الآية الثانية : حول موالاة الكافرين تقيةً :
ويدل عليه قوله تعالى : ( لا يَتَّخِذِ المُؤمِنُونَ الكافِرينَ أوليَاءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شيءٍ إلاَّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وإلى اللهِ المَصيرُ ) (1).
____________
=
496 ، ط4 ، المكتب الاِسلامي ، بيروت | 1407 هـ . والتفسير الكبير | الفخر الرازي 20 : 121 ، ط3 . والمغني | ابن قدامة 8 : 262 و10 : 97 مسألة 7116 ، ط1 ، دار الفكر، بيروت| 1404 هـ . والجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 181 ، دار إحياء التراث العربي . وأنوار التنزيل وأسرار التأويل | البيضاوي 1 : 571 ، ط2 ، مصر | 1388 هـ . وتفسير الخازن | علي بن محمد الخازن الشافعي 1 : 277 . وتفسير ابن جزي الكلبي : 366 ، دار الكتاب العربي ، بيروت | 1403 هـ . وتفسير البحر المحيط | أبو حيان الاَندلسي 5 : 538 ، ط2 ، دار الفكر ، بيروت | 1403 هـ . وتفسير القرآن العظيم| ابن كثير 2 : 609 ، ط1، دار الخير، دمشق | 1990 م . وغرائب القرآن | النيسابوري 14 : 122 مطبوع بهامش تفسير الطبري ، ط2 ، دار المعرفة ، بيروت | 1392 هـ . وفتح الباري شرح صحيح البخاري | ابن حجر العسقلاني 12 : 262 ـ 263 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت | 1406 هـ . ومنهاج الطالبين | النووي الشافعي 4 : 137 ، 174 دار الفكر ، بيروت . وانظر تعليق الشربيني عليه في مغني المحتاج في شرح المنهاج 4 : 137 مطبوع بهامش منهاج الطالبين. وروح البيان | البرسوي الحنفي 5 : 84 ، ط7 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت | 1405 هـ . وفتح القدير | الشوكاني 3 : 197 ، دار المعرفة ، بيروت . وتفسير النووي (مراح لبيد) 1 : 466 . ومحاسن التأويل | القاسمي 10 : 165 ، ط2 ، دار الفكر ، بيروت | 1398 هـ . وتيسير التفسير | محمد بن يوسف أطفيش الاَباضي 7 : 97 ، طبعة وزارة التراث القومي والثقافي في سلطنة عمان . وتفسير المراغي 14 : 146 ، ط2 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت| 1985 م . وصفوة التفاسير | محمد علي الصابوني الوهابي ،ط1 ، عالم الكتب ، بيروت | 1406 هـ .
أقول : إنما ذكرنا هذه القائمة الطويلة من مصادرتفسر الآية ـ وكلها مصادر غير شيعية ـ لكي يعلم من مراجعتها اتفاقهم جميعاً على مشروعية التقية في حالة الاكراه عليها ، ولكن بعض المتطفلين على من الكلام الذي ليس له في ميزان العلم أي وزن ولا اعتبار .
1) سورة آل عمران : 3 | 28 .
( 42 )
هذه الآية المباركة ما أصرحها بالتقية ، وقد مرّ في تعريف التقية لغةً بأنه لا فرق بين علماء اللغة بين (التقاة) و (التقية) فكلاهما بمعنى واحد ، ومن هنا قرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو حيوة ، وسهل ، وحميد بن قيس ، والمفضل عن عاصم ، ويعقوب ، والحسن البصري ، وجابر بن يزيد : (تَقِيَّةَ) (1).
وقد أخرج الطبري في تفسير هذه الآية ، من عدة طرق ، عن ابن عباس، والحسن البصري ، والسدي ، وعكرمة مولى ابن عباس ، ومجاهد ابن جبر ، والضحاك بن مزاحم جواز التقية في ارتكاب المعصية عند الاكراه عليها كاتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين في حالة كون المتقي في سلطان الكافرين ويخافهم على نفسه ، وكذلك جواز التلفظ بما هو لله معصية بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالايمان ، فهنا لا أثم عليه (2).
هذا مع اعتراف سائر المسلمين بأن الآية لم تنسخ فهي على حكمها منذ نزولها وإلى يوم القيامة ، ولهذا كان الحسن البصري يقول : (إنَّ التقية جائزة إلى يوم القيامة) . حكاه الفقيه السرخسي الحنفي ، وقال معقباً : (وبه نأخذ ، والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه) (3).
واحتج إمام المذهب المالكي (مالك بن أنس) بهذه الآية ، على أن
____________
1) اُنظر : حجة القراءات | أبو زرعة : 160 . ومعاني القرآن | الزجاج 1 : 205 . وتفسير الرازي 8 : 12 . والنشر في القراءات العشر 3 : 5 . والجامع لاَحكام القرآن 4 : 57 . والبحر المحيط 2 : 424 . وفتح القدير 1 : 303 .
2) تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) 6: 313 ـ 317 ، ط2 ، دار المعرفة ، بيروت | 1392 هـ .
3) المبسوط | السرخسي 24 : 45 من كتاب الاكراه .
( 43 )
طلاق المكره تقية لا يقع ، ونسب هذه الفتيا إلى ابن وهب ورجال من أهل العلم ـ على حد تعبيره ـ ثم ذكر اسماء الصحابة الذين قالوا بذلك أيضاً ، ونقل عن ابن مسعود قوله : (ما من كلام يدرأ عني سوطين من سلطان إلاّ كنت متكلماً به) (1).
