريم ، على أن بعضهم لم يكتف ببيان هذا ، بل توسع في حديثه عن التقية ، مبيناً مشروعيتها ، مع الكثير من أحكامها بكل صراحة (4).
____________
1) سنن ابن ماجة 1 : 53 ، 150 باب 11 في فضل سلمان وأبي ذر والمقداد ، دار إحياء الكتب العربية ، وانظر التعليق عليه في الهامش رقم (1) من الصفحة المذكورة .
2) أحكام القرآن | الجصاص 3 : 192 ، دار الفكر ، بيروت .
3) تفسير الماوردي (النكت والعيون) 3 : 215 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
4) اُنظر : تفسير الواحدي الشافعي 1 : 466 مطبوع بهامش تفسير النووي المسمى بـ (مراح لبيد) دار إحياء الكتب العربية ، مصر ، والمبسوط للسرخسي 24 : 25 . وأحكام القرآن للكياالهراسي 3 : 246 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1405 هـ . والكشاف | الزمخشري 2 : 449 ـ 550 ، دار المعرفة ، بيروت . والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز | ابن عطية الاَندلسي 10 : 234 ـ 235 تحقيق المجلس العلمي بفاس | 1407 هـ . وأحكام القرآن | ابن العربي 2 : 1177 ـ 1182 دار المعرفة ، بيروت (وفيه كلام طويل عن التقية) . وزاد المسير في علم التفسير | ابن الجوزي 4 :

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا
ملامح شخصية الإمام جعفر الصادق عليه السلام
أحاديث في الخشية من الله (عزّ وجلّ)
أقوال علماء أهل السنة في اختصاص آية التطهير ...
فاطمة هي فاطمة.. وما أدراك ما فاطمة
معرفة فاطمة عليها السلام
علي مع الحق - علي مع القرآن - شبهة وجوابها - خلاصة ...
صدق الحدیث
السيد الشاه عبدالعظيم الحسني رضوان الله عليه
كلمات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) القصار

 
user comment