وقال الزمخشري في تفسير : ( إلاَّ أنْ تَتَّقُوا مَنْهُم تُقَاةً ) : (إلاّ أن تخافوا أمراً يجب اتقاؤه تقية.. رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة : مخالفة ومعاشرة ظاهرة ، والقلب بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع) (2).
وأما الفخر الرازي فقد بين في تفسير الآية أحكام التقية ، قائلاً : (إعلم أن للتقية أحكاماً كثيرة ، إلى أن قال :
الحكم الرابع : ظاهر الآية يدل على أن التقية إنّما تحلّ مع الكفار الغالبين ، إلاّ أن مذهب الشافعي : إنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقية محاماة على النفس .
الحكم الخامس : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال ؟
يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « من قتل دون ماله فهو شهيد » ، ولاَن الحاجة إلى المال شديدة ، والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء ، وجاز الاقتصار على التيمم رفعاً لذلك القدر من نقصان المال ! فكيف لا يجوز هاهنا ؟) .
____________
1) المدونة الكبرى | مالك بن أنس 3 : 29 ، مطبعة السعادة ، مصر .
2) الكشاف | الزمخشري 1 : 422 .
( 44 )
ثم رجّح بعد هذا قول الحسن البصري (التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة) على قول من قال بأنّها كانت في أول الاِسلام ، وقال : (هذا القول أولى ؛ لاَن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان) (1).
هذا وقد نقل أبو حيان الاَندلسي المالكي في البحر المحيط ، في تفسير الآية المذكورة قول ابن مسعود : (خالطوا الناس وزايلوهم وعاملوهم بما يشتهون ، ودينكم فلا تثلموه) .
وقول صعصعة بن صوحان لاُسامة بن زيد : (خالص المؤمن وخالق الكافر ، إنّ الكافر يرضى منك بالخُلق الحسن) .
وقول الاِمام الصادق عليه السلام : « إن التقية واجبة ، إني لاَسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستتر منه بالسارية لئلا يراني » . ثم قال بعد ذلك ما هذا نصّه :
(وقد تكلم المفسرون هنا في التقية إذ لها تعلق بالآية ، فقالوا : أمّا الموالاة بالقلب فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها ، وكذلك الموالاة بالقول والفعل من غير تقية ، ونصوص القرآن والسُنّة تدل على ذلك .
والنظر في التقية يكون : فيمن يتقى منه ، وفيما يبيحها ، وبأي شيء تكون من الاَقوال والاَفعال ؟
فأما من يتقى منه : فكل قادر غالب يكره يجوز منه ، فيدخل في ذلك الكفار ، وجورة الرؤساء ، والسلابة ، وأهل الجاه في الحواضر .
وأمّا ما يبيحها : فالقتل ، والخوف على الجوارح ، والضرب بالسوط ،
____________
1) التفسير الكبير | الفخر الرازي 8 : 13 .
( 45 )
والوعيد ، وعداوة أهل الجاه الجورة .
وأمّا بأي شيءٍ تكون ؟ من الاَقوال : فبالكفر فما دونه ، من بيع ، أو هبة وغير ذلك . وأمّا من الاَفعال : فكل محرم.. وقال مسروق : إن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وهذا شاذ) (1).
ما يدل على جواز التقية بين المسلمين أنفسهم :
وجدير بالاشارة هنا ، هو ما صرّح به فقهاء الفريقين ومفسروهم من جواز التقية بين المسلمين أنفسهم استناداً إلى طائفة اُخرى من الآيات الكريمة من قبيل قوله تعالى : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) (2). فهو : (يدل على حرمة الاقدام على ما يخاف الاِنسان على نفسه أو عرضه أو ماله) (3).
وقد استدل الفخر الرازي بهذه الآية على وجوب التقية في بعض الحالات ، لقوله بوجوب إرتكاب المحرم بالنسبة لمن اُكره عليه بالسيف ، وعدّ امتناع المكره حراماً ؛ لاَنّه من القاء النفس إلى التهلكة ، مع أن صون النفس عن التلف واجب استناداً إلى هذه الآية (4)، ولا معنى لوجوب ارتكاب المكره للمحرم غير التقية .
ومن ذلك ، قوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) (5)، والحرج هو الضيق لغة ، والتقية عادة ما يكون صاحبها في حرج شديد ،
____________
1) تفسير البحر المحيط | أبو حيان 2 : 424 .
2) سورة البقرة : 2 | 195 .
3) مواهب الرحمن | السيد السبزواري في تفسير الآية المذكورة .
4) التفسير الكبير | الفخر الرازي 20 : 21 في تفسير الآية 106 من سورة النحل .
5) سورة الحج : 23 | 78 .
( 46 )
ولا يسعه الخروج من ذلك الحرج بدونها .
ومنه أيضاً ، قوله تعالى : ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) (1).
فقد جاء تفسيرها عن الاِمام الصادق عليه السلام بالتقية ، فقال عليه السلام : « التي هي أحسن : التقية» (2).
إلى غير ذلك من الآيات الاُخرى المستدل بها على جواز التقية بين المسلمين أنفسهم فضلاً عن جوازها للمسلمين مع غيرهم (3)، زيادة على ما سيأتي في أدلتها الاُخرى كالسنة المطهّرة ، والاجماع ، والدليل العقلي القاضي بعدم الفرق في تجنب الضرر سواء كان الضرر من مسلم أو كافر .